يجملُ ناجي علوش –في مجموعة أعماله الشعرية الكاملة عن وزارة الثقافة ببغداد رؤيته الخاصة فيما يكتبُ من شعر، وتأثير انغماسه في العمل النضاليّ والسياسيّ على كتاباته الشعرية... ومع هذا فقد ظل الشعرُ هاجسَهُ، وغناءه المُحبب... يقول من ص 190، وما يتبع: "منذ سنة 1957م، أخذتُ أتجهُ اتجاهاً آخر [في الشعر] صحيح أن التحول في شعري كان تحولاً في الشكل، في تعدد التفعيلات [بعد أن كان عمودياً] ولكنه كان تحولاً على أنه حال، قاد خلال السنوات التالية: 1958م، 1959م، 1960م، إلى تحول حقيقي، يبرز واضحاً في مجموعتي "هدية صغيرة"، إن هذه المرحلة من عام 1957م، ولغاية عام 1960، هي مرحلة انتقالية تبرزفيها كل ملامح مرحلة الانتقال... وبين مرحلة [ماقبل، ومابعد مرحلة الانتقال]، كان هناك حَدٌّ فاصل بين المرحلتين تمثِّل في قصيدته أماه"، التي نشرتها جريدة الحوادث التي كانت تصدر في عمان، وذلك عام 1954م...يقول فيها، وقد انتقل إلى شعر التفعيلة:
(1): أُمَّاهُ أين أبي!!؟..
وَقَطَّبَ حاجبيهِ، وصاحَ صيحةَ مُتعبٍ
ومتى يعودْ!!؟...
ومتى أراهُ يضمني
فَيَقِرُّ ثائِرُ أضلعي... وهكذا تمضي بقية القصيدة...
وقصيدته في ذكرى المعراج: 1954م، أيضاً:
(2):
هو النور إلاَّ أنها الوثبةُ الكبرى
تهادى بها الصحراءُ فانطلقت فجرا
وراحت تُنادي، والظلامُ مُخيِّمٌ
حُطاماً على رَمْلِ الخطيئة قَد ْقَرَّا
أيدري الذي أسرى بأنَّ جموعنا
قد انتفضت ذعراً، وقد هتفت ثأرا
ملاحظة:
[طبعاً الذي أسرى يدري، وهو الذي يدري، ولا سواهُ يدري!!!]...
وأَنَّا وقفنا في وُجُوهِ عُداتنا
عمالقةً غُلباً وألويةً حمرا
وَلَمْ نَرْضَ من غير العُروبةِ رايةً
ومن غيرِ ما أوحت لثورتنا سِفْرا
لَئِنْ كانتِ الأُولى جلالاً وَعِزَّةً
فما أَعْظَمَ الأولى، وما أَعْظَمَ الأخرى
يقول ناجي علوش متابعاً: "وخلال عام 1959م-1960م، عكفتُ على دراسة الفكر العربي المعاصر منذُ مُنتصف القرن الماضي، وكانت نتيجةُ هذه الدراسة كتابي (الثوري العربي المُعاصر) الذي صدر سنة 1960م.عن دار الطليعة. وَخَفَّتْ مع زيادة اهتمامي بالدراسات حماستي لكتابة الشعر، مع أنني ظللتُ أقرأ الشِّعْرَ بانتظام، وأحرصُ على على مُتابعة المجموعات التي تصدر، والقصائد التي تنشر حتَّى سنتين خَلَتَا...(3)...
رغم كل شيء ظل ناجي علوش يكتب الشعر، ويمشي إلى أرجائه الفسيحة كُلَّما أحسَّ بوطأة وثقل الأعباء عليه، كان يعتبره المخلص الذي ينقذه من ضراوة الأحداث، ومرارة المأساة، وعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه كالآخرين من أبناء شعبه،ويعتبره أيضاً فسحة الأمل الذي تحمله فلسطين، وبيرزيت، والثرى الوطنيَّ الحبيب... والمرادف لوهج البنادق:
(4):رأيتُ وجهكَ المُضيء بالإصرارْ
يستنبتُ الأشجارَ والأزهارَ في القفار
ويطلع الزَّنابقْ
رأيتهُ يفيضُ بالخضرة في الحدائقْ...
ويمنح البراعِمَ الصِّغارْ
الدِّفْءَ، والأمان...
هكذا يظل النور يغطي على الظلمة، والأمل يقفز فوق اليأس، وخضرة الحدائق تُغطي مساحات الروح والأعماق الصفراء اليابسة اليائسة، ويظل الإصرار هو الطريق الوحيد للثوار، وهو الطريق الوحيد للانتصار... صور شعرية بسيطة، وجميلة، وشفافة غير مُعقدة، وتبعث الأمل في كل شيء...
ومع هذا الشعر البسيط والجميل والمُريح للنفس والوجدان، يتابع ناجي علوش قوله: (5): ومنذ سنة 1960م، وحتى الآن، وأنا أكتبُ الشعر لِماماً، وعندما أُحسُّ بحاجة ماسة لا أستطيع التعبير عنها بغير الشعر، ولا أستطيع الهروب منها... وكانت حصيلة ما كتبت في السنوات "1960م-1966م"، القصائد التي نشرتها في مجموعتي "هدية صغيرة"، بالإضافة إلىعدد محدد من القصائد التي لم أنشرها في المجموعة"... ضمن أشعارهم وقصائدهم الكثيرة هنا وهناك، المنثورة كنجمات ما قبل الفجر، أبحث في أشعار وقصائد المناضلين السياسيين عن خبز الحب والوجد.... فأتعثر حتى أجده،وأستمتع بهِ... إنه خبزخاص بهم، وبعيدعن مُتناول الآخرين العاديين، ولكنَّ الفطرة الشعرية، أو هي الذائقة الشعرية التي تكتشفهُ في خبايا الشاعر، وأقاصيهِ البعيدة...هو موجود، وحادٌّ جداً، ولكن لا يعبر عنه بالتصريح، وربما بالتلميح النائي جداً، لأنه في نظر أولئك... هناك شيء أهمّ في عُرْفِ الوطن والقضية.. حتىعندما سئل نا جي عن هذا وضع إشارة... هكذا ... كأنه غير موجود....ولكنه حقيقةً، موجود وبكثافة فائقة.. ولكنه... كما قلنا: بعيدٌ، وغائبٌ في الذاكرة البعيدة... حيث يحلُّ محله وجد آخر لبئر زيت البعيدة... الجريحة هناك فوق ثرى فلسطين السَّليب... اُنثى الأرض التي يعشقها فارسها بجنون:
(6): "آهِ يا –بِئْرَ زيت التي حَمَّلَتْني الصليبْ
ورمتني على طرقات الأسى واللهيبْ
عن خيالي...
فكيف... وقد قام ما بنينا السُّورُ،
وانْسَدَّ بابُ المحبَّةّ!!؟
وغدونا بعيدينَ عَنْكِ... بعيدينْ
لا نسمةٌ من رُباكِ تهبُّ، ولا
طارقٌ يطرقُ البابَ دوني
وَمِلْءَ يديهِ حكاياتُ شَوْقٍ وَحُبٍّ وَغُرْبَهْ!!؟..
هكذا يأتي جنون الحُبِّ كاسحاً عندما يكون عن الأرض/الأنثى مُعبراًعن أرقى أنواع الوجد، والصبابة الخارقة. في استبيان الكتاب العرب هكذا الحب عند علوش استكمالاً لرؤيته في الشعر... يتابع نادي علوش قوله في ص 191 من مجموعته الكاملة: (7):وخلال سنة 1964م، وسنة 1965م، تبلورت لَدَيَّ فكرة أن أنصرف عن الشعر، وكانت تحدوني إلى ذلك مجموعة دوافع يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولاً: أنني لا أملكُ موهبةً غير عاديَّة تُخولني تطوير تجربتي الشعرية.
ثانياً: إنَّ انغماسي في العمل السياسيّ يزيد تجربتي غنىً، ولكنه في الوقت ذاتهِ يُدخلُ الكثيرَ من العوامل القاتلة للشاعريّة.
ثالثاً: إنَّ اهتمامي بالدراسات، وعكوفي عليها يحدُّ من قدرتي على مُتابعة ثقافتي الشعرية والنقدية.
رابعاً: إنَّ الاتجاه الذي بدأ يظهرُ في شعري منذ سنة 1960م، وهو اتجاه الغربة والانطلاق [الانتقال من الشعر العمودي لشعر التفعيلة الذي كان يرفضه الشاعر علوش ولا يرضاه] بديلاً للشعر العربيّ الأصيل... هذا سبب أخير في العزوف عن تطوير التجربة الشعرية...".
يُضيف ناجي علوش(
:"فالشاعرفي نظري هو الذي يكتبُ للجماهير، وأنا أكتبُ لمثقفين مثلي..والشارع هوالذي يكتب بلغة الجماهير، وأنا أكتبُ بلغتي ولغة زملائي من المثقفين، وقد تبلورت هذه المشاعر والأفكار فيما بعد وخلال السنوات
(1967م-1970م)...
ومع هذا، فقد كتب الشاعر ناجي علوش قصائد كثيرة بلغة الجماهير، وخاطبها بتلك القصائد البسيطة والشفيفة والمُعبرة، وظلَّ يكتب الشعر حتى صدرت مجموعته الشعرية الكاملة –كما ذكرنا آنفاً-عن وزارة الثقافة والإعلام في بغداد عام 1979م، عن دار الرشيد للنشر، ضمن سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث-113-.
وظلَّ شعره وطنياً إنسانياً ثائراً متفائلاً شفيفاً بتوهجاته المُضيئة، لَمْ يأتِ عليه الوهن، ولا الانكسار، ولا ضراوة اليأس، ومرارة الهزيمة:
(9): وَجْهُكَ مرسومٌ على الوجوهْ
طيفُكَ محفور على الدُّروبِ والجدرانْ
وأنتَ فوق هذهِ الجزيرهِ
ملحمةُ الزمان والمكانْ
وقصة البطولةِ الكبيره...
أَرَيْتَني
كيف تُطِلُّ أجملُ الزَّنابقْ
مِنْ وَهَجِ البنادِقْ
أَرَيْتَني
كيف تطلعُ أروعُ الحدائق
من لهب الحرائِقْ...
ظلت الكلمة عنده طلقة مقاومة... وظلَّت الطلقةُ والكلمةُ عند ناجي علوش مشروعين للخلاص والحرية واستعادة الوطن السليب لا بديل عنهما تلاحماً في النهاية ضمن إطار المشروع المصيري الواحد.. وكما غنَّى علوش للأرض والوطن غنى لكل الأحرار في العالم... وظلت هدية العيد في نفسهِ لمقاتلي ومناضلي التحرير في الأمة حتى يوم التحرير القادم بإذن الله في صُبْحِهِ المرتقب الإلهي المُحتم:
(10): لأننا نعيشُ من سنينْ
في مُدن الأسلاك والأسوار والردَّى
لأننا نعيش من سنينْ
حياتَنا وَمَوْتَنا سُدى
بحثتُ يومَ العيد هن هديَّهْ
لكل من أحبهم
فلم أَجِدْ
يا كُلَّ مَنْ أحبهم
هديتي لكم
العزم والحميةْ
والبدل الكاكيَّهْ
هديتي لكل واحدٍ
"سلجلكٌ" أُثقلَ باللظى
وبندقية... السلجلك: أجناد الذخيرة.
هذه رحلة ناجي علوش مع فلسطين والنضال والشعر... إنه الوفيُّ أبداً لتلك الأقانيم الثلاثة، وشاعر متوهج العطاء في شجرة الشعراء الفلسطينيين والعرب المناضلين بإصرار في سبيل الأرض والخلاص والحرية، وشعره شفيف وعذب ومتوهج كإصراره الذي لا ينطفئ، ولا تخمد ناره أبداً وصوته... صوت الأرض الوطنيّ العظيم... ومع صوت شاعر آخر يجيء في سلسلة شعراء فلسطين المبدعين....
الشعر الفلسطينيّ في الشتات-الشعراء الفلسطينيون في سورية... الحلقة: الحادية
عشرة/11/.
الهوامش:
1-قصيدةً أُمَّاه من مجموعة الشعر الكاملة لناجي علوش الصادرة عن وزارة الثقافة ببغداد ضمن سلسلة ديوان الشعر العربي الحديث برقم 113 عن دار الرشيد ببغداد ص 187-و188
2-من قصيدة "المعراج" ص 1880 -المصدر السابق ذاته.
3-من دراسته عن كتاباته السياسية والشعر-المصدر السابق نفسه، ص 191.
4-من قصيدة: "وهج البنادق"، المجموعة الكاملة، ص 202، مؤرخة هافانا 68م
5-من دراسته في مجموعته –ص191-المصدر السابق ذاته.
6-من قصيدة باب المحبة-ص195-في المجموعة الكاملة ذاتها، مؤرخة في: 11/6/1967م..
7-من دراسته عن رؤيته في الشعر-ص191من مجموعته السابقة ذاتها.
8-تتمة السابق ص 192.
9-من قصيدة وهج البنادق المثبتة في مجموعته الكاملة ص 202 مؤرخة هافانا: 16/1/1968م.
10-قصيدة: "هدية" المجموعة-ص203 مؤرخة بيروت: 25/12/1968م.