دلالات المكان في الرواية الفلسطينية
بقلم الكاتب: زرياف المقداد
المكان رائحة التكوين الأولى في رحم الحياة
المكان ذاكرة الجمرة الأولى للجسد
المكان رائحة الأرض والبرد في ليالي الشتاء
دبيب الأرجل الصغيرة على الحصى
خطوات الريح فوق تراب البيادر
وصوت أمي إذ يغشاني البرد والحزن والأسى
المكان هو دلالة الوجود الإنساني.
ولأنهم يعون معنى ارتباط الإنسان بالمكان، فإنهم منذ الأزل يساومون الشعوب على أوطانهم...
هكذا هم أكلة الحجارة والناس...
يرتبط الإنسان بالمكان ارتباطاً وثيقاً... شعورياً ولا شعورياً، ويترجم هذا الارتباط بوسائل عدّة... فيبني على غرار من سبقوه في أرضه، ويزرع كزرع من مروا قبله فوق وجه الأرض، يودع رحم الأرض ذكرياته... ويرسم على جدران بيته آهاته، تلحق به شوارع المدن والقرى أنى ارتحل.
ورائحة الحضارة الإنسانية لشعبه تعلق بثيابه وتعشش في أفكاره ووجدانه.
فهو ابن مكان ما من هذه الأرض.
لذلك فإن أكلة الشعوب الذين يعون معنى ارتباط الإنسان بالمكان مارسوا كل الوسائل التي يعيها ولا يعيها العقل البشري لترحيل الإنسان عن وطنه، وفي حالات أخرى يعمدون على إبقاء الشعوب في أوطانهم ومع محاصرتهم في أفقر المناطق من أجل استغلال الموارد الطبيعية، ولكن الأخطر من ذلك هو سياسة تغيير المعالم الخاصة للأمكنة حسب ما ترتئيه أطماعهم.
ومن هنا كنا نلاحظ أنهم عندما غزوا الشعوب الآسيوية والأفريقية والهندية سلبوهم أعواد القصب، والأكواخ والقش والحيوانات... دمروا قواربهم في الأنهار، وحاربوهم بأسلحة متطورة أمام أسلحتهم البيضاء...
وعلى مر السنين عمدوا إلى تغيير معالم الشخصية الفردية للإنسان في محاولة لدمجها في المجتمع الذي يبغون...
مجتمع مبني على أساس التفاوت والطبقية مع الاستفادة القصوى من طاقات العقول البشرية النيّرة، وهذا هو الملاحظ...
فالإحصاءات تكشف عن أرقام حقيقية لنخبة هم صفوة العقول البشرية وهم بالتأكيد علماء وأطباء ونخبة علمية متميزة من تلك الشعوب وهم في جامعات المجتمع الجديد الذي يفرضونه.
ومع ذلك فإننا نلاحظ أنه حتّى العالم فيهم الذي غُرِّب عن وطنه وهو لم يعيه إلا في ذاكرته وربما الذاكرة هي من نسج الحكاية... لديه طقوسه الإنسانية الخاصة والتي تعبر عن حضارة شعبه كطقوس الزنوج في إحياء القصدير أو شوارع أوروبا أو كطقوس الهندي في الشوارع الأمريكية.
أمَّا أشرس أكلة الشعوب فهم العقل المدبر لكل هؤلاء.
إنهم الصهاينة.
نهج معاصر يحكم ويقرر معتمداً على دراسات منهجية وعلمية في محاولة لسلخ الشعوب ولسحقها في كافة أصقاع الأرض وتخويل كل ممتلكات الشعوب في الأرض لخدمتهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل يعتمدون على شعب حقيقي له جذوره وتاريخه وأصالته له حضارته وأمكنته الخاصة به؟
والإجابة بكل بساطة لا تتعدى أنهم يدفعون المال لمن يعتنق الديانة اليهودية التي أصبحت صهيونية وليست ديانة سماوية، ويدفعون المال ليرحِّلوا المرتزقة عن أمكنة خاصة بهم ليس لديهم أي ارتباط بها في محاولة لخلق ارتباط جديد لهم بالأمكنة الجديدة وهي مكان محصور حالياً في فلسطين، ومستقبلاً واضحاً هي أطماع في المنطقة العربية بأسرها. هم يعملون لتسخير كل ما فيها لصالحهم.
إن الحدود التي يبغون وجودها يخلقونها خلقاً في الأرض بتغيير معالمها "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً "لنسلك أعطي هذه الأرض من مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"(1) وهنا أحاول بإشارات سريعة أن أحدد فيها معالم الشخصية الصهيونية التي بنوها منذ عمدوا إلى تغيير ما في كتبهم المقدسة إلى اليوم الحاضر وما هي علاقتها بالمكان.
"مبارك الرب إله إسرائيل من الأزل إلى الأبد" المزمور 106.
"الذي ضرب أمماً كثيرة وقتل ملوكاً أعزاء" المزمور 135.
"وأعطاهم أراضي الأمم وتعب الشعوب وورثوه" المزمور 105.
لا داعي لأنَّ أضيف شرحاً فوق ما يقولونه صراحة، بل لأن حكاية حضارتهم المزعومة تعتمد على أساطير شعبية متوارثة لدى معظم الشعوب. إذاً الشخصية الصهيونية مبنية على أساس استلاب الأرض، وادعاء الحق فيها.
وهم يعمدون إلى بث أيديولوجيا عنصرية فاضحة... ولا أدل على ذلك ممَّا يفعلونه اليوم في فلسطين. وكما تشير استطلاعات الرأي العام في أغلب دول العالم فإن الشعوب تعتبر إسرائيل أكبر قوة مهددة للسلام في العالم. "والوجود الإسرائيلي العدواني ليس مجرد حصيلة للانحطاط العربي المزمن والعلاقات الدولية المعاصرة بل هو في شكل تعبيره المجتمعي عن ذاته نمط تكيف الظاهرة اليهودية"(2).
إنه شكل صريح من أشكال محاربة الوجود الآخر مهما يكن، وترحيله عن مكانه وسلبه معالم شخصيته الفردية والجمعية.
وهذا الصراع لم يكن صريحاً على أرض الواقع إلا عام 1948 عندما انتقل حيّز المشروع من المفاوضات والأسهم الموزعة والحصص في الأرض الفلسطينية إلى التطبيق العملي باستخدام السلاح وإعلان الوجود الصهيوني صراحة أمام العالم في الأرض الفلسطينية وفرضه على الرأي العام العالمي.
المشروع كان ورقاً في الأزقة المعلنة وغير المعلنة للساسة الغرب وبذلك عمدوا إلى سلب الأرض والمكان وبدأ الصراع يأخذ أوجهاً حقيقية.
لا نستطيع أن نقول ماذا فعل الناس هناك ولا كيف سحب البساط من تحت أرجلهم وكيف دفعوا بقوة هائلة نحو الزوارق المنتظرة على الشاطئ.
ما يمكن أن يقال أن التسجيل الواقعي الذي زخر به الأدب هو الذي أعطى الصورة الحقيقية عمَّا جرى...
فالأديب الفلسطيني هنا لا يروي حكاية عاشها، ولا يبدع قصة متخيلة للقارئ أنه يعيش ذاتية مجتمعه... كيف كان وماذا أصبح الحال عليه.
إن من أبرز خصائص الشخصية الفردية هي المكان، وتعتبر وحدة المكان هي من أبرز خصائص الشخصية القومية العربية، التي يراهنون عليها منذ الأزل.
إذ يقوم الغزو الصهيوني على استلاب المكان وتغيير معالمه والخطورة تكمن في أنهم يعملون على مسح هوية المكان وتغيير معالم المدن والآثار الإسلامية، بصورة معلنة أو خفية.
وهذا ما نراه اليوم على أرض الواقع... تغيير معالم القدس والأقصى يافا حيفا... كيف كانت وكيف أصبحت...
والسؤال الذي يطرح نفسه هل اشتغل الكاتب الفلسطيني على المكان في وعيه أم في لا وعيه؟
أهو وعي حقيقي ظاهر يعتمد على موضوعية متكاملة في العمل الأدبي المقدّم؟ أم هو حالة فردية يطرحها كل كاتب بصورة محايدة؟
وهذا يقودنا إلى التأكيد على أن المكان المستلب في الرواية هو حالة عفوية مقصودة تعبر عن ظاهرة نفسية وعقلانية تعيش في وعي الإنسان الفلسطيني وهي بصورة جلية تعتمد على فكرية ثورية لدى الكاتب الفلسطيني، وتعالج ظاهرة المكان ودلالاتها النفسية والإجتماعية والسياسية والاقتصادية على المجتمع كظاهرة عامة وعلى الفرد كظاهرة خاصة. هي بالتأكيد جزء من الظاهرة العامة وتتحمل بجدارة تأثيرات الاستلاب والغربة والتشرّد على الظاهرة المجتمعية.
هناك أمكنة لا واعية في ذاكرة طفولية للكاتب قد تكون معاشاة للذين ولدوا هناك ورحلوا، وقد تكون ذاكرة فردية هي جزء حميم من ذاكرة جمعية لشعب وحضارة واحدة.
وهنا وعي آخر هو محاولة استرجاع المكان ومعالجة سيرورته في العمل الأدبي.
فإذا حاولنا تتبع أشكال المكان في الروايات ودلالات العرض والتناول فإننا نجد أنفسنا أمام أمكنة صريحة وأخرى مضمرة، وكل له دلالاته الخاصة في تحريك العمل الأدبي وبالتالي التعبير عن ذاتية المجتمع التي يحاول الصهاينة طمسها...
هناك حالات في ترميز المكان وأخرى في وصفه وثالثة في آلية الحركة المكانية، وربما الأجمل هو جماليات المكان في وعي الكاتب وعلى ألسنة أبطاله وشخوصه.
يتناول هذا البحث معالم المكان ودلالاته في ثلاث روايات غسان كنفاني وروايتين ليحيى يخلف كأنموذج عن الرواية الفلسطينية.
اعترف لغسان كنفاني بخصوصية رائحة المكان في أعماله الروائية، ومع ذلك أجد ذلك التماهي والتناغم العظيم بين ما هو فردي وما هو عام.
ماذا يطرح غسان كنفاني في رواياته الثلاث عن علاقة الإنسان الفلسطيني بمكانه؟
والروايات هي: رجال في الشمس... صدرت عام 1963 في بيروت.
رواية ما تبقى لكم... صدرت عام 1966 في بيروت.
رواية عائد إلى حيفا... صدرت عام 1969 في بيروت.
رجال في الشمس ليست مجرد ظاهرة البحث في التشرّد والابتعاد عن المكان، ومحاولة البحث عن الأمان في أمكنة جديدة... إنَّما هي تساءل صريح كيف يموت الفلسطيني على عتبات التشرّد والضياع.
وتبدو أحداث الرواية ضمن حيز مكاني مجرد واضح هو /الخزان/ صريح التعبير واضح الحدود والمعالم.
ولكن ما هي دلالة هذا المكان؟
الخزان مكان رمزي يتسع لكل أشكال المكان حسب تداعيات الشخصيات الثلاث المحصورة فيه الخزان كمكان مجرد هو بكل بساطة صهريج ماء ولكنه في نص الرواية ينطوي على دلالات عدّة.
فهو تارة يمثل السجن الكبير الذي حوصر فيه الفلسطيني إثر التشرّد واستلاب كل شيء منه.
وتارة يمثل الضياع والتشرّد بحد ذاته ضمن حدود ضيّقة... محصورة تكتم على أنفاس بشرية تتطلع نحو الحلم بالخلاص من الاستلاب والغربة... وتارة هو الأمل بالخلاص الوهمي...
ولكنه في النهاية حقيقة مرّة واقعة...
وهو خزان ضيّق الحدود... يخزن كل أشكال التشرّد والضياع للإنسان ولا يتسع لهذا المد المترامي من الغضب الحقيقي داخل تلك النفوس البشرية التي قدم منها غسان كنفاني ثلاث نماذج هي أسعد ومروان وأبو قيس.
وهي تمثل شرائح المجتمع الفلسطيني المر إثر النكبة...
والسؤال الشرعي الذي يطرحه غسان كنفاني على لسان أبو الخيزران "لماذا لم تدقوا جدران الخزان"(3).
إن هذه الجدران التي التصقت بها قطرات الندى للرجال الثلاث والذين ماتوا بصمت فاضح هادر عبر صحراء عربية ممتدة تبتلع كل شيء بصمت نازف... هذه الجدران كان يجب أن تدق، ليعلن منها عن الموت الذي هو حقيقة حتمية داخل هذا المكان الرمزي والذي يمثل أماكن التشرد والضياع محصورة في حدود ضيّقة بائسة.
لماذا يقبل الفلسطيني به كمكان آني في محاولة يائسة للبحث عن مكان بديل لأشجار الزيتون أو للكوخ الطيني أو لحياة أفضل ممَّا هي عليه، وكأنه قَبِلَ بواقع الهزيمة وعليه أن يدفع الثمن، بأن يبحث عن بديل لمكانه. عندئذ يكون مصيره المحتوم هو الموت!!
"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض، الأرض التي تركتها منذ عشرات سنوات"(4).
إن المكان هنا إشارة حميمة عن حالة يرتبط فيها الإنسان بمكانه في الماضي(5)، والأرض هنا ندية كأنها امرأة ندية تتسع لكل التعب المضني، ولكل العذاب والتشرّد والقلق الذي يساور الإنسان، ولا يجده إلا في امرأة منتشرة وندية تماماً مثلما هي الأرض.
وفي موضع آخر يشير إلى القرية، وإلى موت الأستاذ سليم الذي كان له الحظوة عند ربه، ولأنه مات في أرضه قبل يوم واحد من سقوط القرية بأيدي اليهود "وبذلك وفّرت عليك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار، يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم، ترى لو عشت، ترى لو أغرقك الفقر كما أغرقني، أكنت تفعل ما أفعل الآن، أكنت تقبل بأن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي تجد لقمة خبز"(6).
ثمَّ في موضع آخر يستند إلى ذكريات القرية والأستاذ وابنه ومدرسته وأم قيس، وثم يتوج هذا الحنين لذاك المكان بقوله "احتجت عشر سنوات كي تصدق أنك خرجت من بيتك"(7).
هنا كما نلاحظ القرية مكان له دلالات متعددة أهمها دلالة المكان الشامل الذي يضم الماضي والحاضر والمستقبل والعلاقات الوشيجة بينها الحالات الثلاث للإنسان في مثل هذا المكان.
وهو في الواقع مكان ثابت ولكن حالة ارتباط الإنسان فيه في المتغيرة حسب الزمن.
والكويت والصحراء هما مكانان رمزيان عن الغربة والضياع.
الشخصيات الثلاث محصورة في داخل الخزان والخزان في وسط الصحراء، وهي مكان واسع مترامي الأطراف والكويت نهاية الصحراء والخزان. وكلّها سجن صغير فأكبر فأكبر في سبيل الأمان الذي يبحث عنه الإنسان دوماً في حال تغرَّب عن مكانه الرحم.
"وراء هذا الشط فقط توجد كل الأشياء التي حرمها، هناك توجد الكويت، الشيء الوحيد الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصوير يوجد هناك"(
.
إذاً الكويت مكان حلم ليس له علاقة بالواقع، وعلاقته تبدو ذهنية بحتة لأنها تدل في إطار التصوير الذهني البعيد عن الواقع الذي عاشه أو يأمل أن يعيشه، أيضاً نلاحظ محاولة مقارنة هذا المكان في الواقع مع ذات المكان في ذهنه، ويبدو أن المكان في الواقع والمكان المأمول في حالته الذهنية كلاهما ما زال في ذهنه كفكرة خيالية تعبر عن كبت داخلي يحاول به التخلص من واقعه المرير.
"لابدَّ أنها شيء موجود، من حجر وتراب وماء، سماء ليست مثلما تحوم في رأسه المكدود، لابدَّ أن ثمَّة أزقة وشوارع ورجالاً ونساء وصغاراً يركضون بين الأشجار... لا... لا توجد أشجار هناك"(9).
أصبحت حالة المكان المقارن بين ما هو متوقع "الكويت، وبين ما هو حقيقي"، مكان الماضي القرية"، "فقال أنه لا توجد هناك أية شجرة، الأشجار موجودة في رأسك يا أبا قيس، في رأسك العجوز التعب. يا أبا قيس عشر أشجار ذات جذوع معقدة كانت تساقط زيتوناً وخيراً كل ربيع ليس ثمَّة أشجار في الكويت(10).
هنا يعطي تفاصيل للأشجار... ليست كأي أشجار هي فقط أشجار خاصة بقريته. بل أشجاره هو، أشجار من الجنة تساقط زيتوناً وخيراً.
الكويت قفر، وعطش وصحراء قاحلة. الكويت فقط أرض سوداء للنفط ولا تزرع شجراً ولا تنبت خيراً.
المكان عند الرجل العجوز مكان تتمثل بدلالة أشجار الزيتون.
إن محاولة تتبع مفاصل الحوار التالي ترشدنا إلى أنها دائماً في حالة تيه منذ خرج من بيته. ما زال في حالة البحث عن مكان مستقبلي يشبه تماماً مكان الماضي، والمكان في الماضي لا يمكن أن يصبح لديه مكان للذكرى لأنَّه ما زال حيّاً فيه.
"ماذا ترين يا أم قيس"؟.
حدقت إليه وهمست "كما ترى أنت".
سيكون بوسعنا أن نعلم قيس "نعم"، و"قد نشتري عرق زيتون".
"طبعاً".
"وربما نبني غرفة في مكان ما".
"أجل"(11)
ولكن فجأة ينقطع حبل الحلم لديه، ويصطدم بالخوف والمرارة. بالواقع المرير "إذا وصلت... إذا وصلت..."(12).
وكأنه واثق من النهاية.
وربما نتساءل هل تختلف دلالات الأمكنة باختلاف الشخصيات الروائية؟
ماذا تمثل الكويت بالنسبة لمروان، ولأسعد الشريكان الآخران في رحلة الموت هل كذلك تمثل الخلاص.
تقول أم مروان عن أخيه زكريا "إن زكريا لن يفهم قط معنى أن يتعلّم الإنسان لأنَّه ترك المدرسة حين ترك فلسطين"(13).
إن الرحيل عن الوطن الذي يتمثل بالبيت والمدرسة والأم هو تخلي عن الذات والغوص في المجهول.
وهذا ما فعله زكريا... ترى هل يلحق به مروان ليجد مستقبله هنا؟
مروان لا يريد التخلص من بيته، ولا يريد التخلي عن أمه لأنَّ أمه تعني الوطن لديه وزكريا تخلى عن أمه، فهو قد تخلى عن وطنه، لكن المرارة أنه تخلّى عنه أبوه وأخوه... وما زالت أمه تنتظر رجوعهم. لذلك عليه أن يتحمل المسؤولية.
هل يستطيع برحيله إلى الكويت هل تمثل الكويت بالنسبة له حلاً لمشاكله؟
هو يعتقد مثل أبا الخيزران أن كل شيء ضاع.
"عشر سنوات طوال وهو يحاول أن يتقبل الأمور، ولكن أية أمور؟ أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيّع رجولته في سبيل الوطن وما النفع؟ لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتباً لكل شيء في هذا الكون الملعون"(14).
وهنا إشارة إلى أن الضياع الحقيقي هو ضياع الإنسان عن وطنه.
وهو يدفع ثمناً لضياع الاثنين بابتلاع الصحراء له.
كما نلاحظ في موقع آخر إشارات واضحة إلى سياسة التقسيم التي مزّقت الأرض الواحدة "كان قد بدا رحلته مع صديقين من أصدقاء شبابه ومن غزة، عبر إسرائيل، عبر الأردن، عبر العراق... ثمَّ تركهم في المهرب في الصحراء"(15).
وتطرق الكاتب إلى بعض الأمكنة الوظيفية التي يمكن اعتبارها أمكنة ظرفية تخدم الحدث الروائي وتسلسله مثل البصرة وفندق الشط.
وفي تطور الحالة الروائية واقترابها من حالة التوهّج نلاحظ أن المكان أصبح مرهوناً بواقع الزمن الخارجي وتطوّر الأحداث التاريخية وبين الزمن الداخلي الذي يحسب بالثواني والدقائق، وكأنها ساعات داخل الخزان.
ما مدى توافق الحالة الزمانية الخارجية للمكان مع الحالة الزمانية الداخلية للمكان؟ في الواقع أصبح المكان واحداً وآلية الزمن متحركة بفعل الحدث الذي يتوج بزمن مستنزف لمن هم داخل الخزان داخل السجن المحصور في صحراء كبرى هي واقع الأنظمة العربية.
هو زمن مستقطع، مستعرض لا يعرف كيف يمضي لمن هم خارج الخزان زمن مقتول في الداخل والخارج.
الزمن العربي كما يقدمه غسان كنفاني في رواية رجال في الشمس.
(رواية ما تبقى لكم)
عندما تصبح الشخصيات أمكنة رمزية متداخلة دون حدود جغرافية.
لا يوجد في رواية ما تبقى لكم انتقال فعلي للمكان محسوس من قبل القارئ... إذ إن تغيرات المكان فجائية ولا تسقط القارئ في بحر المفاجأة بقدر ما تنقله انتقالاً هادئاً يتبع حالة البطل أو الراوي أحياناً. وهذه الحالة إما نفسية أو جسدية متغيرة بتغير طقوس حالة الجسد تبعاً للمكان وصفاته.
ما تبقى لكم أبطالها الخمسة هم حامد وزكريا ومريم كائنات بشرية، أمَّا الصحراء والساعة فهي كائنات غير بشرية لها صفات بشرية في كثير من المواقع... إذ اعتبر الساعة والصحراء كائنات حيّة تارة وأخرى أمكنة لها صفاتها وتفاعلها مع البطل في حالته الراهنة.
أيضاً سواء أكان اعتبار الصحراء والساعة أمكنة رئيسة، أو البيت والشوارع والمعسكر أمكنة مساعدة. كلّها كانت تفرز الحدث المبرر للشخصية، وتصبح الشخصيات هنا أمكنة رمزية متداخلة، دون حدود.
قادرة على استيعاب الآخر، ولكل شخصية أبعادها الإنسانية التي تصب في خانة الهدف الروائي.
إن كل من الأبطال الثلاثة هو مكان رمزي بالنسبة للآخر.
إذ يمثل زكريا سجن لمريم ولحامد...
وتكون مريم سجن لحامد...
وكذلك حامد هو سجن لمريم...
كيف يكون التداخل بينهم والتناغم الحقيقي الذي حققه غسان كنفاني في هذه الرواية.
يقول غسان كنفاني "لا يبدو هناك أي فارق محدد بين الأمكنة المتباعدة أو الأزمنة المتباينة، وأحياناً بين الأزمنة والأمكنة في وقت واحد"(16).
هذه إشارة إلى توحّد الزمان والمكان عند البطل، وإلى أن عملية الانتقال بين الأمكنة ليست ظاهرية، وإنما هي عملية داخلية تتبع دلالة الحدث في المكان.
الصحراء: مكان صفاته العامة: الامتداد، الضياع، الشمس الحارقة الأهداف.
أمَّا الصفات الروائية الخاصة لهذا المكان أي الصحراء فهي بثلاث حالات عبر ثلاث مراحل، وتبدو كمقدمة لعلاقة حامد بالصحراء.
والحالات الثلاث هي الرؤية الظاهرية ـ المشاركة والتواشج ـ الاندماج.
وبتتبع الحالات الثلاث نجد
الحالة الأولى ـ الرؤية الظاهرية:
"وفجأة جاءت الصحراء... رآها لأول مرة مخلوقاً يتنفس على امتداد البصر، غامضاً مريعاً وأليفاً في وقت واحد، يتقلّب في تموّج الضوء الذي أخذ يرمد منسحباً خطوة خطوة أمام نزول السماء السوداء من فوق"(17).
الصحراء هنا مخلوق عجيب /ممتد/ الامتداد هنا تقاطع مع الصفة العامة. غامض ومريع وأليف... تناقض في الصفات، يصلح لكائن بشري يشبهه ويشاركه وحدته عبر الامتداد.
الحالة الثانية ـ المشاركة والتواشج:
تتحوّل الرؤية الظاهرية لهذا الامتداد إلى إحساس بمشاركته وتواشجه وتناغمه مع البطل والاحتواء/ لقدرة الصحراء على احتوائه بتناقضاته... "واسعة وغامضة، ولكنها أكبر من تحبها أو تكرهها"(18).
لم تكن صامتة تماماً (وقد أحسّ بها جسداً هائلاً يتنفس بصوت مسموع)(19).
المرحلة الثالثة ـ الاندماج
"وأمامه على مد البصر، تنفس جسد الصحراء، فأحس طأح بدنه يعلو ويهبط فوق صدرها"(20).
والاندماج يأخذ هنا شكلين:
1 ـ جسده كجسد الصحراء كائن ممتد واسع غامض.
2 ـ جسده وروحه داخل الصحراء وخارجها "طأح بدنه يعلو ويهبط فوق صدرها".
والحالة الثانية هي التي تنبئ منذ بدء الرواية عن مصير حامد.
فالصحراء ستقتله أو تحتويه أو تبتلعه أو يصبح هو هي...
هنا دلالة عن احتواء المكان الممتد وهو الصحراء لحامد المسجون. حامد يخرج من سجنه إلى فضاء الصحراء رغم أنها ستأكله ولن يعود "عندها فقط عرف أنه لن يعود" وهي وحدها خلاصه.
والصحراء المكان تتبدى بوجوه عدّة حسب الشخصية. فهي لزكريا ستقتل حامد "إن الصحراء تبتلع عشرة من أمثاله في ليلة واحدة"(21).
نعود لحامد الذي يعتبر الشخصية المحورية في الصحراء. إذ نجد أن الصحراء تتغير حالتها متواشجة مع حامد وتلك تعتبر صفات جمالية للصحراء، فقد كانت في البدء مخيفة والآن هي كائن بشري "سقط الظلام تماماً الآن، سقطت معه ريح باردة، صفرت فوق صدر الصحراء كأنها لهاث مخلوق ميت، ولم يعد يدري ما إذا كان خائفاً، فثمة قلب واحد كان ينبض ملء السماء في ذلك الجسد المترامي على حافة الأفق"(22).
الآن يدرك أن المكان الذي يحتويه أصبح هو، ولم يعد ثمَّة إلا هو والمخلوق الموجود معه "وفجأة ذاب الخوف وسقط، ولم يعد ثمَّة إلا هو والمخلوق الموجود تحته، وفيه ويتنفس بصفير مسموع، ويسبح بجلال في بحر من العتمة المرصعة"(23).
إذاً الصحراء كمكان انطوى على دلالات عدة. فهي تارة قادرة على الاحتواء /التحام جسده بالصحراء/.
وقادرة على الحماية /تخلصه من الخطر القادم/.
وهي امرأة عذراء يعب جسده رائحة نداها.
وهي الموت.
ولكنه يختار حبها وسجنها الكبير لأنها حريته من سجنه الأكبر وهو ذاته، وتراكمات التهجير والغربة التي عانى منها بفقدان أمه من ناحية، وبفقدان مريم من ناحية أخرى. على الرغم من رغبته التخلّص منها "ليس ثمَّة من تبقى لي غيرك"(24).
وحامد مسجون بحدود كثيرة. على لسان زكريا "عليه أولاً أن يجتاز حدودنا ثمَّ عليه أن يجتاز حدودهم، ثمَّ حدودهم، ثمَّ حدود الأردن، وبين هذه الميتات الأربع توجد ميتة من الميتات الأربع هي الصحراء"(25).
مريم كشخصية محورية في الرواية هي سجن حامد "أين ستذهب" قالتها وتركت فمها مفتوحاً كأنها تريد أن تقول له أنه لا يستطيع ـ سأذهب إلى الأردن عن طريق الصحراء".
ـ تهرب مني؟(26).
ممَّا يهرب الإنسان؟ أليس من سجنه يهرب!!
مريم سجن حامد لأنَّه تحمّل مسؤوليتها على حساب أحلامه ومستقبله لضياع أمه ورحيلها واستشهاد والده وهو الصغير.
الصغير الذي سيكبر ويدرك ماذا حلّ به وبها. لماذا؟ لأنَّ الاحتلال واستلاب المكان لم يبقِ له شيئاً.
"لو كانت أمك هنا".
لو... لو... منذ ستة عشر عاماً وهو يقول لها الصبية... الصبية"(27).
إن الخيارات الطبيعية تتبدى للإنسان عندما يعيش حالته الإنسانية الطبيعية دون ضغوط خارجية فرضها التشرّد والاغتراب. ومريم بقية أنثى مسجونة في حقيبة حامد.
ومسجونة في نظرة زكريا الخائن.
لماذا يفرض هذا السجن القسري عليهم جميعاً؟
لأنَّ الخيارات أصبحت معدومة. والحياة بالنسبة لهم جميعاً تسير باتجاه واحد... وهو الخيار الوحيد لهم جميعاً "ما تبقى لكم".
أظنه الموت كما أراد غسان كنفاني أن يقول.
لقد أجبر حامد على الخروج إلى الصحراء، وأحسّ أنه دفع لذلك بفعلة مريم "لقد خدعاني معاً، ثمَّ طرداني وأنا غارق في عارها"(28).
زكريا خائن، وهو سجن مريم حين غدر بها. وسجن حامد، إذ غدر به وبسالم من قبل.
وقد طرد حامد من أماته. من بيته. وهو لم يطرد صراحة بل أجبر على ترك المأمن بفعل العار الذي لحق به فيه وهو غير قادر على حماية نفسه أو غيره أو شرفه في ظل احتلال المكان من قبل زكريا الخائن الأكبر ومريم الخائن الأصغر لماذا؟
لأنَّ الإنسان عندما يستلب منه مكانه يفقد الأمان وهذه البيوت أصبحت لا تحمل معناه الحقيقي أصبحت بيوتاً واقعة في العراء مكشوفة للريح.
"أنت زوجنيها أو لا تفعل، فلست أنا الذي أخسر"(29).
"أنت لا تريد طردي أليس كذلك، سيقولون أنك طردت الرجل الذي..."(30).
"أنا أدلكما على سالم "وقبل أن يفعل تقدم سالم، وهي طلقة واحدة فقط فيما أخذنا ننظر إلى
زكريا" (31).
لماذا يجعل الكاتب تداخل الحالتين. أي بين اكتشاف حامد لخيانته من قبل زكريا حين وشى بسالم، وحين اكتشف أنه خانه بفعلته مع مريم؟.
إن مبدأ الخيانة هنا واحد...
إن خيانته للمكان الذي يحتويهم جميعاً /أي للوطن/ تساوي خيانته للبيت الذي كان سكانه يستقبلونه باطمئنان له.
إلا أن سالماً فوّت الفرصة عليه وتركه ينضح بعاره. فماذا فعل حامد؟
في موقعين متباعدين في الرواية يذكر غسان كنفاني "وهي طلقة واحدة. فيما أخذنا ننظر إلى
زكريا" (32).
"وهي طلقة واحدة وراء أنفاس الجدار"(33).
أهي ما تبقى لي ولكم؟
أجل الموت ما تبقى لي ولكم. زكريا يُقتل بيد مريم لأنَّه خائن حتّى العظم، حتّى لذاك الذي زرعه في أحشائها، وحامد يقتل الجندي في الصحراء كناية عن قتله لزكريا وانتقاماً لقتل سالم.
ماذا عن ارتباط الزمان بالمكان في رواية ما تبقى لكم؟
الزمان مرهون بالساعة، والساعة تساوي الوقت وتساوي السجن وتساوي الموت البطيء.
وهي ليست أكثر من نعش علقه حامد على الجدار في البيت الواقف في العراء. البيت الذي فقد ركيزتيه الأب والأم. فماذا بقي فيه؟
"لقد منحتني هذا النعش علقته أمامي"(34).
الزمن رتيب ويكاد يكون ثابتاً حتّى رحيل حامد حيث قتل رتابة الزمن المرهون بالمكان وهو البيت "ولكن خطواتك هي التي ستظل إلى الأبد تقرع حوله، هذا هو النعش الصغير المعلق سيحتوينا
جميعاً" (35).
من الملاحظ أن الوقت كان مقتلاً للجميع إلى أن بدأ حامد رحلته باتجاه المجهول.
أصبح الزمن في يافا في البيت بين زكريا ومريم له طعم خاص والزمن لحامد له طعم آخر مرهون لكل منهم بمكانه.
ولكن النهاية ربَّما هي الموت للجميع والموت عن الموت يختلف.
فالمكان كان رهين اللحظة الزمنية وماذا تخبئ.
ثمَّ عندما التقى الغريب أصبح الزمن لا أهمية له عنده "والقصة كما ترى، قصة مسافة ليس غير، وربما زمن آخر أيضاً وحسناً ولكنني لا أكترث كثيراً بالزمن كما ترى"(36).
"لقد تحول انتظاره إلى مستنقع بلا قرار، وأضحى الزمن خصماً فيما بدا حامد جامداً عاقداً العزم على البقاء ها هنا حتّى النهاية"(37).
إذا الموت ولا الرحيل.
الرواية الثالثة في التسلسل الزمني هي عائد إلى حيفا.
نلاحظ هنا المباشرة في الطرح والحلول والأمكنة واضحة والانتقال ليس فجائياً بين الأمكنة أو الأزمنة.
كما نلاحظ أن الدلالة المكانية واسعة الأبعاد.
كنا في أمكنة رمزية وتأويلية في رجال في الشمس وما تبقى لكم، ونحن الآن نتتبع خطوط المدن والشوارع والبيوت وتفاصيلها في ذاكرة حيّة تروّي تفاصيل المكان.
مدينة تملأ أنف سعيد وزوجته، وتعلّق تفاصيلها في ثيابهما.
"حيفا هذه إذن بعد عشرين سنة". للمدينة وصف مباشر في زمنين متعاقبين. قبل وبعد عشرين سنة.
والرهان على التغيير إلى أن أقسموا على إحداثه في المدينة لتغيير معالمها، وكأنهم أكثر قدرة على الإحساس بالمكان وجماليته وأكثر أمناً على المدن من أصحابها.
لكن الأمر يبدو مختلف هنا تماماً "فالأبواب يجب أن تفتح من جهة واحدة وإن تعددت الجهات يجب اعتبارها مغلقة "وعندما ترغب برؤية مكانك الأول لا يمنعونك من ذلك فأنت ليس لديك الحرية أو الخيار في ذلك "أنت لا ترينه، إنهم يرونه لك" لأنَّ التخلي عن المكان مهما كانت الأسباب مدعاة للاعتراف بعدم أحقية الرجوع إليه إلا بانتزاعه ممَّن سلبوه لأنهم يفرضون عليك حتّى حدود الرؤية.
ومع ذلك لا يستطيعون أن يروا لك ما يريدون فقط. ذاكرتك تنعق بما تريد أنت وتعيش فيها أسماء الشوارع كما هي وكذلك الأمكنة الصغرى منها والكبرى "وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير... الحليصة، الهادار"(40).
وهذه الأسماء لأمكنة حقيقية واقعية من ذاكرة أمة وقد ذكرها غسان كنفاني على سبيل التأكيد، أن المكان في الداخل لا في الخارج كما يريدون هم.
فالأمكنة هي ذاكرة شعوب وأمم لا مجرد ذاكرة أشخاص. هنا لا تستطيع كل قوى العالم محو ذاكرة الشعوب، فالشوارع ليست مجرد أسماء مجردة بل ذاكرة الشعوب فوقها مهما تغيرت معالمها "فالشوارع بالنسبة له لم تتغير أسماؤها بعد"(41).
وهنا نلاحظ في هذه الرواية أن الكاتب يتعرّض إلى تفاصيل دقيقة وحميمة في المكان لأنَّه الانتماء الحقيقي، هو ظاهرة الوجود الإنساني. وإذا فقدَ الإنسان تفاصيل مكانه من الذاكرة فقدَ انتماءه وبالتالي فقدَ هويته، وهذا ما يراهن عليه الاحتلال /تغيير معالم المكان بكل الوسائل كي يختفي من ذاكرة الإنسان العائد/.
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا عن تفاصيل المكان لعائد مثل خالد لم يلد أصلاً في المكان حتّى تتشكل لديه ذاكرة فيه أو عنه؟
إلى ماذا يعود خالد... ماذا لديه في ذاكرته كي يعود باحثاً عنه.
هل يعرف مثلما يعرف أبواه عن تفاصيل البيت عن الدرج عن خربشات أقلام الرصاص؟ ماذا يعرف عن أعواد ريش الطاووس التي بقيت شامخة؟ هل رآها؟
أمَّا خلدون فقد ولد هناك "ولكنهم هم الذين صنعوه، لقد علموه عشرين سنة كيف يكون يوماً بعد يوم ساعة بعد ساعة مع الأكل والشراب والفراش... انتهى الأمر لقد سرقوه"(42).
إذاً المقارنة واضحة. والأمر يتعلّق بقضية كبرى هي محاولة سرقة الإنسان، لأنَّ الإنسان ليس هو وليد المكان فقط بل الإنسان وليد قضية مرتبطة بالمكان.
لقد سرقوا ولده خلدون وأحسنوا تربيته بما يتوافق مع تطلعاتهم وزرعوا فيه مستقبلاً خاصاً بهم.
وأما خالد فالغربة والضياع وفقدان الهوية المرتبطة بالمكان والتاريخ ورائحة الإنسان في مكانه كل ذلك هو ما يحمله في ذاكرته.
يحمل ذاكرة والديه وذاكرة الشهداء وذاكرة المدن المهجرة. لذلك عليه أن يعود بحثاً عن الدرج الذي يصعد به إلى البيت والشرفات المطلة على الفناء الخارجي نحن هنا أمام مسألة هامة تنطوي على إمكانية البحث. إذاً يمكننا البحث عن جماليات المكان وعن رائحة المكان وعن الزمان كيف يشكل المكان.
1 ـ هناك وصف لحركية المكان قبل عشرين عاماً ويقارنها مع نفس آلية الحركة بعد عشرين عاماً.
2 ـ وهنا كناية عن أن العائد سعيد لا يقبل التخلّي عن تفاصيل الحركة في مكانه كدلالة عن وجوده الحي فيه وإن غادره "ومثلما كان يفعل قبل عشرين سنة تماماً، خفّف سرعة سيارته إلى الحد الأدنى قبل أن يصل إلى ذلك المنعطف، الذي يعرف تماماً أن سفحاً صعباً يكمن وراءه... وانعطف بسيارته كما كان يفعل دائماً، وتسلّق السفح محتفظاً بالموقع الصحيح في الطريق الذي أخذ يضيق. وكانت أشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلاً فوق الشارع قد مدّت أغصاناً جديدة، ورغب أن يتوقف لحظة كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن، ويكاد يتذكرها واحداً واحداً"(43) إذاً العودة تعني عودة المكان بنفس آلية الحركة المعبّرة عن وجوده كإنسان في مكان مرتبط فيه نفسياً وعاطفياً وجسدياً.
3 ـ وهناك الصورة الحية لذاكرة المكان بساكنيه كما كان. فهو يطل عليه بعد زمن ويجده كما هو "وفجأة أطل المنزل، المنزل ذاته، ذلك الذي عاش فيه، ثمَّ عيشه في ذاكرته طويلاً، وها هو الآن يطل بمقدّمة شرفاته المطلية باللون الأصفر. ولوهلة خيّل إليه أن صفية، شابة وذات شعر مجدّل طويل، ستطل عليه من هناك، كان حبلاً جديداً للغسيل قد دق على وتدين خارج الشرفة، وتدلّت منه قطع بيضاء لغسيل جديد. وفجأة أخذت صفية تبكي بصوت مسموع، أمَّا هو فقد انحرف إلى اليمين، وترك عجلات سيارته تصعد الرصيف الوطيء. ثمَّ أوقف السيارة في المكان الذي لها، كما كان يفعل ـ تماماً ـ منذ عشرين سنة"(44) هنا إصرار واضح على أن ذاكرة المهجر مازالت تحتفظ بالصورة الحية ذاتها للمكان.
4 ـ عندما يصاب الإنسان بالعمى فإنه يضيع في أمكنة لا يعرفها، أمَّا مكانه الذي يعرفه فهو يدركه ببصيرته ويحفظ تفاصيله الصغيرة. وبذلك هو يعرف اتجاه الباب، ومكان الجرس وعدد الدرجات وإن فقدَ أحدها اختل توازنه.
5 ـ وهذا ما يحاول غسان كنفاني الإشارة إليه هنا بأن الأشياء الصغيرة في المكان بقدر ما نعرفها تعرفنا هي ولا تنكرنا إذا تخلينا عنها وأنكرناها، وفقدانها يعني فقدان التوازن والمعرفة برائحة المكان وهويته. وهو يؤكد على خصوصية هذا البيت في ذاكرة سعيد وزوجته صفية "أمسك بذراعها، وإذ يقطع بها الشارع: الرصيف، البوابة الحديدية الخضراء، الدرج. وبدأا يصعدان، دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستضعه تفقده اتزانه: الجرس، ولاقطة الباب النحاسية، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط، وصندوق الكهرباء، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها، وحاجز السلَّم المقوس الناعم الذي تنزلق عليه الكف، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، والطابق الأول حيث كان محجوب السعدي يعيش، وحيث كان الباب يظل موارباً دائماً، والأطفال يلعبون أمام الدار دائماً، ويملأون الدرج صراخاً، إلى الباب الخشبي المغلق، المدهون حديثاً، والمغلق بإحكام"(45).
إن المسألة التي يطرحها غسان كنفاني هنا في غاية الأهمية، إن علاقة الإنسان بالمكان ليست مجرد ملكية الأشياء التي يحتويها المكان بل الأمر يتعدى ذلك إلى قضايا أكثر جوهرية، فالمكان مرتبط بجماليته الخاصة عند كل فرد إذ يرى الكثيرون أن أجمل البيوت هي القصور والبعض يرى الخيام فلماذا هذا التفاوت بالنظر إلى جماليات المكان.
الأمر بكل بساطة هو خصوصية المكان بذكرياته وربما بالأحلام على جدرانه لأنَّ الرؤية هي داخل وجدان الفرد"... واستطاع أن يرى أشياء كثيرة اعتبرها ذات يوم وما يزال، أشياءه الحميمة الخاصة التي تصورها دائماً ملكية غامضة مقدّسة لم يستطع أي كان أن يتعرّف عليها أو أن يلمسها أو أن يراها حقاً. ثمَّة صورة للقدس يتذكرها جيداً ما تزال معلّقة حيث كانت، حين كان يعيش هنا. وعلى الجدار المقابل سجادة شامية صغيرة كانت دائماً هناك أيضاً. وأخذ يخطو ناظراً حواليه، مكتشفاً الأمور شيئاً فشيئاً، ودفعة واحدة، كمن يصحو من إغماء طويل. وحين صارا في غرفة الجلوس استطاع أن يرى أن مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له. أمَّا المقاعد الثلاثة الجديدة فقد كانت جديدة، وبدت هناك فظّة غير متّسقة مع الأثاث. وفي الوسط كانت الطاولة المرصعة بالصدف هي نفسها. وإن كان لونها قد صار باهتاً، وفوقها استبدلت المزهرية الزجاجية بأخرى مصنوعة من الخشب، وفيها تكومت أعواد من ريش الطاووس، كان يعرف أنها سبعة أعواد. وحاول أن يعدّها وهو جالس مكانه إلا أنه لم يستطع، فقام واقترب من المزهرية وأخذ يعدها واحدة واحدة، كانت خمسة فقط"(46).
يتطرق غسان إلى قضية فارس اللبدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه ماذا أراد غسان كنفاني من سياق القصة في تسلسل الرواية؟!
ينطوي ذكر قصة فارس اللبدة على لسان سعيد لزوجته على دلالات عدّة سنأتي على ذكرها لاحقاً والحكاية تقول أن فارس اللبدة عاد إلى بيته وظنّ أنَّ يهودياً استولى على بيته، إلا أنه وجد عربياً فيه. وذلك العربي كان قد وجد نفسه محاطاً بالمكان القفر من البشر الذي رحلوا، ولكن صورة بدر الشهيد وهو شقيق فارس اللبدة كانت قد أجبرته على الوفاء لبيت دون سواه بعد أن دمّر بيته "يبدو لي أن يكون الإنسان مع رفيق له حمل السلاح ومات في سبيل الوطن شيئاً ثميناً لا يمكن الاستغناء عنه. ربَّما كان نوعاً من الوفاء لأولئك الذين قاتلوا. كنت أشعر أنني لو تركته لكنت ارتكبت خيانة لا أغتفرها لنفسي. لقد ساعدني ذلك ليس على الرفض فقط، ولكن البقاء... هكذا ظلت الصورة هنا. ظلت جزءاً من حياتنا أنا وزوجتي لمياء وابني بدر وابني سعد وهو، أخوك بدر، عائلة واحدة عشنا عشرين سنة معاً. كان ذلك شيئاً مهماً بالنسبة لنا..."(47).
وأراد فارس اللبدة أن يستعيد البيت فوجده بيد من هو أحق منه به. بيد عربي رفض الرحيل ولو على جثته. فقرر استعادة الصورة من باب الوفاء لأخيه... ومع ذلك وجد أنه لا يحق له الاحتفاظ بتلك الصورة لأنَّ مكانها الحقيقي حيث يرقد صاحبها "وصار على الطريق المتّجه نحو رام الله وعندها فقط انتابه شعور مفاجئ بأنه لا يملك الحق بتلك الصورة"(48).
وأما الرجل الذي كان قد احتفظ بالصورة والبيت طوال تلك الفترة فقد أصابه الندم لأنَّه تخلّى عنها فقال له حين أعاد الصورة "شعرت بفراغ مروّع حين نظرت إلى ذلك المستطيل الذي خلفته على الحائط. وقد بكت زوجتي، وأصيب طفلاي بذهول أدهشني. لقد ندمت لأنني سمحت لك باسترداد الصورة، ففي نهاية المطاف هذا الرجل لنا نحن. عشنا معه وعاش معنا وصار جزءاً منا. وفي الليل قلت لزوجتي أنه كان يتعيّن عليكم، إن أردتم استرداده، أن تستردوا البيت ويافا، ونحن... الصورة لا تحل مشكلتكم، ولكنها بالنسبة لنا جسركم إلينا وجسرنا إليكم"(49).
إن تقاطع حكاية فارس اللبدة مع حكاية سعيد فيها الكثير من الدلالات والتي تؤكد على أن:
1 ـ المكان لا يكون بأشيائه في الذاكرة وليس بقدسية الذكريات فيه بل بناسه المصلوبين أحياء أو أمواتاً في انتظار أحبتهم.
2 ـ المكان لمن يدافع عنه ويبقى فيه وإن اضطر لأن يبقى فيه حياً كالرجل الذي بقي في بيت فارس اللبدة أو ميتاً كبدر المصلوب على الجدار الواقف في العراء في انتظار الأحبة كي يغمضوا عينيه المرهقتين انتظاراً.
3 ـ المكان ضرورة الوجود الإنساني وشرعية هذا الوجود. وهذا حق يدافع عنه بقوّة السلاح وأن يسترد بقوة السلاح "فارس اللبدة، لو تعرفين... وهمس بصوت لا يكاد يسمع: إنه يحمل السلاح الآن"(50).
إن استرجاع الإنسان مسألة قضية لا تقتصر على الإنسان فقط بل على المكان لأن سعيداً لا يستطيع استرجاع ابنه خلدون لأنَّ الإنسان هو في نهاية الأمر قضية مرتبطة بالمكان، والمكان الذي رحل عنه سعيد مكاناً ـ أصبح الآن لدوف اليهودي "ولهذا يقف سعيد طويلاً أمام السؤال المصيري" ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن بالنسبة لبدر اللبدة ما هو الوطن؟ أهو صورة أخيه معلّقة على الجدار؟ أنني أسأل فقط. "إذاً ماذا كان يترتب عليهم أن يفعلوا" كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا" لذلك عليكم أن تدفعوا الثمن كان عليكم ألا تبكوا ألا تضيعوا عشرين سنة في البكاء عليكم استرداد بلادكم بقوة السلاح".
إذاً الأمكنة في رجال في الشمس رمزية، وفي رواية ما تبقى لكم تأويلية وليست تصريحية، أمَّا في رواية عائد إلى حيفا فالأمكنة صريحة واضحة. والتدرج من التأويل إلى الرمز والتصريح هو كناية عن مرحلة الوعي الذي حاولوا استلابه من الإنسان بتغريبه عن جذوره في المكان، ومحاولة تغيير معالمه.
في النهاية لا يمكننا اعتبار أي من الأمكنة في رواية المقاومة هي أمكنة ثانوية وأخرى رئيسة. والسبب هو أن رواية المقاومة عمل إبداعي يعتمد بالدرجة الأولى على ظاهرة المكان بكل تفاصيلها، وما تعنيه من اغتراب أو مستقبل أو ضياع.
فلسطين في كل الروايات هي مكان متوهّج كالجمرة لا مباشرة ولا تقريرية في طرحه.
وإنما يبقى كجمرة متوهّجة في ثنايا العمل الروائي وفي كل شكل من أشكال طرح المكان.
مكان لا تمحوه الآلام المريرة والواقع المذل الذي عايشه أبطال الروايات أدباء الإنسان الفلسطيني واقعاً.
هو مكان في الماضي لم يصبح للذكرى أبداً بل تحوّل بفعل المعاناة وعقلنة المقاومة ورد الفعل الطبيعي عند الإنسان إلى مكان للمستقبل يجب البحث عن طريق العودة إليه.
الهوامش:
1 ـ (خياطة، محمد وليد) وعود آلهة بني إسرائيل الكاذبة، المعرفة، العدد 347 - أيلول ـ 1982 ـ
ص154- 164.
2 ـ (داود، أحمد يوسف) الظاهرة اليهودية في التاريخ ـ المعرفة، العدد 245 ـ تموز 1982 ـ
ص39- .67.
3 ـ (كنفاني، غسان) (1963) رجال في الشمس، رواية، بيروت، لبنان، ص93.
4 ـ المصدر نفسه، ص11.
5 ـ لابدَّ من الإشارة هنا إلى أنني استعنت في بعض مفاصل هذه الدراسة بكتاب جماليات المكان في الرواية العربية، شاكر النابلسي ـ صادر عن المؤسسة للدراسة والنشر، الطبعة الأولى 1994.
وهناك دراسة عن جماليات المكان في الأدب ـ ملحق الأسبوع الأدبي رقم 126 ـ العدد 846، قدّم عدداً من الأبحاث المتعلقة بالمكان في الرواية العربية منها بحث جماليات المكان في النقد الأدبي العربي المعاصر د. عبد الله أبو هيف. وبحث د. قاسم المقداد، جماليات المكان في الدراسات الغربية الحديثة.
مع التأكيد هنا على خصوصية البحث هنا والذي اعتمد تأويل المكان تبعاً لحالة الأبطال ثمَّ مناقشة دلالة المكان للشخصية الروائية ورصد حركة المكان تبعاً للزمان، وتبعاً للحالة الروائية للشخصيات الروائية.
16 ـ كنفاني. غسان. (1996)، ما تبقى لكم، رواية، بيروت، لبنان، ص11.
38 ـ (كنفاني. غسان) عائد إلى حيفا، رواية، بيروت، لبنان، ص7.
39 ـ المصدر نفسه، ص8.