المبحث الثاني
أنواع العذاب في القرآن الكريم
وردت كلمة (العذاب) في القرآن الكريم أكثر من خمسة أضعاف كلمة (الهلاك)، حيث وردت كلمة [العذاب] ومشتقاتها في القرآن عدد 373 مرة، بينما وردت كلمة [الهلاك] ومشتقاتها في القرآن عدد 67 مرة، وهذا يبين لنا أهمية تعرف (العذاب) الوارد بالقرآن الكريم.
العذاب في اللغة: يعنى العقاب والنكال وكل ما شق على النفس، ويصاحبه شعور بألم يتأثر به الجسد (مادياً)، أو تتأثر به النفس (معنوياً)، والعذاب له (أنواع ـ طرق ـ حالات ـ أساليب ـ وسائل ـ أدوات).
وهناك مسميات مشتركة بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وردت في القرآن الكريم، منها (العذاب الأليم، والعذاب الشديد، والعذاب الغليظ، والعذاب المهين، وغيرها من المسميات) إلا أنه شتان بين العذابين رغم اشتراكهما في بعض المسميات، فعذاب الآخرة أشد وأبقى من عذاب الدنيا.
كما أن هناك مسميات خاصة بعذاب الآخرة وحدها، والتي ليس لها مثيل في الدنيا، مثل (عذاب النار، وعذاب الحريق، وعذاب السعير، وعذاب جهنم، وغيرها من المسميات).
وسيكون التركيز على النوع الأول من العذاب وهو (عذاب الدنيا)، فهو الأكثر إدراكاً ومعايشة، بينما عذاب الأخرة غير مدرك وغير ملموس في حياتنا الدنيا، بل إن هناك بعض من الناس لا يصدقون به ولا يؤمنون به، برغم حقيقته المؤكدة، وتلك الأنواع المكذبة من البشر، هي التي تظلم في الأرض وتتجبر، فهي لاتؤمن بالآخرة، ولا تعتقد أو تصدق بأنها ستعذب في الدنيا أو الأخرة.
إن كلمة (العذاب) التي وردت في القرآن الكريم على الرغم من أنها كلمة صغيرة قليلة الحروف إلا أنها تحمل معانٍ كبيرة تحتاج إلى شرح وتفصيل.
قال تعالى: )وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (لقمان: الآية 27).
أولاً: أنواع العذاب
ينقسم العذاب إلى نوعين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة. وعذاب الدنيا هو المحسوس من الآلام النفسية أو الجسدية أو الاثنين معاً، وقد ينتهي عذاب الدنيا بعفو الله وكشفه عن المُعَذَّب أو ينتهي بهلاكه وموته. أما عذاب الآخرة فهو العذاب الأبدي، الذي يلازم صاحبه في الحياة الآخرة، وهو عذاب لا يخفف ولا يؤجل ولا مهرب منه!!.
قال تعالى: )وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (السجدة: الآية 21)، والعذاب الأدنى المقصود به عذاب الدنيا، أما العذاب الأكبر فالمقصود به عذاب الآخرة، والمعذب في الآخرة يبقى في حالة عذاب دائم لا ينقطع، تأكله النار الكبرى إلا أنه لا يموت فيها ولا يحيا، أي لا يستريح من عذابه بالموت، ولا يعيش فيها حياة السعداء وهو يعذب!!.
قال تعالى: )الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13)( (الأعلى: الآيتان 12 و13).
والعذاب إما أن يكون انتقاماً لله من الظالمين على ظلمهم، أو يكون ابتلاءً من الله للمؤمنين، ليغفرلهم به الذنوب، أو يرفع الله لهم به الدرجات.
وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن منها:
1. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ e قَالَتْ: )سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ e عَنْ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ( (البخاري: 3215).
2. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: )مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ( (البخاري: 5210). (والوصب) بمعنى المرض0
3. حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ e )أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا( (البخاري: 5216).
توجد ثلاث طرق للتعذيب هي: (تعذيب الله للإنسان، وتعذيب الإنسان للإنسان، وتعذيب الإنسان للكائنات). وللتعذيب حالات هى: (المنع ـ التأجيل ـ التبديل ـ الكشف ـ التخفيف ـ المضاعفة)، كما أن للتعذيب أساليب وسائل وأدوات وردت جميعها في القرآن الكريم.
ثانياً: سوط العذاب
ما هو سوط العذاب؟ لقد سار الذين من قبلنا في الأرض، ثم نظروا وتدبروا ما حدث للظالمين على الأرض، ووجدوا أن سوط العذاب هو الذي يصبه الله على الظالمين، فحين رأوا ماذا فعل الله بعاد إرم ذاتِ العماد التى لم يُخلق مثلها في البلاد، وحين رأوا ما فعل الله بثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وحين رأوا ما فعل الله بفرعون ذي الأوتاد، وجدوهم جميعاً قوم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، لذلك صب الله عليهم سوط العذاب[1]، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ( (الفجر: الآيات 6 - 13).
ثالثاً: هل هناك من لا يصدق تلك الحقيقة؟
نعم، إن كثيراً من الظالمين لا يصدقون بأن الله سوف يعذبهم !! تماماً كما فعل الأولون، فلو كانوا يصدقون ما بطشوا في الأرض بطش الجبارين، إن قريشاً لم تصدق بأن الله يعذب الظالمين، واستخفوا بما أنذرهم به محمد e وطلبوا من الله أن يمطرهم بحجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم، ولو كانوا يصدقون ما جاء به محمد e، ما طلبوا من الله أن يرسل عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب اليم!!، هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم.
كان الأولى أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، لكنهم استخفوا بعذاب الله وكذبوا به، هم لا يصدقون بعذاب الله في الدنيا والآخرة، فكيف يؤمنون بعذاب الآخرة وهم لا يصدقون أصلاً بعذاب الدنيا؟، ويطلبون من الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم مستخفين بعذابه I.
قال تعالى على لسان قريش: )وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( (الأنفال: الآية 32).
رابعاً: استعجال العذاب
من شواهد عدم التصديق بعذاب الدنيا والاستخفاف بحدوثه، أنهم يستعجلونه، فكثيرٌ من الناس لا يصدقون بتعذيب الله للظالمين في الحياة الدنيا، إلا إذا شاهدوه وذاقوه ورأوه رأى العين، حينئذ فقط يصدقون بالعذاب ويدعون الله أن يكشفه عنهم وينجيهم منه!!، والعجيب أنهم لا يصدقون بوقوع العذاب فحسب، بل الأعجب أنهم يستعجلونه!!.
قال تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( (العنكبوت: الآيتان 53 و54).
خامساً: العذاب الأدنى
قال تعالى: )وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (السجدة: الآية 21)، ويُطلق على عذاب الدنيا كلمة (العذاب الأدنى)[2]، ويُطلق على عذاب الآخرة كلمة (العذاب الأكبر)، ومن رحمة الله على الناس أنه يُذيقهم من العذاب الأدنى (عذاب الدنيا) دون (العذاب الأكبر) لعلهم إليه يرجعون ويتراجعون عن ظلمهم. يذيقهم الله من العذاب الأدنى في صوره المتعددة، فيرسل عليهم الرياح والأعاصير والفيضانات، ويفجر لهم البراكين، ويسلط عليهم الآفات والميكروبات والجراثيم، ويسلط بعضهم على بعض، ليذيق بعضهم بأس بعض لعلهم إليه يرجعون.
سادساً: حق عليهم العذاب
هناك من البشر من حق عليهم العذاب أي (وجب عليهم عذاب الله)، ويحق العذاب على من يستحقه، والمستحق للعذاب هو المخالف لأوامر الله، المكذب لرسله المتعدي لحدوده. قال تعالى: )وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ( (الحج: من الآية 18)، ومن حق عليه العذاب فقد وجب عقابه وهو لا يدري، وعقاب الله قادم إليه لامحالة لكنه غافل عن ذلك، والله يحق العذاب على الظالمين بعد أن يمهلهم للتوبة والعودة، فإذا أصروا على كفرهم وعنادهم وظلمهم أوجب الله عليهم عقابه الذي لا رجعة فيه.
سابعاً: عذاب الدنيا والآخرة
قال تعالى: )لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ( (الرعد: الآية 34).
وقال تعالى: )أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (التغابن: الآية 5).
يبين الله نبأ الذين كفروا من قبل، بأنهم عذبوا في الحياة الدنيا لقوله تعالى: )فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ(، ثم بين لنا أن لهم عذاباً آخر يذوقونه في الآخرة، لقوله تعالى: )وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(.
وهذا مثال واضح عن (عذاب الدنيا والآخرة) بينه الله لنا في سورة القلم، فقد ذكر الله I قصة العذاب الذي وقع على أصحاب الجنة (الحديقة)، حينما منعوا زكاتها وقت حصادها عن المساكين، فعذبهم الله عذاباً مادياً ومعنوياً بحرق الحديقة، وحولها لهم في لحظة إلى حديقة محترقة كالصريم، قال تعالى: )إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ( (القلم: الآيات 17 – 31)، هكذا عذبهم الله!!.
فبعد أن كانوا يعتزمون حصاد ثمارها في الصباح قبل مجئ المساكين، وتعمد حرمان المساكين من حقهم فيها يوم حصادها، عاقبهم الله في الدنيا بذلك العذاب المؤلم والموجع مادياً ومعنوياً، قال تعالى: )كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( (القلم: الآية 33). تدبر تلك العبارة القرآنية )كَذَلِكَ الْعَذَابُ(، أى كذلك يكون عذاب الدنيا للظالمين، إن تلك العبارة القرآنية التي وردت في الآية 33 من سورة القلم، تعنى أن عذاب الدنيا كذلك يكون.. يا من لا تعلمون عن عذاب الدنيا شيئاً!!، ثم قال تعالى: )وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(.
ثامناً: أمثلة لبعض مسميات عذاب الدنيا والآخرة الواردة في القرآن الكريم
قد تتشابه بعض مسميات العذاب في الدنيا والآخرة كما أوردها القرآن الكريم، إلا أنه شتان بين العذابين من حيث المرتبة والدرجة، ومن حيث الفترة الزمنية، ومن حيث الخصوصية التى يختص بها عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا.
1. من حيث المرتبة والدرجة
نجد أنه مع اشتراك مسمى (العذاب الأليم) في الدنيا والآخرة، إلا أن القاعدة العامة، أن (العذاب الأليم) في الآخرة يكون أكبر وأشد من العذاب الأليم في الدنيا.
2. من حيث الفترة الزمنية
يكون عذاب الآخرة دائماً ومستمراً لا ينقطع، بينما عذاب الدنيا لا يدوم لأنه لا بد وأن ينتهي إما بكشفه، أو انتهائه بسبب موت صاحبه أو هلاكه. وعذاب الدنيا هو المرحلة الأولى من العذاب (أي عذاب الأحياء من الظالمين والكافرين في الحياة الدنيا حتى ينتهي أجلهم، وهو العذاب المحسوس الذي يسلطه الله عليهم في الدنيا لعلهم يرجعون)، ثم ينتقل الظالم أو الكافر إلى المرحلة الثانية من العذاب وهو (عذاب الآخرة)، وهذا النوع من حيث الفترة الزمنية هو أشد وأبقى، قال تعالى: )وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى( (طه: من الآية 127).
3. من حيث الخصوصية
فإن بعض مسميات العذاب في الآخرة تأخذ خصوصية تنفرد بها عن عذاب الدنيا، فمثلاً تلك الصنوف من العذاب الأخروي (كعذاب جهنم وعذاب السعير) ليس لهما مثيلُ في الدنيا، وتنفرد الحياة الآخرة وحدها بتلك المسميات، فلم نسمع مثلا عن (عذاب السعير أو عذاب جهنم أو عذاب الجحيم) في حياتنا الدنيا!.
تاسعاً: أمثلة لبعض المسميات المتشابهة عن (عذاب الدنيا والآخرة) كما جاءت في القرآن الكريم
1. العذاب الأليم
قال تعالى: )فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ( (التوبة: من الآية 74).
وقال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( (النور: الآية 19).
2. العذاب الشديد
قال تعالى: )فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ( (آل عمران: الآية 56).
3. العذاب الغليظ
أ. في الدنيا
قال تعالى: )وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( (هود: الآية 58).
ب. في الآخرة
قال تعالى: )وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ( (لقمان: الآيتان 23 و24).
وقال تعالى: )مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( (إبراهيم: الآيتان 16 و17).
4. العذاب المهين
قال تعالى عن موت سليمان u: )فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (سبأ: الآية 14).
وقال تعالى عن العذاب المهين في الدنيا الذي لاقاه بنو إسرائيل من فرعون: )وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (الدخان: الآية 30).
وقوله تعالى عن من اتخذ آيات الله هزواً: )وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( (الجاثية: الآية 9)، في هذه الآية قد يكون المقصود بالعذاب المهين، هو العذاب المهين في الدنيا أو الآخرة، والله أعلم!!.
وكذلك قوله تعالى عن المنافقين في الدنيا والآخرة: )اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( (المجادلة: الآية 16).
5. سوء العذاب
أ. سوء العذاب في الحياة الدنيا
قال تعالى: )وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ( (البقرة: الآية 49).
وقال تعالى: )فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ( (غافر: الآية 45).
ب. سوء العذاب في الآخرة
قال تعالى: )أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ( (الزمر: الآية 24).
وقال تعالى: )وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ( (الزمر: الآية 47).
كانت تلك بعض الأمثلة، عن مسميات العذاب المتشابه في الدنيا والآخرة، حسب ما وردت بالقرآن الكريم، ويلاحظ برغم التشابه في المسميات، إلا أن عذاب الآخرة يختلف تماماً عن عذاب الدنيا في ألمه، وشدته، وغلظته، وإهانته، وسوئه، ودوامه...الخ، فعذاب الآخرة لايمكن تصوره مهما قيل عنه، فلا مثله رأت عين، ولا أُذنُ به سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
فهل من الممكن تصور نار وقودها الناس والحجارة في الحياة الدنيا؟!!، وهل يمكن تصور نار في الدنيا عليها ملائكةُ غلاظ شداد يمسكون بمقامع من حديد، يعيدون فيها كل من أراد أن يخرج منها؟؟!!.
وما تلك النار الغريبة والعجيبة، التي إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيرا؟!!، وما جهنم تلك التي إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ منهم؟!!، إذن هو عذاب مختلف تماماً عما نسمعه في الدنيا ونراه.
عاشراً: أمثلة لبعض مسميات عذاب الآخرة الواردة في القرآن الكريم
بينا أمثلة لبعض المسميات المتشابهة عن العذاب في الدنيا والآخرة، وسنبين أنواعاً أخرى من العذاب تختص بها الآخرة ولا يوجد لها مثيل في الدنيا، أي مسميات تنفرد بها الآخرة، نذكر بعضها على سبيل المثال وليس الحصر:
1. عذاب النار
قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( (التحريم: الآية 6)، فهي نار وقودها الناس والحجارة، نار غريبة وعجيبة وأشد اشتعالاً وحرارة عما آلفناه في الحياة الدنيا.
وقال تعالى: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( (البقرة: الآية 126)، الكافر يمتعه الله قليلاً في الحياة الدنيا، ثم يضطره الله إلى عذاب النار وبئس المصير.
2. عذاب الحريق
قال تعالى: )لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( (آل عمران: الآية 181).
وقال تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ( (الحج: الآية 9).
وقال تعالى: )كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( (الحج: الآية 22).
3. عذاب السعير
قال تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ( (الحج: الآيتان 3 و4).
وقال تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ( (لقمان: الآية 21).
4. عذاب جهنم
قال تعالى: )وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا( (الفرقان: الآيتان 65 و66).
وقال تعالى: )إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ( (الزخرف: الآية 74).
5. عذاب الحميم
يأمر الله I خزنة الجحيم، بصب عذاب الحميم فوق رؤوس المذنبين، قال تعالى: )ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ( (الدخان: الآية 48).
6. العذاب المقيم
قال تعالى: )يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ( (المائدة: الآية 37).
وقال تعالى عن المنافقين والمنافقات والكفار: )وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ( (التوبة: الآية 68).
وقال تعالى على لسان نوح u عن توعده للذين يسخرون منه: )فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ( (هود: الآية 39).
7. عذاب الخُلد
قال تعالى: )ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ( (يونس: الآية 52).
وقال تعالى: )فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (السجدة: الآية 14).
8. عذاب السَّمُوم
قال تعالى: )قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ( (الطور: الآيتان 26 و27).
9. العذاب الأكبر
قال تعالى: )إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ( (الغاشية: الآيتان 23 و24).
10. أشد العذاب
قال تعالى لبنى إسرائيل: )فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ( (البقرة: من الآية 85).
وقال تعالى مخبراً عن آل فرعون: )النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( (غافر: الآية 46).
كانت تلك بعض المسميات الخاصة بعذاب الآخرة، والتي تتفرد بخصوصية عن عذاب الدنيا.
[1] قال الفراء: السوط كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وقال قتادة : إن كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب – تفسير القرطبي
[2] قال الحسن وأبو العالية والضحاك وأبى بن كعب وإبراهيم النخعى، وقالها أيضاً ابن عباس: (أن العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلى به العباد حتى يتوبوا).