منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:22 pm



المقدمة

تحدث القرآن الكريم عن العذاب والهلاك في كثير من الآيات، إلا أن كثيراً من تلك الآيات نمر عليها مرور الكرام من دون تدبر أو اعتبار، وقد وردت كلمة (العذاب) ومشتقاتها أكثر من كلمة الهلاك ما يقرب من خمسة أضعاف، يرجع ذلك لوجود نوعين من العذاب هما (عذاب الدنيا ـ عذاب الآخرة) بينما الهلاك يحدث في الدنيا ولا يحدث في الآخرة، ويختلف عذاب الدنيا عن عذاب الآخرة في أن الأخير أشد وأبقى، وأقسى وأمر، أى عذاباً أكثر إيلاماً، وهو في الوقت نفسه عذاب دائم، لا يخفف ولا يؤجل.

وقد ينتهي العذاب بالهلاك، أو قد ينتهي بالكشف (أى برفعه) عن المُعذب. وهناك أنواع ودرجات للعذاب، مثل العذاب الأليم، والعذاب الشديد، والعذاب العظيم.... الخ، ويوجد ثلاث طرق للعذاب (عذاب الله I للإنسان ـ وعذاب الإنسان للإنسان ـ وعذاب الإنسان للكائنات)، غير أن عذاب الله للإنسان لا يمكن لبشر الإتيان بمثله أو تقليده، فمن يستطيع أن يأتي بحجارة من سجيل كالتي أرسلها الله على أصحاب الفيل؟، ومن يستطيع أن يأتي برياح عاتيات كالتي أرسلها الله على قوم عاد؟!، ومن يستطيع أن يزلزل الجبال ويفجر البراكين، أو يأتي بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ومن يستطيع أن يرسل الأوبئة والأمراض على البشر، كمرض الإيدز والحمى القلاعية وأنفلونزا الطيور وغيرها من أنواع العذاب، فتلك الأنواع من التعذيب الإلهي يختص بها الله وحده ولا يشاركه فيها غيره.

أما الهلاك فيعني الموت للكائنات والفناء للأشياء، كهلاك المال والسلطان، لقوله تعالى على لسان الإنسان: )يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا( (البلد: الآية 6)، وقوله تعالى على لسان المعذبين يوم القيامة: )مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)( (الحاقة: الآيتان 28 و29). هكذا يبين القرآن الكريم ملامح وتفاصيل عن العذاب والهلاك.

وقص علينا القرآن الكريم قصص تعذيب وإهلاك القرى الظالمة للتفكر فيها والاعتبار، فنتدبر أمر أهلها!! ما فعلوه مع رسلهم من عصيان وتكذيب، وما فعل الله بهم حين جاء وقت عذابهم أو إهلاكهم، ولقد قص الله I على محمدٍ e من أنباء القرى التي عُذبت وأهُلكت، ليريه كيف يطبع الله على قلوب الكافرين نتيجة تكذيبهم للرسل، قال تعالى: )تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ( (الأعراف: الآية 101).

وقد بين القرآن الكريم أنواع الظُلم (ظُلم النفس ـ ظُلم الغير ـ الظُلم الكبير ـ الظُلم العظيم)، وهو مدخل مهم قبل الحديث عن عذاب القرى الظالمة وإهلاكها، كما بين القرآن أيضاً حقائق مهمة عن أنواع العذاب الواردة في القرآن، موضحاً الفرق بين عذاب الدنيا والآخرة.

إن موضوع العذاب الوارد في القرآن الكريم هو موضوع مهم وشائق وعجيب!!، فيه الكثير من التفاصيل المهمة التي يجب على كل مسلم معرفتها، فالتعذيب الوارد في القرآن الكريم له (طرق وحالات)، وله (أساليب ووسائل وأدوات).

أما عن الهلاك والذي يعني الموت للإنسان، فهناك (الموت الفردي ـ والموت الجماعي)، والموت الجماعي هو ما سيكون التركيز عليه في هذا البحث، فقصص القرآن الكريم مليئة بتعذيب وإهلاك قرى بأكملها، وهو مايشبه غرق سفينة وهلاك من فيها، أو انهيار عمارة وهلاك معظم ساكنيها، أو سقوط طائرة وهلاك كل ركابها بطاقمها ومضيفيها. فالهلاك الجماعي هو محور هذا البحث ولبه، فلا مجال هنا للحديث عن الموت أو الهلاك الفردي. وقد بين القرآن ذلك في قصص إهلاك القرى بأكملها، كقوله تعالى: )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا( (الكهف: الآية 59)، تدبر كلمة )الْقُرَى(، فالحديث عن قرى وليس عن أفراد، فالقرآن الكريم قد تجاوز مرحلة الإهلاك الفردي، إلى الإهلاك الجماعي لخطورته وأهميته وضرورة معرفته تفصيلاً للبشر.

ولأن التعذيب له أساليب ووسائل وأدوات، فكذلك الإهلاك!!، حيث بين الله I أساليب الإهلاك ووسائله وأدواته، كالتي وردت في سورة الفيل مثالاً، حيث بين الله لنا أن أسلوب إهلاك أصحاب الفيل كان (الرجم)، لأن الرجم هو الرمي بالحجارة، وقد قال تعالى مبيناً ذلك الأسلوب في سورة الفيل: )وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ( (الفيل: الآيتان 3 و4)، كما بين الله I أن وسيلة الإهلاك كانت (الطير الأبابيل)، وأداة الإهلاك كانت (حجارة من سجيل). وهكذا يمكننا استخراج الأساليب والوسائل والأدوات التي أهلك الله بها الظالمين، من خلال قصص القرى التي أهلكها الله من قبل، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وغيرها من القرى الظالمة التي أهلكها الله تعالى في الماضي.

ومن قصص القرى في القرآن الكريم يبين الله I لنا كيفية تعذيب القرى الظالمة وكيفية إهلاكها، وهذا موضوع غاية في الأهمية، حيث يبين الله لنا أن تعذيب القرى الظالمة أو إهلاكها يجري على مراحل، تتلخص في الآتي:

· إرسال المُنذِرين إلى القرى الظالمة وتكذيبهم.

· إحقاق العقاب وتحديد موعد التعذيب أو الإهلاك.

· نجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها.

· وأخيراً معاقبة تلك القرى بالتعذيب أو بالإهلاك فيما يمكن تسميته بساعة الصفر.

وتعد المرحلة الأولى (إرسال المُنْذِرين إلى القرى الظالمة وتكذيب أهلها لهم) شرطين أساسيين لوجوب تعذيب أهلها أو إهلاكهم، لأنه بدون إرسال المنذرين يكون للظالمين حجة على الله بأنهم ما كانوا يعلمون بعقابه، كما أنه بعدم تكذيب المنذرين والتصديق بما جاؤهم به، لا يكون الله في حاجة إلى عقابهم لتصديقهم بما جاء به المنذرون، وقد ضرب الله لنا مثلاً رائعاً على إصرار بعض القرى الظالمة على تكذيب الرسل، كما في قصة قوم نوح الذين برعوا في تكذيب نوح u لمدة ألف سنة إلا خمسين عاماً، وقد جعل القرآن الكريم قوم نوح عبرة لمن أراد أن يعرف كيف يكون عناد المكذبين، وهم القوم الذين ضرب الله بهم المثل والعبرة في التكذيب في العبارة القرآنية التي تتكرر في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ( (ق: من الآية 12)، كقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ( (غافر: من الآية 5)، وفي قوله تعالى: )وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ( (الذاريات: الآية 46).

أما المرحلة الثانية وهي (إحقاق العقاب وتحديد موعد التعذيب أو الإهلاك)، فهي المرحلة التي يقرر الله عقاب الظالمين ويحدد موعد هذا العقاب، وهو موعد مسطور في كتاب عند الله، فإذا جاء هذا الموعد فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فقد حق العقاب وأصبح محتماً!!، حدد الله يومه وساعته من الليل أو النهار بما يفوق تفكير البشر!!.

أما المرحلة الثالثة وهي (نجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل تعذيبها أو إهلاكها)، فهي المرحلة التي تسبق وقوع العقاب على القرى الظالمة، وهي مرحلة حتمية الحدوث، بمعنى أنها لابد أن تحدث، ويكفي أن نقول أن نوح u كان يصنع سفينة النجاة للمؤمنين من قومه، قبل موعد إهلاك الكافرين بفترة طويلة، وذلك بوحي من الله I.

أما المرحلة الرابعة فهي لحظة وقوع العقاب الفعلى على الظالمين (ساعة الصفر)، وتعد هي المرحلة الحاسمة في تعذيب الظالمين أو إهلاكهم، حيث يرسل الله جنوده لتعذيب تلك القرى الظالمة أو إهلاكها، قال تعالى: )فَاُنظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ( (الصافات: الآية 73)، يرسلهم بأساليب محددة، ووسائل محددة، وأدوات محددة، لتكون نهايتهم كالعصف المأكول كما حدث لأصحاب الفيل، أو كأعجاز النخل الخاوية كما حدث لقوم عاد.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:24 pm



الفصل الأول

أنواع الظلم والعذاب في القرآن الكريم

بين القرآن الكريم أنواع الظلم وأنواع العذاب، بيَّنهم تبياناً سهلاً ويسيراً، والظُلم كما ورد في القرآن الكريم أربعة أنواع (ظلم النفس ـ ظلم الغير ـ الظلم الكبير ـ الظلم العظيم)، ويمكن للإنسان أن يحدد أي نوع من الظلم قد ارتكبه في حياته بسهولة ويسر، إذا تدبر آيات القرآن الكريم التي تتعلق بتلك الأنواع من الظلم، وعليه أن يتجنب الظلم العظيم الذي يعني الشرك بالله، فهو أخطر أنواع الظلم على الإطلاق، قال تعالى على لسان لقمان u وهو يعظ ابنه: )وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( (لقمان: الآية 13)، والله I قد يغفر لمن ارتكب ظلماً من الأنواع الثلاثة الأولى (ظلم النفس ـ ظلم الغير ـ الظلم الكبير) إذا تاب واستغفر الله I وأناب، إلا الشرك بالله فهو أعلى درجات الظُلم عند الله، والله لا يغفر أن يُشرِّك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، لقوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا( (النساء: الآية 48).

أما عن العذاب فقد بين الله لنا في كتابه العزيز نوعين من العذاب، هما عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، كما في قوله تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( (النور: الآية 19)، وفي قوله تعالى: )لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ( (المائدة: الآية 41)، والخزي صنف من صنوف العذاب الدنيوية.









المبحث الأول

أنواع الظُـلم في القرآن الكريم

حديث قدسي: عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ e فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُم، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ"، قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ (مسلم: 4674).

والظلم، كما قال رسول الله r، هو ظلمات يوم القيامة، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: "إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (مسلم: 4676). وفى بَاب الِانْتِصَارِ مِنْ الظَّالِمِ لِقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: )لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا( (النساء: الآية 148). ]وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ( (الشورى: الآية 39).

والظلم كما ورد في القرآن الكريم أربعة أنواع: ظٌلم النفس ـ ظلم الغير ـ الظلم الكبير ـ الظلم العظيم، وذلك على النحو التالي:

أولاً: ظُلم النفس

1. الظلم في اللغة

هو وَضْع الشيء في غير موضِعه، ومن أمثال العرب في الشَّبه: مَنْ أَشْبَهَ أَباه فما ظلم؛ قال الأصمعي: ما ظلم أي ما وضع الشَّبَه في غير مَوْضعه وفي المثل: من اسْترْعَى الذِّئْبَ فقد ظلم، وأصل الظلم الجَوْرُ ومُجاوَزَة الحدِّ، والظلم عكس العدل، وهو المَيْلُ عن القَصد، قال الفراء في قوله عز وجل: )وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (البقرة: من الآية 57)، قال: ما نَقَصُونا شَيْئاً بما فعلوا ولكن نَقَصُوا أنفسَهم.

2. النفس في اللغة

بمعنى الرُّوحُ والروع والذات، قال أَبو إِسحق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أَحدهما قولك خَرَجَتْ نَفْس فلان أَي رُوحُه، وفي نفس فلان أَن يفعل كذا وكذا أَي في رُوعِه، والضَّرْب الآخر مَعْنى النفس فيه مَعْنى جُمْلَةِ الشيء وحقيقته، تقول: قتَل فلانٌ نَفْسَه وأَهلك نفسه، أَي أَوْقَعَ الإِهْلاك بذاته كلِّها وحقيقتِه، والجمع أَنْفُس ونُفُوس.

هذا هو النوع الأول من أنواع الظلم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، وهو أيضاً أول درجاته، أي أقل أنواع الظلم شدة، ويعنى أن الإنسان قد يظلم نفسه، إلا أنه لا يظلم غيره، فخطورة هذا النوع أنه يصيب صاحبه وحده ولا يؤثر على الآخرين، ويجب على المؤمن أن يطلب من الله ويتضرع إليه بالدعاء والمغفرة من (ظلم النفس)، فقد فعل ذلك أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ t حين طلب من رسول الله e أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته، ففي صحيح البخاري عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ t قَالَ لِلنَّبِيِّ e: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: ]قُلْ اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمتُ نفسي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ (البخاري: 6839).

وفى هذا الحديث الصحيح، نجد أن الرسول e يُعَلَّم أبا بكر الصديق هذا الدعاء، ليدعو به دائما في صلاته، وليدعو به المسلمون في كل صلواتهم، ولنا في رسول الله e أسوة حسنة، فقد كان e يقول هذا الدعاء: ]اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمتُ نفسي ظُلْمًا كَثِيرًا[، وهذا يبين أن الإنسان قد يظلم نفسه ظلماً كثيراً وهو لا يدرى ذلك!!، وقد حث الله عباده على الاستغفار الدائم من ظلم النفس، قال تعالى: )وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ( (آل عمران: الآية 135).

إن ظلم النفس هو العامل المشترك في أنواع الظلم الأربعة المشار إليها، فمن ظلم غيره ظلم نفسه، وكل من ظلم ظلماً كبيراً فقد ظلم نفسه أيضاً، ومن ظلم ظلماً عظيماً (وهو النوع الرابع من الظلم) فهو أيضا قد ظلم نفسه. لذلك فإن حديث رسول الله e الذي رواه البخاري، يؤكد أن الإنسان ظالم لنفسه في كل أحوال الظلم (ظلم النفس ـ ظلم الغير ـ الظلم الكبير ـ الظلم العظيم)، لاشتراك (ظلم النفس) في جميع أنواع الظلم الأخرى التي وردت في القرآن الكريم.

3. بعض الأمثلة عن ظلم النفس طبقاً لما ورد في القرآن الكريم

أ. قوم موسى u يظلمون أنفسهم بعبادتهم العجل

من المعلوم أن ظلم النفس لا يضُر إلا صاحبه، وهذا ما فعله قوم موسى u حين اتخذوا العجل إلها من دون الله في الوقت الذي كان موسى u يتلقى التوراة من الله، قال تعالى: )وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ( (البقرة: الآية 51)، بمعنى ظلم النفس فهم لم يظلموا غيرهم بل ظلموا انفسهم باتخاذهم العجل، فقد عبر القرآن الكريم عن الظلم في هذه الآية في قوله تعالى: )وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ(، أي وأنتم ظالمون لأنفسكم.

فهم الذين ارتكبوا هذا الخطأ وحدهم في غيبة موسى u، وهذا ما أكده موسى u حين عاد من الميقات، مؤكداً أن ما فعلوه هو ظلم للنفس في قوله تعالى على لسان موسى u: )يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ( (البقرة: من الآية 54)، مشيراً أنهم (ظلموا أنفسهم) باتخاذهم هذا العجل معبودا لهم من دون الله، وهو ذلك العجل الذي صنعه السامري لهم ليعبدوه، قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ( (البقرة: الآية 54).

لقد أضلهم السامري، فصنع لهم تمثالاً من الذهب والحلي على هيئة عجل مجسداً، عجلاً له خوار، فعبدوه في غيبة موسى u، وهذا ما أغضب موسى u من قومه حين أخبره الله I بذلك في قوله تعالى: )فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ( (طه: الآيات 85 - 87)، عاتبهم موسي u على ظلمهم لأنفسهم مشفقاً عليهم ومحذراً من غضب الله I عليهم.

وقال تعالى: )وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ( (الأعراف: الآية 148). وبهذا يكونون قد ظلموا أنفسهم، ولم يظلموا أحداً غيرهم. وهذا النوع من أنواع الظلم، يضر صاحبه وحده ولا يضر غيره كماً بينا، وقد بينه القرآن الكريم في أكثر من موضع وهذا مثال ثانٍ على ظلم النفس.

ب. قوم موسى u يظلمون أنفسهم باستبدال طعامهم

فى قوله تعالى: )وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (البقرة: الآية 57)، تدبر قوله تعالي: )وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (البقرة: من الآية 57)، حيث يبين الله أن بنى إسرائيل هم قوم ظالمون لأنفسهم، فكيف بعد أن ظلل الله عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً لهم، يستبدلونه بالذي هو أدنى، فيطلبون من موسى u أن يدعو الله ليخرج لهم مما كانوا يأكلون منه من نبات الأرض في مصر، لقد ظلموا أنفسهم باستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، كما جاء في قوله تعالى: )وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ( (البقرة: من الآية 61).

فإنكارهم نعمة الله عليهم بتظليلهم بالغمام، وإنزال المنَّ والسلوى، واستبدالهم الذي هو أدنى من أنواع الطعام بالذي هو خير، هو أكبر دليل على أنهم قد أضروا بأنفسهم وحدهم ولم يظلموا غيرهم. تدبر قول الله I: )وَمَا ظَلَمُونَا(، إنما ظلموا أنفسهم هم، وهذا ما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: )وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (البقرة: من الآية 57).

ج. من يمسك بامرأته بعد طلاقها للإضرار بها فقد ظلم نفسه

وهذا مثال ثالث واضح يبينه القرآن الكريم، محذراً للأزواج من ظلم الزوجات، فحين يمسك الرجل بزوجته بعد طلاقها، وبعد اكتمال عدتها بغرض الإضرار بها وإذلالها، فيكون في هذه الحالة ظالم لنفسه، وهذه العبارة المتعلقة بظلم النفس، يؤكدها الله تعالى في قوله: )وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ( (البقرة: من الآية 231).

د. الذين ينفقون أموالهم بلا فائدة دون أن ينالوا أجراً أو ثواباً

ويضرب القرآن الكريم مثلاً رابعاً عن الظالمين لأنفسهم، هؤلاء الذين ينفقون أموالهم هباءً، دون أن ينالوا من الله أجراً ولا ثواباً، فهم ينفقون أموالهم باليد اليمنى، ثم يبطلونها بالمن والأذى.

قال تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( (البقرة: الآية 264).

وقال تعالى: )مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (آل عمران: الآية 117).

نعود مرة أخرى إلى تلك العبارة القرآنية التي تتكرر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم: )وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(، فهي تبين ما يؤول إليه جهد الظالمين من خسارة، حيث يصبح ماينفقون في الحياة الدنيا كالريح الضارة التي تصيب حرث قوم فتهلكه، تدبر هذا المثال الذي يضربه الله I عن ظلم النفس، وهو مثال لمن ينفقون أموالهم في الحياة الدنيا ثم يبطلونها بالمن والأذى، حيث تصبح أموالهم التي أنفقوها بلا فائدة، وضاع أجرها، فأعمالهم تصبح كالريح التي بها صر أصابت حرث قوم ظلموا انفسهم فأهلكته، قال تعالى: )كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْه(، لقد ظلموا أنفسهم فالأموال التي أنفقوها، أبطلوا ثوابها بأفعالهم، فأصبحت هباءً بلا آجر ولا ثواب، فكان ذلك عقابهم.

هـ. آيات أخرى تتحدث عن ظلم النفس

قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا( (النساء: الآية 64).

وقال تعالى على لسان آدم u وزوجه: )قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ( (الأعراف: الآية 23).

وقال تعالى: )وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (الأعراف: من الآية 160).

وقوله تعالى: )وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ( (هود: الآية 101).

وقال تعالى: )وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الْأَمْثَالَ( (إبراهيم: الآية 45).

وقال تعالى: )هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (النحل: الآية 33).

وقال تعالى: )وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَاُنظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ( (النمل: الآية 14).

وقال تعالى على لسان سليمان u موجها الخطاب إلى بلقيس ملكة سبأ: )قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (النمل: الآية 44).

وقول موسى u: )رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( (القصص: من الآية 16).

لقد استغاث رجل من بنى إسرائيل، موسى u، لينصره على عدو له، فوكز موسى u الرجل فقضى عليه، فندم على ذلك، وحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه. قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر، ثم لم يزل u يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأن الله قد غفر له، حتى أنه يوم القيامة يقول: قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها.

لقد عد موسى u على نفسه ذنباً وقال: )ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي(، من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم، وقال النقاش: لم يقتله عن عمد مريداً للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلم، قال كعب: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله خطأ، فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل، ومع ذلك عبر القرآن عن ذلك على لسان موسى u بظلم النفس، قال تعالى على لسان موسى u: )قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ( (القصص: الآية 16).

وقوله تعالى: )فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( (سبأ: الآية 19).

تبين الآية كيف ظلم قوم سبأ أنفسهم، بطلبهم المباعدة بين أسفارهم، إن قوم سبأ أمرهم عجيب!!، لقد جعل الله بينهم وبين القرى التي بارك الله فيها قرى ظاهرة تيسيراً عليهم في أسفارهم ولراحتهم، لكنهم طلبوا المشقة وسئموا الراحة، لقد تمنوا طول الأسفار والكدح والمعاناة، بعد ما وهبهم الله من الرخاء والنعمة، فلما كفروا بالنعمة وظلموا أنفسهم، جعل الله أحاديثهم وأخبارهم على كل لسان، وباعد الله بين أسفارهم ومزقهم كل ممزق.

وقوله تعالى: )وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ( (الزخرف: الآية 76).

وقوله تعالى: )وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ( (الطلاق: من الآية 1). يبين الله أن من يتعد حدود الله, فإنه بهذا التعدي يكون قد ظلم نفسه.

ثانياً: ظلم الغير

كل من ظلم غيره فقد ظلم نفسه، ويستثنى من ذلك القضاة العدول، فلا يحاسب القاضي على أنه ظلم غيره حين يخطئ في حكمه، فقد حكم بما لديه من أدلة وشهود، حتى وإن كانوا شهود زور، فقد أقسموا اليمين أمامه على صحة ما يقولون، ففي تلك الحالة لم يتعمد القاضي ظلم البريء بالحكم عليه، وكذلك الذين ينفذون حدود الله، مثل الجلادين الذين يجلدون المذنبين في الحدود التي تقتضي الجلد، فهم ينفذون أحكام الجلد، بل والمنفذون أيضا لأحكام الإعدام بأمر القضاة لم يظلموا غيرهم أيضاً، فتلك هي وظيفتهم التي يثابون عليها إذا أدوها بأمانة.

عن أَنَسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: ]انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ e: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ[ (البخاري: 6438)، أي تمنعه من ظلم الغير.

وعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: ]مَنْ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ[ (مسلم: 3020).

وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ: ]اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ[ (مسلم: 4675).

وهناك العديد من الأمثلة على ظلم الغير، نراها في حياتنا اليومية، وبين الأصدقاء والجيران والأقارب، بل وبين الأخوة والأخوات، وبين الآباء والأبناء، وقد أشارت الأحاديث السابقة إلى بعضها، فمن اقتطع شبراً من أرض جاره ظلماً واستولى عليها، فقد ظلم غيره وجزاؤه أن الله سيطوقه يوم القيامة من سبع أرضين، والشح أسلوب من أساليب ظلم الغير، هذا الشح حمل السابقون على سفك دمائهم واستحلال محارمهم.

ثالثاً: الظلم الكبير

هو الظلم الذي ليس بعده ظلم، بمعنى أنه لا يوجد ظلم أكبر من هذا!!، لذا سمى بالظلم الكبير، وهو النوع الثالث من أنواع الظلم، وكل ما ورد في القرآن الكريم وفى أحاديث رسول الله e يحمل عبارة )وَمَنْ أَظْلَمُ(؛ فإن ما بعدها في الآية هو نوع من أنوع الظلم الكبير، وسوف نجد الكثير من الأمثلة التي تحمل تلك العبارة المشار إليها، سواء في القرآن الكريم، أو في أحاديث رسول الله e، وهذه بعض الأمثلة:

1. في القرآن الكريم

ورد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحمل عبارة )وَمَنْ أَظْلَمُ(، وهي عبارة قرآنية تعبر عن النوع الثالث، من أنواع الظلم، وهو (الظلم الكبير)، ويعني أنه لا يوجد ظلم أكبر من هذا الظلم، وهو نوع يعلو درجتين على ظلم النفس وظلم الغير في المرتبة، ولنضرب بعض الأمثلة، التي توضح هذا النوع من أنواع الظلم الوارد في القرآن الكريم:

أ. منع المساجد أن يذكر فيها اسم الله والسعي في تخريبها

قال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسمهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ( (البقرة: الآية 114). فمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، فقد ارتكب النوع الثالث من أنواع الظلم، أي ارتكب ظلماً كبيراً ما بعده ظلم سوى الشرك بالله.

ب. كتم الشهادة

قال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ( (البقرة: من الآية 140)، لاحظ ماجاء بعد عبارة )وَمَنْ أَظْلَمُ( والتي تدل على أنه لايوجد ظلم أكبر ممن كتم الشهادة، فكتم الشهادة هي الدرجة الثالثة من درجات الظلم الأربعة، التي تسبق الظلم العظيم.

ج. افتراء الكذب على الله والتكذيب بآياته

قال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ( (الأنعام: الآية 21).

وقال تعالى: )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ( (الأعراف: الآية 37).

وقال تعالى: )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُون( (يونس: الآية 17).

وقال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ( (العنكبوت: الآية 68).

وقال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِين( (هود: الآية 18).

وقال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( (الصف: الآية 7).

وقال تعالى على لسان أهل الكهف: )هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا( (الكهف: الآية 15).

د. من أدعى بالوحي وإنزال القرآن، ومن يُضل الناس بغير علم

قال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ( (الأنعام: من الآية 93).

وقال تعالى: )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( (الأنعام: من الآية 144).

هـ. من كذب بآيات الله وأعرض عنها

قال تعالى: )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ( (الأنعام: من الآية 157).

وقال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا( (الكهف: الآية 57).

وقال تعالى: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ( (السجدة: الآية 22).

وقال تعالى: )فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ( (الزمر: الآية 32).

2. في أحاديث رسول الله e

من أحاديث رسول الله e الصحيحة، والتي تحمل معنى الظلم الكبير، وتحمل عبارة (ومن أظلم)، التي أشرنا إليها في القرآن الكريم، حديث أبى زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ فَرَأَى أَعْلَاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: )وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً( ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ مُنْتَهي الْحِلْيَةِ. (البخاري: 5497).

رابعاً: الظلم العظيم

الظلم العظيم هو أعلى درجات الظلم وهو الشرك بالله، هذا النوع من الظلم الذي يبغضه الله، ولا يغفر لصاحبه حتى لو فعل ما فعل من الاستغفار، قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا( (النساء: الآية 48)، هذا النوع من الظلم ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة المطهرة.

1. في القرآن الكريم

الشرك هو الظلم العظيم، وقد ورد ذلك في القرآن الكريم في سورة لقمان، حيث يأمر لقمان إبنه بعدم الشرك بالله، في أول موعظة يعظه إياها، مؤكداً أن الشرك بالله هو أعلى درجات الظلم على الإطلاق، وقد سمى في القرآن الكريم، بالظلم العظيم,

قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ( (لقمان: الآية 13).

2. في السنة المطهرة

عن عَبْدِ اللَّهِ t قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآية )الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ(، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ e وَقَالُوا أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: ]إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ أَلَا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[ (البخاري: 3246).

ولقد بينا أن أنواع الظلم الأربعة، وعلمنا أن أدناها هو ظلم النفس، وأعلاها هو الظلم العظيم، والله I (قد) يغفر لمن ظلم ظلماً دون الشرك، أي دون الظلم العظيم. وبمعنى أخر فإن الله لا يغفر أن يُشرك به أى لايغفر لمن فعل الظلم العظيم، لكنه I يغفر ما دون ذلك من أنواع الظلم الأخرى، وهى: (ظلم النفس ـ ظلم الغير ـ الظلم الكبير)، شريطة أن يستغفر المذنب ربه ويتوب إليه وينيب، ويعيد الحق لأصحابه، ويرد المظالم إلى أهلها، لعل الله أن يغفر له ويقبل استغفاره وتوبته، أما الشرك فلن يغفر الله لمن أشرك به I، لقوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا( (النساء: الآية 48).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:26 pm



المبحث الثاني

أنواع العذاب في القرآن الكريم

وردت كلمة (العذاب) في القرآن الكريم أكثر من خمسة أضعاف كلمة (الهلاك)، حيث وردت كلمة [العذاب] ومشتقاتها في القرآن عدد 373 مرة، بينما وردت كلمة [الهلاك] ومشتقاتها في القرآن عدد 67 مرة، وهذا يبين لنا أهمية تعرف (العذاب) الوارد بالقرآن الكريم.

العذاب في اللغة: يعنى العقاب والنكال وكل ما شق على النفس، ويصاحبه شعور بألم يتأثر به الجسد (مادياً)، أو تتأثر به النفس (معنوياً)، والعذاب له (أنواع ـ طرق ـ حالات ـ أساليب ـ وسائل ـ أدوات).

وهناك مسميات مشتركة بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وردت في القرآن الكريم، منها (العذاب الأليم، والعذاب الشديد، والعذاب الغليظ، والعذاب المهين، وغيرها من المسميات) إلا أنه شتان بين العذابين رغم اشتراكهما في بعض المسميات، فعذاب الآخرة أشد وأبقى من عذاب الدنيا.

كما أن هناك مسميات خاصة بعذاب الآخرة وحدها، والتي ليس لها مثيل في الدنيا، مثل (عذاب النار، وعذاب الحريق، وعذاب السعير، وعذاب جهنم، وغيرها من المسميات).

وسيكون التركيز على النوع الأول من العذاب وهو (عذاب الدنيا)، فهو الأكثر إدراكاً ومعايشة، بينما عذاب الأخرة غير مدرك وغير ملموس في حياتنا الدنيا، بل إن هناك بعض من الناس لا يصدقون به ولا يؤمنون به، برغم حقيقته المؤكدة، وتلك الأنواع المكذبة من البشر، هي التي تظلم في الأرض وتتجبر، فهي لاتؤمن بالآخرة، ولا تعتقد أو تصدق بأنها ستعذب في الدنيا أو الأخرة.

إن كلمة (العذاب) التي وردت في القرآن الكريم على الرغم من أنها كلمة صغيرة قليلة الحروف إلا أنها تحمل معانٍ كبيرة تحتاج إلى شرح وتفصيل.

قال تعالى: )وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( (لقمان: الآية 27).

أولاً: أنواع العذاب

ينقسم العذاب إلى نوعين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة. وعذاب الدنيا هو المحسوس من الآلام النفسية أو الجسدية أو الاثنين معاً، وقد ينتهي عذاب الدنيا بعفو الله وكشفه عن المُعَذَّب أو ينتهي بهلاكه وموته. أما عذاب الآخرة فهو العذاب الأبدي، الذي يلازم صاحبه في الحياة الآخرة، وهو عذاب لا يخفف ولا يؤجل ولا مهرب منه!!.

قال تعالى: )وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (السجدة: الآية 21)، والعذاب الأدنى المقصود به عذاب الدنيا، أما العذاب الأكبر فالمقصود به عذاب الآخرة، والمعذب في الآخرة يبقى في حالة عذاب دائم لا ينقطع، تأكله النار الكبرى إلا أنه لا يموت فيها ولا يحيا، أي لا يستريح من عذابه بالموت، ولا يعيش فيها حياة السعداء وهو يعذب!!.

قال تعالى: )الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (13)( (الأعلى: الآيتان 12 و13).

والعذاب إما أن يكون انتقاماً لله من الظالمين على ظلمهم، أو يكون ابتلاءً من الله للمؤمنين، ليغفرلهم به الذنوب، أو يرفع الله لهم به الدرجات.

وردت أحاديث كثيرة في هذا الشأن منها:

1. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ e قَالَتْ: )سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ e عَنْ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ( (البخاري: 3215).

2. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: )مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ( (البخاري: 5210). (والوصب) بمعنى المرض0

3. حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، قَالَ e )أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ قُلْتُ ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ قَالَ أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا( (البخاري: 5216).

توجد ثلاث طرق للتعذيب هي: (تعذيب الله للإنسان، وتعذيب الإنسان للإنسان، وتعذيب الإنسان للكائنات). وللتعذيب حالات هى: (المنع ـ التأجيل ـ التبديل ـ الكشف ـ التخفيف ـ المضاعفة)، كما أن للتعذيب أساليب وسائل وأدوات وردت جميعها في القرآن الكريم.

ثانياً: سوط العذاب

ما هو سوط العذاب؟ لقد سار الذين من قبلنا في الأرض، ثم نظروا وتدبروا ما حدث للظالمين على الأرض، ووجدوا أن سوط العذاب هو الذي يصبه الله على الظالمين، فحين رأوا ماذا فعل الله بعاد إرم ذاتِ العماد التى لم يُخلق مثلها في البلاد، وحين رأوا ما فعل الله بثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وحين رأوا ما فعل الله بفرعون ذي الأوتاد، وجدوهم جميعاً قوم طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، لذلك صب الله عليهم سوط العذاب[1]، قال تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (Cool وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ( (الفجر: الآيات 6 - 13).

ثالثاً: هل هناك من لا يصدق تلك الحقيقة؟

نعم، إن كثيراً من الظالمين لا يصدقون بأن الله سوف يعذبهم !! تماماً كما فعل الأولون، فلو كانوا يصدقون ما بطشوا في الأرض بطش الجبارين، إن قريشاً لم تصدق بأن الله يعذب الظالمين، واستخفوا بما أنذرهم به محمد e وطلبوا من الله أن يمطرهم بحجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم، ولو كانوا يصدقون ما جاء به محمد e، ما طلبوا من الله أن يرسل عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب اليم!!، هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم.

كان الأولى أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، لكنهم استخفوا بعذاب الله وكذبوا به، هم لا يصدقون بعذاب الله في الدنيا والآخرة، فكيف يؤمنون بعذاب الآخرة وهم لا يصدقون أصلاً بعذاب الدنيا؟، ويطلبون من الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم مستخفين بعذابه I.

قال تعالى على لسان قريش: )وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( (الأنفال: الآية 32).

رابعاً: استعجال العذاب

من شواهد عدم التصديق بعذاب الدنيا والاستخفاف بحدوثه، أنهم يستعجلونه، فكثيرٌ من الناس لا يصدقون بتعذيب الله للظالمين في الحياة الدنيا، إلا إذا شاهدوه وذاقوه ورأوه رأى العين، حينئذ فقط يصدقون بالعذاب ويدعون الله أن يكشفه عنهم وينجيهم منه!!، والعجيب أنهم لا يصدقون بوقوع العذاب فحسب، بل الأعجب أنهم يستعجلونه!!.

قال تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( (العنكبوت: الآيتان 53 و54).

خامساً: العذاب الأدنى

قال تعالى: )وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (السجدة: الآية 21)، ويُطلق على عذاب الدنيا كلمة (العذاب الأدنى)[2]، ويُطلق على عذاب الآخرة كلمة (العذاب الأكبر)، ومن رحمة الله على الناس أنه يُذيقهم من العذاب الأدنى (عذاب الدنيا) دون (العذاب الأكبر) لعلهم إليه يرجعون ويتراجعون عن ظلمهم. يذيقهم الله من العذاب الأدنى في صوره المتعددة، فيرسل عليهم الرياح والأعاصير والفيضانات، ويفجر لهم البراكين، ويسلط عليهم الآفات والميكروبات والجراثيم، ويسلط بعضهم على بعض، ليذيق بعضهم بأس بعض لعلهم إليه يرجعون.

سادساً: حق عليهم العذاب

هناك من البشر من حق عليهم العذاب أي (وجب عليهم عذاب الله)، ويحق العذاب على من يستحقه، والمستحق للعذاب هو المخالف لأوامر الله، المكذب لرسله المتعدي لحدوده. قال تعالى: )وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ( (الحج: من الآية 18)، ومن حق عليه العذاب فقد وجب عقابه وهو لا يدري، وعقاب الله قادم إليه لامحالة لكنه غافل عن ذلك، والله يحق العذاب على الظالمين بعد أن يمهلهم للتوبة والعودة، فإذا أصروا على كفرهم وعنادهم وظلمهم أوجب الله عليهم عقابه الذي لا رجعة فيه.

سابعاً: عذاب الدنيا والآخرة

قال تعالى: )لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ( (الرعد: الآية 34).

وقال تعالى: )أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (التغابن: الآية 5).

يبين الله نبأ الذين كفروا من قبل، بأنهم عذبوا في الحياة الدنيا لقوله تعالى: )فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ(، ثم بين لنا أن لهم عذاباً آخر يذوقونه في الآخرة، لقوله تعالى: )وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(.

وهذا مثال واضح عن (عذاب الدنيا والآخرة) بينه الله لنا في سورة القلم، فقد ذكر الله I قصة العذاب الذي وقع على أصحاب الجنة (الحديقة)، حينما منعوا زكاتها وقت حصادها عن المساكين، فعذبهم الله عذاباً مادياً ومعنوياً بحرق الحديقة، وحولها لهم في لحظة إلى حديقة محترقة كالصريم، قال تعالى: )إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ( (القلم: الآيات 17 – 31)، هكذا عذبهم الله!!.

فبعد أن كانوا يعتزمون حصاد ثمارها في الصباح قبل مجئ المساكين، وتعمد حرمان المساكين من حقهم فيها يوم حصادها، عاقبهم الله في الدنيا بذلك العذاب المؤلم والموجع مادياً ومعنوياً، قال تعالى: )كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ( (القلم: الآية 33). تدبر تلك العبارة القرآنية )كَذَلِكَ الْعَذَابُ(، أى كذلك يكون عذاب الدنيا للظالمين، إن تلك العبارة القرآنية التي وردت في الآية 33 من سورة القلم، تعنى أن عذاب الدنيا كذلك يكون.. يا من لا تعلمون عن عذاب الدنيا شيئاً!!، ثم قال تعالى: )وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(.

ثامناً: أمثلة لبعض مسميات عذاب الدنيا والآخرة الواردة في القرآن الكريم

قد تتشابه بعض مسميات العذاب في الدنيا والآخرة كما أوردها القرآن الكريم، إلا أنه شتان بين العذابين من حيث المرتبة والدرجة، ومن حيث الفترة الزمنية، ومن حيث الخصوصية التى يختص بها عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا.

1. من حيث المرتبة والدرجة

نجد أنه مع اشتراك مسمى (العذاب الأليم) في الدنيا والآخرة، إلا أن القاعدة العامة، أن (العذاب الأليم) في الآخرة يكون أكبر وأشد من العذاب الأليم في الدنيا.

2. من حيث الفترة الزمنية

يكون عذاب الآخرة دائماً ومستمراً لا ينقطع، بينما عذاب الدنيا لا يدوم لأنه لا بد وأن ينتهي إما بكشفه، أو انتهائه بسبب موت صاحبه أو هلاكه. وعذاب الدنيا هو المرحلة الأولى من العذاب (أي عذاب الأحياء من الظالمين والكافرين في الحياة الدنيا حتى ينتهي أجلهم، وهو العذاب المحسوس الذي يسلطه الله عليهم في الدنيا لعلهم يرجعون)، ثم ينتقل الظالم أو الكافر إلى المرحلة الثانية من العذاب وهو (عذاب الآخرة)، وهذا النوع من حيث الفترة الزمنية هو أشد وأبقى، قال تعالى: )وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى( (طه: من الآية 127).

3. من حيث الخصوصية

فإن بعض مسميات العذاب في الآخرة تأخذ خصوصية تنفرد بها عن عذاب الدنيا، فمثلاً تلك الصنوف من العذاب الأخروي (كعذاب جهنم وعذاب السعير) ليس لهما مثيلُ في الدنيا، وتنفرد الحياة الآخرة وحدها بتلك المسميات، فلم نسمع مثلا عن (عذاب السعير أو عذاب جهنم أو عذاب الجحيم) في حياتنا الدنيا!.

تاسعاً: أمثلة لبعض المسميات المتشابهة عن (عذاب الدنيا والآخرة) كما جاءت في القرآن الكريم

1. العذاب الأليم

قال تعالى: )فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ( (التوبة: من الآية 74).

وقال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ( (النور: الآية 19).

2. العذاب الشديد

قال تعالى: )فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ( (آل عمران: الآية 56).

3. العذاب الغليظ

أ. في الدنيا

قال تعالى: )وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( (هود: الآية 58).

ب. في الآخرة

قال تعالى: )وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ( (لقمان: الآيتان 23 و24).

وقال تعالى: )مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ( (إبراهيم: الآيتان 16 و17).

4. العذاب المهين

قال تعالى عن موت سليمان u: )فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (سبأ: الآية 14).

وقال تعالى عن العذاب المهين في الدنيا الذي لاقاه بنو إسرائيل من فرعون: )وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (الدخان: الآية 30).

وقوله تعالى عن من اتخذ آيات الله هزواً: )وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( (الجاثية: الآية 9)، في هذه الآية قد يكون المقصود بالعذاب المهين، هو العذاب المهين في الدنيا أو الآخرة، والله أعلم!!.

وكذلك قوله تعالى عن المنافقين في الدنيا والآخرة: )اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ( (المجادلة: الآية 16).

5. سوء العذاب

أ. سوء العذاب في الحياة الدنيا

قال تعالى: )وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ( (البقرة: الآية 49).

وقال تعالى: )فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ( (غافر: الآية 45).

ب. سوء العذاب في الآخرة

قال تعالى: )أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ( (الزمر: الآية 24).

وقال تعالى: )وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ( (الزمر: الآية 47).

كانت تلك بعض الأمثلة، عن مسميات العذاب المتشابه في الدنيا والآخرة، حسب ما وردت بالقرآن الكريم، ويلاحظ برغم التشابه في المسميات، إلا أن عذاب الآخرة يختلف تماماً عن عذاب الدنيا في ألمه، وشدته، وغلظته، وإهانته، وسوئه، ودوامه...الخ، فعذاب الآخرة لايمكن تصوره مهما قيل عنه، فلا مثله رأت عين، ولا أُذنُ به سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

فهل من الممكن تصور نار وقودها الناس والحجارة في الحياة الدنيا؟!!، وهل يمكن تصور نار في الدنيا عليها ملائكةُ غلاظ شداد يمسكون بمقامع من حديد، يعيدون فيها كل من أراد أن يخرج منها؟؟!!.

وما تلك النار الغريبة والعجيبة، التي إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيرا؟!!، وما جهنم تلك التي إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ منهم؟!!، إذن هو عذاب مختلف تماماً عما نسمعه في الدنيا ونراه.

عاشراً: أمثلة لبعض مسميات عذاب الآخرة الواردة في القرآن الكريم

بينا أمثلة لبعض المسميات المتشابهة عن العذاب في الدنيا والآخرة، وسنبين أنواعاً أخرى من العذاب تختص بها الآخرة ولا يوجد لها مثيل في الدنيا، أي مسميات تنفرد بها الآخرة، نذكر بعضها على سبيل المثال وليس الحصر:

1. عذاب النار

قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( (التحريم: الآية 6)، فهي نار وقودها الناس والحجارة، نار غريبة وعجيبة وأشد اشتعالاً وحرارة عما آلفناه في الحياة الدنيا.

وقال تعالى: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( (البقرة: الآية 126)، الكافر يمتعه الله قليلاً في الحياة الدنيا، ثم يضطره الله إلى عذاب النار وبئس المصير.

2. عذاب الحريق

قال تعالى: )لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( (آل عمران: الآية 181).

وقال تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (Cool ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ( (الحج: الآية 9).

وقال تعالى: )كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( (الحج: الآية 22).

3. عذاب السعير

قال تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ( (الحج: الآيتان 3 و4).

وقال تعالى: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ( (لقمان: الآية 21).

4. عذاب جهنم

قال تعالى: )وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا( (الفرقان: الآيتان 65 و66).

وقال تعالى: )إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ( (الزخرف: الآية 74).

5. عذاب الحميم

يأمر الله I خزنة الجحيم، بصب عذاب الحميم فوق رؤوس المذنبين، قال تعالى: )ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ( (الدخان: الآية 48).

6. العذاب المقيم

قال تعالى: )يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ( (المائدة: الآية 37).

وقال تعالى عن المنافقين والمنافقات والكفار: )وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ( (التوبة: الآية 68).

وقال تعالى على لسان نوح u عن توعده للذين يسخرون منه: )فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ( (هود: الآية 39).

7. عذاب الخُلد

قال تعالى: )ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ( (يونس: الآية 52).

وقال تعالى: )فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( (السجدة: الآية 14).

8. عذاب السَّمُوم

قال تعالى: )قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ( (الطور: الآيتان 26 و27).

9. العذاب الأكبر

قال تعالى: )إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ( (الغاشية: الآيتان 23 و24).

10. أشد العذاب

قال تعالى لبنى إسرائيل: )فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ( (البقرة: من الآية 85).

وقال تعالى مخبراً عن آل فرعون: )النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ( (غافر: الآية 46).

كانت تلك بعض المسميات الخاصة بعذاب الآخرة، والتي تتفرد بخصوصية عن عذاب الدنيا.



[1] قال الفراء: السوط كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب، وقال قتادة : إن كل شيء عذب الله به فهو سوط عذاب – تفسير القرطبي

[2] قال الحسن وأبو العالية والضحاك وأبى بن كعب وإبراهيم النخعى، وقالها أيضاً ابن عباس: (أن العذاب الأدنى هو مصائب الدنيا وأسقامها مما يبتلى به العباد حتى يتوبوا).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:27 pm



المبحث الثالث

طرق العذاب وحالاته في القرآن

أولاً: طرق العذاب

توجد ثلاث طرق للعذاب (تعذيب الله للإنسان ـ تعذيب الإنسان للإنسان ـ تعذيب الإنسان للكائنات الأخرى). وتختلف الطريقة الأولي وهي (عذاب الله للإنسان) عن الطريقتين الأخريين. فالطريقة الأولي يعذب الله الإنسان بأساليب ووسائل وأدوات ليس لها مثيل، ولا يستطيع البشر أن يأتي بمثلها أو يقلدها، فكيف يأتي بشر بطير أبابيل، أو يقلب قرية على رأسها ويجعل عاليها سافلها؟، أو يشق البحر إلى نصفين، أو يرسل بريح صرصر عاتية؟.

أما الطريقتين الأخيرتين (تعذيب الإنسان للإنسان ـ تعذيب الإنسان للكائنات)، ففيها يستخدم الإنسان أساليب ووسائل وأدوات متاحة، وبمقدوره استخدامها أو تصنيعها (كالعصى أو السكين وغيرها)، وباستخدامها يذيق بعضنا بأس بعض ويعذب بعضنا بعضاً، وبها أيضاً يعذب الإنسان الكائنات الأخرى، وكلها أمور لا تحدث في الآخرة بالطبع، بل تحدث في الحياة الدنيا وحدها.

والله يحاسب المُعذِبين على تعذيبَهم للآخرين، بحسبان أن الإنسان والحيوان والنبات كلها كائنات خلقها الله، تعقل وتفكر وتسجد لله وتصلى وتسبح، لقوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ( (النور: الآية 41)، فلا يحق للإنسان أن يعذب مخلوقات الله، كما أن الله I لن يترك نفساً تعذب كائناته دون عقاب، فهو رب العالمين.. رب الجميع.

وقد يخير الله الإنسان في عقاب الآخرين بالتعذيب أو الإهلاك أو بالعفو عنهم، كما يفعل القاضى مع المتهمين في القضاء (بالحبس أو بالإعدام، أو بالعفو عن المتهم لبراءته من الإتهام)، ولعل أكبر مثال على ذلك ما ورد في سورة الكهف، في تخيير ذي القرنين في تعذيب الأخرين أو العفو عنهم، قال تعالى: )إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا( (الكهف: من الآية 86)، فقد خيره الله I بين التعذيب كما في قوله تعالى: )إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ(، وبين الاستبقاء كما في قوله تعالى: )وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا(، وهذا التخيير من الله يكون في الحياة الدنيا، وليس في الآخرة، فلا خيار لأحد في هذا الأمر في الآخرة على الإطلاق.

1. تعذيب الله للإنسان

هذه الطريقة تتم في الحياة الدنيا والآخرة، ويجب الأخذ في الحسبان الآتي:

أ. لا حاجة لله في أن يعذبنا

قال تعالى: )مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا( (النساء: الآية 147)، أي ما يصنع الله بعذاب البشر، إن تابوا إليه ورجعوا إلى الحق، وشكروه على ما أنعم به عليهم من نعم في النفس والأهل والولد، وما يصنع الله بعذاب البشر لو اعتصموا به وأخلصوا له العمل، وآمنوا برسوله e وصدقوه وأقروا بما جاء به من عند الله I وعملوا به.

فلا حاجة لله في تعذيبنا، لأنه لا يجتلب بعذابنا نفعا لنفسه I، وعذابه لخلقه إنما هو عقاب لهم على جراءتهم عليه I، ومخالفتهم لأمره ونهيه، وكفرهم لنعمه، وعدم شكره عليها. وبناء على ذلك فإن شكرنا لله على نعمه، وإيماننا به وبكتبه ورسله واليوم الآخر، لا يعرضنا إلى عذاب الله؛ إذ ليس لله حاجة في تعذيبنا.

فالأصل أن الله I لا يريد عذاباً لأحد، شريطة أن يشكروه ويؤمنوا به. والقاعدة أن (الشكر والإيمان) يحميان الإنسان من عذاب الله، والمخالفون لتلك القاعدة أي (الذين لا يشكرون ولا يؤمنون)، هم المُعرضُون لعذاب الله في الدنيا والآخرة.

ب. المشركون هم المعذبون

بينما يرحم الله الشاكرين المؤمنين من عذابه، يحل على المشركين غضبه وعقابه، فمن أراد أن يدخل في دائرة المعذبين، ما عليه إلا أن يدعو مع الله إلهاً آخر فيكون من المعذبين، قال تعالى: )فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ( (الشعراء: الآية 213)، والمقصود بقوله تعالى: )فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ( أى المعذبين في الدنيا، أو الآخرة، أوالاثنين معاً، والله أعلم.

2. تعذيب الإنسان للإنسان

هذه الطريقة تتم في الحياة الدنيا، ولا مكان لها في الآخرة، وهذه الطريقة وإن بدت أن إنساناً يعذب إنساناً أخر، إلا أن هذا العذاب يحدث بعلم الله ومشيئته، فهو وحده الذي بيده القدرة على ذلك، وهو المدبر لكل ما يحدث وإن بدا لنا أننا يذيق بعضنا بأس بعض، قال تعالى: )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( (الأنعام: الآية 65).

إن (أساليب العذاب) تأتى من عند الله، ونحن (وسائلها) التي يتحقق بها هذا التعذيب، ويجب أن نفرق بين وسيلة العذاب وأداتها، (فوسيلة العذاب) قد تكون هي الإنسان نفسه، (أما أداة العذاب) فهي ذلك الشيء الذي يستخدمه الإنسان ليحقق به تعذيب الآخرين بصورة مباشرة، كالسكين والسوط والعصا وغيرها... الخ، ولنضرب بعض الأمثلة:

أ. تعذيب آل فرعون لبنى إسرائيل

قال تعالى: )وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ( (البقرة: الآية 49)، كان آل فرعون يذيقون بنى إسرائيل سوء العذاب!!، يُذَبِّحون أبناءهم ويستحيون نسائهم، هذا العذاب الذي كان يفعله آل فرعون ببنى إسرائيل، لم يكن دون علم الله I، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل كان ذلك بعلمه وابتلاء منه لبني إسرائيل، تدبر قوله تعالى: )وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(.

هذا البلاء حدث بعلم الله ومشيئته وبإذنه!!، كما أراد I تماماً أن يكون، بنفس الوسائل وبنفس الأدوات، وبنفس الأسلوب وهو (ذبح الأبناء)، فكلها أمور محسوبة، تحدث بعلم الله ومشيئته، أمور لا تحدث ارتجالاً أو عشوائياً أو مصادفة، فهي أمور يخرجها الله إلى أصحابها لتحدث كما حدثت تماماً في ذلك الوقت، بإذنه ومشيئته، تصديقاً لقوله تعالى: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ( (التغابن: من الآية 11).

إن آل فرعون يُذبحون أبناء بني إسرائيل بعلم من الله وبإذنه، وهو بلاء عظيم من الله، قال تعالى: )وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(، هذا البلاء ابتلى الله به بني إسرائيل على يد قوم فرعون، فالأمور التى تحدث من حولنا لا يغفل عنها الله I، سواء كانت مصائب أو كوارث أو نكبات، أو كانت نفحات ورحمات، فكلها بعلم الله وبإذنه!!.

يقول الإمام القرطبي في سبب نزول الآية السابقة من سورة (التغابن): أن الكفار قالوا لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هماً أو يوجب عقاباً عاجلاً أو آجلاً، فبعلم الله وقضائه.

وعلى ذلك فإن ما يحدث من تعذيب للفلسطينيين على يد قوات الإحتلال الإسرائيلي على سبيل المثال، هي أمور تحدث كما يريد الله أن تحدث تماماً وبعلمه، وليست أموراً عشوائية أو أحداثاً ارتجالية تجرى دون علم الله، فهي أحداث تجري بعلمه ومشيئته، وهو يملى لهم ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر، فلم يحن وقت تعذيبهم بعد، وحين يأتى ذلك الوقت فليس مصروفاً عنهم، وسيحيق بهم ما كانوا به يمكرون.

ب. تعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين عند القتال

هذه صورة أخرى لتعذيب الإنسان للإنسان، قال تعالى: )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ( (التوبة: الآية 14)، حيث يعذب الله الكافرين بأيدي المؤمنين عند القتال، لتكون أيدي المؤمنين هي أداة التعذيب ذاتها، سواء كانت عارية من السلاح أو ممسكة به، ووسيلة التعذيب هم المؤمنون أنفسهم، فهذا القتال يحدث بعلم الله وبأمره لقوله تعالى: )قَاتِلُوهُمْ(، يحدث كما أراده الله I تماماً أن يحدث وبأمره، في نفس المكان وهو (أرض القتال)، وفى الوقت نفسه الذي يدور فيه القتال. فالله يدبر للكافرين أمراً لابد من حدوثه، وهو تعذيبهم لقوله تعالى: )يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ(، فالله هو الذي يعذبهم، وقد كتب I أن يكون هذا التعذيب بأيدي المؤمنين )يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ(.

كما أن الله I يدبر النتائج أيضاً، وهي هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين وشفاء صدورهم. قال تعالى: )قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ( (التوبة: الآية 14)، فقد أراد الله أولاً أن (يعذب) الكافرين فأمر المؤمنين بقتالهم، وأن تكون أداة تعذيبهم (أيدي المؤمنين) فقال تعالى: )بِأَيْدِيكُمْ(، ولما أراد الله نصر المؤمنين وخزى الكافرين.. حدث ذلك كما أراد I تماماً بإذنه وبعلمه.

ج. تعذيب اليهود إلى يوم القيامة على يد أمة محمد e

هذا مثال آخر يوضح أن عذاب الإنسان للإنسان، هو بعلم الله وبإذنه وبتدبيره، قال تعالى: )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ( (الأعراف: من الآية 167)، حيث أعلم الله وأخبر ودبر، أن يُعَذَبْ (اليهود) على يد أمة محمد e، تلك الأمة المُسلطة عليهم من الله في علمه المسبق، لتذيقهم سوء العذاب حتى يوم القيامة، وذلك بسبب مارتكبوه من عصيان، ومخالفتهم لأوامره وشرعه I.

وكلمة ]تَأَذَّنَ[ بمعنى تفعل من الأذان أي (أعلم)، قالها مجاهد، وقال غيره أي (أمر)، وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة، ولهذا اتُبعت باللام في قوله ]لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ[، أي على اليهود إلى يوم القيامة، من يسومهم سوء العذاب، بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه، واحتيالهم على المحارم، ويقال إن موسى u ضرب عليهم الخراج سبع سنين، وقيل ثلاث عشرة سنة وكان أول من ضرب الخراج، ثم كانوا تحت قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذ الجزية منهم والخراج، ثم جاء الإسلام ومحمد e فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية. المهم في هذا الأمر هو النظر والتفكر في تدبير الله المسبق!!، في قوله تعالى: )لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ(، فهو أمر قدره الله من قبل حدوثه، ولا بد أن يحدث (يسلط المؤمنين من أمة محمد e على اليهود، ليسومونهم سوء العذاب)، هكذا حدد الله مسبقاً في علمه الأزلي (من المُعَّذِبْ، ومن المُعَّذَبْ ؟)، وكذلك حدد الله فترة عذابهم الطويلة التي كتبها عليهم في قوله تعالى: )إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(!!، كل ذلك حدده الله بعلمه المسبق قبل أن يحدث.

د. صورة أخرى عن تعذيب وإهلاك الإنسان للإنسان

قال تعالى: )غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( (الروم: الآيات 2-6).

هذه الآيات الكريمات تبين كيف غُلِبَت الروم وكيف انتصرت، وسوف نجد أن كل شيء كان مدبراً من الله مسبقاً، وقد وقع تماماً كما وعد وكما أراد، كلها أحداث وقعت بعلم الله ومشيئته وتدبيره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!، تدبر قوله I في سورة الروم: )وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(، فلما كتب الله عليهم الهزيمة في ذلك الوقت هُزموا، ولما حدد لهم مكان المعركة )فِي أَدْنَى الْأَرْضِ( وقعت، ولما كتب لهم أن ينتصروا من بعد الهزيمة انتصروا )وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(، ولما حدد لهم وقت الانتصار )فِي بِضْعِ سِنِينَ( حدثت في موعدها كما وعد، فلم تؤجل الحرب بينهما، ولم يتصالحوا قبلها حتى لا تقع، وهكذا نرى عجائب القرآن!!.. حقائق قرآنية تبين لنا أن كل شيء يجري بأمر الله وبعلمه وبإذنه.

إن الله هو الذي أمر بحدوث تلك الأمور قبل أن تحدث، وهو الذي دبر حدوثها وسبب للحرب أسبابها، وحدد من المهزوم ومن المنتصر من قبلها، كما حدد وقتها ومكانها، لنعلم أن لله الأمر من قبل ومن بعد.

وقبل الإنتهاء من الحديث عن عذاب الإنسان للإنسان، نشير إلى نقطة مهمة، أن كل إنسان يُعذِب إنساناً آخر فلا بد وأن يعاقبه الله I، يستثنى من هؤلاء القائمون على تنفيذ حدود الله (كالذين يجلدون الزناة، والمتولين قطع أيدي السارقين، وغيرهم)، فتنفيذ حدود الله بأيدي أناس آخرين، هو في حقيقة الأمر تعذيب للمخالفين لشرع الله، ويُطلق على هذا النوع من التعذيب مسمى (التعذيب المُشروع)، والمنفذون لهذا التعذيب أو الآمرين به مثابون على ذلك، وغير مُعَاقبين من الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، ذلك لأنهم يقيمون حدود الله وينفذون شرعه في أرضه.

3. تعذيب الإنسان للكائنات

هذه الطريقة تتم في الحياة الدنيا وليس لها مكان في الآخرة، وهي الطريقة الثالثة من طرق العذاب التى نتحدث عنها، وهي طريقة نشاهدها كثيراً في حياتنا اليومية، بين فئة من الناس يتعاملون مع الكائنات الأخرى كالطيور والحيوانات وغير ذلك من الكائنات، وقد آلفنا تلك الأمور لكثرتها!!، حتى إننا نمر عليها مرور الكرام دون أن نلتفت إليها، فمثلاً نرى طفلاً يمسك بدجاجة يعذبها، وطفلاً آخر يمسك بطائر ينزع ريشه في متعه بالغة، وشاباً يمسك بفراشة جميلة ليحبسها في زجاجة حتى تموت ويحنطها، وعلماء هنا وهناك يجرون تجاربهم على الحيوانات قبل إجرائها على الإنسان، كأن تلك الحيوانات ليست من مخلوقات الله، أو كأنها كائنات لا تعقل ولا تفكر ولا تشعر ولا تتألم، بينما هي في الحقيقة كائنات تعقل وتفكر وتصلي لله وتسجد وتُسبِح!!.

ما تم ذكره من أمثلة هي صور لأشكال مختلفة من (عذاب الإنسان للكائنات)، وليست كما يعتقد البعض أنها نوعاً من أنواع اللهو والتسلية بكائن لا يعقل ولا يشعر ولا يتألم من التعذيب، فمنع الماء عن كائن من الكائنات، هو في الحقيقة تعذيب له، ومن أمسك بطائر من الطيور ثم حبسه في قفص ثم تركه يعاني الجوع والعطش، فهو في حقيقة الأمر يعذبه... وهكذا.

أ. أمثلة لتعذيب الإنسان للكائنات الأخرى من واقع ما جاء في القرآن الكريم

(1) هدهد سليمان u

أشار القرآن الكريم إلى هذا الكائن (الهدهد) في قصة سليمان u، وذلك مثل على تعذيب كائن من الكائنات وهو (الطيور) أو إهلاكه، فقد توعد سليمان u هذا الهدهد بالتعذيب أو بالذبح، حين تفقد الطير ولم يجده!!، قال تعالى مخبراً عن سليمان u: )وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ( (النمل: الآيتان 20 و21)، وتهديد سليمان u للهدهد بالتعذيب أو بالذبح (يقابله تهديد الإنسان للإنسان بالتعذيب أو الموت).

(2) الجن في عهد سليمان u

عن ابن عباس رضى الله عنهما، وعن مجاهد والحسن وقتادة: أن الجن كانوا من جنود سليمان u، وكانوا مسخرين في الأعمال الشاقة بإذن الله، لا يستطيعون الإفلات منه (أى من سليمان u)، يعملون له ما يشاء من محاريب (مساجد)، وتماثيل وجفان كالجواب (أحواض كبيرة عظيمة)، وقدور راسيات (ثابتة لا تتحرك لثقلها وعظمها)، وكان منهم البناءون للبناءات العظيمة التي لا يقدر عليها الإنسان، ومنهم الغواصون الذين يغوصون في البحار لإحضار اللؤلؤ والمرجان والأشياء النفيسة، وأخرون مقرنون في الأصفاد (وهم كل من تمرد وعصى أو امتنع عن العمل وأبى)، وهذا النوع من العذاب فيه إهانة للجن بكل المقاييس.

وعندما مات سليمان u لم تعلم الجن بموته، وظلوا يعملون تلك الأعمال الشاقة لمدة طويلة نحواً من سنة، حتى آتت دابة الأرض تسمى (الأرضة) فأكلت منسأته آي (عصاه التي يتوكأ عليها) فسقط سليمان u على الأرض، عندئذ تبينت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لاكتشفوا موت سليمان u في حينه، وما لبثوا في العذاب المهين، قال تعالى: )فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ( (سبأ: الآية 14).

ثانياً: حالات العذاب

يمكن تقسيم حالات العذاب إلى ست حالات: (المنع ـ التأجيل ـ التبديل ـ الكشف ـ التخفيف ـ المضاعفة).

1. منع العذاب

إن منع العذاب له شروط، فبالإضافة لما ذكرناه عن منع العذاب عن الشاكرين المؤمنين، في قوله تعالى: )مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا( (النساء: الآية 147)، نجد أن هناك شروطاً آخرى تمنع العذاب ومنها:

أ. عدم إرسال الرسل

قال تعالى: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( (الإسراء: من الآية 15)، الحقيقة التي يجب أن ندركها أولاً ونُذْكِر بها ثانياً، أن محمداً e هو خاتم الأنبياء والمرسلين. والسؤال الذي يطرح نفسه، هل كل من جاءوا بعده غير معذبين؟، لما ورد في صريح الآية: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا(، يقول ابن كثير: هذا إخبار عن عدله I، بأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحُجة عليه، بإرسال الرسول إليه، كقوله تعالى: )كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (Cool قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِير( (الملك: من الآية 8، والآية 9)، وكذا قوله تعالى: )وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ( (الزمر: الآية 71).

يقول بعض المفسرين إن مهمة الرسل هي تبليغ الدعوة، فمن لم تبلغه الدعوة فهو غير مستحق للعذاب من جهة العقل، ويقول البعض الآخر إن معنى )حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( في الآية، أي حتى نُبين له ما يجب عليه.

هناك أمر مهم أو حقيقة مهمة: نحن نرى ونشاهد في كل يوم صنوفاً من التعذيب يذيقها الله للظالمين في الأرض، منذ أن مات محمداً e خاتم الأنبياء والمرسلين وحتى وقتنا هذا، فلو كان المقصود بالرسل هم الرسل السابقون فقط، ما كان الله ليعذب أحداً بعد موت محمد e إلى يوم الدين، وذلك طبقا للمفهوم القرآني: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( (الإسراء: من الآية 15)، وهذا ما لا يحدث بالطبع!!.

فيكون المقصود بالآية السابقة، كما قال المفسرون، هو تبليغ الدعوة للناس من طريق منذرين من أنفسهم، يُبلغون ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله e، فدين محمداً e هو الإسلام، والله I قد ارتضى لنا الإسلام ديناً، وأن الله قد أرسل محمداً e للناس كافة (بشيراً ونذيرا)، وكل أمة تأتى من بعده فهو رسولها، وهو رحمة من الله لها.

فكأن رسالة محمد e باقية لكل الأمم إلى يوم الدين، فلا عُذر لمن ابتغي غير الإسلام ديناً واعتقد أن الله لم يرسل إليه رسولاً، فهذا النوع من الناس سوف يكون بإذن الله من المُعَذبين، أما من لم تبلغه الدعوة لأي سبب من الأسباب، فهو غير مستحق للعذاب كما جاء في تفسير القرطبي.

ب. من كان في حضرة النبى e

قال تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( (الأنفال: من الآية 33)، لأن العذاب إذا نزل عَمَّ، ولم تُعذب أمة إلا بعد خروج نبيها والمؤمنين منها، وهذا فضل اختص الله به نبيه محمداً e تكريماً وتشريفاً ورحمة للناس، فلا يُعذب الله أحداً في حضرة رسوله e، لقوله تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ(.

ج. الإستغفار

قال تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( (الأنفال: من الآية 33)، والاستغفار، وإن وقع من الفجار، يُدفع به ضرب من الشرور والإضرار، قال تعالى على لسان نوح u وهو يدعو قومه: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا( (نوح: الآيات 10-12)، أي اطلبوا من ربكم المغفرة من الكفر والعصيان، فإنه I لم يزل غفاراً لذنوب من يرجع إليه ويتوب، فإنه يرسل السماء عليكم مدراراً (غزيرة الدر بالمطر)، ويمددكم بأموال وبنين هما زينة الحياة الدنيا، ويجعل لكم بساتين تنعمون بجمالها وثمارها، ويجعل لكم أنهاراً تسقون منها زرعكم ومواشيكم، كل هذه المزايا ينالها الكافرون من قوم نوح u إذا استغفروا الله I، فإن الله لا يعذب المستغفرين، بل يجزل لهم العطاء الخير والنعيم!!، هكذا يقابل الله المستغفرين بالخيرات والنعيم، ولا يسلط عليهم عذابه لقوله تعالى: )وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(.

2. تأجيل العذاب

يؤجل العذاب لأسباب!! منها (وجود مؤمنين ومؤمنات بين أظهر الكافرين)، فيؤجل الله تعذيب الكافرين حتى يخرج المؤمنون من بينهم، قال تعالى: )هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا( (الفتح: الآية 25)، يقول تعالى مخبراً عن الكفار من مشركي العرب من قريش، ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله e )هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا( أي هم الكفار دون غيرهم، الذين صدوكم عن المسجد الحرام )وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ(، وأنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الأمر.

وفي قوله تعالى: )وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ(، أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله من بغيهم وعنادهم، وقوله تعالى: )وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ(، أي بين أظهرهم يكتمون إيمانهم ويخفونه، خيفة على أنفسهم، لسلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم، ولكن لأن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل، لهذا قال تعالى: )لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ(، أي يصيبكم منهم إثم وغرامة دون علمكم بهم، وتمييزهم عن كفار مكة.

وفي قوله تعالى: )لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ(، أي يؤخر (يؤجل) عقوبتهم حتى يخلص من بين أظهرهم المؤمنين، )لَوْ تَزَيَّلُوا( أي لو تميز الكفار من المؤمنين، )لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(، أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلاً ذريعاً. قال الحافظ أبو القاسم الطبراني عن حجر بن خلف قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت جنيد بن سبيع يقول: قاتلت رسول الله e أول النهار كافراً، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً، وفينا نزلت )وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ(، قال كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان، ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف وقال: كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة، وفينا نزلت )وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ(.

وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: )لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا(، يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين، لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلهم إياهم، فقد (أجل) الله تعذيب الكفار في مكة عام الحديبية لهذا السبب، يرجع ذلك (أن رسول الله e حين أحرم مع أصحابه لأداء العمرة، منعتهم قريش من دخول المسجد الحرام)، وكان بين كفار مكة في هذا الوقت، رجال من المؤمنين ونساء من المؤمنات يكتمون إيمانهم، (فأجل) الله تعذيب الكافرين في مكة حتى يخلص المؤمنين من بينهم لو تزيلوا حينئذ!!، أى لو تميزوا عنهم، لسلط الله عليهم رسوله e ومن معه من المؤمنين، فقتلوهم جميعاً دون تأجيل.

ولولا (تأجيل) هذا العذاب لأصابت المؤمنين معرة بغير علمهم، تلك المعرة حين يقتلون المؤمنين والمؤمنات في مكة دون قصد، ولو أمكن تمييز المؤمنين من الكافرين في ذلك الوقت، ما (أجل) الله عذاب الكافرين لحظة واحدة، ولعذبهم عذاباً أليماً بأيدى الرسول e والمؤمنين.

3. تبديل العذاب

قال تعالى: )وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ( (الحشر: الآية 3)، كتب الله على يهود بنى النضير الجلاء (بدلاً) من التعذيب، هكذا كتب الله عليهم، ولولا هذا (التبديل) لعذبهم الله في الدنيا بأيدي المسلمين، وبنو النضير هم طائفة من اليهود، كانت منازلهم بناحية من المدينة، حاصرهم رسول الله e على رأس ستة أشهر من موقعة بدر، حتى جلوا عن منازلهم، ومعهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة (وهي السلاح)، هكذا أجلاهم الله إلى الشام على يد رسول الله e (بدلاً) من تعذيبهم، أى بدل الله لهم العذاب بالجلاء، ولولا أن الله قد كتب ذلك (أى الجلاء) عليهم، لعُذَّبُوا في الدنيا بأيدي المؤمنين.

4. كشف العذاب

قال تعالى: )وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا( (الفتح: الآية 14)، يكشف الله العذاب عن المُعَّذبين، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، إن كشف العذاب أو استمراره بيد الله وحده، ولعل أقرب مثال عن (كشف العذاب)، بل وتكرار كشفه عن المعذبين، ما حدث لقوم فرعون حين جحدوا بآيات الله، حيث أرسل الله عليهم ألوانا من العذاب، منها (الطوفان) الذى أتلف الزروع والثمار، وجلب عليهم الخراب والدمار، فلما رجعوا إلى ربهم واستغفروه كشف عنهم هذا العذاب.

ولما عاودوا إلى ظلمهم ونكثوا العهد مع ربهم، أرسـل الله عليهم ألوناً أخرى من ألوان العـذاب وهي (الجراد والقمل والضفادع والدم)، قال تعالى: )فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ( (الأعراف: الآيات 133- 135).

هي سنة الله في كشف العذاب عن المعذبين، يُعذب من ينكث العهد معه، ثم يُكشفه عنه إذا تاب وأناب ورجع إليه، وكثرة وتنوع صنوف العذاب التي سلطها الله على قوم فرعون، إنما ترجع إلى أنهم كانوا ناكثوا العهد مع الله، لذلك كان الله يذيقهم في كل مرة لوناً من ألوان عذابه، (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم)، وكلها آيات مفصلات من ألوان العذاب الإلهي التي لا تحصى ولا تعد، يكشفها عنهم!!. ثم يسلطها عليهم، يكشفها عنهم إذا تابوا وأنوابوا، ثم يسلطها عليهم إذا نكثوا عهدهم وتمادوا.

5. تخفيف العذاب

من القواعد القرآنية الهامة: أنه لا يؤجل العذاب في الآخرة عن المعذبين ولا يخفف، لقوله تعالى: )خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ( (البقرة: الآية 162)، أما في الحياة الدنيا فقد يخفف الله عذابه عن المعذبين إلى النصف، كما في حالة إتيان الإماء بفاحشة الزنا، فهنا تخفف عقوبتهن إلى نصف ما على المحصنات من العذاب، هذا التخفيف إلى النصف الذى يقدره العلماء بخمسين جلدة، ونفي ستة أشهر (نصف عام)، هو نصف ما على الحرة من العقاب، لأن الواجب على الحرة إذا أتت فاحشة الزنا قبل الإحصان، جلدها مائة ونفيها حول أى (عام)، فالنصف من ذلك هو خمسون جلدة ونفي نصف عام، وذلك العقاب المخفف جعله الله عذاباً للإماء المحصنات إذا أتين بفاحشة، قال تعالى: )فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ( (النساء: من الآية 25)، إن نقصان عذابهن في الحدود يرجع إلى أنهن أضعف من الحرائر، ويقال لأن نعمتهن أقل فعقوبتهن أقل من الحرائر.

6. مضاعفة العذاب

العقوبة تجب على قدر النعمة، فمن كانت نعمته أكثر جعل الله عقوبته أشد، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي e: )يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا( (الأحزاب: الآية 30)، فكما أن الله I يخفف عذابه على من يشاء في الحياة الدنيا، فكذلك يضاعف العذاب في الحياة الدنيا على من يشاء، ويلاحظ أن (تخفيف العذاب) يكون في الحياة الدنيا فقط، لأن في الآخرة لا يخفف العذاب ولا يؤجل كما بينا من قبل. أما (مضاعفة العذاب) فيكون في الحياة الدنيا وفي الآخرة أيضاً، ونضرب بعض الأمثلة على ذلك.

أ. مضاعفة العذاب في الدنيا

قال تعالى: )وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ( (التوبة: الآية 101)، هكذا يضاعف الله العذاب للمنافقين مرتين في الدنيا، وفي الآخرة عذاب عظيم أعده الله لهم وبئس المصير، ومع مضاعفة العذاب قد تختلف الأساليب والوسائل والأدوات في كل مرة عن التي قبلها.

ب. مضاعفة العذاب في الآخرة

قال تعالى: )قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ( (الأعراف: الآية 38).

فبعد دخول أمم كثيرة من الجن والإنس في النار، وبعد أن يداركوا فيها جميعاً ويجتمعون، تطلب أخراهم من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم، الذين أضلوهم في الحياة الدنيا، فيجيبهم الله بأن لكلٍ منهم ضعف ولكنهم لا يعلمون.

هكذا العذاب!!. أنواع وطرق وألوان وأشكال وحالات... الخ، إن موضوع العذاب موضوع كبير ومهم، يحتاج إلى وقفة تأمل وتفكير وتدبر!!، فهو موضوع معقد ومتشعب!!، وعلى الظالمين الحذر من عذاب الله وعدم الإستخفاف بمجيئه، فعذاب الله يأتى للظالمين بغتة وهم لا يشعرون، أو جهرة وهم ينظرون!!.

وعذاب الله للظالمين هو آية وعبرة، يحذرنا الله منه، ويكرره علينا في القرآن الكريم ليؤكد لنا على مدى خطورته، يقول الله I: )فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( (القمر: الآية 16)، تلك الآيات التحذيرية تتكرر أربع مرات في سورة واحدة (سورة القمر)[1]، لتؤكد على أهمية التفكر ليس فقط في عذاب الظالمين!!، بل وعلى كيفيته أيضا!!، أي (كيف وقع؟!!)، تدبر قوله تعالى: )فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(، هذا التحذير والبحث عن الكيفية في العبارة القرآنية )فَكَيْفَ(، قد يغفل عنها الإنسان كثيراً، لكن الغريب أن عذاب الله يحدث أمامنا في كل مكان، لكننا لا نبحث عن كيفية حدوث هذا العذاب.





[1] كررت الآية )فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( أربع مرات في الآيات [16، 18، 21، 30] من سورة القمر، وتكرار هذا التحذير من رب العالمين، إنما يدل على شدة خطورته على الناس، وضرورة البحث عن الكيفية التي يعذب الله بها الظالمين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:29 pm



المبحث الرابع

أساليب العذاب ووسائله وأدواته في القرآن

في البداية عند الحديث عن العذاب أو الهلاك في القرآن الكريم، يجب معرفة (ثلاثة أشياء مهمة)، تلك الأشياء هى: (أساليب التعذيب ـ وسائل التعذيب ـ أدوات التعذيب)، فتلك الأشياء لوعلمنا عنها الشيء اليسير، لأدركنا أن العذاب أو الهلاك أمران محكما التدبير!!، يدبرهما الله العليم الخبير، فتلك الأشياء الثلاثة (الأسلوب ـ الوسيلة ـ الأداة) لا تحدث عشوائياً أو دون علم الله، بل إن كلها تحدث بعلم الله وبأمره وبحكمته وبتدبيره.

أولاً: الله يحدد الأسلوب

فعندما يُقدِر الله العذاب أو الهلاك على الظالمين، فإنه يحدد الأسلوب الذى يُعذَّب به المُعَذبون، أو يُهلك به الهالكون، (فالجوع والعطش، والإصابة والمرض... الخ)، هي أساليب قد حددها الله مسبقاً لمن كُتب عليهم (العذاب)، فهذا يعذبه الله بالجوع، وآخر يعذبه الله بالعطش، وثالث يعذبه الله بالإصابة، ورابع يعذبه الله بالمرض، وهكذا. (والخسف، والغرق، والرجم، والحرق... الخ)، كلها أساليب حددها الله مسبقاً لمن كتب عليهم (الهلاك). فهذا يهلكه الله بالخسف، وثاني يهلكه الله بالغرق، وثالث يهلكه الله بالرجم، ورابع يهلكه الله بالحرق!!، وهكذا. وملائكة العذاب أو الهلاك المنفذون للعقاب، يعلمون من الله تلك الأساليب قبل تنفيذها، ويتفهمون المهمة التى كلفهم الله بها فهماً عميقاً ودقيقاً، يطيعون أمر الله بكل دقة، فهم ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

ثانياً: الله يحدد الوسيلة

يحدد الله (الوسيلة) التى سوف تحمل أداة التعذيب أو الإهلاك، (كالأرض) في حالة الخسف، و(البحر أو الطوفان) في حالة الغرق، و(الطير الأبابيل) في حالة الرجم... الخ، وهذه الوسيلة التي حددها الله مسبقاً، لا يستطيع الملائكة الذين سينفذونها أن يبدلوها، أو يؤجلوها، أو يلغوها!!. تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا!، فهو القاهر فوق عباده، ويرسل عليهم حفظة، حتى إذا جاء أحد وقت موته وهلاكه توفته رسل الله المنفذون دون تفريط، قال تعالى: )وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ( (الأنعام: الآية 61).

ثالثاً: الله يحدد الأداة

1. أداة التعذيب: هي ذلك الشيء الذي يتم به التعذيب، فحين يكون (الجلد) أسلوباً من أساليب التعذيب، فإن الشخص القائم بالجلد يكون هو (الوسيلة)، ويكون (السوط) الذي يمسك به الجلاد هو الأداة.

2. أداة الإهلاك: هي ذلك الشيء الذي يتم به الإهلاك، فحين يكون (الإعدام شنقاً) أسلوباً من أساليب الإهلاك، فإن منفذ الإعدام يكون هو (الوسيلة)، ويكون (حبل المشنقة) هو الأداة.

هكذا كتب الله على المُعَذب بأسلوب (الجلد) أن يُعذب بهذا الأسلوب وبهذه الوسيلة وبتلك الأداة!!، وكذلك كتب الله على من حُكِمَ عليه بالإعدام شنقاً، أن ينفذ عليه الحكم بهذا الأسلوب وبهذه الوسيلة وبتلك الأداة... وهكذا، كما أن الله يحدد أداة التعذيب أو الإهلاك حتى لو كانت بفعل البشر، فالأمر كله بيد الله وبأمره وبعلمه I كما ذكرنا، فعند الله وحده مفاتح الغيب لايعلمها إلا هو، فكل شيء في كتاب مبين عند رب العالمين.. قال تعالى: )وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ( (الأنعام: الآية 59)، فلنتدبر قدرة الله تعالى لعلنا نقدره حق قدره !!، وحين يحكم الله بشيء فلا يشاركه في حكمه أحد، وإذا حكم الله على شيء فلا معقب لحكمه.

رابعاً: هلاك أصحاب الفيل كمثال لتوضيح الفرق بين الأسلوب والوسيلة والأداة في تنفيذ التعذيب أو الإهلاك

لكي تبقى تلك الفروق في الذاكرة، نضرب مثلاً بكيفية إهلاك الله لأصحاب الفيل، في قوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ( (الفيل: الآيات 1-5).

من تلك السورة يمكن أن نتبين (الأسلوب ـ الوسيلة ـ الأداة) بيسر ووضوح، فتلك السورة القصيرة تبين وتوضح بصورة مبسطة (الأساليب والوسائل والأدوات) التي يعذب الله بها المعذبين أو يهلك بها الهالكين، ويمكن بواسطتها (القياس) على ذلك كل ما ورد في القرآن الكريم من قصص تعذيب أو إهلاك للقرى الظالمة، أو قصص التعذيب والإهلاك التي تحدث من حولنا في زماننا، واستخلاص (الأساليب والوسائل والأدوات) التي عذب الله بها وأهلك الظالمين في الماضي، والتي يعذب الله بها ويهلك الظالمين في الحاضر والمستقبل، فهي سورة لا يقف الكثيرون عندها لمعرفة (كيفية) إهلاك أصحاب الفيل، لقوله تعالى: )أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(، فهو سؤال من الله في بداية السورة، يدعونا إلى التفكير في (الكيفية) التي أهلك الله بها أصحاب الفيل!!، والبحث عن الأسلوب والوسيلة والأداة التي تم بها إهلاكهم، فمن تلك السورة يمكننا دائما أن نتذكر الآتي:

1. أسلوب التعذيب أو الإهلاك

هو نوع العقاب الذي يقع على المعاقبين، ويعد الأسلوب الذي عاقب الله به أصحاب الفيل، هو (الرجم)، لأن الرجم هو الرمي بالحجارة (اُنظر شكل أسلوب إهلاك أصحاب الفيل)، إن (الرجم) هو الأسلوب الذي حدده الله لإهلاك أصحاب الفيل، فأرسل عليهم طيراً أبابيل لترميهم بحجارة من سجيل، فهو الأسلوب المناسب الذي أراده الله لإهلاكهم، فإذا أُلقيت عليهم حجارة من سجيل، فإنها ستجعلهم كالعصف المأكول، وهو شكل الخاتمة التى يريدها الله I لهم أيضا، ولتكون عبرة لغيرهم من بعدهم، وليقول لنا الله I أيها الناس (ألم تروا كيف فعلت لكم بأصحاب الفيل؟!، لقد أرسلت عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل، فهل خطر على بالكم هذا الأسلوب؟)، ولو حدد الله I أسلوباً آخر لإهلاكهم كالغرق مثلاً، لسلطه عليهم فوجدوا المياه تغمرهم من كل مكان، وتأتيهم من فوقهم ومن تحت أقدامهم كما فعل الله I بقوم نوح u من قبل.

2. الوسيلة

الوسيلة هي (الطير الأبابيل)، فهي الشيء الذي يحمل أداة التعذيب أو الإهلاك (اُنظر شكل الطير الأبابيل).

3. الآداة

الأداة هي (الحجارة التي من سجيل)، وهي التي تم بها تنفيذ الإهلاك المباشر لأصحاب الفيل (اُنظر شكل حجارة من سجيل).

4. أمثلة لبعض (أساليب ووسائل وأدوات) التعذيب أو الإهلاك التى تستخدم ضد البشر

هناك أساليب كثيرة تستخدم لتعذيب أو إهلاك البشر، وهناك وسائل وأدوات أكثر!!، وتتطور أساليب التعذيب أو الإهلاك ووسائلهما، كلما تطورت أدواتهما على مر العصور، فعلى سبيل المثال:

كان الناس قديماً لا يعرفون سوى (السهم والسيف والخنجر) من أنواع أدوات تعذيب الأخرين أو إهلاكهم، أما في العصر الحديث فقد أصبحت تلك الأدوات أكثر تطوراً وضراوة، وتسابقت الدول نحو إنتاج أو امتلاك الطائرات والدبابات والمدافع والرشاشات، وكذلك إنتاج أو امتلاك الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية وغيرها، وكلها أدوات أصبحت الآن شائعة ومستخدمة بدلاً من (السيف والسهم والخنجر)، تلك الأدوات القديمة التى لا تكاد تراها أو تسمع عنها في الحروب الحديثة، ولا نراها إلا في بعض الأفلام القديمة وكتب التاريخ، فقد أصبح الإنسان الآن في غنى عن تلك الأدوات التى عَفَا عليها الزمن، والتى لم يعد لها مكان بعد هذا التطور المذهل في إنتاج أدوات التعذيب وآلات الحرب والدمار.

وقد أدى هذا التطور في (الأدوات) إلى تطور في الوسائل والأساليب بطبيعة الحال، ولا يمكننا حصر الوسائل أو الأساليب المستخدمة للتعذيب أو الإهلاك في هذا العصر، يرجع ذلك إلى الكم الهائل من الإنتاج المتنوع لأدوات التعذيب أو الإهلاك، والتى يتفنن ويتسابق البشر في إبتكار كل جديد فيها، خاصة في ظل التقدم التكنولوجى الهائل الذى يشهده العالم الآن.

ولا نستطيع أن نغوص في هذا المجال، كما يغوص فيه العلماء المتخصصون، الذين يمارسون تلك الأساليب والوسائل مع الآخرين، (كالعاملين بأجهزة المخابرات والأمن في البلدان المختلفة والدول المتقدمة)، والذين تتطلب طبيعة عملهم استخدام كل فنون التنكيل والتعذيب، لانتزاع الاعترافات من المجرمين أو الأسرى، هذا بخلاف الممارسين لتلك الفنون بطرق غير مشروعة وغير أخلاقية، كعصابات المافيا والمجرمين، وقوات الاحتلال في الدول المحتلة على كل مَن هم تحت سيطرتهم وقبضتهم.

وسنضرب بعض الأمثلة لتلك الأساليب والوسائل للتقريب، ونترك للقارىء بعد ذلك متابعة الجديد في أساليب ووسائل التعذيب وأدواته، من خلال الصحف اليوميه، والمجلات الأسبوعية، وعبر شاشات التلفزيون والأقمار الصناعية، وجميع وسائل الإعلام الأخرى في كل مكان في العالم، فموضوع التعذيب والإهلاك هو موضوع دائم وأبدى لا ينتهي.

عرَّف الله ملائكته قبل خلق آدم u بأن البشر سفاكون للدماء، ومفسدون في الأرض، قال تعالى: )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ( (البقرة: الآية 30)، أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة، وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله، ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين.

وقد وصفهم الله I بأنهم لا يسبقونه بالقول، أي لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه، وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً. قال قتادة وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا: )أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ(، فهذا ليس على وجه الاعتراض وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء؟، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك أي نصلي لك.

قال ابن جريج إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم u، فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وقال ابن جرير وقال بعضهم، إنما قالت الملائكة ما قالت: )أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ(، لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها، وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم!؟، فأجابهم ربهم إني أعلم ما لا تعلمون، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموه عن ذلك، فكأنهم قالوا يا رب خبرنا، مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار.

ومنذ أن هبط آدم u علي الأرض والبشر يقاتل بعضهم بعضاً، منهم من يفسد في الأرض ومنهم من يسفك الدماء، وسيبقى هذا الأمر دائما إلى يوم الدين!!.. وقد حدد الله العقاب اللازم لكل ظالم يفسد في الأرض ويسفك الدماء، حدد لكل عقاب أساليبه ووسائله وأدواته!!، فلا وجه للتعجب مما يحدث الآن على هذا الكوكب من فساد وسفك للدماء!!، ويستطيع المرء ببساطة شديدة، وبعد الأمثلة التى ضربت عن أصحاب الفيل، وبعد رؤية مشاهد التعذيب والإهلاك التي يقوم بها البشر على الأرض، أن يحدد بنفسه الأتي:

· الأسلوب الذي تم به التعذيب أو الإهـــــــلاك.

· الوسيلة التى تحمل آداة التعذيب أو الإهــــلاك.

· الأداة التى ينفذ بهاالتعذيب أو الإهــــــلاك.

وسوف نعرض بشيء من التفصيل، أمثلة لبعض تلك الأدوات التي يسلطها الله على الناس، مثل (الريح ـ الجفاف ـ الجراد ـ جنون البقر ـ حمم البراكين، وغير ذلك من أدوات العذاب الإلهية)، وأمثلة أخرى من أدوات التعذيب التي يسلطها الناس على الناس أو الكائنات، والتي بعضها مادي (كالحبال والعصي وغيرها)، وبعضها معنوي كالحبس والإذلال وغير ذلك).

وقد تتشابه أدوات التعذيب مع أدوات الإهلاك وقد تختلف، بحيث ما يصلح لهذا لا يصلح لذاك، فمثلاً (السكين) هي أداة يمكن استخدامها في تعذيب الأشخاص، ويمكن استخدامها أيضاً في إهلاكهم، بينما (القيد الحديدى) وهو أداة من أدوات التعذيب، لا يصلح استخدامه أداة للإهلاك.

وقد تتناسب أدوات التعذيب مع نوع المنطقة من الأرض، فعلى سبيل المثال قاطنو مناطق (البراكين) يذوقون عذاب حممها الملتهبة الناتجة عن ثورة براكينها، وهذا النوع من العذاب قد لا يعرفه من لا يسكن تلك المناطق أو يزورها، وكذلك سكان (المناطق الجليدية) فإنهم يذوقون نوعاً آخر من العذاب، ذلك العذاب الناتج عن الانهيارات الجليدية وأثارها المفزعة، وهذا النوع أيضاً لايعرفه إلا سكان تلك المناطق، وهكذا قد ترتبط أدوات العذاب بطبيعة المنطقة من الأرض.

وهناك صنفان من أدوات العذاب

أ. أدوات العذاب التي يسلطها الله على الناس

من المعروف ومن البديهي أن الإنسان لا يستطيع أن يرسل بالرياح، أو يوقف المطر، أويأتى بالجفاف، كما لا يستطيع الإنسان أيضاً أن يسلط الجراد على البلاد، أو يفجر البراكين ويهيل جبال الجليد، أو يخلق الأمراض كالإيدز وجنون البقر والحمي القلاعية والجمرة الخبيثة... الخ، فكل تلك الأمور لا يقدر عليها إلا الله وحده خالق كل شيء، وإن كان I قد سخر الريح من قبل لنبيه سليمان u، فإنه لم يسخرها له لتعذيب أو إهلاك أو الإضرار بالآخرين، بل سخرها له لتجرى بأمره رخاء حيث أصاب، قال تعالى: )فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ( (ص: الآية 36).

(1) أمثلة لبعض أدوات العذاب التى يسلطها الله على الناس

(أ) الرياح

نضرب مثلا برياح الخماسين ورياح السموم، من أدوات العذاب التى يسلطها الله على الناس، ونشاهد ونتلمس تأثيرهما على من تهب عليهم من البشر، وهما من الرياح التى يُدخلها العلماء تحت مسميات الأخطار والكوارث الطبيعية.

· رياح الخماسين

تهب على القسم الشمالي من مصر، وتصل حرارتها إلى 45 درجة مئوية أثناء الربيع، وهي رياح محملة بالرمال والتراب وتستمر من يومين إلى ثلاثة أيام، وتؤدي إلى تلف النباتات، وحجب الرؤية، واختناق الحيوانات، وتلوث البيئة، وانتشار الأمراض.

· رياح السموم

تماثل رياح الخماسين التى تهب على مصر، وهي تهب على الجزيرة العربية، وتؤدى إلى إصابة عدد كبير من السكان بأمراض الجهاز التنفسي، وإلى تلوث الجو، وتعطل حركة النقل.

والرياح أداة خطيرة للغاية إذا أرسلها الله على قوم، سواء كانت لتعذيبهم أو لإهلاكهم، فقد تأخذ تلك الرياح خصائص أخرى غير التى نعرفها، فالله قادر على أن يجعل خصائصها أشد وأعتى مما هو معروف لدينا. ألم تر كيف فعل الله بعاد، إرم ذات العماد، التى لم يُخلق مثلها في البلاد ؟!.

قال تعالى: )وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ( (الحاقة: الآيات 6-Cool. لقد سلط الله عليهم ريحاً صرصراً عاتية، سخرها عليهم سبع ليالى وثمانية أيام حسوماً، رياح فيها عذاب وفيها الهلاك في آن واحد، لا شك أنهم خلال تلك الليالي السبع عُذبوا عذاباً رهيباً، ثم في النهاية أهلكهم الله جميعاً!!.

وقال تعالى: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( (الأحقاف: الآيتان 24، 25)، ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بإذن ربها.

فإذا هبت الريح من حولنا، يجب أن نتذكر أحوالنا، وأحوال من عذبهم الله بها من قبلنا، ولا تمر الرياح علينا هكذا دون تدبر، فإنما يذكرنا الله بها وبعذابها، فرياح قوم عاد كانت تدمر كل شيء، ولا تترك من شيء أتت عليه إلا أفسدته وجعلته كالرميم!، قال تعالى: )وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ( (الذاريات: الآيتان 41 و42)، فلا تأمنوا لها حين ترونها!!، ففيها رحمة الله وفيها عذابه.

(ب) الجفاف

هو حدوث انخفاض في فاعلية المطر، وليس في كميته وهذا النوع من الجفاف يُحدِث أزمات اقتصاديه في الدول، ويدفع الكثير من سكانها إلى الهجرة، بل قد يضطر السكان في بعض القرى لأكل الحيوانات البرية وأوراق الشجر وغيرها، وقد يسبب الجفاف خسائر هائلة في الثروة الحيوانية.

(ج) الجراد من أشد أنواع الحشرات فتكاً بالمحاصيل الزراعية التي يهاجمها، والجراد سلطه الله على قوم فرعون من قبل، يطير في أسراب على شكل سحابة، تصل مساحتها إلى حوالي20 كم2، ويقطع مسافات كبيرة تصل إلى 2200 كم دون توقف، ويأتي الجراد على مساحات شاسعة من الأراضي الخضراء، قد يصل بها إلى حد أكل الجراد للحاء الشجر بما فيها النخل[1]، ولعل ضخامة الفقد في المحاصيل الزراعية نتيجة الهجمات الشرسة من الجراد، هي التي جعلت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، تقف أمام الأرقام مندهشة[2]!!0

(د) جنون البقر والحمى القلاعية

انتشر هذا الوباء في أواخر القرن العشرين، وأوائل القرن الحادي والعشرين، عذب الله به بريطانيا على وجه الخصوص، وكثيراً من دول العالم على وجه العموم، هذا الوباء الذي يصيب الماشية وخاصة الأبقار، ويؤدى إلى جنونها أو وفاتها، وما يسببه ذلك من أضرار بالغة على الحيوانات الأخرى وعلى صحة الإنسان، هذا النوع من العذاب الذى سلطه الله على بريطانيا، جعل إنتاجها الوفير من الثروة الحيوانية، والذي يشكل ركناً مهماً في اقتصادها القومي، قد أجبر بريطانيا على القيام بتبديده طواعية خشية انتشاره، بل كانت تسابق الزمن للتخلص منه، حيث قامت بإعدام ملايين الأبقار بيدها لتزداد حسرتها حسرة، ويزداد عذابها عذاباً، فهذا الخير الذي كان لديهم من الماشية والأبقار، انقلب إلى عذاب من العزيز الجبار!!. فقد ذهب جهدهم هباء!!، بعد أن أنفقوا على تربية الأبقار والماشية مبالغ طائلة، عملوا على إعدامها بأنفسهم طواعية (ياله من عذاب!!!).

(هـ) حمم البراكين

هذا النوع من (أدوات العذاب)، يعد أيضاً من (أدوات الهلاك)، وذلك نتيجة أن البراكين لها علامات ومؤشرات تسبق انفجارها[3]، وتؤدي تلك العلامات والمؤشرات، إلى إمكانية تحذير السكان بالابتعاد عن مناطق البراكين الثائرة، قبل حدوثها بوقت كاف، ففي حالة إمكانية تحذير سكان المنطقة عن بداية علامات ثورة البراكين، يكون هناك وقتاً متاحاً للسكان لترك المنطقة، فيُعذب سكانها ولا يهلكون!!، يرجع ذلك نتيجة هذا التحذير المبكر، يُعَذَّبُون بتركهم منازلهم ومتاعهم، والبحث عن مكان جديد لإيوائهم، ويعذبون أيضاً نتيجة هجرتهم لمواطنهم لفترة من الزمن، بعد حياة استقرار كانوا ينعمون بها.

أما في حالة ثوران البراكين مفاجِئة، فإن حمم البراكين في هذه الحالة قد تكون أداة من أدوات الإهلاك المؤكدة، حيث يكثر عدد القتلى، ويعم الخراب والدمار، إضافة إلى الخسائر المادية الرهيبة التى تلحق بهم!!، ونظراً لندرة حدوث انفجارات بركانية وعدم تكرارها على فترات قصيرة، فقد تسبب ذلك في إيجاد حالة استرخاء بين السكان، وجعلهم يأمنون الحياة هناك وينخدعون بحالة الهدوء البركاني، ويتمادون في إقامة مساكنهم بجوار البراكين أو فوق سفوحها يوما بعد يوم، ويتعايشون هناك آمنين مطمئنين طالما ظلت تلك البراكين خامدة!!.

(و) الأموال والأولاد

الأموال والأولاد نوع من أدوات العذاب أيضاً، يسلطها الله على الناس، فمن الأموال والأولاد ما يعذب الله بها الناس في الحياة الدنيا، لقوله تعالى: )فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ( (التوبة: الآية 55)، راقب الناس وهم يُعَذبون في الدنيا بأموالهم وأولادهم من حولك!!، إذهب إلى البورصة وشاهد عذاب الخاسرين لأموالهم، وأذهب إلى دور المسنين واستمع إلى حكاياتهم مع أبنائهم!!.

تلك بعض أنواع الأدوات التى يعذب الله بها الناس، وعند الله المزيد!، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن بعض هذه الأدوات، مثل طوفان والقمل والضفادع والدم... الخ، والله قادر على أن يبعث على الإنسان العاصي عذاباً عجيباً وغريباً وغير مألوف، فعندما طلب الحواريون من عيسى u أن يدعو الله لينزل عليهم مائدة من السماء، أجاب الله مطلبهم، ثم هددهم بعذاب لا يذوقه أحد من العالمين: )قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ( (المائدة: الآية 15). تدبر قوله تعالى: )فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ(، أي عذاباً غير مألوف.

والله I لا تنتهي أدوات عذابه، فهي أدوات كثيرة لاحصر لها ومتنوعة ولا تخطر على قلب بشر، وإذا أردت أن تعلم قدرة الله في عقاب البشر بأدوات مختلفة وغير مألوفة، فتدبر قوله تعالى: )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( (الأنعام: الآية 65)، تأمل قوله تعالى: )قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ(.

إن عذاب الله للناس في الحياة الدنيا ليس بالموضوع الهين، بل هو موضوع مهم وخطر يحتاج منا إلى وقفة وتدبر وتأمل!!، فلعل التأمل يشفي صدور المظلومين، ويجعل الظالمين محاصرين بصنوف من عذاب الله التي لا تعد ولا تحصى وهم لايدرون!!، ويجب أخذ التحذيرات الواردة في كتاب الله عن عذابه I مأخذ الجد، فقول الله I فصل وما هو بالهزل!!.

(2) أمثلة لبعض أدوات العذاب التى يسلطها الناس على الناس وعلى الكائنات الأخرى

إن عذاب الناس للناس والكائنات الأخرى، أمر نسمعه ونراه في كل مكان وفي كل وقت، وأدوات العذاب قد يدخل فيها (الإنسان نفسه وشهواته)، فإن ما نقرؤه في الصحف المحلية والإقليمية والعالمية من حوادث الاغتصاب، والاختطاف والحبس والاعتقال، والسرقة والنهب، وإيذاء بعض الكائنات الأخرى، كالحيوانات والطيور والنباتات، إنما هي صور لبعض أشكال التعذيب التي يكون أداتها هو الإنسان نفسه.

أما إذا استخدم الإنسان بعض أدوات التعذيب، فيتحول (الإنسان) في هذه الحالة من أداة للتعذيب، إلى وسيلة من وسائله، وهذا التحول هو فن من فنون التعذيب، يبرع في استخدامها المجرمون المحترفون !!، وهذان مثالان لأدوات التعذيب البدني والنفسي التي قد يستخدمها الإنسان في تعذيب الأخرين:

(أ) أداة تعذيب بدني (ماء النار)

يعد ماء النار أداة من أدوات التعذيب القبيحة، فهي تسبب عذاباً قاسياً للمُعذَب، وقد يأخذ عذابه صفة الدوام لعظم الإصابة به، ذلك لأن المصاب في هذه الحالة يعانى من عذاب مزدوج (عذاب نفسي) نتيجة التشوه بماء النار وتقبيح شكله، و(عذاب جسدى) مؤلم ناتج عن الإصابة بالحروق الناتجة، تصور بشاعة أداة التعذيب هذه!!، وبشاعة أسلوبها ووسيلة تنفيذها!!، فإن تأثير ماء النار على أماكن مهمة كالعين مثلاً، تجعل المصاب فاقداً فقداً دائماً للبصر، فلا يستطيع الرؤية كما كان من قبل، وقد يصاب أيضاً بحالة من الانطواء والاكتئاب والبعد عن الآخرين، فيكون بذلك قد عُذب عذاباً مضاعفاً (عذاب بدني، وعذاب نفسي) في آن واحد.

(ب) أداة تعذيب نفسي (اللسان)

يعد اللسان أداة من أدوات التعذيب النفسي المؤلمة، فاللسان له مفعول السحر مع الآخرين، فبقدر ما يصدر عنه أحلى الكلام، وتنطلق من خلاله روائع الأنغام، فإنه في نفس الوقت قد يكون أداة بشعه للتعذيب النفسي للإنسان، فعندما يتعرض عامل من العمال للسب والإهانة وبذاءة اللسان من صاحب العمل، وعندما تخرج من اللسان بعض كلمات التوبيخ والتحقير من إنسان إلى إنسان، فإن ما يخرج من هذا اللسان يترك أثراً سيئاً في نفس الإنسان الآخر، وهذا يؤدى إلى الدخول في مرحلة تعذيب نفسي طويلة، وهذا النوع من العذاب قد يستغرق بعضاً من الوقت حتى تزول أثاره.

والأمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها جميعاً، لكننا نسمعها ونقرؤها ونشاهدها يومياً في وسائل الإعلام المختلفة، نسمع عن المُعَذبين نتيجة تعاطى المخدرات والإدمان، ونسمع عن المعذبين بسبب البطالة والحرمان، ونسمع في نفس الوقت عن المعذبين بتكسير العظام وقطع الأطراف، كما يحدث الآن في مناطق الصراعات، وكلها أمثلة تبين أدوات لتعذيب الإنسان للإنسان.

لقد ذُكرت كلمات العذاب بمشتقاتها في القرآن الكريم 373 مرة، وقد آن الأوان أن ينتبه الإنسان إلى موضوع العذاب الوارد في القرآن الكريم، ولا يظن البعض أن الزلازل والبراكين هي كلمات الطبيعة كما يتصورها الدهريون، وأنها ظواهر تظهر عشوائياً بفعل الطبيعة كما يعتقدون، فالحقيقة أنها إنذارات من الله وفرص للتائبين، قبل أن يلاقوا عــذاب الآخرة وبئس المصير، قال تعالى: )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (Cool فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا( (الطلاق: الآيتان 8 و9).



[1] حدث ذلك في الأراضي المصرية خلال فترات من عامي 1914، 1915.

[2] السودان: 90 ألف هكتار فقد في المحاصيل عام 1992.

إثيوبيا: 54 ألف هكتار فقد المحاصيل عام 1992.

الصومال: 32 ألف هكتار فقد في المحاصيل عام 1992.

[3] من المؤشرات التي تسبق الانفجار البركاني: ارتفاع درجة الحرارة لمياه الغدران، مع زيادة في نسبة الكبريت، حدوث هزات أرضية خفيفة تزداد تدريجياً، انصهار الثلوج والجليد على السفوح العليا للبركان، سلوك غير مألوف لبعض الحيوانات والطيور بمنطقة النشاط البركاني.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:31 pm


الفصل الثاني

الهلاك في القرآن الكريم

نتعرض لمعنى الموت أو الهلاك، والفرق بين الموت الفردي الإرادي وغير الإرادي، وبين الموت الجماعي، كما نركز على أساليب الموت ووسائله وأدواته، ومن الذين يستثنيهم الله من التعذيب أو الإهلاك؟

وقد عرض القرآن الكريم العديد من أساليب إهلاك القرى الظالمة، ومنها ماذكر في الآية (40) من سورة العنكبوت صراحة عن بعض تلك الأساليب مثل (الحاصب ـ الصيحة ـ الخسف ـ الغرق).

إهلاك القرى الظالمة هو تصور من الخيال وليس كما وقع بالتفصيل، وهو نوع من التدريب على تحريك البصائر وتشغيلها، فلقد أعطانا الله I البصائر فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها، تلك البصائر التى يستوى فيها الأعمى والبصير، بل قد يكون للأعمى بصيرة أقوى وأنفذ مما عند المبصر، وتلك هي (حلاوة القرآن الكريم)، يترك لك الخيال في تصور الأحداث في إطار آياته، سواء ما ذكر عن قصص إهلاك القرى الظالمة أو تعذيبها، أو غير ذلك من غيبيات كالتى تتحدث عن الملائكة والجان، أو عن السماوات وكيفية بنائها، أو عن الآخرة وعذابها ونعيمها وروعة جناتها)، أو عن أشياء أخرى لانعلمها عن الحياة الدنيا وعن الآخرة.

وفي قصص إهلاك القرى الظالمة نتخيل الأحداث، كما يصورها لنا القرآن الكريم (دون شطط أو خروج عن آيات الله المذكورة، أو عما ذكره علماء التفسير، أو ما ذكرته المراجع عن قصص الأنبياء، وتشغيل البصائر يساعد كل من يحاول تدبر كتاب الله على معايشة آياته، وما ذكر من أحداث عن الأمم السابقة كما تصورها لنا آيات القرآن الكريم. فبالبصيرة يمكن للمرء أن ينتقل من عالم الوهم والخيال الذي نعيشه اليوم، إلى عالم الحقيقة واليقين.

كما نتعرض لنوعين من أدوات الإهلاك، النوع الأول أدوات يسلطها الله على الإنسان، والنوع الثاني أدوات يسلطها الإنسان على الإنسان أو الكائنات الأخرى.






المبحث الخامس

معنى الهلاك أو الموت ـ المستثنون من التعذيب أو الإهلاك

أولاً: معنى الهلاك أو الموت

1. الهلاك

هو الموت للإنسان والفناء للأشياء، كهلاك المال كما في قوله تعالى: )يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا( (البلد: الآية 6)، وكهلاك السلطان كما في قوله تعالى: )مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ( (الحاقة: الآيتان 28 و29).

والهلاك في اللغة: بمعنى الموت، (هَلَكَ) فلان ـ هلاكاً ـ وهلوكاً ـ ومهلكاً ـ وتهلكة: مات فهو هالك، والجمع (هلكى)، و(أهلكه) بمعنى صار هالكاً، و(تهالك على الشيء) بمعنى أقبل عليه في حرص شديد، و(تهالك فلان على الفراش) بمعنى ارتمى عليه، و(اسْتَهْلَك في كذا) بمعنى جهد نفسه فيه، وينطبق ذلك على المال ونحوه.

2. الموت
هو الهلاك للإنسان، وتتعدد أساليب الموت ووسائله وأدواته، بينما يكون وقت الموت ومكانه واحد!!، وينطبق ذلك على حالة الموت الفردي أو الموت الجماعي.

أ. الموت الفردي

نحن نشيع الموتى في كل يوم وكل ساعة، بل وفى كل لحظة من اللحظات، ومع ذلك لا نتدبر أساليب الموت ووسائله وأدواته، ونمر على تلك الأشياء مرور الكرام. ومن أمثلة الموت الفردي موت الإنسان على فراشه، أو نتيجة مرضه، أو نتيجة حادث... الخ.

ب. الموت الجماعي

لا يختلف عن الموت الفردي سوى، أن الله يجمع كل الذين تحددت أوقات آجالهم، وأرض موتهم في وقت ومكان واحد، مثل سقوط العمارات والطيارات، وانقلاب القطارات والسيارات، وغرق السفن والغواصات... الخ، هذا الموت الجماعى نراه من خلال الحوادث والكوارث والنكبات، ومن خلال الحروب والصراعات!!.

(1) تأمل الطائرات التى تسقط بركابها !!.

(2) تأمل السفن التى تغرق في البحار بكامل أحمالها !!.

(3) تأمل الغواصات التى تغوص في أعماق البحار باطقمها، ولا تعود بعدها أبداً إلى سطحها !!.

(4) تأمل الحوادث على الطرقات، وانقلاب القطارات والسيارات !!.

(5) تأمل حوادث خسف الأرض وسقوط العمارات !!.

(6) تأمل ماذا تفعل الأعاصير والرياح العاتيات، وغيرها من الحوادث والكوارث والنكبات ؟!!.

(7) تأمل مالذي تفعله الحروب بالجنود في ميادين القتال؟!!.

هكذا يتجمع الذين كُتِبَ عليهم الموت في مكان واحد ووقت واحد، وفى وسيلة واحدة للقاء حتفهم، لايدرون أن ملك الموت الموكل بهم ينتظرهم، متحفزاً لأخذ آجالهم وقبض أرواحهم، هؤلاء لايشعرون ما يدبره الله لهم من حولهم!.

ج. فإذا جاءت ساعة موتهم لا يستقدمون عنها ساعة ولا يستأخرون

قد يكون هناك تفاوت في أسلوب الموت، حتى وإن كان في مكان واحد أو في وقت واحد أو في وسيلة واحدة!!، تماما كما حدث في سقوط برجي نيويورك، في سبتمبر 2001، على سبيل المثال، فبرغم سقوط البرجين في وقت واحد ومكان واحد إلا أن أساليب الموت كانت مختلفة، كما قد يوجد تفاوت زمني في قبض الأرواح حسب الأجل الذي قضاه الله لكل نفس، قد يقدر هذا التفاوت الزمني بين الهالكين أو الموتى، بالثواني أو بالدقائق أو بالساعات، وقد يكون أقل من ذلك أو أكثر. وهناك جانب آخر لا يمكن إغفاله، أن من كتب الله له النجاة من الموت، فلا بد أن ينجو، كالذين نجوا وخرجوا أحياءً من تحت الأنقاض، في كل من نيويورك وواشنطن.

إن جنود الله من الملائكة الموكلين بقبض الأرواح، يقومون بمهام متعددة في الوقت والمكان، وبالأسلوب والوسيلة والأداة التي قدرها الله لكل نفس، ينفذون أمر ربهم في انضباط تام، بحسابات دقيقة ومعقدة وفوق مستوى تفكير البشر!!، ولا تحدث تلك الأحداث التي نراها في كل يوم وفى كل مكان، حدوثاً عشوائياً أو دون علم الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فكل الحوادث تحدث بعلمه I وبإذنه، وجنود الله من الملائكةً المنفذين، يعلمون وقت التنفيذ ومكانه وأساليبه ووسائله وأدواته من الله العلي الكبير، كما يعلمون أيضاً كيف ومتى يُخرِجُون الناجين من بين الهالكين، فإن الله يحيطهم بشيء من علمه في هذه الأمور لينفذوها على أكمل وجه، فكل شيء عند الله بمقدار، وموت البشر له تدابير وترتيبات، ومراسم وتوقيتات، تتم كلها طبقاً لمشيئته، ينفذها جنود غير مرئيين في الأرض وفي السماوات.

وهناك تحذير: فإن هؤلاء الجنود من الملائكة لا تنفع معهم سياسة الوسائط أو الحيل، ولا التقرب إليهم بالهدايا أو بكلمات الاستحسان، فكل تلك الأمور لا تصلح معهم، فهم جنود غلاظ شداد حازمون، وفى تنفيذ أمر ربهم لا يترددون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

3. أساليب الموت

أسلوب الموت هو الطريقة التي أدت إلى الموت، ويوجد العديد من أساليب الموت أو الإهلاك (كالحرق والغرق والتردى والخسف... الخ)، وقد نص القرآن الكريم على بعض تلك الأساليب التى أهلك الله بها القرى الظالمة، منها الحاصب، والصيحة، والخسف، والغرق، كما جاء في قوله تعالى: )فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (العنكبوت: الآية 40)، فكلها أساليب للموت قضى الله I بها على الظالمين.

وهناك أساليب للموت الفردي الإرادي، أى بإرادة الشخص نفسه كالذي يقبل على الانتحار مثلاً، وهي أساليب كثيرة ومتعددة، منها الخنق حين يشنق الشخص نفسه بإرادته بغرض الانتحار، ومنها الحرق حين يُشعل الشخص النار في نفسه بإرادته بغرض الانتحار أيضاً، ومنها التردي حين يسقط الشخص نفسه عنوة من فوق أحد المباني العالية، ومنها الاختناق وذلك حين يقوم بفتح أنبوبة غاز مع غلق النوافذ والأبواب حتى يختنق، وكلها أساليب نسمع عنها في أخبار الحوادث اليومية.

وهناك أساليب للموت الفردي غير الإرادي، أى دون إرادة الإنسان نفسه، وهو ما يطلق عليه باللفظ العامي "مات قضاءً وقدراً"، وتلك الأساليب لا تكون باختيار الشخص قبل موته، كما في حالة الموت الفردي الإرادي، الذي يقوم الشخص باختيار أسلوب موته بإرادته، ومن أساليب الموت غير الإرادي، ما نراه ونسمعه عن حوادث الطرقات، حين تصدم سيارة مسرعة شخصاً سائراً في الطريق العام فتصرعه، أو سقوط شخص في حفرة غير متوقعة فتهلكه، أو سقوط شخص وهو يقود دراجته فجاة فيلقى مصرعه، والأمثلة كثير لأساليب الموت الفردي الإرادي وغير الإرادي.

وما ينطبق على أساليب الموت الفردي ينطبق على أساليب الموت الجماعي، والاختلاف بينهما ينحصر في وجود عدد من الأشخاص في وسيلة واحدة كالسيارات أو القطارات أو الطائرات أو في العمارات، فيموتون جميعاً بأسلوب واحد حين تنقلب تلك الوسائل بهم أو تحترق، والاختلاف الآخر هو أن أساليب الموت الفردي الإرادي يحدد فيها الشخص نفسه أسلوب موته أو هلاكه، بينما في أساليب الموت الجماعي لا يوجد اختيار لأساليب الموت من الأشخاص الذين يموتون أو يهلكون. وذلك في غالب الأمر!!.

4. وسائل الموت

وسائل الموت هي الأشياء التي تحمل أداة الموت أو الإهلاك، وهناك العديد من وسائل الموت سواء كانت وسائل تحمل الفرد أو تحمل الجماعة، كالدراجات، والسيارات، والطائرات، والسفن، والغواصات، وأيضا الدبابات والمجنزرات، والأبراج العمارات... الخ، فكلها وسائل تحمل فرداً أو جماعة من البشر، ثم تنقلب عليهم لتصبح هي وسيلة إهلاكهم أو موتهم، وأحياناً يكون الإنسان نفسه هو وسيلة الإهلاك أو الموت، وذلك حين يحمل هو أداة من أدوات الإهلاك، كالسيف والبندقية والخنجر ليهلك بها غيره.

5. أدوات الموت

أدوات الموت هي الأشياء التي بواسطتها يجري إهلاك الأخرين، كالسيف والخنجر والبندقية... الخ، وأحياناً تكون يد الإنسان نفسه هي أداة من أدوات الموت، ذلك حين يستخدمها الإنسان في قتل الأخرين كالخنق على سبيل المثال.

ثانياً: المستثنون من التعذيب أو الإهلاك

1. أهل الحق والعدل

يستثني من التعذيب أو الإهلاك (أهل الحق والعدل) الذين لا يظلمون، قال تعالى: )وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ( (القصص: من الآية 59)، فإن لم يَظلِموا لن يُهْلَكُوا، وتلك عدالة الله فلا يُهْلَك أهل قرية بغير ذنب، والله عليم بالظالمين، يراقبهم ولا يرونه، يسمعهم ولا يسمعونه، يمهلهم ولا يشكرونه.

إن الظالمين يتلاعبون ويمكرون والله خير الماكرين، ينكرون الجنة والنار ويتناسون العزيز الجبار. يعطيهم الفرصة بعد الأخرى كى يرجعوا إليه، فإن رجعوا إليه قبلهم وعفا عنهم وأبعدهم عن عقابه، وإن استمروا في غيهم، وانقلبوا على أعقابهم نكل الله بهم وأهلكهم، ولقد أهلك الله القرون من قبل لما ظلموا من بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، كذلك يجزى الله المجرمين، قال تعالى: )وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( (يونس: الآية 13).

2. الغافلون

يستثني من التعذيب أو الإهلاك أيضاً (الغافلون)، لقوله تعالى: )ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ( (الأنعام: الآية 131)، ذلك لأن الله I ليس بظلام للعبيد، وهو الحق العدل، فلا يهلك أهل قرية من القرى الظالمة وأهلها غافلون، غافلون عن عقابه وقدرته على إهلاكهم، لذلك فإن الله يرسل المُنذِرين من الأنبياء والمرسلين ومن عباده الصالحين، ليزيلوا الغفلة عنهم ويعيدوا الرشد إليهم، ويقيموا الحجة عليهم حتى يخرجوا من الغفلة، فلا يهلكون وهم يعلمون!!.

3. المصلحون

يستثني من التعذيب أو الإهلاك (المصلحون)، لقوله تعالى: )وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ( (هود: الآية 117)، فكيف يهلك الله قرية وأهلها مصلحون، فلا حاجة لله إلى تعذيب أو إهلاك المصلحين، بل إن الله يهلك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، الذين يهلكون الحرث والنسل، ويخربون الديار ويقتلون النساء والأطفال، ويفعلون كل شيء يوصلهم إلى النار، فهؤلاء هم المستحقون للتعذيب والإهلاك، لأنهم مفسدون ومخربون.

4. المؤمنون

لا يهلك الله قرية وأهلها مؤمنون، لقوله تعالى: )مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ( (الأنبياء: الآية 6)، ومعنى الآية أن جميع القرى التي أهلكها الله لم يكن أهلها مؤمنين، فلا حاجة لله I في إهلاك المؤمنين، إنما يهلك الله الظالمين ويحفظ المؤمنين.

5. لا تهلك قرية حتى يبعث الله في أمها رسولاً

علمنا أن الله عز وجل لا يهلك القرى إلا وأهلها ظالمون، كذلك لا يهلك الله قرية من القرى حتى يبعث في أُمها رسولاً، كان ذلك في عصر الأنبياء والمرسلين، ولقد بعث الله محمداً e في أم القرى (مكة المكرمة) لينذر أهلها ومن حولها، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين أرسله الله للعالمين نذيراً إلى يوم الدين، لذا فلا حجة لأهل القرى بأن الله لم يبعث فيها رسولاً، فرسالة محمد e باقية إلى يوم الدين، قال تعالى: )وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا( (القصص: من الآية 59).

والقرآن الذي أنزله الله على محمد e هو للعالمين نذير، قال تعالى: )تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا( (الفرقان: الآية 1)، فلا حاجة الآن للناس بأن يبعث الله في كل قرية رسولا أخر بعد محمداً e ليؤكد لهم تلك الحقيقة، ومكة المكرمة كانت وما زالت وستبقى دائماً، مركزاً لإنذار الظالمين في الأرض، فهي أم القرى في الماضى والحاضر والمستقبل، منها أتت دعوة محمداً e، ومازالت وستبقى دعوته باقية تصل إلى كل أنحاء الدنيا، مهما تقدمت العلوم وزادت الفتن وغفل عن ذلك الغافلون!!.

قال ابن كثير: "وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها، وهي مكة، رسولاً يتلو عليهم آياتنا"، فيه دلالة على أن النبي الأمي محمد e المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام كما قال تعالى: )لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا( (الشورى: الآية 7)، وقال تعالى: )قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً( (الأعراف: من الآية 158)، وقال تعالى: )وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ( (هود: الآية من 17)، وتمام الدليل قوله تعالى )وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً( (الإسراء: من الآية 58)، فأخبر الله تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة. وقال تعالى: )وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً( (الإسراء: من الآية 15).

فجعل I بعثة النبي الأمي e شاملة لجميع القرى، لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها، وثبت في الصحيحين عنه e أنه قال: بعثت إلى الأحمر والأسود، ولهذا ختم الله به النبوة والرسالة فلا نبي بعده ولا رسول، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة، وقيل المراد بقوله حتى يبعث في أمها رسولا أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم.

وإنذار القرية الأم هو الضوء الأحمر لاقتراب هلاك من حولها من القرى الظالمة، ذلك لأن وجود الرسول e في القرية الأم، يُمَكِنه من توصيل وتبليغ دعوته إلى كل القرى التى حولها في سهوله ويسر، بعكس لو كانت دعوته في إحدى القرى الفرعية، فإن دعوته ستلاقى صعوبة في الوصول إلى القرية الأم والقرى الأخرى، وهذا ما نراه الآن من وصول الخبر من العاصمة مثلاً إلى باقى المحافظات في سرعة ويسر، بينما ينتقل الخبر من المحافظة الواحدة إلى باقى المحافظات الأخرى ببطء شديد، وقد لا يصل الخبر نهائياً إلى القرى الأخرى البعيدة، أو التي في مناطق منعزلة أو نائية.

ومازلت دعوة محمداً r تنتشر إلى كل قرى الدنيا حولها، ويتجلى ذلك في مناسك الحج والعمرة كل عام حيث يلتقى المسلمون في (أم القرى)، ويعودون إلى بلدانهم وهو محملين بدعوة محمد e ومجددين العهد معه، فلا حُجة لهم الآن على الله I بأنه لم يبعث إليهم رسولاً لينذرهم في هذا العصر. تدبر قوله تعالى: )وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى( (طه : الآية 134).

فالضوء الأحمر مازال وسيبقى مضيئاً لينذر الظالمين بعقاب الله، ولن ينجو الظالمون من التعذيب أو الإهلاك، ولن تكون هناك حجة للظالمين على الله، بأنه لا يوجد رسول في هذا العصر ليتبعوه من بعد محمد e!! فقد وضح الأمر.

هكذا يستثنى الله تلك القرى من الهلاك.

فلا يهلك الله قرية حتى يبعث في أمها رسولاً.

ولا يهلك الله قرية من القرى وأهلها غافلون.

ولا يهلك الله قرية من القرى وأهلها مصلحون.

ولا يهلك الله قرية من القرى وأهلها مؤمنون.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:32 pm

المبحث السادس

أساليب الإهلاك ووسائله في القرآن

قال تعالى: )فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( (العنكبوت: الآية 40)، هذه الآية تبين بعض الأساليب والوسائل، التى يهلك الله بها القرى الظالمة وهي: (الحاصب ـ الصيحة ـ الخسف ـ الغرق)، وهذه الآية تحتاج إلى إعمال البصائر وتصور تلك الأساليب تفصيلاً، ومعايشة الهالكين لحظة إهلاكهم بتلك الوسائل.

أولاً: الحاصب

قال تعالى: )فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا( (العنكبوت: من الآية 40)، تتعدد الأساليب والوسائل التي يهلك الله بها الظالمين، والآية 40 من سورة العنكبوت تشير إلى أحد أساليب ووسائل الإهلاك، وهو (الحاصب)، والحاصب في اللغة: هي العاصفة الشديدة التى تحمل التراب والحصباء أي (صغار الحجارة)، أو هي السحاب الذي يرمي بالبرد والثلج، ونفِّذ هذا الأسلوب على قوم لوط، لقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَر( (القمر: الآيتان 33 و44)، فبعد أن تحددت ساعة الصفر من رب العالمين، وحان وقت الهجوم على الظالمين، استعدت الملائكة لتنفيذ مهامها بتدمير مباني القرية من ناحية، وإهلاك أهلها من ناحية أخرى.

ونعيش لحظات من التصور وإعمال البصائر، كأننا نرى خلال تلك اللحظات حال قوم لوط وهم يُهَلكون، ونسمع صرخات الرجال وهم يستغيثون، وعويل النساء وأنين المُعَذبين، لقد ظنوا من قبل أنهم غير معاقبين، وظنوا أن الله غافل عما يعملون!!، وعلى الجانب الأخر نتصور وكأن الملائكة تستعد لإخراج المؤمنين من القرية، تمهيداً لنجاتهم قبل إهلاكهم، فنجاة المؤمنين حق ووعد من الله لهم، لقوله تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103).

إن هلاك الظالمين مبني في المقام الأول على إخراج المؤمنين من القريةً الظالمة قبل تدميرها، وهو ما يجب أن نركز عليه ونحاول الوصول إليه، فبمراقبة الأحداث التى وردت في القرآن الكريم عن إهلاك القرى الظالمة، يبرز لنا موقف نجاة المؤمنين قبل إهلاك القرى الظالمة، وقد يكون نجاتهم في اللحظات الأخيرة، أى قبيل الإهلاك مباشرة، وقد تصل تلك اللحظات إلى ساعات، كما سنرى في قصة إهلاك قوم لوط، وقد تصل إلى أيام كما سنرى في قصة إهلاك قوم صالح، وتلك اللحظات القلائل هي ما يُعبر عنها باقتراب (ساعة الصفر).

وقد تعمدنا عدم سرد (ساعة الصفر)، أو لحظة إهلاك القرى بالطريقة المألوفة، أى بالطريقة المتبعة في رواية قصص الأنبياء سرداً تاريخياً لأحداث مضت، بل نحاول أن نجعل القارئ يعايش الأحداث، وكأنها تقع الآن، بإعمال البصيرة وتشغيل الحواس، ثم مقارنتها بما يحدث على أرض الواقع في عصرنا هذا، فتتحقق بذلك الفائدة، وذلك بيت القصيد، لأن الله I يأمرنا بالسير في الأرض والنظر في كيفية عقاب الظالمين وعاقبتهم، أى أن الله يدفعنا دفعاً، ويحثنا حثاً، على تصور ما حدث للظالمين في الماضى، ومقارنة ذلك بالحاضر، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: الآية 11).

تصور اقتراب (ساعة الصفر) في إهلاك قوم لوط

1. ملائكة في صورة بشر، يصلون إلى لوط u ويتحدثون إليه، يخبروه بأن أهل قريته سيهلكون في الصباح، وعليه أن يسير بأهله ليلاً، ولا يلتفت هو وأهله لأى حدث يجرى خلفه، وأخبروه أن امرأته سيصيبها ما سيصيب قوم لوط في الصباح، قالت الملائكة: )يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: من الآية 81).

2. جاء الصباح، وحدث صوت رهيب كزلزلة الجبال، وارتفعت بيوت القرية كاملة إلى عنان السماء، كل البيوت في هجوم مباغت من الملائكة على القرية، صورة مرعبة ليس لها مثيل، بيوت ترتفع إلى عنان السماء ثم تنقلب ويصبح عاليها سافلها، ثم تهوي إلى الأرض بقوة محدثة أصوات مدوية وهي تغوص في الأرض.

3. السماء تمطر شيئا غريبا!!، حجارة تأخذ خطوط سير كأنها صواريخ موجهة، تترصد أهدافاً محددة، كل حجر يصيب شخصاً بعينه، الحجارة تأخذ طرقاً ومسارات عجيبة!!، بعضها يأخذ مسارات حلزونية، وبعضها يأخذ مسارات دائرية أو ملتوية (غير مستقيمة)، إن الحجارة تهبط من السماء بسرعة عالية كأنها مطر منهمر، حجر يذهب ويجيئ بصورة غير مألوفة تخالف قوانين الجاذبية التي نعرفها، يتفادى أشخاصاً كثيرة ليصيب شخصاً بعينه، يتتبعه فلا يتركه حتى يصيبه ويلقى مصرعه، كأن كل حجر يعرف صاحبه ويرافقه فلا يخطئه، إنها (الحاصب).

4. هناك أصوات بدأت كزلزال مخيف من بداية الأحداث، ثم أصبحت في كل مكان، صرخات وأنات وآهات وعويل وبكاء، ثم فجأة توقف كل شيء وساد الصمت في كل مكان، فلا يوجد أحد من الأحياء، لقد انتهي كل شيء في لحظات، هلك القوم ومعهم إمرآة لوط ولم يبق إلا بقايا جثث الموتى وأشلاءهم، قرية لوط بكاملها دمرت تماماً وغاصت في باطن الأرض، وخرج لوط u وبناته من القرية قبل مهلكها، خرجوا منها سالمين، وتحقق كل ما قالته الملائكة للوط u، تحقق إهلاكهم تماماً كما قالت الملائكة للوط u، بنفس الأسلوب ونفس الوسيلة ونفس الأداة التى حددوها له قبيل ساعة الصفر!!، هكذا أخذ الله قرية لوط الظالمة أخذ عزيز مقتدر!!.

5. حدث كل شيء تماماً كما قالت الملائكة للوط u، قال تعالى: )فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ( (الحجر: الآيات 61 – 66). لقد أهلك الله قوم لوط u في الصباح كما وعدته الملائكة تماماً دون تقصير.

ثانياً: الصيحة

قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ( (العنكبوت: من الآية 40)، والصيحة في اللغة: هي الصوت القوي، و(صاح صياحاً) أي صوت في قوة، و(صاح عليه) أي زجره ونهره، و(صيح فيهم) أي أصابتهم الصيحة فهلكوا. و(الصيحة في الآخرة) هي النفخ في الصور. ولقد وقع هذا الأسلوب من أساليب الإهلاك وهو (الصيحة) على قوم يس، لقوله تعالى: )وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ( (يس: الآيتان 28 و29).

ونعيش لحظات من التصور وإعمال البصائر، كأننا نرى خلال تلك اللحظات حال قوم يس وهم يُهَلكون، ونسمع صرخات الرجال وهم يستغيثون، وعويل النساء وأنين المُعَذبين، لقد ظنوا من قبل أنهم غير معاقبين، وظنوا أن الله غافل عما يعملون!!، وعلى الجانب الأخر نتصور وكأن الملائكة تستعد لإخراج المؤمنين من القرية، تمهيداً لنجاتهم قبل إهلاك القرية، فنجاة المؤمنين حق وعدهم ربهم به من قبل، لقوله تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103).

إن قوم يس لم ينفع معهم تعدد المُرسلين، فهم قوم معاندون، لم ينفع معهم إرسال رسولٍ واحد إليهم لينذرهم، فأرسل الله لهم رسولين ومع ذلك كذبوهما، فعززهم الله برسول بثالث، لكنه لم يفلح معهم أيضاً، لم يكفهم هذا العدد من الرسل، قال تعالى: )وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( (يس: الآيات 13 – 17).

تصور اقتراب (ساعة الصفر) من قوم يس

1. ثلاثة رجال عليهم الوقار والهيبة تشع من وجوههم الأنوار، عليهم مسحة الأنبياء والرسل، في وسط جمع كبير من قوم يس يتحدثون إليهم في هدوء وسكينة، هناك عدد من هذا الجمع يقولون لهم في حدة وسخرية: )مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ( (يس: من الآية 15)، فيرد الرسل عليهم: )رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( (يس: من الآية 16، والآية 17).

2. يحتد الجدل ويتصاعد التكذيب، ويهدد أهل القرية المرسلين بالرجم: )قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ( (يس: الآية 18)، ويرد المرسلون عليهم في هدوء وسكينة معاتبين: )قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ( (يس: الآية 19).

3. جاء من أقصى المدينة رجل يسعى، توقف عند الجمع وشاهد وسمع جزءاً مما دار، وهو غير مستريح لما رآه وسمعه، علامات وجهه تشير إلى أنه غير راضٍ عما يحدث من قوم يس، وبدأ يتدخل!!، كأنه رسول رابع وما هو برسول، إنه ينادي في قوم يس بأعلى صوته أن يتبعوا المرسلين، قال تعالى: )وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ( (يس: الآيات 20 – 25).

4. انتهي الرجل القادم من أقصى المدينة من حواره معهم، هجم قوم يس أو بعضهم عليه وقتلوه في لحظات، ومع ذلك لم تظهر عليه علامات الخوف أو الانزعاج، لقد كان تأييده للرسل ومفارقته قوم يس بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير، لهذا السبب قتلوه!!، فكيف يؤيد ثلاثة من الرسل خالفوهم من قبل؟!، قتلوه حين قال لهم: )إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ( (يس: الآية 25)، قتلوه بيد أثمة غادرة ـ فمات شهيدا ـ فأدخله الله الجنة، قال تعالى: )قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ( (يس: الآيتان 26 و27).

5. عقب استشهاده لم يرسل الله جنوداً من عنده لتحاربهم أو لتهلكهم، إن كانت إلا صيحة واحدة أرسلها الله عليهم، فإذا هم خامدون، قال تعالى: )وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ( (يس: الآيات 28 - 31)، صيحة قوية تصم الآذان أهلكتهم جميعاً على الفور، فهي صيحة قوية لا تتحملها الأبدان ولا الآذان، مات قوم يس من تأثير الصيحة القاتلة في لحظة واحدة، إنها (ساعة الصفر) التي آتت عليهم بلا جنود، كأنها جيوش هادرة جاءت في لحظة واحدة مباغتة قضت عليهم جميعاً، فأصبحوا خامدين!!.

6. لقد هلك قوم يس، ونجا الرسل أجمعين من تلك الصيحة المخيفة، وارتقى الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ليكون مع الشهداء، إن ذلك الرجل أدخله الله الجنة مع الشهداء، فأصبح حياً يرزق عند ربه وهم لا يشعرون أنه حي، يقول هذا الرجل بعد أن أدخله الله الجنة: )يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ( (يس: من الآية 26، والآية 27). هكذا نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين بالصيحة في لحظة!!، تلك الصيحة القوية القاتلة المفزعة، خصصها الله لإهلاك قوم يس، وهي أحد أساليب الإهلاك التي وردت في القرآن الكريم.

ثالثاً: الخسف

قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ( (العنكبوت: من الآية 40). والخسف في اللغة هو الظلم والذل، يقال سام فلاناً الخسف، وسامه خسفاً أي أذله، ويقال خسفت الأرض خسفاً أي غارت بما عليها، ويقال خسف الله بهم الأرض أي غيبهم فيها، وخسف القمر أي ذهب ضوءه أو نقص. وقد جرى تنفيذ هذا الأسلوب من أساليب الإهلاك (الخسف) على قارون، لقوله تعالى: )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ( (القصص: الآية 81).

نذهب الآن إلى قوم موسى u، ونغمض أعينينا ونحرك بصيرتنا لنرى كل شيء عن (ساعة الصفر)، ساعة إهلاك قارون وخسف الأرض به، ولنرى أيضا كيف نجى الله المؤمنين من قوم موسى u من هذا الخسف المروع، ونتابع الأحداث لحظة بلحظة، لقد كان قارون من قوم موسى u فبغى عليهم، ولقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه يصعب على عصبة من الرجال الأشداء أن يحملوها من كثرتها، لقد كان قارون رجلاً غنياً ضرب الله به المثل في الثراء، إلا أنه كان فرحاً فخورا ًمتكبرًاً على قومه، لا يستمع إلى نصح الناصحين من قومه، فقد أعمى الثراء بصيرته، فأنكر نعمة ربه وقال: إنما أوتيت ما عندى من الكنوز بعلمي وذكائى ولا أحد يماثلنى.

قال تعالى: )إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص: الآيتان 76 و77). لقد أنذره قومه بألا يفرح ويغتر بالثراء والغنى الفاحش، وقالوا: )إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ(!!، وعليه أن يبتغي فيما آتاه الله من الخير والنعم الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ويحسن إلى الناس كما أحسن الله اليه، وألا يبغى الفساد في الأرض فالله لا يحب المفسدين، فلما تكبر على قومه وتعالى عليهم، خسف الله به وبداره الأرض، فما وجد من يدفع عنه هذا الهلاك الذي كتبه الله عليه!!.

ويمكن أن نتصور تلك الأحداث التي حدثت لقارون في ذلك الوقت على النحو التالي

1. يخرج قارون على قومه في زينته في أحد الأيام كعادته، قال تعالى: )فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (القصص: الآية 79)، خرج في موكبه العجيب الذي يصعب تصديقه ووصفه، تحتشد له الحشود من الناس على جانبى الطريق، إن مركبة قارون في وسط زينته وموكبه تظهر من بعيد، كأنها قطعة صغيرة من الشمس، إنها تلمع من بعيد وتتلألأ، من شدة الانعكاسات التى تُحدِثُها في عيون الناظرين الذين يترقبون وصول موكبه المهيب.

2. إنه منظر مبهر حقاً، كأن لؤلؤة مشعة تسير على الأرض، تتقدمها الخيول الكثيرة والحراس، إن المركبة عبارة عن قطعة فنية رائعة، فكلها مرصعة بالجواهر ومطعمة بالذهب الخالص والفضة والمعادن الثمينة، وكلها تعكس أشعة الشمس بشدة على العيون الناظرة، مختلطة بألوان الطيف المتعددة، إن الأنظار كلها مجتمعة على شىء واحد هو هذا الموكب المهيب!!.

3. إن مركبة قارون تجرها الخيول التى لم ير أحد مثلها في جمالها وقوتها في ذلك الوقت، تلك الخيول الجميلة المزينة، كأن خبراء الجمال في العالم قد اجتمعوا خصيصاً على تزيينها، لتبدو في هذا الجمال!، يتقدم الموكب عدد كبير من الحراس، يمتطون جيادهم المزدانة بشكل واحد، وعليها بعض الأعلام الملونة، والحراس يحملون في أيديهم السيوف اللامعة، يرفعونها عالياً ويمسكون بها في قوة وثبات، ويلبسون ثياباً مزركشة ومحلاة، مزينة بالألوان التي هي وحدها تلفت الأنظار!!، وتعد تحفة في الملابس التى يلبسها الإنسان، ليعطوا بذلك إحساساً بالهيبة والإجلال لهذا الموكب الفريد.

4. وترى في أعين الناس على جانبى الطريق، نظرات التعجب والتمنى!!، كأنهم يريدون أن يكونوا مثل قارون في ثرائه، وكأنهم يريدون أن يملكوا ما يملك من أموالٍ وكنوز، وهناك همسات هنا وهناك من الذين يشاهدون هذا الموكب، يقولون: )يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( (القصص: من الآية 79)، ويرد عليهم رجال عليهم هالة الوقار والعلم يقولون: )وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ( (القصص: من الآية 80).

5. فجأة تتزلزل الأرض من تحت هذا الموكب وترج بهم رجاً... يإلهي!!. إن الأرض تنخسف من تحتهم سبحان الله العظيم القادر، لاحول ولا قوة إلا بالله، إن الأرض تغوربهم جميعاً. إنها تبتلعهم كما يبتلع الحوت السمك الصغير، تبتلع قارون وموكبه وحراسه، وتتعالى الصرخات والصيحات، ونسمع أنات هنا وهناك، وأصوات وعويل للنساء وبكاء للأطفال، اختلطت كل الأصوات في لحظة واحدة متزامنة مع الحدث، شىء عجيب!!، إن الأرض شقت من تحت الموكب فقط وابتلعته، ولم يحدث شيء للأخرين المصطفين على جانبي الطريق، الناس في ذهول مما حدث، يقولون أهكذا يحدث الهلاك بغتة دون إنذار؟، أهكذا يُهلك الله الناس في لحظات وبلا مقدمات؟، أهكذا يختار الله الناجين من بين الهالكين، مع أن الكارثة في نفس المكان؟.

6. تدبر قول الذين تمنوا مكانه بالأمس بعد أن خسف الله به وبداره الأرض، قال تعالى: )فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ( (القصص: الآيتان 81 و82). هكذا يخسف الله الأرض بالظالمين، وهكذا ينجى الله المؤمنين، فبرغم وجود الجميع في مكان الهلاك، إلا أن جنود الله اختارت بعناية كل من كُتب عليه الهلاك لتُهلكه، وكل من كُتب له النجاة لتنجيه من هذا الخسف.

رابعاً: الغرق

قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا( (العنكبوت: من الآية 40)، هناك وسائل مختلفة للإهلاك بالغرق وضحها القرآن الكريم، وتختلف تلك الوسائل من حيث طبيعتها، واتجاه حركتها، برغم أن أداة الإغراق واحدة وهي (الماء)، والأسلوب واحد وهو الغرق، إلا أن وسائل الإهلاك قد تختلف، وأوضح مثالين لذلك ما حدث لقوم نوح u وفرعون وجنوده عند إهلاكهم، (اُنظر جدول مقارنة بين الأسلوب والوسيلة والأداة المستخدمة في إهلاك قوم نوح وفرعون وجنوده). والجدول يوضح مقارنة بين الأسلوب والوسيلة والأداة بينهما، ومنه يتضح اتجاه حركة وسائل الإغراق للهالكين (قوم نوح u وفرعون وجنوده) كالأتي:

1. اتجاه حركة وسائل إغراق قوم نوح u (رأسية)

أ. حركة من أعلى إلى أسفل: في صورة ماء منهمر يأتي من السماء، لقوله تعالى: )فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ( (القمر: الآية 11).

ب. حركة من أسفل إلى أعلى: في صورة ماء متدفق يأتي من الأرض، من خلال العيون المتفجرة، لقوله تعالى: )وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا( (القمر: من الآية 12).

ج. التقاء الماء المنهمر من السماء، مع الماء المتفجر من الأرض: ليحدث بناء على التقائهما طوفاناً رهيباً مغرقاً ومدمراً، مغرق للكافرين من قوم نوح u، ومدمر لممتلكاتهم وديارهم، وهو الأمر الذى قدره الله أن يكون، فحدث تماماً كما قدر I، قال تعالى: )فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ( (القمر: من الآية 12)، تدبر قوله تعالى: )عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ(.

2. اتجاه حركة وسائل إغراق فرعون وجنوده (أفقية)

من اليمين والشمال: في صورة ماء مرتفع عن سطح البحر، يحول بينهما اليابس، فكان كل جانب منهما كالطود العظيم، قال تعالى: )فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ( (الشعراء: الآية 63)، وحين جاءت ساعة الصفر أى (وقت الإهلاك)، انطبقت المياه من الجانبين الأيمن والأيسر على فرعون وجنوده، في حركة أفقية مباغتة لم يتصورها فرعون نفسه ولا جنوده.

والأن جاء دورنا وجاء دورك!!0

جاء دورنا لنقص عليك ما يصوره القرأن الكريم عن ساعة الصفر، لكل من قوم نوح u، وفرعون وجنوده، فكلاهما هلكوا بأسلوب واحد (أسلوب الغرق)، مع الاختلافات التى ذكرناها والتى تراعى عند تصور (ساعة الصفر) لهلاك كل منهما.

وجاء دورك لكى تعمل ببصيرتك وتتصور (ساعة الصفر)، وتتصورهم وهم يصارعون الغرق، لقد جاءتهم رسلهم لتنذرهم وتحذرهم من تلك الساعة ومن هذا الخطر، فلم يصدقوا ماقيل لهم وكذبوهم وتكبروا عليهم، فحق عليهم عقاب ربك، حتى جاءتهم ساعتهم (ساعة الصفر) فلم يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً، ولكي تتابع قصة إهلاك قوم نوح u، وفرعون وجنوده برغم ما فيها من أحداث قاسية، عليك أن تغمض عينيك قليلاً، وتستحضر تلك المشاهد كأنك موجود ساعة الحدث، وفى نفس المكان.

قال تعالى: )تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ( (الأعراف: الآية 101)، لقد طبع الله على قلوبهم حتى هُلكوا جميعاً، كذلك يجزي الله الظالمين.

1. هلاك قوم نوح u (كمثال) للإهلاك بأسلوب الغرق

نستحضر مشهد إهلاك قوم نوح قبل ساعة الصفر بلحظات، قال تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ( (هود: من الآية 40)، أى حين حانت (ساعة الصفر) وفار التنور، أى حتى إذا جاء وقت أمر الله بإهلاكهم، جاء الماء بقوة فائراً ذا رغوة، كالماء الذي يغلي فوق النار، وقيل هو ماء فار من الفرن الكائن في بيت نوح u، وكانت تلك علامة على اقتراب (ساعة الصفر) من قوم نوح u، حينئذ ركب نوح u والذين أمنوا معه في السفينة، وحمل فيها من كل حيوان وطير زوجين اثنين، لضمان بقاء نوع الحيوان والطير على الأرض، كما حمل فيها من آمن من المؤمنين، وكذلك أهله إلا من سبق قول الله عليهم بأنهم مغرقون، قال تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( (هود: الآيتان 40 و41).

إن فوران ذلك التنور قد يكون مرتبطاً بنزول الماء المنهمر من السماء، وتفجير عيون الأرض بالمياه، ففى قول الله عز وجل )إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ( (الحاقة: الآية 11)، أى في السفينة، وهذا يشير إلى أن نوحاً u قد ركب السفينة هو والذين آمنوا معه بعد أن طغى الماء (أى جاوز الحد)، هذا وكانت امرأة نوح u كافرة فلم تصعد معهم إلى السفينة وهلكت مع الهالكين، كما أن ابنه أخفى عليه كفره ولم يصعد هو الآخر إلى السفينة، كذلك لم يصعد كل من كان كافراً من قوم نوح u.

وجاءت ساعة الصفر

إن من يتابع مشهد إهلاك قوم نوح u، فسوف يخر ساجداً لله رب العالمين، ذلك لأنه سوف يشعر بأن الله I دبر للكافرين أمراً محكم التدبير، فلم يفلت كافر من الغرق، فهناك أمران قدرهما الله ودبرهما في آن واحد:

· إنزال ماء منهمر من السماء.

· تفجير الأرض بعيون الماء.

لقد أخذ الماء يعلو ويرتفع شيئاً فشيئاً، حتى تحول الماء إلى أمواج عالية كالجبال، وأخذ الهالكون يستغيثون ويصرخون وهم يصارعون الغرق في هذا الطوفان الرهيب، فلم يجدوا من دون الله ولياً ولا نصيراً، قال تعالى: )فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر( (القمر: الآيتان 11 و12).

إن الهالكين قد غرقوا في ماءٍ منهمرٍ من السماء، ومياه متفجرة من عيون الأرض، مياه تكتسح الأرض اليابسة اكتساحاً، وتتجمع وتلتقي وترتفع وتصل إلى الأعناق، وتعلو فوق الرقاب، إن المُهلكين يبتلعون المياه، يتجرعونه بعيون زائغة متلهفة إلى النجاة، فهذا يمسك بقطعة من الشجر، وذاك يصعد فوق الجبل، كلُ يحاول النجاة على أمل أن تعصمه قطعة الشجر من الغرق!!، أو جبل مرتفع يعصمه يصعد عليه لينجيه من الغرق، لقد تحول الماء رويداً رويداً إلى موجٍ هائجٍ متوحش، يزمجر ويلتهم الكافرين التهاماً، الكل تحيط به المياه من كل جانب، والجميع في لحظة واحدة يصارعون الغرق، ما بين صارخٍ ومستغيث!!.

إن الكافرين جميعاً في هلع يصارعون الموت المخيف، الكبير منهم الذى بلغ من العمر أرذله، ونبت جسده على الكفر، والصغير الذى في علم الله الأزلي كان سيصير كافراً، تماماً كما كان يفعل أبواه من قبله، كذلك كانت مواقف النساء من دعوة نوح I كموقف امرأته الكافرة من دعوته، الرجال والنساء، والشباب والفتيات، الكبير والصغير يغرقون بلا استثناء، يتجرعون كأس العذاب قبل أن يهلكوا، الصرخات تعلو، والأيدي تتشابك عن غير قصد! تحاول التمسك بأي شيء، فيغرق الجميع وهم ممسكون ببعضهم البعض.

ليس هذا التماسك الذي يدل على رابطة الإخلاص القوية بينهم، بل هو التماسك المبني على الباطل بالطبع!!، وعلى تكذيب رسولهم نوح u من قبل، رابطة جمعتهم على الكفر في لحظات العذاب التى يذوقون مرارتها جميعاً قبيل إهلاكهم، رابطة جمعتهم في مكان واحد ليهلكوا فيه جميعاً، ذلك المكان الذى التقى فيه ماء السماء المنهمر، مع ماء عيون الأرض المتفجرة، ليتكون منهما طوفان هائل رهيب ومدمر، رابطة جمعتهم على أسلوب واحدٍ للهلاك وهو (الغرق)، واداة واحدة للهلاك وهي (المياه)، ووسيلة واحدة للإهلاك تأتيهم من السماء والأرض في آن واحد، كما صورها القرآن الكريم، وسوف تجمعهم أيضاً رابطة أخرى يوم القيامة، حين يجتمعون في نار جهنم خالدين فيها وبئس المصير.

نعود لمتابعة مشاهد ساعة الصفر، لقد نادى نوحُ u ابنه الذي خدعه بالإيمان الزائف، ناداه بأن يركب معه ولا يكن مع الكافرين الذين يصارعون الموج، فأبى الامتثال لنداء أبيه، قال تعالى: )وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ( (هود: من الآية 42، والآية 43). والحقيقة الحتمية أنه لا بد أن يهلك ابنه كما أمر الله بذلك، فهو عند الله من الكافرين الهالكين، حتى وأن ظن نوح u أن ابنه من المؤمنين!!، وهكذا يسعى ابن نوح u إلى حتفه وهو لا يدرى، فلا وساطة حين يأمر الله بهلاك الكافر، حتى وإن كان من أبناء الرسل والأنبياء.

ويعلو الماء شيئاً فشيئاً ويرتفع وتتلاطم الأمواج في سباق مع الزمن، تصارع الكافرين حتى تزهق أرواحهم، فقد قدر الله وكتب ذلك عليهم، وهاهم أولاء يلاقون مصيرهم المحتوم كما كتبه الله لهم، اختار الله لهم الأسلوب والوسيلة والأداة التي يهلكون بها، لقد أنذرهم نوح u من قبل كثيراً، حذرهم من ذلك ليلاً ونهاراً فلم يصدقوه، ولم تزدهم تحذيراته المستمرة إلا فراراً!!، وهاهو ذلك الحدث المحتوم قد أتى، وما هي إلا لحظة حتى حال الموج بين نوح u وابنه فكان من المغرقين.

من الصعب علينا أن نتصور هول الطوفان الذى حدث في ذلك الوقت، لقد كان شيئاً مروعا ًيدل على بطش الله الشديد، كانت السفينة تجرى بهم في موج كالجبال، لقوله تعالى: )وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ( (هود: من الآية 42)، إنه ليس طوفاناً عادياً كالذي نراه ونسمع عنه في الفضائيات والأقمار، أو عبر الإذاعات ونشرات الأخبار!!، هذا الطوفان أغرق الكرة الأرضية كلها، لقد استجاب الله I لدعاء نوح u فلم يترك للكافرين على الأرض دياراً!، شيء رهيب!!، هكذا كانت (ساعة الصفر)، أو هكذا كانت!!، نجى الله نوحاً u والذين آمنوا معه، وأهلك الكافرين.

وبعد أن أغرق الله قوم نوح، أعاد I الأمور كما كانت عليه، أعاد الأساليب والوسائل والأدوات التي أهلكهم بها إلى اماكنها مرة أخرى، فأمر الأرض أن تبتلع ماءها، وأن تغلق السماء أبوابها، وتقلع عن إنزال مائها، قال تعالى: )وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي( (هود: من الآية 44)، وغيض الماء وقضى الأمر، واستوت السفينة واستقرت بالمؤمنين على الجودى (اسم الجبل الذى رست عليه السفينة).

هكذا عادت وسائل الإهلاك إلى قواعدها وأماكنها، وعادت أداة الإهلاك أيضاً إلى أصلها، فابتلعت الأرض المياه، وأقلعت السماء عن نزول الماء، وقيل بعداً للقوم الظالمين، قال تعالى: )وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ( (هود: من الآية 44)، أليس هذا الحدث (إهلاك قوم نوح u بالغرق) شيء يستحق الوقفة والتفكير؟.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:33 pm



المبحث السابع

أدوات الإهلاك في القرآن

تحدثنا عن أدوات التعذيب، وعلمنا أن هناك نوعان من أدوات التعذيب (أدوات يسلطها الله على الناس، وأدوات يسلطها الناس على الناس أو على الكائنات الأخرى)، كذلك أدوات الإهلاك فهي لاتختلف عن أدوات التعذيب من ناحية التصنيف أيضا، فأدوات الإهلاك نوعان أيضاً، (أدوات يسلطها الله على الناس، وأدوات يسلطها الناس على الناس أو على الكائنات الأخرى)، وكل نوع منها يحتوي على صنوف عديدة من أدوات الإهلاك التي لا حصر لها، منها ما ورد في القرآن الكريم، ومنها ما نشاهده ونراه في حياتنا. نستعرض أمثلة منها ما ذكر في القرآن الكريم ومنها ما لم يُذكر، مثل الإيدز، والأمواج البحرية المدمرة، وغيرها:

أولاً: أدوات إهلاك يسلطها الله على الناس

استخدمت (الحجارة) أداة من أدوات الإهلاك، يمكن الرجوع لأدوات الإهلاك التي سلطها الله على أصحاب الفيل وعلى قوم لوط، واستخدمت (المياه) أداة من أدوات الإهلاك ضد قوم نوح u وفرعون وجنوده، وقد سلط الله تلك الأدوات عليهم من قبل كما أوردها القرآن الكريم، لكن الله I يسلطها أيضاً على من يشاء من البشر، في كل وقت وفي أى مكان، ومن أمثلة أدوات الإهلاك التي يسلطها الله على الناس:

1. الفيروسات

نضرب مثلاً بمرض (الإيدز AIDS) (اُنظر صورة مرض الإيدز) الذي يطلق عليه العلماء (طاعون العصر ACQUIERED IMMUNE DEFICIENCY SYNDROME (أي مرض متلازمة نقص المناعة المكتسبة). اكتشف المرض عام 1981، وهو عبارة عن فيروس من مادة الحمض النووي المحاط بغشاء بروتيني متغير ومستمر، يخدع الجسم البشرى ويتوغل لنوايات الخلايا ويستعمرها، ويطلق المزيد من الفيروسات في كل سوائل الجسم، وقد اكتشف حتى الأن أربع فصائل تهاجم الغدد الليمفاوية، وتنتشر تلك الأداة من أدوات الإهلاك عبر الممارسات الجنسية غير الشرعية، ومن طريق تناول المخدرات، ومن خلال أساليب أخرى عادية تتسبب في انتشارها، كالرضاعة الطبيعية ونقل الدم، ولقد تسببت تلك الأداة في إهلاك آلاف بل وملايين من البشر. (اُنظر جدول إحصائية حالات الإيدز في العالم خلال الفترة من عام 1981 – 1995).

2. الماء

كان الماء هو الأداة التى أهلك الله بها قوم نوح u، وأهلك بها فرعون وجنوده أيضاً، وبالرغم من أن الله قد جعل من الماء كل شيء حي، إلا أن الله I جعل الماء في نفس الوقت وبالاً على الظالمين، فحوله من أداة تحيا بها الكائنات، إلى أداة لإهلاكهم، فهذا الماء يمكن أن يكشر عن أنيابه فجأة، ويتحول من بحر هاديء وديع، إلى أمواج بحرية مدمرة، أو إلى فيضانات مدمرة، أو إلى سيول كاسحة، وهذه بعض الأمثلة عندما تصبح أداة الماء من أدوات الإهلاك:

أ. الأمواج البحرية المدمرة

هي أمواج عاتية تظهر ظهوراً مفاجئاً، ترتبط بحدوث اضطرابات في قشرة الأرض عند قاع المحيطات، وتؤثر على القطاعات الساحلية التى تطل عليها، فتسبب حدوث اهتزازات عنيفة، مرتبطة بحدوث بركنه نشطة، أو تفجيرات نووية في قاع المحيطات، تنعكس في صورة أمواج ضخمة، يبلغ طولها عدة مئات من الكيلومترات، وتحدث على فترات قد تزيد على 20 دقيقة، مع سرعة انتشارها التي قد تبلغ أكثر من 800 كم/ ساعة، وعند دخولها المياه الشاطئية الضحلة، تبدو في موجات مدية ضخمة ترتفع إلى نحو ثلاثين متراً أو أكثر، ومع مرور الوقت تصل إلى الساحل لإغراقه وتدمير منشآته. ويمكن التنبؤ بتلك الأمواج قبل حدوثها بعدة ساعات، لكنها لا تعد كافية للفرار منها لمن كُتِب عليهم الهلاك، ففى عام 1960، حدثت موجة بحرية مدمرة تسمى (التسونامي) على منطقة شيلى على المحيط الباسيفيكى (الهادى)، وصل ارتفاع الأمواج يومها إلى 40 م، ونتج عنه إغراق السواحل، وقتل الآلاف من البشر، وبلغت من قوة هذه الموجة المدمرة أن قذفت بالسفن الراسية في الموانى إلى داخل المدن، وتكررت تلك الموجات البحرية المدمرة (تسونامي) (اُنظر صورة تسونامي مدمر)، وأحدثت خسائر مفزعة في الأعوام الأخيرة.

ب. الفياضانات المدمرة

هناك أنواع كثيرة من الفيضانات النهرية، تحدث عندما تتجاوز كميات المياه الواردة للنهر من مصادرها المختلفة قدرته على استيعابها، فهنا يكشر الماء عن أنيابه ليصبح أداة من أدوات الإهلاك، وتوجد أنواع من الفيضانات منها: (الصفائحي ـ الخاطف ـ المدمر)، والفياضانات المدمرة هي بيت القصيد.

(1) الصفائحي

وهذا النوع تبدو فيه المياه على شكل غطاء رقيق، ينتشر فوق منطقة واسعة، ولا يستغرق حدوثه فترة طويلة فقد لا تتعدى الساعات.

(2) الخاطف

يحدث نتيجة هطول الأمطار المركزة فوق مساحة محدودة، ويصحبه تدفق زائد للمياه بإتجاه القنوات النهرية في غالب الأحوال.

(3) المدمر

ينتج عن أمطار سيلية غزيرة للغاية، وتستمر لفترة طويلة فوق منطقة معينة، والفيضان المدمر هو بيت القصيد، حيث إن النوعين الآخرين (الصفائحى، والخاطف) أخف تأثيراً، وقد لا ينتج عنهما في غالب الأمر أي من حالات الوفاة، وبالتالي نحن نصنفهما إنذارات يرسل بها الله للناس ليتفكروا في قدرته I، في أنه قد يبعث عليهم ما هو أشد منها تدميراً‍‍‍‍‍!!، والفيضان المدمر يُحدِث خسائر هائلة ومباغتة في الوقت نفسه. (اُنظر جدول حجم الخسائر التي سببها الفيضان المدمر من عام 1911 – 1998) و(صورة تأثير الفيضانات المدمره).

ج. السيول المدمرة

السيول هي نوع من أنواع الفيضانات الخاطفة المدمرة، تحدث نتيجة هطول أمطار شديدة، فوق منطقة محدودة هطولاً فجائياً قصير المدى، وتصحبه تدفقات مائية بالغة السرعة، يعقب ذلك خسائر مدمرة (اُنظر صورة نتائج السيول التدميرية)، ولعلنا نذكر السيول التى حدثت يومي 7 و8 أكتوبر 1994، على قرى ومدن محافظتي أسيوط وسوهاج في جمهورية مصر العربية. والتى تعد من أكثر السيول تدميراً وعنفاً، فقد تسببت تلك السيول في حدوث الخسائر الكبيرة. (اُنظر جدول خسائر سيول محافظتى أسيوط وسوهاج بجمهورية مصر العربية عام 1994)

وهناك ملاحظة مهمة: أن الخسائر المذكورة برغم أن أسلوب الإهلاك واحد وهو (الغرق)، ووسيلة الإهلاك واحدة وهي (السيل العارم المتدفق)، وأداة الإهلاك واحدة وهي (الماء)، إلا أن أسلوب الإهلاك وأدواته قد تغيرا فجأة بإذن الله لبعض القتلى، خاصة الذين تعرضوا للسيول في محافظة أسيوط، فبعد أن كان من المنتظر أن يكون أسلوب الإهلاك نتيجة تلك السيول هو (الغرق) وهو الأمر الطبيعي، وأداة الإهلاك هي (الماء) وهي الأمر الطبيعي أيضاً، تغير هذا الأمر فجأة وبلا مقدمات، حين مالت عربات قطار شحن النفط على قضبانها، فتدفق منها النفط الذي اشتعل في لحظات، ومن ثم تغير أسلوب الإهلاك وأداته فجأة لبعض الأشخاص، ليكون (الحرق) بدلاً من (الغرق)، وتبدلت أداة الإهلاك أيضاً لتكون (النار) بدلاً من (الماء)!!! سبحان الله !!.

شيء يدعو إلى العجب ويحتاج منا إلى تدبر تلك الأمور بعناية خاصة!!، كذلك تغيرت أساليب الإهلاك لمن ماتوا في برجي مركز التجارة العالمى بنيويورك، فبينما كانت الأداة هي وقود الطائرة، ووسيلة الإهلاك هي الطائرة نفسها، إلا أن أسلوب الإهلاك كان مختلفاً من شخص إلى أخر، رغم تواجدهم في مكان واحد، ووقت واحد!!، فبعضهم هلك بأسلوب (الحرق)، وبعضهم هلك بأسلوب (الخسف)، وآخرون هلكوا بأسلوب (التردي) حين ألقوا بأنفسهم من الأبراج، بينما هلك بعض رجال الإطفاء بأسلوب الاختناق؟!!.

3. الريح

الرياح الهادئة الساكنه تجعل السفن رواكد على ظهر الماء، فإذا عصفت الرياح وكشرت عن أنيابها، تحولت في تلك اللحظات من أداة مسالمة، إلى أداة رهيبة من أدوات الإهلاك، حيث تتسبب في إغراق السفن في البحار والمحيطات، وقد تتحول إلى عواصف رعدية تنتج عنها الأعاصير المدمرة. ألم يهلك الله عاد إرم ذات العماد التى لم يخلق مثلها في البلاد بتلك الريح؟، لقد جعلها الله ريحا ًصرصراً عاتية، سخرها عليهم سبع ليالى وثمانية أيام متواصلة، قال تعالى: )وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ( (الحاقة: الآيات 6 – Cool. كانت (ريحاً عقيماً) لا تذر من شيء آتت عليه إلا جعلته كالرميم، قال تعالى: )وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ( (الذاريات: الآيتان 41 و42).

والريح قد تكون أداة للعذاب كما هي أداة للهلاك أيضاً، فإن سببت هلاكاً للبشر أصبحت أداة للإهلاك، وإن سببت خسائر مادية ومعنوية فقط أصبحت أداة للتعذيب، ونحن نسمع عن تأثير الرياح والأعاصير، وما تسببه من خسائر فادحة في الأفراد والممتلكات والمبانى والمنشأت، وذلك من خلال ما تتناقله وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ومن خلال ما نطالعه في وسائل الإعلام المقروءة، وعبر الأقمار الإصطناعية، وعلى شبكات الإنترنت، وهذه بعض النماذج:

أ. الترنيدو TORNADO

عاصفة رعدية Thunder storm غاية في العنف (اُنظر صورة عاصفة التورنيدو الرعدية)، وهي من الأنواع الفريدة، تبدو قمعية الشكل، مكونه من عنق ضيق جداً من دوامات هوائية غاية في السرعة الدورانية، وتبدو كأنها مدلاه من سحب ركامية باتجاه سطح الأرض، وإن كانت تمسه مساً خفيفاً دون الإرتكاز عليه، وهي صغيرة الحجم بشكل لافت، يراوح قطرها ما بين مائة م وأقل من 1,5 كم، ويرجع عنفها البالغ رغم صغرها، إلى السرعة البالغة للحركة الدورانية للهواء حول مركزها، بدرجة يصعب معها بل يستحيل قياسها، (أكثر من 300 عقدة في الساعة = 500 كم/ ساعة).

هذا بجانب الانخفاض الحاد للغاية للضغط الجوي في مركز الإعصار، فعندما تمر بمنطقة ما، فإنها تدمر كل ما بها من مظاهر بشرية، بالإضافة لانفجار المباني التي تمر عليها، بسبب الهبوط الحاد والمفاجيء للضغط الخارجي، كما يمكنها رفع أشياء أو حيوانات والقاؤها بعيداً في طريق هبوبها[1]

ب. الهيريكين

هي من أشد العواصف المدارية تدميراً (اُنظر صورة عاصفة الهيريكين المدارية)، هبت على ولاية فلوريدا، عام 1926، فدمرت معظم مدينة ميامي السياحية، وصاحبت العاصفة أمواجاً مدمرة طغت على المدينة، كما تركت وراءها خسائر مادية وبشرية قدرت بنحو 80 مليون دولار في ذلك الوقت، بالإضافة إلى مقتل 1500 شخص.

4. الزلازل

إن الزلزال يأتى بغتة (أي لا يمكن توقع حدوثه من حيث توقيته أو شدته)، والزلازل لها حالات ودرجات وتأثيرات خطرة على البشر وعلى المباني (اُنظر صورة نتائج الزلازل التدميرية)، ويعقب الزلزال عادة زلازل أخرى أخف في درجتها، تسمى (توابع الزلزال)، وهي تأتى مفاجئة لكنها غير مباغتة نظراً لتوقع حدوثها عقب الزلزال الأول في معظم الأحيان، وقد كانت الأثار التدميرية الناتجة عن الزلازل، خلال الفترة من عام 1960 وحتى عام 1990، وطبقاً لإحصاء مكتب تنسيق الكوارث للأمم المتحدة، هي وفاة نحو 440 الف نسمة، بالإضافة للعديد من الخسائر الاقتصادية التى تقدر بمليارات الدولارات، ولبيان حالات الزلازل وتأثيراتها المختلفة (اُنظر جدول حالات الزلازل وتأثيراتها المختلفة بمقياس الريختر).

ولقد بلغت قوة زلزال أكتوبر عام 1992 في جمهورية مصر العربية 5.9 بمقياس ريختر، أى يقع تحت مسمى الزلزال (القوي جداً)، وهو أقل درجة بكثير من الزلازل التى تقع تحت مسمى (الكوارث المفجعة)، ومع ذلك فقد كانت الخسائر عالية جداً، حيث بلغ عدد القتلى 550 قتيل، إضافة إلى إصابة عدد كبير من السكان، وخسائر أخرى تقدر بملايين الدولارات، مع هبوط السكة الحديد على خط الجيزة ـ أسوان في (منطقة البليدة) ، وبتلك الزلازل يذكرنا الله بيوم القيامة يوم تزلزل الأرض زلزالها، وُتخِرج أثقالها، قال تعالى: )إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا( (الزلزلة: الآيتان 1 و2).

فإذا كنا قد لمسنا أداة من أدوات الإهلاك في مصر، ورأينا ما يحدثه زلزال بدرجة (قوي جداً)، فما بالك بمن يتعرضون لزلازل أشد قوة في هذه الأرض؟، والتى تقع تحت مسمى (الكوارث المفجعة)، والتي تبلغ قوتها ما بين 8 – 8.9 بمقياس ريختر، لا شك أن الخسائر ستكون أكثر رعباً. وقبل عرض إحصائية لبعض الزلازل المفجعة التى حدثت في العالم منذ عام 1290 وحتى عام 1998 (اُنظر جدول إحصائية بالزلازل المفجعة من عام 1290م - 1998م)، نوضح بعض الحقائق التالية:

أ. إن الزلزال العظيم الذى سوف يحدث يوم القيامة، يفوق قوته تلك الزلازل التى نسميها نحن الزلازل المفجعة، ليس بملايين المرات بل بمضاعفات تلك الأعداد التى نعرفها على الأرض، والتى لايعلمها إلا الله وحده، وذلك حتى يمكننا تصور هذا الزلزال العظيم، ويبين الله لنا هول زلزلة الساعة يوم القيامة في قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ( (الحج: الآيتان 1 و2).

ب. إن الله يُذَّكِر الناس كل فترة من الزمن بتلك الزلازل، حتى يدركوا قدرة الله على إهلاك الظالمين، وكما تأتى الزلازل بغتة بدون أن نتوقع حدوثها، فكذلك تأتى الساعة بغتة كما يصورها لنا القرآن الكريم، في قوله تعالى: )قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ( (الأنعام: الآية 31).

ج. إننا نرى الغفله والغشاوة في أعين بعض الناس، وقد بلغت مداها في ذلك العصر، فعندما تحدث الزلازل ترتعد فرائصهم خوفاً ورعباً من الهلاك وطمعاً في النجاة، وهنالك فقط يتذكرون ربهم ويدعونه مخلصين له الدين، حتى إذا ما انتهى الزلزال وانتهت توابعه، عادوا إلى غفلتهم ووضعوا الغشاوة على أعينهم مرة أخرى، هل يحسبون أن الله قد أرسل إليهم تلك الزلازل ليشاهدوها، كما يشاهدون شرائط الفيديو أو اسطوانات CD على أجهزة الكمبيوتر، ثم ينتهي تأثيرها بمجرد انتهائها؟، أم هل أصبح الناس يتعاملون مع تلك الأدوات (أدوات الإهلاك الربانية)، كما يتعاملون مع أفلام الرعب وأفلام الأكشن؟، يتأثرون بها طوال فترة عرضها، وبانتهائها يعودون إلى لهوهم وإلى غفلتهم مرة أخرى كما كانوا من قبل؟!.

د. إن الله عز وجل يرينا أدوات إهلاكه للبشر من حين لآخر، لعلهم يتذكرون قدرته على إهلاك الظالمين في الأرض كما أهلك الذين من قبلهم، لعلهم يزيلون الغشاوة عن العيون، ويعيدون الرشد إلى العقول، ويعلمون أن الله معهم دائماً يراقب أحوالهم ويعلم مايفعلون.

5. الأرض

علمنا أن الله قد خسف بقارون الأرض من قبل، وبين الله لنا أن خسف الأرض شيء ممكن حدوثه، في أي وقت وفى أي مكان، فتلك الأرض التى نسير عليها تلبى أمر ربها إذا أمر، ويحذرنا الله منها بوصفها أداة من أدوات الإهلاك، تدبر قوله تعالى: )أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ( (الملك: الآية 16)، وقوله تعالى: )أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ( (النحل: الآية 45).

ولا يفوتنا في هذا الحديث أن نذكر واقعة حدثت بالقدس الغربية، في 25 مايو 2001، حين خسف الله الأرض من تحت أقدام المدعوين، بإحدى صالات الأفراح بمنطقة (تالبيوت) الصناعية في إسرائيل، وذلك أثناء إقامة حفل زفاف هناك، حيث انهار السقف من تحتهم، وبلغ عدد القتلى في ذلك الوقت 33 قتيلاً، بالإضافة لعدد 300 جريح.

إن الله I لديه المزيد من أدوات الإهلاك، وما نذكره من أدوات إهلاك ماهي إلا قطرات في محيط ليس له أول ولا آخر، ولنتذكر أدوات الإهلاك التى يهلك الله بها الظالمين، ولنعلم أن تلك الأدوات كثيرة وتحيط بنا في كل مكان من حولنا، ولكن أكثر الناس لايشعرون بها.

ثانياً: أدوات الإهلاك التي يسلطها الناس على الناس أو الكائنات الأخرى

لقد ذكرنا من قبل أن أدوات العذاب التى يسلطها الإنسان على الإنسان أو الكائنات الأخرى، هي أدوات يعذب بها الإنسان إنساناً أو كائنات، لكنها لاتؤدي إلى إهلاكهم فهي أدوات للتعذيب وليست للإهلاك، مع الأخذ في الحسبان أن هناك أدوات تصلح للتعذيب وفى نفس الوقت تصلح للإهلاك، وبعد أن عرفنا أدوات الإهلاك الجبارة التى يسلطها الله على الناس، تهون أمامنا أعتى الأدوات التى يسلطها الإنسان على الإنسان أو الكائنات الأخرى، ولا نطيل الحديث هنا عن تلك الأدوات التى تسبب الهلاك للآخرين، التى صنعها الإنسان ويعمل على تطويرها يوماً بعد يوم، بل نكتفي بعرض أمثلة لبعض أدوات الإهلاك التي يصنعها البشر:

1. الأسلحة النارية المختلفة

أ. الأسلحة الصغيرة (كالبنادق والرشاشات والطبنجات والقنابل اليدوية وغيرها).

ب. الأسلحة التى تزود بها الطائرات (كالصواريخ جو/ جو، والصواريخ جو/ أرض، وقنابل النابالم، والقنابل والصواريخ الذكية التى تسير نحو هدفها عن بُعد بنسبة إصابة عالية، وغيرها من الأسلحة التى تحملها الطائرات المقاتلة المختلفة والطائرات العمودية... الخ، وهي الأسلحة التى تستخدمها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى الأعزل، وهي أداة من أدوات الإهلاك هناك.

ج. الأسلحة التى تزود بها القطع البحرية المختلفة (كالصواريخ سطح/ سطح، والطوربيدات، والمدفعيات وغيرها من أدوات الإهلاك للأخرين).

د. الأسلحة البرية الأخرى: (كالدبابات والعربات المدرعة، والمدفعية ذات الأعيرة المختلفة، والصواريخ أرض/ أرض... الخ).

2. الأسلحة البيضاء

هي أسلحة تستخدم في التعذيب أو الإهلاك، مثل (السكين ـ الخنجر ـ السيف ـ وكل الآلات الحادة التى يستخدمها الإنسان في إهلاك البشر والكائنات الأخرى)، وكلها أدوات إهلاك لا ينتج عنها نيران.

3. وسائل إشعال النيران
مثل البنزين، والكيروسين، الغاز الطبيعي... الخ.

4. أدوات أخرى

وهي كل أداة ينتج عن استخدامها إهلاك آخرين، سواء من البشر أو من الكائنات الأخرى، وتلك الأدوات تحيط بنا في كل مكان ونحن لا ندري. ندعو الله أن ينبهنا لها، ويحفظنا ويجنبنا آذاها نحن وكل المسلمين في الأرض، وألا تصيبنا تلك الأدوات بسوء.

فليعلم الذين ظلموا أن الله ليس بغافل عما يعملون، وأنه I سوف يهلكهم لامحالة، لكنه يمهلهم إلى حين، وليعلم المؤمنون أن الله هو القوى المتين، يرسل بالرياح والأعاصير، ويثير الزلازل ويفجر البراكين، ويصيب بالميكروبات والجراثيم، وهو القادر على أن يبعث علينا عذاباً من فوقنا، أو من تحت أرجلنا، أو يلبسنا شيعاً ليذيق بعضنا بأس بعض، وهو القادر على أن يرسل على الظالمين طيراً أبابيل لترميهم بحجارة من سجيل، فيصبحوا كعصف مأكول كما فعل بأصحاب الفيل، إن كثيراً من الناس عن عقاب الله غافلون كالدهريين!!، ندعو الله عز وجل أن ينصر المؤمنين على الظالمين كما وعد، وأن يهلك الظالمين فلا يُبقي منهم أحداً.





[1] أمكن لإحدى عواصف الترنيدو التى هبت عام 1931، رفع عربة قطار بركابها 117 شخص بارتفاع 24 م، وقذفها بعيداً عن الخط الحديدى!!.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:34 pm



الفصل الثالث

كيف يعذب الله القرى الظالمة وكيف يهلكها

يبين القرآن الكريم كيف يعذب الله القرى الظالمة وكيف يهلكها، وبمقارنة كيفية إهلاك القرى أو تعذيبها من واقع قصص القرى الواردة في القرآن الكريم، نجد أن سيناريو تعذيب القرى أو إهلاكها يمر بخمس مراحل كالآتي:

المرحلة الأولى: إرسال المنذِرين ـ تكذيب المُنذِرِين.

المرحلة الثانية: إحقاق العقاب الإلهي وتحديد موعده.

المرحلة الثالثة: نجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها.

المرحلة الرابعة: تدمير القرى الظالمة (ساعة الصفر).





من المؤكد أن المُنذِرين في هذا العصر أيضاً والذين لا نعلمهم بالطبع!! الله يعلمهم، يلاقون العقبات والصعوبات ويتعرضون للتكذيب والسخرية والإستهزاء، والتهديد بالقتل أحيانا وإراقة الدماء، ولا شك أن الظالمين في عصرنا هذا يتعجبون كما تعجب الذي من قبلهم!!، كيف لبشر مثلهم يرسله الله لينذرهم من بطشه ؟، تماماً كما تعجبت قريش من رسول الله e من قبل، ومن المفروض أن تتعجب أنت من ذلك الوضع المعكوس، فالمُنذِرون ينادون بالحق، والظالمون يجادلونهم بالباطل!!.

ثانياً: تكذيب المنذرين

تكذيب المنذرين هو المرحلة الثانية من مراحل إهلاك القرى الظالمة، وبدون تكذيب القرى لا يتحقق الشرط الثاني لعقاب الظالمين، فلو صدَّق أهل القرى منذريهم، ما كان لله عليهم حجة وما كان I بحاجة إلى عقابهم، غير أن هناك أنماط مختلفة من المكذبين الذين أهلكهم الله من قبل، سنركز على قوم نوح u إذ هم أوائل المكذبين للأنبياء والمرسلين على الأرض من ناحية، وأنهم أكثرهم حدة وشراسة من ناحية أخرى، وبهم يقاس المكذبون في كل العصور.

لقد ظل نوح u يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع طول تلك الفترة الزمنية لم يستجب له قومه إلا قليلاً منهم، ظل يدعو قومه ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، فلم يزيدهم دعاؤه إلا فرارا ًمن دعوته، ومن خلال تكذيب قوم نوح لرسولهم u، نوضح المراحل المتصاعدة للتكذيب، التى يتعرض لها عادة المُنذِرين، بدءاً من السخرية والتهكم والاستفزاز والجدال، مروراً بمراحل الاتهام المختلفة والمتصاعدة للمنذرين كالاتهام بالضلال أو الجنون، وصولاً إلى مرحلة الزجر والنهر والتهديد بالقتل، أو حتى الوصول إلى مرحلة القتل الفعلى، كما فعل بنو إسرائيل بأنبيائهم من بعد.

لقد تعرض رسول الله محمدا ًe لتكذيب قريش، وعانى كل الأذى منهم، تكبر ـ تكذيب ـ سخرية ـ عناد... الخ، والله I يدعونا دائماً إلى النظر والتدبر في عاقبة المكذبين لأهمية هذا الموضوع، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: الآية 11)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ( (القمر: الآية 9)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( (القمر: الآية 18)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ( (القمر: الآية 23)، وقوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ( (القمر: الآية 33)، وقوله تعالى: )وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ( (الملك: الآية 18)، وقوله تعالى: )وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( (المزمل: الآية 11)، وقوله تعالى: )فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( (القلم: الآيتان 44 و45).

إن المكذبين لا يصدقون ما يجيء به المُنذِرون إليهم، ومن هؤلاء ما يطلق عليهم (الدهريون)، سواء كانوا من الكفار أو المشركين أو الفلاسفة الذين ينكرون البدأة والرجعة، ويعتقدون كما يعتقد الفلاسفة الدهريون المنكرون لله (أنه في كل ستة وثلاثين ألف سنة، يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وهم الذين يزعمون أن هذا قد تكرر مرات كثيرة، فكابروا العقول وكذبوا المنقول)، ولهذا يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ويخبرنا المولى تبارك وتعالى عن عقيدتهم الفاسدة في قوله تعالى: )مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ( (الجاثية: من الآية 24).

لا يتصورون أن الهلاك يأتيهم من عند إلله، بل إن الدهر هو الذي يهلكهم، ويعتقدون أنهم يهلكون بصورة عشوائية من غير حسابات إلهية تحدد آجالهم، وفي اعتقادهم أنهم يُعذَّبون ويُهلَكُون بفعل الدهر ومرور الزمن وبعوامل الطبيعة، ذلك لأنهم وضعوا على أعينهم غشاوة عن الخالق الصانع لكل هذه الأشياء، ولا يتصورون أن وراء هذا الهلاك إلهاً واحداً، يدبر الأمر ويرسل بالمٌنذِرين إليهم لينذروهم ويحذرونهم من عقابه، ولا يعتقدون أن الله هو الذي يحدد الموعد والمكان والأسلوب والوسيلة والآداة التى بها سيُهلَكون!!، وعلى هذا الأساس وبتلك العقيدة الفاسدة، تراهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ويظلمون خلق الله ويتجبرون، فهم كما ذكرنا يعتقدون أنهم غير معاقبين من الله I على ما يفعلونه !!.

وبدون التكذيب لا يعاقب الله أهل القرى، وكم من قرية ظلمت ثم عادت إلى رشدها قبل موعد عقابها، فلم تهلك ولم تعذب، وهناك شرطان بدونهما لايحق العقاب على الظالمين:

· ضرورة إرسال مُنذِرين إلى أهل القرى لإنذارهم من عقاب الله.

· تكذيب أهل القرى للمُنذِرين وإصرارهم على تكذيبهم.

فإن لم يرسل الله مُنذِرين كان لأهل القرى حجة على الله بأنهم لا يعلمون، وأما لو صدَّقوا بالمُنذِرين واستجابوا لهم، ما كان لله حاجة في عقابهم، فما حاجة الله لإهلاكهم بعد أن استجابوا للنُذر وعادوا إلى الحق؟!.

إن إهلاك الظالمين هي حرب معلنة من الله على الظالمين، وليست حرباً معلنة من البشر عليهم!!, فهي ليست كالحروب التي نعرفها، بل هي حرب إبادة يدبرها الله ويسلطها على الظالمين من فوق سبع سماوات، هي حرب تأتى من عند الله الواحد القهار، مالك كل شيء وهو على كل شيء قدير، حرب ليس فيها احتمالات لنجاة الظالمين منها، ولا احتمالات لوقوع أسرى فيها، ولا هناك فرص للتفاوض بشأن المهزومين، ولا بارقة أمل في عودتهم إلى بلادهم وأهلهم سالمين أو حتى محاكمتهم كمجرمين، كما يحدث في حروب البشر على الأرض، بل هي حرب إهلاك وتدمير وفناء محقق كتبه الله على الظالمين المكذبين، الذين لم يغتنموا فرصة النجاة من قبل على أيدي المُنذِرين.

1. إمعان وإصرار على التكذيب

هناك نوع من الناس يصرون على التكذيب أطلق الله عليهم كلمة (الغافلين)، والقرآن الكريم يُعرَّف أسباب تلك الغفلة في قوله تعالى: )وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ( (الأنعام: الآية 179)، فهم لايستخدمون عقولهم ولا حواسهم حتى ولو أرسل الله إليهم المُنذِرين، ومن ثم فهم يمعنون ويصرون على التكذيب!!، وتلك الطائفة من البشر شبهها الله بالأنعام، بل جعلهم أضل من تلك الحيوانات.

وهناك نوع آخر من البشر غارقون في بحار التكذيب والغفلة، لا يكفيهم منذر واحد، ولا اتفاق واحد، ولا عهد واحد، ولا كلمة واحدة، يحرفون الكلام ويقولون ما لا يفعلون، تناقض عجيب في الأقوال والأفعال!! مكذبون، مكذبون، مكذبون!!، مكذبون بعقاب الله، ويمعنون في تكذيب المُنذِرين، ويصرون على تزييف الحقائق. ولقد ضرب الله لنا مثلاً بهذا الصنف من البشر، ذلك الصنف من البشر الذي لا يفلح معه كثرة التحذيرات ولا كثرة النصح والإنذارات، تماماً كما كان يفعل أصحاب القرية (في سورة يس) مع المرسَلين، تدبر قوله تعالى عن أصحاب القرية في سورة يس: )وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ( (يس: الآيات 13 – 15).

إنهم لا يكتفون بتكذيب المُنذِرين، بل تتصاعد مشاعر حقدهم وكراهيتهم إلى حد السخرية منهم والاستهزاء، وإلى حد الإيذاء البدني والتهديد بالرجم أو القتل في بعض الأحيان، كما كان يفعل بنو إسرائيل مع الأنبياء من قبل بغير حق!.

2. استهزاء المُكذِبين بالمُنذِرين

إن أمر المكذبين عجيب!!، فمن ينصحونهم وينذرونهم لا يسلمون من سخريتهِم واستهزائِهم، أما الذين يساندونهم في ظلمهم وطغيانهم فهم أصدقاؤهم !!، والزمن يعيد نفسه فتلك سُنةُ الظالمين في كل عصر، فما كان يحدث من أهل القرى الظالمة في الماضي، نجده يحدث الآن على أرض الواقع، ولو عدنا إلى الماضي فسنرى كيف كان المكذبون يستهزِئون بالمُنذِرين، وكيف كانوا يهددونهم بالرجم والقتل؟!.

3. أمثلة لبعض المكذبين في الماضي

أ. تكذيبهم محمداً e

لم يسلم محمد e من التكذيب والاستهزاء والسخرية، قالوا عنه (شاعر، وكاهن، وساحر، ومجنون)، هكذا لم يسلم محمد e من الأذى المعنوي، وكان الله I يسرى عنه ويعزيه في تكذيب قومه له، ويُذَكِره بأن الرسل الذين سبقوه لم يسلم أحدُ منهم من الأذى المعنوي والمادي في صوره المتعددة (تكذيب ـ وسخرية ـ واستهزاء ـ محاولة القتل... الخ)، قال تعالى: )قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ( (الأنعام: الآيتان 33 و34).

: ولقد كان ما بذلت قريش من مجهود في محاربة هذا الخارج عليها، وعلى دينها ودين آبائها، وما ثابرت وصابرت السنين الطوال للقضاء على هذه الدعوة الجديدة، يعدو ما يتصوره العقل، هددت محمداً e وهددت أهله وأعمامه، تهكمت به وبدعوته، وسخرت منه وممن اتبعه، أرسلت شعراءها تهجوه وتفري أديمه، نالته بالأذى ونالت من اتبعه بالسوء والعذاب، عرضت عليه الرشوة، وعرضت عليه الملك، وعرضت عليه كل ما يطمع الناس فيه، شردت أنصاره عن أوطانهم، وأصابتهم في تجارتهم وفى أرزاقهم، أنذرته وأنذرتهم بالحرب وأهوالها وما تجني وما تدمر، وها هي ذي تحاصرهم أخيرا ً لتميتهم جوعا ًإن استطاعت لذلك سبيلاً.

ب. تكذيبهم نوحاًu

إن تكذيب قوم نوح لرسولهم يحتاج إلى وقفة، فهناك العديد من الأسرار!!. إن تكرار العبارة القرآنية )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ( في العديد من آيات القرآن الكريم، أو في جزء منها تضع أمامنا كثيراً من التساؤلات:

(1) هل يعد قوم نوح هم مقياس أو دليل للرجوع إليهم عند البحث في كيفية تكذيب المُنذرين؟.

(2) ما ذلك النوع من البشر الذين يلبث فيهم رسول ألف سنة إلا خمسين عاماً ينذرهم، فلا يؤمن له إلا من قد آمن من قبل بمئات السنين، رغم طول فترة بقائه معهم.

(3) هل قوم نوح u هم ذلك النوع من البشر، الذي لا يفلح معه كثرة الإنذارات ولا طول زمن الدعوة؟.

لقد ظل نوح u يدعو قومه ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعاؤه إلا فِراراً، ثم إنه دعاهم جهاراً!!، ثم إنه أعلن لهم وأسر لهم إسراراً، ومع كل تلك الأساليب التي استخدمها معهم، أصروا على كفرهم وعنادهم واستكبروا استكباراً، إنهم حقاً مكذبون محترفون، إذا جاز التعبير، يضرب بهم المثل في قمة تكذيب الظالمين للمُنْذِرين على مر العصور.

إن ما فعله قوم نوح مع نوح u هو نموذج للمكذبين حقاً، لقد أخذوا كل مراحل التكذيب التى يمكن أن تحدث لرسول منذر، فقد بدءوا بالسخرية منه والتهكم عليه!، ثم تصاعد تكذيبهم ليصل إلى مرحلة الاتهام بالضلال والجنون!!، ثم تصاعد تكذيبهم ليصل إلى مرحلة الزجر والنهر!!!، ثم إلى مرحلة التهديد بالقتل أو الرجم!!، فكانت مراحل التكذيب تتصاعد الواحدة بعد الأخرى، وكل الأمم التى جاءت بعد نوح u يضرب الله لهم المثل بهم، من خلال تلك العبارة القرآنية التى تتكرر في القرآن الكريم وهي: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(، وهي عبارة قرآنية تلفت الأنظار إلى ذلك النوع الخطر من المكذبين، الممعنين في التكذيب، والمصرين عليه.

الآيات التالية تشير إلى عظم تكذيب قوم نوح لرسولهم، والتي تتكرر فيها العبارة القرآنية المشار إليها )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(، لتبين أن قوم نوح u هم الذين سبقوا العالم كله في مضمار التكذيب هذا عن غيرهم، كأنهم هم قدوة للمكذبين ومثلهم في الماضي والحاضر، تدبر قوله تعالى:

· )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ( (ص: الآية 12).

· )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ( (غافر: من الآية 5).

· )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ( (ق: الآيات 12 – 14).

· )وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ( (الحج: الآيات 42 – 44).

ويبين لنا القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للشك، المراحل القاسية من التكذيب التى مر بها نوح u في مواجهة قومه، وما لاقاه من تكذيب متصاعد خلال الفترة الزمنية الكبيرة، التى مكث فيها معهم (ألف سنة إلا خمسين عاماً)، حتى بلغ التكذيب مداه.

مراحل التكذيب التي مر بها نوح u

(1) مرحلة السخرية

تجلت تلك المرحلة حين بدء نوح u في صُنع الفلك، هذا الفلك الذي هو وسيلة النجاة لنوح u والذين آمنوا معه، والذى استغرق زمناً طويلاً في صنعه، إلا أن ذلك كان مدعاة لسخرية قومه منه، فكيف يصنع فلكاً في الصحراء في مكان بعيداً عن الماء ولماذا؟!، لم يكن تعجب!! بل كان سخرية منهم، فكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، كانوا يسخرون منه ويضحكون، قال تعالى: )وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ( (هود: من الآية 38)، كان نوح u يستمع إلى سخريتهم ويعلق على تلك السخرية بقوله: )إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ( (هود: من الآية 38).

(2) مرحلة التهكم والاستفزاز

انتقلوا من مرحلة السخرية إلى مرحلة التهكم والاستفزاز، تدبر مدى تهكمهم واستفزازهم لنوح u في قوله تعالى: )فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ( (هود: الآية 27)، والرذل هو النذل، قالوا اتبعك أخساؤنا وسقطنا وسفلتنا، قال النحاس الأراذل هم الفقراء، والذين لا حسب لهم، والخسيسو الصناعات، وفي الحديث أنهم كانوا حاكة وحجامين.

كان هذا جهلاً منهم لأنهم عابوا نبي الله نوح u بما لا عيب فيه، لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، إنما عليهم أن يأتوا بالبراهين والآيات، وليس عليهم تغيير الصور والهيئات، وهم يرسلون إلى الناس جميعاً، فإذا أسلم منهم الدنيء لم يلحقهم من ذلك نقصان، لأن عليهم أن يقبلوا إسلام كل من أسلم منهم. قال علماؤنا: إنما كان ذلك لاستيلاء الرياسة على الأشراف، وصعوبة الانفكاك عنها والأنفة من الانقياد للغير، والفقير خلي عن تلك الموانع فهو سريع الإجابة والانقياد، وهذا غالب أحوال أهل الدنيا. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، الأرذلون هم الحاكة والحجامون.

(3) مرحلة الجدال

لم يكتفوا بالسخرية والتهكم والاستفزاز، بل تصاعد تكذيبهم لنوح u إلى مرحلة الجدال، كما توضح لنا الآية التالية من سورة هود، والتى يعبر عنها القرآن الكريم بعبارة ]قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا[، والتى يبدو منها أنهم قد وصلوا في جداله إلى حد بعيد، فكان كلما جاءهم نوح u بالحق جادلوه بالباطل وهكذا، تدبر قوله تعالى: )قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ( (هود: الآية 32).

(4) مرحلة الاتهام بالضلال

استمر قوم نوح u في تصعيد تكذيبهم ليصلوا به إلى مرحلة توجيه الإتهام إليه بالضلال، مع أنهم هم الضالون، لكن المكذبين هكذا يكونون، يقلبون الأمور ويعكسون الحقائق!!، قال تعالى مصوراً لنا قولهم المنكر: )قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ( (الأعراف: الآية 60).

(5) مرحلة الزجر والاتهام بالجنون

إن الاتهام بالضلال لا شك أنه أقل حدة من الاتهام بالجنون، ويتضح لنا من الآية التالية حدة التعامل مع الرسول المُنذر، حيث تتصاعد أعمال التكذيب ودرجات الاتهام، لقد تحمل نوح u الكثير من قومه طوال تلك الفترة الزمنية التى تقدر بمئات السنين، لم يكتفوا بتوجيه اتهامهم الباطل له بالجنون، بل زجروه ونهروه أيضاً!!، فما أصبرك يا نوح على قومك، قال تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ( (القمر: الآية 9).

(6) مرحلة التهديد بالرجم

هكذا بلغ التكذيب مداه، ووصل إلى ذروته!!، فلم يبق بعد التهديد سوى التنفيذ، لقد تصاعد تكذيبهم خطوة بعد خطوة، ودرجة بعد درجة، حتى بلغ مداه ووصل الأمر إلى تهديده بالرجم، قال تعالى: )قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ( (الشعراء: الآية 116)، إن التهديد بالرجم أو القتل هو أعلى درجات التكذيب، فلا يبقى بعدها سوى البطش والتنكيل بالمُنذِرين وسفك دمائهم، أي الانتقال من مرحلة التكذيب المعنوي، إلى مرحلة التكذيب المادي الذى يصل إلى حد القتل، وهذا الأسلوب مستمر منذ عصر نوح u وحتى الآن، فلا يسلم منذر من بطش قومه، ومن تصعيد مراحل التكذيب كما صورناه في مراحل تكذيب قوم نوح لرسولهم u.

ما سر المقارنة الدائمة بقوم نوح u في تكذيبهم؟!، وما سر تكرار تلك العبارة القرآنية في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ(!!، قد يكون الأمر هو مبالغتهم في تكذيب رسولهم، لكن كلما تذكرنا ما فعله قوم نوح أساتذة التكذيب وعتاته مع رسولهم u، قَلَّ ضيق صدر المنذرين من تكذيب المكذبين، لأنهم حين يسترجعون ما لاقاه نوح u من قومه في الماضي، يهون من دونه كل المكذبين في الماضي والحاضر، وهذا الأسلوب الوارد في القرآن الكريم عن تكذيب قوم نوح لرسولهم، يجعل منهم نموذجاً للمكذبين في كل عصر، فقد بين القرآن الكريم كيف كان تكذيبهم دائماً ومتصاعداً، قولاً وفعلاً بما ليس لها مثيل، والمعروف بداهة أن المكذبين يفرحون كثيراً حين ييأس المنذرون منهم ومن إيمانهم، فهذا هو أملهم وحلمهم ومناهم!!، لذلك تراهم دائماً يضعون العقبات أمامهم، ويجعلون أصابعهم في أذانهم حتى لا يسمعوا دعواتهم.

لقد كذب بنو إسرائيل رُسُلهُم في الماضى، حتى إنهم كانوا يقتلونهم غيظاً وحقداً، فكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون، هكذا اليهود، مكذبون وقتله، قال تعالى عنهم: )لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ( (المائدة: الآية 70).

لقد أخبرنا القرآن الكريم عن نفسية أولئِك المسرفين في التكذيب، الذين لا يفلح معهم نصح ولا كثرة المُنْذِرين، ولو رجعنا إلى قوم يس، لوجدنا أن الله I قد أرسل إليهم رسولين فلم يفلحا معهم!، فعززهم الله برسول ثالث فلم ينجح هو الآخر معهم!، فقوم يس هم من ذلك النوع المكذب من البشر، الذين لا يفلح معهم كثرة المنذرين، لقد هددوا الرسل الثلاثة بالرجم، قال تعالى على لسان أصحاب القرية وهم يكذبون المرسلين: )إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ( (يس: من الآية 18)، لقد هددوا الرسل بالرجم، تماماً كما هدد قوم نوح رسولهم u بالرجم من قبلهم.

ج. تكذيبهم هوداً u

كذبت قوم عاد هوداً u، ولم يسلم من سخريتهم واستهزائهم به قالوا: )إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ( (هود: من الآية 54)، وقالوا: )إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ( (الأعراف: من الآية 66)، وقالوا: )يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ( (هود: من الآية 53). هكذا كذبوا هوداً u كما كُذِب نوح u من قبل.

د. تكذيبهم صالحا ً u

لم يسلم صالح u من سخرية قومه (ثمود) أيضاً، ولم يسلم من استهزائهم، قالوا : )يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا( (هود: من الآية 62)، أي أنك كنت محط رجائنا فيك من قبل، فكيف أصبحت هكذا ؟، وأضافوا: )وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( (هود: من الآية 62)، هكذا يفعل المُكذِبون!!، كلامهم غير منطقى، وغير مقنع، وأمرهم غريب وعجيب !!، هكذا كذبوا صالحا ًu كما كُذِب نوح u من قبل.

هـ. تكذيبهم لوطاً u

كذبت قوم لوط نبيهم لوطاً u، وكانت سخريتهم من نوع مختلف، فهي سخرية الفاجر المتبجح، إذا جاز التعبير، يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ومع ذلك يريدون أن يُخرِجوا آل لوط u من قريتهم، لأنهم أُناس يتطهرون، ولأن لوطا u يأمرهم بالطهارة من تلك الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحد من العالمين، قال تعالى على لسان قوم لوط: )قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ( (الأعراف: من الآية 82).

تكذيب معكوس فهم يعلمون أن نبيهم يأمرهم بترك تلك الفاحشة التي ما سبقهم بها من أحدٍ من العالمين، ومع ذلك يريدون إخراجه وأهله من قريتهم لأنهم أُناس يتطهرون!!، أسلوب تكذيب غاية في الفجور والتبجح، فلا حياء عندهم ولا استحياء. وعندما يعرض عليهم ما هو أطهر لهم في بناته بقوله: )يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ( (هود: من الآية 78)، أي إن زواجكم بهن أطهر لكم إن كنتم فاعلين، وبالطبع هو أطهر مما يفعله الرجال بالرجال، فمعاشرة الرجال للنساء بالزواج هو الأمر الطبيعي، الذي فطر الله الناس عليه، حتى ذكور البهائم لا تأتي إلا الإناث، ولا يوجد حتى في الكائنات الأخرى، حيوانات أو طيور أو حشرات، ذكوراً تجامع ذكور، كما كان يفعل قوم لوط، لذلك كان ردهم الفاجر المتبجح على نصحه لهم: )لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ( (هود: من الآية 79).

سخرية فاجرة ليس فيها حياء ولا استحياء، وهو قول كان يجب أن يخجلوا منه وهم ذكور!!، ولك أن تتخيل كم عانى لوط u من تكذيب قومه الشواذ الفجرة المتبجحون؟. هكذا كذبوا لوطاً u كما كُذِب نوح u من قبل

و. تكذيبهم شعيباً u

لم يسلم شعيب u مما لم يسلم منه جميع الرسل والأنبياء من قبل، قال الملأ الذين كفروا من قومه: )لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ( (الأعراف: من الآية 90)، وقالوا: )يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ( (هود: من الآية 87)، هكذا تهكم وسخرية واستهزاء، ثم تهديد بالطرد، حيث قال الملأ الذين استكبروا من قومه: )لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ( (الأعراف: من الآية 88).

ثم يتصاعد تكذيبهم إلى حد التهديد بالرجم قالوا: )يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ( (هود: الآية 91). لقد قيل إن شعيباً u كان ضعيف البصر وقيل إنه كان ضريراً، ولولا رهطه أي (عشيرته) التى كان يستند إليها ويتقوى بها، لرجموه بالحجارة، هكذا كذبوا شعيباً u كما كُذِب نوح u من قبل، وكذلك لم يسلم رسول ولا نبي من أذى المكذبين (تكذيب ـ سخرية ـ استهزاء ـ وتهديد ووعيد).

إن سيناريو عقاب المكذبين إذا جاز التعبير والذى يصوره لنا القرآن الكريم، له أسلوب لا يتبدل ولا يتغير على مر العصور، فتلك سُنة الله مع المكذبين، حيث يرسل الله I المٌنذِرين إلى أهل القرى الظالمة لينذروهم من عقابه، فإن استجابوا عفا الله عنهم وغفر لهم وكشف عنهم عذابه، فإن الله لا يريد عذاباً لأحد كما ذكرنا من قبل، فما يفعل الله بعذاب الناس إن آمنوا به وشكروه على نعمه؟!.

إن موقف المكذبين المستكبرين الذين لا يستجيبون لدعوة المُنذِرين ويصرون على التكذيب، يحق عليهم غضب الله وعقابه كما حق على الذين من قبلهم (قوم نوح، عاد، فرعون ذي الأوتاد، ثمود، قوم لوط، أصحاب الأيكة). قال تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ( (ص: الآيات 12 – 14)، فتلك هي العلة!!.. يحق عقاب الله على أهل القرى عندما يظلمون ويُكَذِبون الرسل.

فحينما كُذِب نوح u حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب هود u حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب صالح u حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب لوط u حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب شعيب u حق على قومه عقاب الله.

وحينما كُذِب موسى u حق على قومه عقاب الله.

وهكذا يحق عقاب الله على المكذبين في كل مكان وزمان!!، فسنة الله لا تتبدل ولا تتغير باختلاف المكان والزمان.

4. عقاب الله للمكذبين يكون إما بالإهلاك او بالتعذيب أو بالاثنين معاً

أ. الإهلاك، لقوله تعالى: )فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ( (المؤمنون: الآية 48).

ب. العذاب، لقوله تعالى: )وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ( (النحل: الآية 113).

وقد بينا أن الإهلاك ليس هو التعذيب، فالإهلاك شيء، والتعذيب شيء آخر، لقوله تعالى: )وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ( (الأعراف: الآية 164)، وقد يسبق الإهلاك شيء من التعذيب، كما حدث لقوم فرعون حين أرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، ليذوقوا العذاب قبل إهلاكهم لعلهم يرجعون، وحين استمروا في كبرهم وعنادهم، أهلكهم الله في نهاية الأمر.

5. ماذا يحدث للمكذبين حين يستيئس منهم الرسل؟

قال تعالى: )حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( (يوسف: الآية 110)، فعندما يصل المُنذِرون مع المكذبين إلى مرحلة لا عودة بعدها، وبعد تأكد المُنذِرين من تكذيب قومهم لهم، وبعد يأسهم من إيمانهم، هنالك ينصر الله رسله والذين أمنوا معهم وينجيهم، وهنالك أيضا يذيق الله المجرمين بأسه وعقابه، ومثال ذلك ما حدث مع نوح u وقومه، فحين يئس نوح u من إيمانهم، وعلم أن لافائدة منهم ولا رجاء فيهم، وأوحى الله إليه بأنه لن يؤمن له من قومه إلا من قد آمن من قبل، هنا تأكد نوح u من إصرار قومه على تكذيبه، ويئس من إيمان المزيد منهم، ولاحت له بوادر عقاب الله لهم، وعلامات النجاة والنصر وعليهم، واقتراب موعد إهلاكهم، كأنه يراهم وهم يصارعون الغرق أمام عينيه!! لتتجلى تلك الحقائق أمامه بعد حين.

6. التعامل مع المكذبين يحتاج إلى سياسة وفصاحة وقدرة على الإقناع

إن التعامل مع المكذبين يحتاج إلى فصاحة اللسان، وشيء من السياسة والحكمة والقدرة على التعبير والإقناع، ويوضح لنا القرآن الكريم في قصة موسى u وفرعون هذا الأمر، فقد أمر الله موسى u بالذهاب إلى فرعون عندما طغى في الأرض وتكبر، وخشى موسى u من تكذيب فرعون وقومه له فلا ينطلق لسانه ليفصح عما يريد، فطلب من الله عز وجل أن يَحُل عقدة لسانه أولاً كي يفقهوا قوله، وأن يرسل معه أخاه هارون الذي يمتاز بفصاحة اللسان، كي يشدد به أزره ويعاونه ويعضده في مهمته، فاستجاب الله لدعائه.

والمُكذِبون عادة لا يؤثر فيهم إلا فصيح اللسان، القادر على مواجهة مكرهم بالحجة والبيان، فحين خاف موسى u من تكذيب فرعون وقومه له، وهو يعلم حقيقة مابه من رتة (لثغة في لسانه)، وأنهم لن يفقهوا كل ما يريد أن يقوله لهم، طلب من ربه أن يرسل معه أخاه هارون u، ليس ليتولى المهمة بدلاً منه بالطبع!، إنما كان طلبه من الله عز وجل واضحاً ومحدداً، إنه يريد هارون u معه لكى يكون له عوناً، في إقناع فرعون بما أرسل به من عند الله، وأيضاً لتصديقه حينما يكذبه فرعون وقومه.

استجاب الله لموسى u ودعمه بأخيه هارون u، الذى يتسم بفصاحة اللسان، لقول موسى u: )وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي( (القصص: من الآية 34)، فموسى u يعلم فصاحة أخيه هارون u، من أجل ذلك طلب من الله أن يرسله معه، فلم يتول هارون u المهمة بدلاً من موسى u لفصاحته وقدرته على الإقناع، حاشا لله أن يحدث ذلك!!، فموسى u كليم الله ولكلٍ مقامه عند الله، إنما أرسل هارون u معه ليعضده في مهمته الصعبة، فهم ذاهبون إلى جبار من الجبابرة، كافر بالله ومستخِف بقومه، والمهمة صعبة، تحتاج إلى سياسة وفصاحة وقدرة على الإقناع.

يمكن القول بأن ما يفعله وزراء الخارجية في الدول الإسلامية هو شيء من هذا القبيل، ويشبه ما كان يقوم به هارون u مع موسى u في مهمة إقناع المكذبين مثل فرعون وقومه، فوزراء الخارجية يذهبون إلى بعض الدول، وهم يتميزون بالدبلوماسية والسياسة وفصاحة اللسان، وعندهم القدرة على الإقناع، فهم خير من يمثل دولهم لإقناع الآخرين بمهامهم، التى يكلفون بها من رؤساء بلدانهم، وهي تحتاج بالطبع لفصاحة اللسان والقدرة على التعبير والكلام، واستخدام أساليب الإقناع المشروعة مع الآخرين، فهم يعضدون بذلك رؤساء بلدانهم في تلك المهام ويمثلونهم، وكل ما يستخدمونه من فصاحة وقدرة على الإقناع إنما هي لإنجاح المهام، وليس ليحلوا مكان رؤسائهم بالطبع!!.

إن سمة الرسل هي الصبر على تكذيب وإيذاء المكذبين لهم، وهذا ما كان يسري به الله على محمدٍ e قال تعالى: )وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ( (الأنعام: الآية 34).

7. التدبر والنظر في عاقبة المكذبين (البحث عن الكيفية)

إن تكذيب المُنذِرين موضوع مهم للغاية، فإن الله لم يعاقب قرية من القرى بالتعذيب أو بالإهلاك، إلا لأنهم كذبوا ولم يبالوا بما جاءت به النذر، فإذا تحقق التكذيب حق عليهم العقاب وهذا مكمن الخطر، فإن تكذيب المُنذِرين، هو بداية مرحلة معاناة للرسل، يعقبها غضب من الله وإحقاق عقابه عليهم بالتعذيب أو بالإهلاك كما وعد، ولقد خلت أمم كثيرة كذبوا الرسل والأنبياء من قبل فأهلكهم الله جميعاً.

انتهي عصر الأنبياء والمرسلين، لم يبق لنا سوى سُنة الرسول الكريم e، وكتاب الله (القرآن الكريم) الذي قص الله علينا فيه من سير الأولين، وبين لنا عاقبة المكذبين، وأمرنا بالرجوع إلى القصص التى جاءت عن أهل القرى الظالمة، لننظر كيف يفعلون مع الرسل، وكيف كانت عاقبتهم، قال تعالى: )قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: الآية 11).

تدبر كيف يحث الله الناس على الانتباه!!، إلى (الكيفية) التي عاقب الله بها المكذبين، يقول I: )اُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (الأنعام: من الآية 11)، تلك العبارة القرآنية )كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين( تتكرر في أكثر من آية للفت الأنظار إلى هذا الأمر، قال تعالى: )قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَاُنظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( (آل عمران: الآية 137).

يريد الله لنا التدبر ليس في فكرة إهلاك المكذبين، بل في (كيفية) عقابهم وعاقبتهم وكيف كانت عاقبتهم، ويلاحظ أن القرآن الكريم قد بين فرقاً جوهرياً بين كلمة )فَاُنظروا(، وكلمة )ثُمَّ اُنظروا(، والواردة في الآية 137 من سورة آل عمران، والآية 11 من سورة الأنعام على الترتيب، (اُنظر شكل الفرق بين آيتي فانظروا – ثم أنظروا).

إن هناك آيات تدفعنا للنظر والبحث الفوري عن عاقبة المكذبين، في فعل الأمر (فاُنظروا) التي تفيد التعقيب، أي النظر الفوري في عاقبة المكذبين فور حدوث العقاب!، وهذا ينطبق على كل عقاب أوقعه الله على المكذبين في العصر الحاضر، والذي يحتاج النظر الفوري والتدبر في أمرهم ليكونوا عبرة وعظة لأمثالهم في الحاضر.

إن فعل الأمر )ثُمَّ اُنظروا( يفيد التراخي، ويحتاج أمرهم إلى بحث وتدقيق وإلى وقت للتحليل، وهذا ينطبق على القرى التي أهلكها الله في الماضي، مثل عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح وغيرهم لمعرفة (كيف كان عاقبة المكذبين في عصرهم)، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهد ووقت للبحث والتنقيب.

تلك القاعدة تجعلنا نفكر في عاقبة المكذبين في الماضي وما لحق بهم من هلاك ودمار، وعاقبة المكذبين في الحاضر وما يلحق بهم من هلاك ودمار، فتلك القاعدة لا تقتصر على المكذبين السابقين وحدهم، بل تنطبق على المكذبين في كل عصر، والنظر في أمر المكذبين وعاقبتهم إنما هو ذكرى وإنذار للمكذبين في كل عصر، ليعلموا أنهم لن يفلتوا من عقاب الله المنتقم الجبار.




الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:35 pm



المبحث التاسع

إحقاق العقاب الإلهي وتحديد موعده (المرحلة الثانية)

قال تعالى: )وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( (الإسراء: الآية 16)، وكلمة )فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ( تعني حق عليها العذاب، أو حق عليهم القول بالعذاب الذي لا مرد له, فاستأصلناهم بالهلاك التام. وفي قوله تعالى: )كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ( (ص: الآيات 12 - 14)، وكلمة )فَحَقَّ عِقَابِ( بمعنى وجب عليهم العقاب (بالتعذيب أو بالإهلاك)، وتتحدث الآيات السابقة من سورة ص، عن القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات، وذلك نتيجة مخالفتهم الرسل وتكذيبهم للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبرغم أنهم كانوا أشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، إلا أن ذلك لم يدفع عنهم من عذاب الله من شيء حين حق عليهم عقابه، ولهذا قال U )إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ(، فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم لرسلهم.

سبق وأن ذكرنا أن إهلاك القرى الظالمة أو تعذيبها لا يأتي عشوائياً، بل إن وراء ذلك الإهلاك أو التعذيب جنود تأتي من عند الله لتنفذه، فإذا حق عقاب الله على الظالمين، فإنه I يحدد وقته وموعده، وتنفيذ العقاب يكون إما بالتعذيب أو بالإهلاك، وتوقيتاته محددة بدقة بالغة للغاية، تنفذ الملائكة خلال تلك التوقيتات إجراءات كثيرة ومتشابكة ومعقدة!!، ليس ذلك فحسب، بل إن الله I يحدد أسلوب الإهلاك ووسائل تنفيذه وأدواته أيضا للملائكة المنفذين، كما أن الله يمهل المكذبين حتى يحق عليهم عقابه ولا يعجل عليهم به، وحين يحدد الله موعد العقاب، فلا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، هذا الموعد وهذا التوقيت المحدد يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون، أو يأتيهم جهرة وهم ينظرون، يأتيهم وهم في غمرتهم ساهون، يأتيهم وهم يتصرفون في شؤونهم على الطبيعة كأنهم خالدون.

إن إحقاق العقاب وتحديد موعده، يحدث دون علم من حق عليهم العقاب، فهم قد كذبوا المُنذرِين من قبل ولم يحدث لهم شيئ!!، تجبروا في الأرض ومع هذا لم يعاقبوا!!، فلم يخطر ببالهم أن عقاب الله قدم إليهم، وهم لا يتوقعونه ولايصدقونه!، ولو أخذنا مثلاً بإسرائيل الآن، نجد أنها تتجبر في أرض فلسطين منذ عام 1948، ولا تعلم أن قد حق عليها عقاب الله وحدد موعده وهم لا يشعرون، فهم لا يدرون عن ذلك شيئاً ولا يصدقون به، ولو كانوا يصدقون بعقاب الله لهم ما كانوا ليفعلوا ما يفعلونه الآن، وإن تأخير عقابهم حتى الآن إنما هو استدراج لهم من ربهم، ليملي لهم!!، حتى إذا جاء موعدهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

أولاً: لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد دون عقاب

قال تعالى: )لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ( (آل عمران: الآية 196)، يقول الله تعالى لا تنظر إلى هؤلاء الكفار وما هم مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، والمعنى لا يغرنك يا محمد تقلب الذين كفروا في البلاد، وتصرفهم في الأرض وضربهم فيها، وقد نهى الله I نبيه e عن الاغترار بضرب هؤلاء في البلاد، وبين له أنه يمهلهم رغم شركهم وجحودهم لنعمه وعبادتهم غيره، وقد خرج الخطاب بذلك للنبي e، إلا أن المَعْنِي به غيره من أتباعه وأصحابه، وقيل الخطاب للنبي e والمراد به الأمة، وقيل الخطاب للجميع، وذلك أن المسلمين قالوا هؤلاء الكفار لهم تجارة وأموال واضطراب في البلاد، وقد هلكنا نحن من الجوع فنزلت هذه الآية.

المعنى: لا يغرنكم سلامتهم بتقلبهم في أسفارهم رغم ما يفعلونه من ظلم، فالعقاب آتيهم لا محالة، فهي مسألة وقت ليس ألا، فلا يغرنك تقلبهم في البلاد، فعقاب الله للمكذبين واقع لا محالة، وعلى المنذرين أن يصبروا على تكذيبهم وسخريتهم وتهديداتهم، فالمسألة مسألة وقت لا أكثر، قال تعالى: )وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا( (المزمل: الآيتان 10 و11).

إن الله يمهلهم حتى وقت عقابهم الذي حدده لهم، وهو توقيت دقيق محسوب باليوم والساعة والثانية وأقل من ذلك وأدق!!، فوقت إهلاك الظالمين هو نفسه يوم عيد النجاة للمظلومين!!، وهو نفسه يوم الكارثة للمكذبين، فالله يستدرجهم من حيث لا يعلمون، حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر يوم إهلاكهم أو تعذيبهم، قال تعالى: )فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( (القلم: الآيتان 44 و45).

ثانياً: الملائكة تعرف من الله موعد الهلاك ووقته

بعد أن يحق عقاب الله على الظالمين، وبعد أن يحدد الله موعد ووقت العقاب، فإن الله I يخبر ملائكته المنفذين بموعد ووقت العقاب، قد يكون توقيت العقاب بياتاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون!، وأياً كان توقيت الإهلاك فهم على علم به من الله، فالوقت محدد للملائكة بدقة بالغة قبل ساعة التنفيذ (ساعة الصفر)، دقة يعجز عن تصورها الإنسان، دقة لا تدخل في قواميس الانضباط التى يعرفها الإنسان، لقد كانت الملائكة تعلم بموعد إهلاك قوم لوط ووقته بكل دقة، وقد حدد الله له وقت (الصبح)، كما أنهم أخبروا لوطاً u بهذا التوقيت قبل حدوثه: )إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( ( هود: من الآية 81).

والملائكة تنفذ عقاب الله في موعده فهم يفعلون ما يؤمرون به من ربهم، بأعلى درجات الدقة والانضباط، إنها أوامر من رب العالمين، أوامر من القوى العزيز، أوامر لا تقبل التردد أو العصيان، وحساب الوقت عند الملائكة بالغ الدقة والتعقيد، لا تقديم فيها ولا تأخير، تذهب الملائكة وتحضر في مكان الحدث قبل الحدث، وتعد ترتيباتها قبل (ساعة الصفر)، أى قبل ساعة تنفيذ عقاب الله على الظالمين، والظالمون في غفلتهم لا يدرون شيئاً عما يُدَبر لهم وما يشعرون!!، فبعد ساعات ستمطر الملائكة قوم لوط بمطر السوء (حجارة من سجيل منضود) ، فيلقون مصارعهم مرجومين وهم ينظرون ويستغيثون،

هناك حقائق مهمة

1. أن الملائكة تعلم تفصيلاً موعد إهلاك قرية لوط.

2. أن الملائكة قد تخبر الرسل بتفاصيل إهلاك القرى الظالمة وموعده بإذن من الله، فقد أخبروا إبراهيم u من قبل بأنهم سيذهبون إلى قرية لوط لتدميرها، ثم أخبروا لوطاً u بعدها حين دخلوا قريته بمعلومات أكثر تفصيلاً، أخبروا إبراهيم u بكيفية إهلاك قرية لوط، وأخبروا لوطاً u بوقت إهلاك القرية.

3. أن الملائكة تعلم تفصيلا أسلوب نجاة المؤمنين قبل إهلاك القرى الظالمة (قاعدة ثابتة)، فالملائكة لا تترك المؤمنين يُهلكون مع الهالكين لأن الله أمرهم بنجاتهم، كل شيء محسوب فلا عشوائية في إهلاك الظالمين، ولا عشوائية في نجاة المؤمنين، فكل شيء عند الله بحسابات دقيقة ومعقدة ومتشابكة، حسابات بالغة الدقة وفوق مستوى تفكير البشر، حسابات وترتيبات وتدابير، يدبرها الله من فوق سبع سماوات، وما على الملائكته إلا السمع والطاعة والتنفيذ، ينفذون كل شىء بحسابات دقيقة ومتشابكة ومتشعبة بين (الهالكين والناجين).

4. يتحركون في اتجاهات متعددة بنظام محكم وتوقيتات محددة بالتتالي وعلى التوازي، فلا احتمالات عندهم لخطأ في التنفيذ ولا غفلة عندهم ولا غفوة!!، فلا احتمالات أن تترك الملائكة أحداً من المؤمنين ليهلك مع الهالكين، ولا احتمالات أن يهرب أحد من الذين كُتِب عليهم الهلاك لينجو مع الناجين، فما أراده الله أن يحدث لا بد أن يحدث، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!.

ثالثاً: تعليمات الملائكة للناجين محددة وواضحة ومفصلة

لم يترك الملائكة للناجين أي استنتاجات أو استفسارات، فقد حددوا للوط u كل شيء، وفى نفس الوقت حجبوا عن الهالكين كل شيء!!، أحاطوا الأحداث المقبلة بالسرية والكتمان، وأخفوها عن الهالكين، بينما كانت هناك تعليمات محددة وأوامر صارمة واضحة ومفصلة للناجين. إنه هجوم مدبر ومفصل ومباغت في نفس الوقت، هجوم لا يحتمل من الملائكة أى خطأ في تنفيذه أو تهاون.

تدبر تلك التعليمات الواضحة التى حددتها الملائكة للوط u: )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: الآية 81).

هكذا صدرت تعليمات محددة وتفصيلية من الملائكة إلى لوط u، أمروه بأن يصطحب أهله، وأن يسرى بهم ليلاً خارج القرية، وألا يلتفت منهم أحد عند سماعهم أصوات مروعة خلفهم، كما أخبروه أيضا بهلاك إمرأته قبل إهلاكها في الصباح مع قومها، لا تتعجب ولا تتعجل!!، فبعد ساعات قليلة تنكشف الأستار، وتتجلى (ساعة الصفر) للجميع، ويرى قوم لوط الموت في كل مكان، وتخرب ديارهم ويحل الدمار بقريتهم!!، بعد قليل ترفع الملائكة القرية إلى أعلى ثم تهوى بها إلى أسفل، ويمطرون أهلها بحجارة من سجيل منضود.

رابعاً: موعدهم في كتاب مسطور

الله هو الخالق البارئ المصور لكل خلقه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وكل شيء عند الله بمقدار وحسابات، ليس كما يظن البعض بأنها أمور تسير وحدها هكذا!!، فحقيقة الأمر أن هناك حسابات دقيقة ومعقدة يعجز الوصف عن ذكرها، قال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( (آل عمران: من الآية 120)، وقال تعالى: )وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( (الأنفال: من الآية 47)، وقال شعيب لقومه: )إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( (هود: من الآية 92)، وقال تعالى: )أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ( (فصلت: الآية 54).

الآيات السابقة تبين وتوضح أن الله بكل شيء محيط، فبدء الخلق عنده ونهاية الخلق عنده، وكل شيء عنده بمقدار وهو العليم الخبير، وما نراه بعيداً يراه I قريباً، وإن يوماً عنده كألف سنة مما يعده البشر، وكل شيء مسطور عنده في كتاب، وعند الله كل أسرار الخلق، وكل أوقات الخلق وكل أعمال الخلق، عالم الغيب وحده لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى I من عباده، والله I يخبرنا في القرآن الكريم بتلك الحقائق، حيث حكم وقضى بما كتب عنده في اللوح المحفوظ، بأن ما من قرية من القرى سيتم إهلاكها أو تعذبيها إلا في كتاب مسطور، قال تعالى: )وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا( (الإسراء: الآية 58).

إن توقيت إهلاك القرى أو تعذيبها ليس عشوائياً كما يظن الدهريون، بل إن إهلاك القرى مكتوب في كتاب مسطور، سبق الله بعلمه الواسع أفعال هؤلاء البشر، ويعلم متى سيفسدون في الأرض وكيف يفسدون، ومتى يتجبرون فيها ويسفكون الدماء ويهلكون الحرث والنسل، وبعلمه المسبق الواسع يعلم أنهم سيكذِبون المُنذِرين، ويعلم في أي قرن من الزمان سيصلون إلى ذروتهم في التكذيب، ويعلم متى يحق عليهم عقابه، ومتى يرسل عليهم ملائكته لتنفيذ عقابه، كل تلك الأمور مسجلة عند الله في كتاب مسطور.

كتاب مسطور، محدد فيه موعد إهلاك كل ظالم على وجه الأرض، ومحدد فيه وقت العقاب، ومحدد فيه متى يتم إخراج المؤمنين من تلك القرى قبل إهلاكها وكيف؟، ومحدد فيه الأسلوب والوسيلة والأداة التى سيتم بها تنفيذ عقابه عليهم، كل شيء مسجل عند الله I، وكل قرية ظالمة لها (كتاب معلوم)، محدد فيه وقت إهلاكها، فلا شيء يحدث عشوائياً في هذا الكون، كما يتصور الدهريون، قال تعالى: )وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ( (الحجر: الآية 4)، فكل شيء مسجل عند الله في كتاب معلوم قبل أن يخرج إلى أصحابه، وما يؤكد تلك الحقائق، قوله تعالى: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ( (الحديد: الآية 22).

يخبر الله I عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ(، أي في الآفاق وفي نفوسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم من قبل أن نبرأها عائد على النفوس، وقيل عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها.

قال ابن جرير عن منصور بن عبد الرحمن: كنت جالسا مع الحسن فسأله رجل عن قوله تعالى: )مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا(، فسألته عنها فقال: سبحان الله ومن يشك في هذا؟، كل مصيبة بين السماء والأرض هي في كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة، وقال قتادة ما أصاب من مصيبة في الأرض، هي السنون، يعني الجدب، )وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ( أى الأوجاع والأمراض، قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.

والآية السابقة من أدل الأدلة، على القدرية نفاة العلم السابق قبحهم الله. قال الإمام أحمد "حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ وَابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ: ]قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[ (مسند أحمد: 6543).

وقوله تعالى: )إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(، أي أن علمه تعالى للأشياء قبل كونها، وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل وأيسر عليه I، لأنه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

خامساً: لا تهلك القرى الظالمة إلا في موعدها المكتوب

قال تعالى: )وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا( (الكهف: الآية 59)، إن القرى الظالمة التي كذبت الرسل من قبل، والقرى الظالمة التي استمرت في بغيها حتى الآن، والقرى الظالمة التي ستستمر في بغيها، حدد الله موعد إهلاكها، فلا يأتيها الهلاك قبل ذلك الموعد ولا بعده، فقد جعل الله لمهلكهم موعداً والله لا يخلف الميعاد، هذا الموعد الذي حدده الله لهلاك القرى الظالمة بالغ الدقة!!، هذا الموعد لايعلم عنه الظالمون شيئا، قد يأتيهم بغتة دون أن يشعروا باقترابه، أو جهرة وهم في انتظاره (كما يحدث في تسونامي)، موعد محدد عند الله لكنهم يجهلونه، موعد لا يمكن للظالمين توقعه أو انتظاره، أو الاستعداد له، أو الإفلات منه.

سادساً: قد يأتيهم عقاب الله بياتاً أو نهاراً

قال تعالى: )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ( (يونس: الآية 50)، قد يأتيهم العذاب وهم في ظلمات الليل وسكونه ووحشته، وقد يأتيهم بياتاً وهم نائمون، وقد يأتيهم نهاراً وهم على آرائكهم متكئون، قد يأتيهم في المساء وهم يلهون ويضحكون ويتسامرون، وقد يأتيهم نهاراً وهم في أعمالهم أو بيوتهم مشغولون، وقد يأتيهم في مصانعهم أو مزارعهم وهم يصنعون ويزرعون، وقد يأتيهم وهم في متاجرهم ومؤسساتهم ومصالحهم أو حتى وهم على مكاتبهم يعملون، فذلك عقاب الله المباغت الذي لن يتوقعوه!!.

سابعاً: قد يأتيهم عقاب الله بياتاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون

قال تعالى: )أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ( (الأعراف: الآية 97)، وقد يأتيهم نهاراً وهم قائلون، لقوله تعالى: )وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ( (الأعراف: الأية 4). في قوله فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون، أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتاً أي ليلاً، أو وهم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار، وكلا الوقتين وقت غفلة، وقيل بياتاً أي ليلاً، ومنه البيت لأنه يبات فيه، يقال بات يبيت بيتاً وبياتاً، وقائلون من القائلة وهي القيلولة نوم نصف النهار، وقيل استراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن معها نوم.

والمعنى أنهم لم يخلصوا عند الإهلاك إلا على الإقرار بأنهم كانوا ظالمين، تصور ذلك الهلاك المباغت القادم من عند الله U، سواء جاء وسط النهار والناس تذهب وتجيء!!، أو وهم في حالة استرخاء وقت القيلولة!!، يأتيهم بلا علامات ولا مقدمات، لقد كانوا من قبل يستهِزئون بالرسل ويسخرون، بل ويستعجلونهم بالعذاب ويستهزئون، يسألونهم: )مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ( (يونس: من الآية 48)، فهم لا يتصورون أن يأتي عقابهم بصورة مفاجئة!.

إنهم لا يصدقون بقدوم العقاب برغم تحذير المُنذِرين لهم من قبل!!.. لا يصدقونهم لأنهم قالوا كلاماً كثيراً ولم يحدث لهم شيء، فما هذا الهلاك الذي يتحدثون عنه ويُنذِرونهم به؟، وكان الأجدر بهؤلاء المكذبين أن يلاحظوا بغتة الزلازل وثورة البراكين، ومفاجآت الرياح والأعاصير، وسقوط الطائرات وغرق السفن في البحار، وانقلاب القطارات والسيارات، أو نشوب حرائق في المنشآت دون تحذير!!، فتلك علامات إنذار للمكذبين قد تغنيهم عن المُنْذِرين، وتلك الأمور التي تحدث من حولهم، تؤكد لهم بأن الهلاك يأتيهم في أى وقت وفي كل مكان، وسوف يرون ما وعد به المنذِرون رأى العين، ولن يجدوا وقتها من يصرفه عنهم، قال تعالى: )مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ( (يس: الآيتان 49 و50)، ثم يوم القيامة يقص الله عليهم ما فعلوه مع النذر السابقين، ويسألهم I: )مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ( (القصص: من الآية 65).

الله يسألهم وهو يعلم ماالذي فعلوه برسلهم، وسوف يقص عليهم كل شيء لأنه I لم يكن غائباً عنهم، قال تعالى: )فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( (الأعراف: الآية 7)، وتدبر أيضاً قوله تعالى وهو يؤكد تلك الحقائق في كتابه الكريم: )وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( (الأعراف: الآيات 4-7).

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: )فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ(: يُوضَعُ الْكِتَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، )وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ( يَعْنِي: أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا قَالُوا وَبِمَا عَمِلُوا، مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَحَقِيرٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى شَهِيدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَغْفَلُ عَنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ الْعَالِمُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ. ويقول I: فلنخبرن الرسل ومن أرسلتهم إليهم بيقين علم بما عملوه في الدنيا، وفيما كنت أمرتهم به وما كنت نهيتهم عنه، وما كنا غائبين عنهم وعن أفعالهم التي كانوا يفعلونها.

فإن قال قائل: وكيف يسأل الرسل والمرسل إليهم, وهو يخبر أنه يقص عليهم بعلم بأعمالهم وأفعالهم في ذلك؟ قيل: إن ذلك ليس بمسألة استرشاد من الله ولا مسألة تعرف منهم ما هو به غير عالم!!, إنما هو مسألة توبيخ وتقرير, كما يقول الرجل للرجل: ألم أحسن إليك فأسأت؟، وألم أصلك فقطعت؟، فكذلك مساءلة الله المرسل إليهم: ألم يأتكم رسلي بالبينات؟، ألم أبعث إليكم النذر فتنذركم عذابي وعقابي في هذا اليوم لكل من كفر بي وعبد غيري؟

ثامناً: قد يأتيهم عقاب الله ضحى وهم يلعبون

قال تعالى: )أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ( (الأعراف: الآية 98)، أوأمن أهل القرى أن يأتيهم عذاب الله وقت الضحى وهم غافلون متشاغلون بأمور دنياهم؟، وخص الله هذين الوقتين بالذكر لأن الإنسان يكون أغفل ما يكون فيهما. فمجيء العذاب فيهما أفظع وأشد، هذا الوقت من اليوم، حيث يكون الظالمون مستقبلون أول النهار ذاهبون إلى أعمالهم، أو في قمة حالات الاسترخاء في أجازاتهم على الشواطئ أو في النوادي والمنتزهات، يقترب بأس الله منهم وهم لا يشعرون!!، فهذا يلعب مع أصدقائه أو أولاده، وأخر يلهو ويستمتع بإجازاته، وآخرون يلهون ويلعبون في الشوارع والطرقات، الكل مشغول بحاله!!، وفى وسط هذا الجو المبهج المليء بالضحك واللعب، يأتيهم بأس الله بغتة، فلا يستطيعون دفعه عنهم، أو الهروب منه.

تاسعاً: يستعجلون العذاب والله يملي لهم

من العجيب والغريب!!، أن هناك طائفة من البشر تستخف بعقاب الله، وأحيانا يصل الأمر بهم إلى استعجاله، تدبر قوله تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ( (الحج: من الآية 47)، إن موعد هلاك الظالمين محدد لا يتقدم ولا يتأخر كما ذكرنا، والله يمهل الظالمين حتى وقت إهلاكهم، ومن العجيب أنهم يسخرون من المٌنذِرين ويستعجلون هذا العذاب إمعاناً منهم في التكذيب، تدبر قوله تعالى: )وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ( (العنكبوت: الآيتان53 و54).

فإذا آخر الله عنهم العذاب إلى أجل معدود، قالوا بسخرية واستهزاء (ما يحبسه؟) أي ما يمنعه من إنزال العذاب بنا؟، ويرد الحق I عليهم: )وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( (هود: الآية Cool، ذلك لأنهم لا يعلمون أن الله يُملي لهم ويمهلهم لعلهم يرجعون!!. فإذا جاء موعد عقابهم فلن يجدوا من يصرفه عنهم، وسوف يحيق بهم ما كانوا به يستهزءون.

قال تعالى: )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ( (الحج: الآية 48)، إن الله يمكر فيملي لهم، ويتركهم في غفلتهم قبل أن يهلكهم، يأكلون من رزقه في الوقت الذي يعصون فيه رسله، ويتمتعون بخيراته مع أنهم يظلمون عباده، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، تركهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، قال تعالى: )ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ( (الحجر: الآية 3)، فسوف يعلمون وقت عقابهم حين يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون.

إن موعدهم في كتاب مسطور، يأتيهم بياتاً أو نهاراً، وهم مستيقظون أو وهم نائمون.. وقد يأتيهم نهاراً أيضا وهم قائلون، وقد يأتيهم ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله؟، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، قال تعالى: )أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ( (الأعراف: الآية 99).


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:35 pm

المبحث العاشر

نجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها (المرحلة الثالثة)

لقد آن الأوان لينعم المُنذِرون والمؤمنون بنصر الله، وآن الآوان أيضاً ليتلقى الظالمون عقاب الله الموجع، ومن سنة الله في إهلاك القرى الظالمة!!، أنه I يخرج المؤمنين من تلك القرى وينجيهم قبل إهلاكها، فهذا وعد الله الذى وعده لهم، قال تعالى: )وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (Cool ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ( (الأنبياء: الآية 9)، أى صدقناهم الوعد بإنجائهم، وفي قوله: )فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ( أي أنجينا رسلنا والمصدقين لهم، وفي قوله تعالى: )وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ( أي أهلكنا المكذبين لهم، وقوله تعالى: )ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ( أي الوعد الذي وعده الله لرسله بإهلاك الظالمين، فقد صدقهم الله وعده وفعل ذلك، والمعنى ثم صدقناهم وحققنا لهم الوعد فأنجيناهم، وأنجينا معهم من أردنا نجاتهم من المؤمنين، وأهلكنا الكافرين المسرفين الذين أسرفوا في تكذيبهم وكفروا برسالة أنبيائهم.

أولاً: نجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها

كتب الله على نفسه نجاة المؤمنين، لقوله تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103)، تلك القاعدة المهمة يعرفها المؤمنون ويدركونها، وهي التي جعلتهم يتحملون الأذى من أهل القرى الظالمة من قبل والآن، ولم ييأسوا من نجاتهم من القرى الظالمة قبل إهلاك أهلها ولو للحظة واحدة، ففي كل الأحوال لا يوجد لأهل القرى سوى أمرين اثنين:

1. إما أن يستجيبوا للمٌنذِرين، وفي تلك الحالة يكون الرسل قد انتصروا لدعوتهم، ونجحوا مع أهل القرى في إنذارهم وتبليغ رسالتهم.

2. وإما أن يكذبوا المنذرين، وفي تلك الحالة يكون المنذرون قد تأكدوا من رفض دعوتهم، وهنا يُخرِج الله المؤمنين من تلك القرى وينجيهم قبل إهلاك الظالمين في تلك القرى، قال تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103)، لقد كتب الله على نفسه حقا، هو نجاة المؤمنين من تلك القرى.

ثانياً: يأتى النجاة والفرج حين يستيئس الرسل من أهل القرى

يأتى النجاة من الله لرسله والذين آمنوا معهم من القرى الهالكة، في الوقت العصيب!!، فعندما يستيئس الرسل من إيمان أهل القرى، وبعد أن يستيقنوا بأنهم قد كُذِبوا، في تلك الأوقات العصيبة الحرجة!!، وبعد الضيق وانتظار الفرج، في هذا الوقت بالذات يأتى نصر الله لرسله والمؤمنين!!، فيخرجهم وينجيهم من تلك القرى قبل إهلاكها، ثم يُهلك المكذبين بعد نجاتهم، قال تعالى: )حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ( (يوسف: الآية 110)، يذكر الله I أن نصره يأتى رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال، وانتظار الفرج من الله في أحرج الأوقات، كقوله تعالى: )مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ( (البقرة: من الآية 214).

وفي قوله: )قَدْ كُذِبُوا( قراءتان إحداهما بالتشديد، وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها. روى البخاري عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَهُ وَهُوَ يَسْأَلُهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ]حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ[ قَالَ: قُلْتُ أَكُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا، قَالَتْ عَائِشَةُ كُذِّبُوا، قُلْتُ فَقَدْ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ، قَالَتْ أَجَلْ لَعَمْرِي لَقَدْ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهَا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا، قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّهَا، قُلْتُ فَمَا هَذِهِ الْآيَةُ قَالَتْ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُمْ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْبَلَاءُ وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمْ النَّصْرُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ وَظَنَّتْ الرُّسُلُ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ نَصْرُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ.

حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَةُ، فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا قَدْ كُذِبُوا مُخَفَّفَةً؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. وَقَالَ ابْنُ أَبَى مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا: ]وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا[ خَفِيفَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُلَيْكَةَ: ثُمَّ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا بَشَرًا وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ]حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[ (البقرة: الآية 214) ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وَأَبَتْهُ، وَقَالَتْ: مَا وَعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدًا e مِنْ شَيْءٍ إِلَّا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَتَّى مَاتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَؤُهَا ]وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا[ مُثْقَلَةً، لِلتَّكْذِيبِ.

وعن يحيى بن سعيد قال: جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال إن محمد بن كعب القرظي قرأ هذه الآية: )إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا(، فقال القاسم: أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي e تقول: )إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا(، تقول كذبتهم أتباعهم، إسناد صحيح أيضاً.

اختلف المفسرون في القراءة الثانية التي بالتخفيف، فقال ابن عباس ما تقدم، وقال ابن مسعود عن مسروق عن عبد الله، أنه قرأ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة، أما ابن عباس فروى في قوله: )إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا(، قال لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم، جاءهم النصر على ذلك فنجي من نشاء.

وقال ابن جرير عن إبراهيم بن أبي حمزة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير، قال: أخبرنا أبا عبد الله كيف هذا الحرف فإني إذا أتيت عليه، تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة: )إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا(، قال نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، فقال الضحاك بن مزاحم ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلا.

وروى ابن جرير أيضا من وجه آخر أن مسلم بن يسار، سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب، فقام إلى سعيد فاعتنقه، وقال: فرج الله عنك كما فرجت عني، وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك، وكذا فسرها مجاهد بن جرير وغير واحد من السلف، حتى أن مجاهدا قرأها وظنوا أنهم قد كذبوا بفتح الذال رواه ابن جرير، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله وظنوا أنهم قد كذبوا إلى أتباع الرسل من المؤمنين، ومنهم من يعيده إلى الكافرين، أي وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا مخففة فيما وعدوا به من النصر.

ثالثاً: أمثلة لنجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها

1. نوح u

في هذا المثال نجد أن الله قد ضمن لنوح u والمؤمنين من قومه وسيلة نجاتهم، وذلك قبل موعد إهلاك قومه بفترة زمنية طويلة، ولتكون وسيلة نجاة للمؤمنين جاهزة قبل إغراق الكافرين، تلك الوسيلة لم تكن من أفكار نوح u ولا من تدبيره، بل كانت بوحى الله وعلمه، يراقبه منذ أن أمره بصناعتها وحتى تمام الانتهاء منها.

أمر الله نوحاً u بتجهيز وسيلة نجاة المؤمنين قبل موعد الإهلاك بزمن طويل، في الوقت الذي كان نوح u ينذر قومه باليل والنهار، في السر والعلن، طامعاً أن يستجيبوا لدعوته ليكونوا مع الناجين، فلم يزد قومه دعاؤه إلا فراراً، وكلما دعاهم إلى ربهم ليغفر لهم، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً، فلما استيأس من قومه!! أوحى الله I إليه أنه لن يؤمن له من قومه إلا من قد آمن، لقوله تعالى: )وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ( (هود: الآية 36)، وأمره الله بأن يصنع الفلك وسيلة لنجاة المؤمنين.

ويبدأ نوح u صناعة الفلك بوحي من الله قبل إغراق قومه من الكافرين، قال تعالى: )وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا( (هود: الآية 37)، إنه لم يصنعه من تلقاء نفسه، بل صنع الفلك بأعين الله ووحيه، والمعنى: )وَاصْنَعِ الْفُلْكَ( يعني السفينة، )بأعيننا( أي بمرأى منا، )وَوَحْيِنَا( أي بتعليمنا لك ما تصنعه، قال بعض السلف: أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه، فكان ذلك في مائة سنة، ونجرها في مائة سنة أخرى، وقيل في أربعين سنة والله أعلم.

وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة: أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً، وأن يُطلي باطنها وظاهرها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤا أزوراً يشق الماء، وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع في عرض خمسين. وعن الحسن أن طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلاثمائة، وعن ابن عباس أن طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة، وقيل طولها ألفا ذراع وعرضها مائة ذراع، قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً، في ثلاث طبقات، كل طبقة عشرة أذرع، السفلى للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطيور.

وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مُطبق عليها. وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير عن عبد الله بن عباس قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات طبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير.

ولا يهمنا في هذا الأمر شكل السفينة من طول وعرض وارتفاع، ولا الفترة الزمنية التي صنع نوح u فيها الفلك، إن ما يهمنا في هذا الأمر هو أن نوحاً u، أمره الله بصنع هذا الفلك قبل موعد إهلاك قومه بفترة طويلة، وهذا المثال يؤكد لنا أن الله I قبل أن يهلك الظالمين، يضمن للمؤمنين وسيلة النجاة وأسلوبها، كما هو واضح في تلك الحالة، حالة نجاة المؤمنين من قوم نوح u.

وحين جاء موعد إهلاك قومه، أمره الله I أن يركب الفلك هو ومن آمن معه، وأن يحمل فيها من كُلٍ زوجين اثنين وأهله، إلا من كان كافراً منهم (زوجته، وابنه الذي لم يكن نوح u يعلم أنه مع الكافرين). قال تعالى: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ( (هود: الآيتان 40 و41)، حتى إذا ركبوا فيها جميعاً، أخذ الظالمين طوفان عظيم فغرقوا جميعاً، ونجى الله نوحاً u ومن معه من المؤمنين في تلك الوسيلة، وسيلة النجاة التي جهزها مسبقا لهذا اليوم بأمر الله ووحيه.

قال تعالى: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ( (العنكبوت: الآيتان 14 و15). لقد جعل الله وسيلة نجاتهم آية للعالمين!، تدبر قوله تعالى: )وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(.

2. موسى u

هذا مثال ثاني يضربه الله I لنا في القرآن الكريم، يبين لنا كيف يخرج الله المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها، وفي هذا المثال سيهلك الله الظالمين خارج ديارهم، وينشيء للمؤمنين وسيلة نجاة غريبة هذه المرة!!، لقد ضرب الله لهم طريقاً من اليابس في عرض البحر، لم يضربه الله لهم قبل غرق فرعون وجنوده بفترة زمنية كبيرة كما حدث لنوح u، إنما جعل وسيلة النجاة فوريةّ في وقت عصيب!!، وذلك حين ظن أصحاب موسى إنهم مدركون.

لقد استدرج الله الظالمين خارج قراهم ليورثها لآخرين من بعدهم، ولكن كيف نجى الله موسى u ومن معه من المؤمنين، بعد أن أن كانوا مطاردين من فرعون وجنوده، وبعد أن تراءى الجمعان وأصبحوا في وضع بالغ الخطورة، حيث البحر أمامهم وفرعون وجنوده وراءهم؟.

يصور القرآن الكريم هذا المشهد في قوله تعالى: )فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ( (الشعراء: الآية 61)، لم يفكر موسى كثيراً فإن الله ناصر المؤمنين لا محالة، وبينما موسى u ينظر إلى البحر وينظر إلى فرعون وجنوده وهم يقتربون منه وكادوا يدركونه هو ومن معه من المؤمنين، وكادوا أن يمسكوا بهم، في هذا الوقت العصيب أوحى الله إلى موسى u أن يضرب بعصاه البحر، ليحدث بذلك طريقاً لهم يابساً في البحر، يستطيعون من خلاله استمرار الهروب من فرعون، والنجاة من بطشه.

في تلك اللحظات العصيبة يطمئن الله رسوله موسى u بألا يخاف دركاً ولا يخشى، أي لا يخاف من إدراك فرعون وجنوده له، ولا يخشى من البحر أن يغرق قومه. قال تعالى: )وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى( (طه: الآية 77)، وضرب موسى بعصاه البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، قال تعالى: )فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ( (الشعراء: الآيات 63 – 66).

انشق البحر إلى نصفين وتكون بينهما طريق من اليابسة، يمينه موج ويساره موج كجبلين عظيمين، وتقدم موسى u ومن معه على هذا الطريق اليابس في عرض البحر، تحيطهم الأمواج المرتفعة العاتية دون أن تمسسهم بسوء، وفى الوقت نفسه كان فرعون وجنوده يلاحقونهم، وحين انتهي موسى u ومن معه من عبور البحر، كان فرعون وجنوده قد وصلوا إلى منتصف الطريق اليابس الممتد في البحر.

أصدر الله تعالى أمره إلى جبريل u، بأنه حان موعد إهلاك الهالكين، فحرك جبريل uالموج لينطبق على فرعون وجنوده، وما هي إلا لحظات حتى كان فرعون وجنوده من المغرقين، وهكذا تمت سُنة الله في نجاة المؤمنين. وقد لاحظنا اختلاف وسائل النجاة لنوح u ومن معه من المؤمنين، وبين موسى وبني إسرائيل، برغم أن أسلوب الإهلاك واحد وهو (الغرق)!!، فوسيلة النجاة في حالة نوح u كانت الفلك، ووسيلة النجاة لموسى u ومن معه كانت شق طريق يابس في البحر يمرون عليه إلى بر الأمان دون غرق.

3. شعيب u

هذا مثال ثالث يضربه الله لنا في القرآن الكريم، كيف نجى الله شعيباً u والذين آمنوا معه من قريته، قبل إهلاك أهلها، لقد كان قوم شعيب يُخِسرون الكيل والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، ويعثون في الأرض مفسدين، وحينما كذبه قومه وحان موعد إهلاكهم، أمره الله بخروج المؤمنين الذين أمنوا معه من القرية، حتى ينجوا من الهلاك الذى سوف يحل بقومهم. قال تعالى: )وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ( (هود: الآية 94)، هكذا عندما جاء أمر الله بهلاكهم وحان موعدهم، أخرج الله المؤمنين من القرية وأهلك الكافرين.

4. هود u

هذا مثال رابع يضربه الله لنا في القرآن الكريم، يوضح كيف نجى الله هوداً u والذين أمنوا معه وأخرجهم من بين قوم عاد قبل إهلاكهم!!. إن عاداً كذبوا هوداً u!!، كذبوه وكفروا بلقاء الآخرة التي كان يذكرهم بها دائماً، وقوم عاد كانوا يعبدون الأصنام، وكانوا أيضاً أقوياء وعمالقة، يتباهون بقوتهم فيقولون لأنفسهم ولغيرهم (من أشد منا قوة؟)، وكان الله قد أترفهم في الحياة الدنيا حتى نسوا لقاء الآخرة وكفروا بها، رغم تذكير نبيهم لهم بها، فلما جاء وعد الله وحان موعد إهلاكهم!!، نجى الله هوداً u والذين أمنوا معه، وأهلك المكذبين بريح صرصر عاتية، تدمر كل شىء، وأذاقهم عذاباً غليظاً.

لم يذكر القرآن الكريم طريقة نجاة هود u والذين آمنوا معه، هل تم إخراجهم من القرية قبلها، أم مكثوا فيها ونجوا؟، قال تعالى: )وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ( (هود: الآية 58).

هل يمكن تصور مشهد هلاك قرية؟، سَخَّر الله عليها ريحا قاسية مستمرة لمدة سبع ليال وثمانية أيام، وهل يمكن تصور كيف نجى الله المؤمنين منها وهي على ذلك الحال؟!، قد يكون هوداً u والذين أمنوا معه قد خرجوا منها قبل إهلاكها بأمر من الله I، كالذي فعله الله I مع الذين من قَبلَهُم من المؤمنين الناجين من قرى الظالمين، وقد يكونوا قد مكثوا فيها ولم يصيبهم أذى رغم عقاب الله المروع للكافرين فيها!!، غير أن المؤكد في هذا الأمر أنهم قد نجوا من الهلاك، برغم ذلك المشهد المروع لهلاك القرية الظالمة، نجوا بأسلوب نجاة لا يعلمه إلا الله وحده!!، لكنهم في النهاية نجوا من الهلاك كما وعدهم الله.

5. صالح u

هذا مثال أخير يضربه الله لنا في القرآن الكريم، عن كيفية إخراج المؤمنين من القرى الظالمة، ونجاتهم من تلك القرى قبل إهلاكها. قال تعالى: )فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ( (هود: الآية 66)، قيل كان معه من المؤمنين أربعة آلاف، يقول I فلما جاء أمرنا بهلاك ثمود نجينا صالحاً والذين آمنوا معه من الهلاك برحمة منا, ونجيناهم من هوان ذلك اليوم وذلته، إن ربك يا محمد هو القوي العزيز, ومن قوته وعزته أن أهلك الأمم الطاغية، ونجى الرسل وأتباعهم.

فهذا نبى الله صالح u كذبه قومه الذين كانوا يعبدون الأصنام، ولم يستجيبوا لدعوته، بل واستنكروا عبادة الله الواحد القهار، وقد كانت ثمود قبيلة تعبد الأصنام، فأرسل الله صالحا u إليهم يدعوهم إلى عبادة الله، قال تعالى: )وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ( (هود: من الآية 61)، وهي نفس الدعوة التي يدعو بها كل الأنبياء، دعوة لا تتبدل ولا تتغير، وقد فوجيء كبار قوم صالح u بما يقوله!!، إنه يتهم آلهتهم بأنها لا قيمة لها، بل وينهاهم عن عبادتها ويأمرهم بعبادة الله الواحد القهار. لقد أحدثت دعوته هزة كبيرة في قبيلة ثمود، وكان صالح u معروفاً في قومه بالحكمة والنقاء والخير، فقد كان قومه يحترمونه قبل أن يوحى الله إليه ويرسله بالدعوة إليهم.

قال له قومه: )يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ( (هود: من الآية 62)، إنهم يدلفون إليه من باب شخصي بحت، لقد كان لنا رجاء فيك وكنت مرجوا فينا لعلمك وعقلك وصدقك وحسن تدبيرك، ثم خاب رجاؤنا فيك، أتنهانا أن نعبد ما يعبد أباؤنا؟، ما كنا نتوقع أن تعيب آلهتنا التي وجدنا آباءنا لها عاكفين. يعجبون مما لا عجب فيه، ويستنكرون ما هو واجب وحق، هكذا لا حجة ولا برهان ولا تفكير، هكذا تفعل العادة في الإنسان فعلها القوي، وهكذا يفعل التقليد في الإنسان فعله العتي، وصالح u يفجر هذا التقليد ويحطم عاداتهم السيئة، ويعلن لهم عقيدة التوحيد حتى يتحرروا فكرياً من تلك الخرافات، وأوهام العادات التي استقرت في أذهانهم منذ ومن طويل.

ورغم دعوة صالح u لهم، إلا أنهم كذبوه وطالبوه بمعجزة ليثبت لهم أنه رسول من عند الله، وكان قوم ثمود أقوياء ينحتون من الجبال بيوتا، ويستخدمون الصخر في البناء، فأخرج الله لهم معجزة من صخرة في الجبل انشقت وخرجت منها ناقة تسمى (ناقة الله)، نسبها الله إلى نفسه لأنها معجزة من عنده!!، ولدت من غير الطرق المعروفة للولادة، كانت تشرب المياه الموجودة في الآبار في يوم، فلا تقترب بقية الحيوانات من تلك المياه في ذلك اليوم، وقيل أنها معجزة لأنها تدر لبنا يكفي الناس جميعاً في اليوم الذي تشرب فيه الماء.

أمر الله I صالحاً u بأن يأمر قومه بعدم مساسها أو إيذائها أو قتلها، أمرهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب قريب، قال صالح: )قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (الأعراف: من الآية 73)، إن صالحاً u يدعو قومه برفق وحب، وينبههم بأن الله قد أخرج لهم معجزة، هي الناقة، دليلاً على صدق دعوته، ويرجوهم أن يتركوا (ناقة الله) تأكل في أرض الله، وألا يمسوها بسوء حتى لا يقع عقاب الله عليهم.

قال تعالى: )وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ( (النمل: الآيات 48 – 50)، تسعة رهط في المدينة يفسدون في الأرض ولا يصلحون هم أداة الجريمة، اتفقوا على قتل الناقة المباركة (ناقة الله)، وأعدوا أسلحتهم وسيوفهم وسهامهم، وتعاطى زعيمهم الخمر فذهب عقله قبل عقر الناقة، قال تعالى يخبرنا عن ذلك الأمر: )فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ( (القمر: الآيات 29 – 31).

علم صالح u بما حدث للناقة بعد عقرها، وهي تتنهد ثلاثة مرات قبل موتها، فقال لقومه: )تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ( (هود: من الآية 65)، أي أن عقاب الله سيأتيكم بعد ثلاثة أيام وهو وعد حق غير مكذوب، خرج صالح u بعدها من قبيلته (ثمود)، غادرها وترك قومه ومضى قبل موعد إهلاكهم، وانتظر قومه ثلاثة أيام دون أن يحدث لهم شيء مما قاله صالح u لهم، وهم يسخرون ويستهزئون من ذلك العقاب الذي وعدهم به بعد ثلاثة أيام، وفي فجر اليوم الرابع انشقت السماء عن صيحة واحدة جبارة، ثم انقضت الصيحة على الجبال التي كانوا يسكنون فيها فهلك كل شيء فيها، وارتجفت الأرض رجفة جبارة فهلك كل شيء حي فوقها، صيحة واحدة صعقت قوم صالح جميعا.

أرسل الله على قومه صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، قال ابن عباس: (هشيم المحتظر) هو الشجر الذي تصنع منه الحظيرة للماشية، فما سقط منه وداسته الماشية فهو الهشيم. وفي تفسير ابن كثير هو (المرعى من الصحراء حين ييبس ويحترق)، قال تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ( (القمر: الآية 31)، فخروج صالح u والذين آمنوا معه من القرية قبل الصيحة، نجاهم من الصيحة المدمرة، لأن وجودهم بالقرية أثناء الصيحة كان سيعرضهم لخطرها، فهي صيحة واحدة مدمرة تجعل من يتعرض لها كهشيم المحتظر.

هؤلاء الجبابرة أهلكهم الله بصيحة واحدة، فأصبحوا بعد مصرعهم كهشيم المحتظر، وهي صورة عاقبتهم التي أرادها الله لهم بعد نزول عقابه عليهم، لم يستغرق إهلاكهم وقتاً!!. هي (صيحة واحدة) مثل صوت الرعد المزعج، لكنهم في نهاية الصيحة تهشمت أجسادهم )فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ(. لك أن تتصور هذا المشهد (ساعة الصفر) وكيف أهلك الله قوم صالح، وكيف نجى الله صالحا u من هذه الصيحة القاتلة.

عرضنا أمثلة عديدة عن نجاة المؤمنين من القرى الظالمة قبل إهلاكها، وضربنا أمثلة بنجاة نوح u ومن آمن معه في الفلك قبل إغراق قومه، ونجاة موسي u وبني إسرائيل قبل إغراق فرعون وجنوده، ونجاة شعيب u والذين آمنوا معه قبل إهلاك مدين. كما ضربنا مثلاً بنجاة نبى الله هود u والذين آمنوا معه قبل إهلاك قوم عاد، وأخيراً ضربنا مثلاً بنجاة صالح u والذين آمنوا معه من قوم ثمود قبل إهلاكهم. تلك الأمثلة هي نماذج لنا نحتذي بها، وهي دليل على أن الله لا محالة منجي المؤمنين قبل إهلاك الظالمين، وعلينا أن ننظر في الأرض ونراقب كيف كانت عاقبة الظالمين، وكيف نجي الله المؤمنين منهم قبل وقوع عقابه عليهم.

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:36 pm



أرسل الله هوداً u إلى قومه عاد، وهي قبيلة بالأحقاف (مكان في منطقة صحراء ممتلئة بجبال الرمال المائلة تطل على البحر)، وكانت مساكنهم خياماً كبيرة ذات أعمدة شديدة الضخامة والارتفاع، وكان قوم عاد هم أعظم أهل زمانهم في الطول وقوة الأجسام، وأصحاب بأس شديد، كانوا عمالقة وأقوياء حتى كانوا يتباهون بتلك القوة ويقولون عن أنفسهم: )مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً( (فصلت: من الآية 15)، وكان الأجدر بهم أن يتذكروا ويتفكروا في أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، غير أن كبرياءهم وغرورهم جعلهم لا يبصرون الحقيقة، فبرغم ضخامة أجسامهم إلا أن عقولهم كانت ضئيلة ومظلمة، فكيف يعبدون أصناماً ويدافعون عنها ويحاربون من أجلها، إن لم تكن عقولهم فاسدة ومظلمة.

قال لهم هود u: )يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا( (هود: من الآية 50 - 52)، هي نفس دعوة االرسل جميعاً )اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ(، لاتتغير ولا تتبدل كلمة واحدة هي الحق كله.

قال لهم أنه ما يسألهم على ما يقول لهم من أجر، فإنما أجره على الله، )يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ(، وحدثهم عن نعم الله عليهم وذكرهم بها، كيف أن الله أعطاهم بسطة في الجسم وشدة في البأس؟!، وكيف أن الله أسكنهم الأرض التي تمنح الخير والزرع؟!، وكيف أن الله قد أرسل عليهم المطر الذي يُحيي به الأرض؟!، لكنهم كذبوه ولم يستجيبوا له ولم يؤمنوا بما يقول.

قال الملأ الذين كفروا من قومه وكذبوا بلقاء الآخرة: )مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ( (المؤمنون: الآيات 33 - 38)، والملأ هم الرؤساء وأغنياء القوم ومترفوهم، وهم الذين لهم مصلحة في استمرار الأوضاع الفاسدة، فمن مواقع الثراء والترف والغنى يولد الحرص على استمرار المصالح الخاصة، ويتولد الكبرياء.

استمر الصراع بين هود u وقومه، وكلما استمر الصراع ومرت الأيام زاد قوم هود استكباراً وعناداً وتكذيباً، وبدأوا يتهمون هودا u بالجنون، قالوا: )يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ( (هود: من الآية 53)، لقد تصوروا بعقولهم الفاسدة أن هوداً u قد مسته آلهتهم بسوء، وهي آلهة صنعوها من الحجارة بأيديهم فأين ذهبت تلك العقول؟.

لم يبق لهود u بعد كل هذا التكذيب والتحدي، سوى التوجه إلى الله وإنذارهم الإنذار الأخير، الذي ينطوي على وعيد وتهديد لأولئك المكذبين، قال: )إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( (هود: من الآية 54، والآيات 55 – 57)، وقوله تعالى )فَإِنْ تَوَلَّوْا( في موضع جزم فلذلك حذفت منه النون, والأصل (تتولوا), فحذفت التاء تخفيفاً لاجتماع تاءين.

هكذا الأنبياء والمرسلون المنذرون، رجل واحد مثل هود u يواجه قومه الغلاظ الشداد بمفرده، يقف أمام الجبارين أصحاب العقيدة الفاسدة، فيسفههم ويتبرأ منهم ويتحداهم!!، يتحداهم أن يكيدوا له دون انتظار أو إمهال، فهو على استعداد لتلقي كيدهم ومحاربة فسادهم، فالله معه يؤيده وينصره عليهم، بهذه الثقة وبهذا الإيمان الراسخ يخاطب هود u قومه، مستعينا بالله وعلى يقين بنصره. يفعل ذلك رغم وحدته وضعفه فهو يقف مع الحق، ويبلغ عن الله، وهو على يقين من نصره، وأدرك هود u أن عقاب الله واقع على من كفر من قومه لا محالة.

انتظر هود u وانتظر قومه وعد الله بالعقاب، وبدأ الجفاف يعم الأرض وتوقفت السماء عن المطر، واشتعل لهيب الشمس المحرقة، وهرع قوم هود يصرخون من هذا الجفاف، وقال لهم هود u إن الله غاضب عليكم، ولو آمنتم ورجعتم عما أنتم عليه فسوف يرضى عنكم، ويرسل عليكم المطر ويزيدكم قوة إلى قوتكم، إلا أنهم سخروا منه وازدادوا عناداً وكفراً.

وازداد الجفاف وجفت الأشجار الخضراء ومات الزرع، وفي يوم جاء سحاب عظيم يملأ السماء، وفرح قومه بهذا السحاب وخرجوا من بيوتهم مستبشرين، قال تعالى: )فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ( (الأحقاف: الآيتان 24 و25)، بعد لحظات تغير الجو فجأة من الجفاف الشديد إلى البرد الشديد، وبدأ هبوب الرياح، وارتعش كل شيء (الأشجار ــ النباتات ــ الرجال ــ النساء ــ الخيام) ارتعشت الأجسام (الجلد واللحم والعظام وحتى النخاع).

استمرت الرياح ليلة بعد ليلة ويوما بعد يوم، كانت تزداد برودة كل ساعة، وبدأ قوم هود يفرون وهم يدركون أن (ساعة الصفر) قد بدأت، وأن موعد هلاكهم قد اقترب، هرعوا إلى خيامهم واختبأوا داخلها، واشتد هبوب الرياح وازداد، كانت الرياح تمزق الجلد وتنفذ من فتحات الجسم وتدمره، لا تكاد تمس شيئاً إلا قتلته ودمرته وامتصت ما في جسده وجعلته كالرميم. قال تعالى: )وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ( (الذاريات: الآيتان 41 و42)، واستمرت الريح سبع ليالٍ وثمانية أيام، لم تر الدنيا مثلها قط قال تعالى: )وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ( (الحاقة: الآيات 6 -Cool.

هكذا كانت (ساعة الصفر)، لحظة تنفيذ عقاب الله على قوم هود، لم يبق من قوم هود إلا ما يبقى من نخل ميت، غلاف خارجي هش، كأعجاز النخل الخاوية لا تكاد تضع يدك عليها حتى تتطاير ذراتها في الهواء. ونجا هود u ومن آمن معه. وهلك الجبابرة في سبع ليالٍ وثمانية أيام.

يلخص القرآن الكريم قصة إهلاك قوم عاد، وكيف كانت ساعة عقابهم (ساعة الصفر)، وكيف حدث إهلاكهم، وكيف كانت عاقبتهم في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ( (القمر: الآيات 18 – 21)، ريح صرصر أي شديدة الصوت، )فِي يَوْمِ نَحْسٍ( أى يوم شؤم، )مُسْتَمِرٍّ( أى دائم. وفي قوله تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا(، يقول I: إنا بعثنا على قوم عاد إذ تمادوا في طغيانهم وكفرهم بالله ريحاً صرصراً, وهي الشديدة العصوف باردة، لصوتها صرير, وهي مأخوذة من شدة صوت هبوبه.

يقول I في قوله تعالى: )كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ(، أي كذبت عاد نبيها هوداً u فيما أتاهم به من عند الله، مثلما كذبت قوم نوح نوحاً u, ومثلما كذبتم به نبيكم محمداً e معشر قريش, فاُنظروا كيف كان عذابي إياهم, وكيف كان عقابي لهم على كفرهم وتكذيبهم رسولهم هودا u، لقد كانوا على مثل ما كانوا عليه من التمادي في الغي والضلالة.

وفي قوله تعالى: )إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(، يقول I إنا سلطنا عليهم ريحاً باردة مدوية في يوم شؤم دائم، تقلع الناس من أماكنهم، وترمي بهم على الأرض صرعى، كأنهم أصول نخل منقلع من مغارسه. وفي قوله تعالى: )تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(، أي تقلعهم من حفر الأرض المندسين فيها، وتصرعهم على رءوسهم، فتدق رقابهم فتبين الرأس عن الجسد، كأنهم أصول نخل منقعر منقطع ساقط على الأرض، وقد شُبهوا بالنخل لطولهم.

وقيل في موضع الصفة للريح وهي تقلعهم من مواضعهم، أنها قلعتهم من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها، وقال مجاهد: كانت تقلعهم من الأرض فترمي بهم على رءوسهم فتندق أعناقهم، وتبين رءوسهم عن أجسادهم، وقيل تنزع الناس من البيوت. وقال محمد بن كعب عن أبيه، قال النبي e: ]انتزعت الريح الناس من قبورهم[، وقيل حفرواً حفراً ودخلوها، فكانت الريح تنزعهم منها وتكسرهم، وتبقى تلك الحفر كأنها أصول نخل قد هلك ما كان فيها، فتبقى مواضعها منقعرة. قال ابن إسحاق: لما هاجت الريح، قام سبعة نفر من عاد سمى لنا منهم ستة من أشد عاد وأجسمها منهم (عمرو بن الحلي، والحارث بن شداد، والهلقام وابنا تقن، وخلجان بن سعد)، فأولجوا العيال في شعب بين جبلين ثم اصطفوا على باب الشعب ليردوا الريح عمن في الشعب من العيال، فجعلت الريح تجعفهم رجلاً رجلاً، فقالت امرأة من عاد: (ذهب الدهر بعمرو بــن حلي والهنيات، ثم بالحارث والهلــقام طلاع الثنيات، والذي سد مهب الريح أيام البليات).

ثانياً: كيفية إهلاك فرعون وجنوده (ساعة الصفر)

هذا مثال تفصيلي آخر يضربه الله لنا في القرآن الكريم، يبين فيه كيفية إهلاك القرى الظالمة ممثلة في إهلاك فرعون وجنوده، وسنوضح كيف نجى الله موسى u وبني إسرائيل من فرعون وجنوده قبل إغراقهم، أى قبل (ساعة الصفر).

كيف أهلك الله (فرعون وجنوده) الأمر يختلف هنا!!، ففي الأمثلة السابقة أهلك الله الظالمين وهم في قراهم التي يعيشون فيها، أما في هذا المثال فإن الله استدرج الظالمين خارج قراهم، ليهلكهم بعيداً عن ديارهم، وليورث ديارهم قوماً غيرهم.

لقد وضع الله I حداً لفرعون وجنوده الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم الله سوط عذابه بعد أن أملى الله لهم، سنة الله في إعطاء فرص للظالمين للرجوع والتوبة قبل عقابهم، يملى لهم!! لكنه I في الوقت نفسه يستدرجهم من حيث لا يعلمون.

صدر الأمر الإلهي لموسىu ومن معه من المؤمنين بالخروج من مصر، ثم استدرج الله فرعون وجنوده لمطاردة موسى u ومن آمن معه من بنى إسرائيل خارج ديارهم؛ ولما اصبحوا في وضع بالغ الخطورة وبعد أن أصبح البحر أمامهم وفرعون وجنوده وراءهم، وضاق الخناق عليهم، وبعد أن قال أصحاب موسى u إنا لمدركون، يصور القرآن الكريم تلك اللحظات العصيبة، في قوله تعالى: )فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ( (الشعراء: الآية 61).

لم يفكر موسى u كثيراً، فإن الله ناصره لا محالة كما وعد، وموسى u هو كليم الله، وهو على يقين من نصره له ونجاته رغم هذا الموقف العصيب الذى يواجهه، فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر، قال تعالى: )وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى( (طه: الآية 77).

فلما ضرب موسى u البحر بعصاه انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، انشق البحر إلى نصفين بينهما طريق من اليابسة، يمينه موج ويساره موج، ثم تقدم موسى u ومن معه على هذا الطريق اليابس في عرض البحر تحيطهم الأمواج العاتية، وفى نفس الوقت يلاحقهم فرعون وجنوده، وحين انتهي موسى u ومن معه من عبور البحر كان فرعون وجنوده قد وصلوا إلى وسطه، وأصدر الله تعالى أمره إلى جبريل u بأنه قد حان وقت الهالكين، أي (حانت ساعة الصفر)، فحرك جبريل u الموج لينطبق عليهم، وهاهو ذا فرعون وجنوده يغرقون.

فرعون الذى قال لقومه من قبل (أنا ربكم الأعلى) يصارع الموت ويستغيث، ويبتلع المياه في جوفه ويختنق، حتى إذا أدركه الغرق قال: )آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ( (يونس من الآية 90)، هذا الإيمان الزائف الذى يأتي عند الحاجة والضرورة، يقول I لفرعون عند غرقه: )آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)( (يونس: الآيتان 91 و92).

لم يقبل الله I منه ذلك الإيمان المزيف، فلو لم ير فرعون ذلك الموت، لظل مستخفاً بقومه، ولظل ينادي فيهم أنا ربكم الأعلى، وقد نجاه الله ببدنه ليكون لمن بعده آية لكل ظالم متكبر. فهو المصير المحتوم لهم في نهاية الأمر، وفي الوقت نفسه كان جنود فرعون يصارعون الغرق، يحاولون النجاة بلا أدنى أمل، وهم يتذكرون قول فرعون لهم في تلك اللحظات التى يفارقون فيها الحياة، ويتعجبون قبل موتهم من أمرين:

1. كيف يغرق ذلك الإله (فرعون) أمامهم؟!. فهل الإله يغرق كالبشر؟.

2. كيف استخفهم فرعون إلى هذا الحد، الذى أوصلهم ليكونوا بعد لحظات في قاع ذلك البحر؟، فهم لم يظنوا ذلك أبدا ولم يتصوروا أن يهلكوا وهو على رأسهم، يقودهم في الدنيا إلى الهلاك وفى الأخرة إلى النار، بعد أن كانوا يتباهون بأنهم جنوده، وأنهم مقربون إليه.

لقد نصر الله المؤمنين كما وعد، وأهلك الكافرين الظالمين فلم يستثن منهم أحد، أهلكهم خارج قراهم التي كانوا يعيشون فيها بمصر، أخرجهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، قال تعالى: )فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ( (الشعراء: الآيات 57 – 59).

هكذا تمت سنة الله في إهلاك القرى الظالمة، أخرج منها المؤمنين ونجاهم من فرعون الطاغية، ثم أهلك فرعون وجنوده بالغرق، ذلك الأسلوب الذي حدده الله لإهلاكهم.

ثالثاً: كيفية تدمير قرية لوط (ساعة الصفر)

هذا مثال تفصيلي يضربه الله لنا في القرآن الكريم، يبين كيفية إهلاك القرى الظالمة، ممثلة في إهلاك قوم لوط، إن لوطاً u أرسله الله إلى القرية التي كانت تعمل الخبائث، تلك القرية التي كان الرجال يأتون الرجال شهوة من دون النساء، ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، فأنذرهم لوط u بعاقبة ما يفعلوه لكنهم كذبوه، ولما جاء موعد إهلاكهم، أرسل الله إليهم رسلاً من الملائكة ليخرجوا لوطاً ومن معه من المؤمنين؛ وليهلكوا أهل القرية التي كانت تأتي بفاحشة ماسبقهم بها من أحد من العالمين، وقدر الله أن تكون امرأة لوط u مع الهالكين، قال تعالى: )فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ( (الأعراف: الآية 83)، وقال تعالى: )فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ( (الشعراء: الآيتان 170 و171).

لقد أمر الله ملائكته بإخراج المؤمنين من القرية قبل إهلاكها، فلم يجدوا فيها من المؤمنين غير بيت واحد من المسلمين (لوط u وأهله إلا إمراته كانت من الكافرين)، قال تعالى مشيراً إلى سؤال إبراهيم u للملائكة قبل ذهابهم إلى قرية لوط: )قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ( (الذاريات: الآيات 31 – 36).

أمرت الملائكة لوطا ًu بالخروج ليلاً، وأخبرته أن هلاك القرية سيكون وقت الشروق: )فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ( (الحجر: الآية 73)، يقول I )فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ( وهي الصوت القاصف عند شروق الشمس وقت طلوعها، وذلك مع رفع قريتهم إلى عنان السماء، فلما جاء وقت إهلاكهم جعلت الملائكة عاليها سافلها، وأمطروهم بحجارة من سجيل منضود.

أصدرت الملائكة أوامرها إلى لوط u بالخروج من القرية مصطحباً أهله قبل إهلاكها، أصدروا تعليمات تفصيلية دقيقة لنجاته هو ومن معه قبل (ساعة الصفر)، تدبر دقة تلك الأوامر التي أصدروها إليه: )فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ( (الحِجر: الآيتان 65 و66).

تدبر قول الملائكة للوط u وهم يخرجوه من القرية سالما قبل إهلاك أهلها، لقد أمر الله ملائكته بنجاة المؤمنين، وهو أمر فيه كل تفاصيل نجاتهم، فقد وعد الله بذلك والملائكة ينفذون ما وعد، يأمرون لوطاً u بأن يتحرك من بيته ليلاً هو وأهله سراً، وأن يسير u خلفهم ليكون أحفظ لهم، وأن يمضوا حيث يؤمرون، كأن هناك من يوجههم إلى طريقهم الآمن )وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ(، أمروهم بألا يلتفت منهم أحد عند سماع الصيحة من خلفهم، خطة محكمة لنجاة المؤمنين، كل شيء مخطط ومرتب ومدبر وموقوت، وليس كما يظن الغافلون بأن نجاة المؤمنين تحدث عشوائياً، أو مصادفة!!، فالمنفذون وهم من جنود الله غير المرئيين، ينفذون كل شىء بأعلى درجات الدقة والإتقان، فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

1. تعليمات محددة وأوامر واضحة ومفصلة وصارمة

لم يترك الملائكة للناجين أي استنتاجات أواستفسارات، لقد حددوا للوط u تفاصيل كل شيء، وفى الوقت نفسه حجبوا عن الهالكين أي معلومات عن أي شيء، أحاطوا الأحداث المقبلة بالسرية والكتمان وأخفوها عن الهالكين، إن موضوع تدمير قرية لوط بكاملها عدا الناجين منها، أمر خطير للغاية!! فهو هجوم مخطط ومدبر ومفصل ومباغت في الوقت نفسه، تدبر تلك التعليمات الواضحة التى حددتها الملائكة للوط u: )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: الآية 81).

هكذا صدرت تعليمات محددة وتفصيلية من الملائكة إلى لوط u، أمرته الملائكة بأن يصطحب أهله، وأن يسرى بهم بقطع من الليل خارج القرية (أجزاء من الليل للسرية)، كما أمروه بألا يلتفت أحدُ من آهله عند سماعهم الأصوات المروعة من خلفهم، وأخبروه أيضا بهلاك امرأته فإنه مصيبها ما سيصيب قومها في الصباح، فبعد ساعات قليلة تنكشف الأستار، وتتجلى (ساعة الصفر)، ويرى قوم لوط الموت في كل مكان، وتخرب ديارهم، ويحل الدمار بقريتهم!!، بعد قليل ترفع الملائكة القرية إلى أعلى ثم يتركونها تهوى، ويمطرون أهلها بحجارة من سجيل منضود.

إن هذا الأمر عجيب حقاً!!.. فهل هناك ترتيبات وتدابير، وتعليمات وأوامر وتوقيتات، لإهلاك قرية ظالمة أدق من هذا ؟!!، إن إهلاك الظالمين شيء مؤكد وحتمي، ونجاة المؤمنين شيء مؤكد وحتمي أيضاً، وأن (ساعة الصفر) لا بد وأن تأتي للظالمين وتتحقق.

ألا ترى معي أن هذا التدبير الإلهي المحكم لنجاة المؤمنين، والممثل في نجاة لوط u ومن معه من المؤمنين، يدعونا إلى الثقة بالله في إهلاك الظالمين أيضاً ولو بعد حين؟، إن هناك كائنات تتحرك من حولنا تتحرك بأمر ربها، ينفذون وعده بإهلاك الظالمين ونجاة المؤمنين، وقد ذكرنا من قبل أن الملائكة على علم من الله بأسلوب الإهلاك ووسيلته وأداته، وكذلك موعد الهلاك، ولديهم تعليمات محددة وصارمة في تنفيذ خطة نجاة المؤمنين من تلك القرى، وذلك على النحو الذي بيناه.

2. وهذه حقائق مهمة نؤكدها

أ. معرفة الملائكة لأسلوب الإهلاك ووسيلته وأدواته:

(1) يحيط الله ملائكته المنفذين بتفاصيل الإهلاك قبل شروعهم في التنفيذ، يحيطهم الله علما بأسلوب الإهلاك ووسيلته وأدواته، ودليل ذلك أن الملائكة حين نزلوا ضيوفاً على إبراهيم u، وسألهم إبراهيم u عن وجهتهم، قالوا أن الله قد أرسلهم إلى قوم مجرمين (قوم لوط)، ليرسلوا عليهم حجارة من طين، فهم على علم بأسلوب ووسيلة الإهلاك وأدواته قبل التنفيذ، قال تعالى مصوراً الحوار الذي دار بين إبراهيم u والملائكة، قال إبراهيم للملائكة: )فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ( (الذاريات: من الآية31، والآيات 32 – 34).

(2) أصبح الأمر واضحاً ومعلوماً لديهم ولدى إبراهيم u أيضاً، الكل أصبح يعلم أسلوب إهلاك قوم لوط ووسيلته وأداته قبل الذهاب إليهم وتدميرهم، أسلوب الإهلاك المحدد كان (الرجم)، ووسيلة التنفيذ كانت (الملائكة أنفسهم)، وأداة الإهلاك كانت (حجارة من طين)، تدبر قول الملائكة المنفذين لإبراهيم u: )لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(، هكذا تبين لنا الآيات الكريمات أن الملائكة يعلمون التفاصيل، فالأداة المستخدمة في الإهلاك يعلمون أنها )حِجَارَةً مِنْ طِينٍ(، ويعلمون أيضاً أنها مكتتبة عند الله بأسماء الهالكين، كل حجر عليه اسم صاحبه، يرصده حتى يهلكه دون أدنى خطأ )مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ(.

ب. معرفة الملائكة بموعد الإهلاك ووقته

(1) إن الله I يخبر ملائكته بموعد إهلاك الظالمين ويحدد لهم الوقت، (قد يكون الوقت بياتاً وهم نائمون، أو نهاراً وهم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون!) أياً كان الوقت فقد علموه من ربهم مسبقا، فالوقت محددُ للملائكة من قبل ويعرفونه معرفة دقيقة، دقة يعجز عن تصورها الإنسان، دقة لا تدخل في قواميس الانضباط التى نعرفها على الأرض، لقد علمت الملائكة بموعد إهلاك قوم لوط بكل دقة والذي تحدد له وقت (الصبح)، وقد أخبروا لوطاً u حين ذهبوا إليه بذلك: )إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: من الآية 81).

(2) الملائكة ملتزمون بتنفيذ عقاب الله الذي كتبه على الظالمين، فهم ملائكة غلاظ شداد لا يعصون أمر الله، ويفعلون ما يؤمرون بأعلى درجات الدقة والانضباط، فهي أوامر تأتى من رب العالمين، أوامر لا تقبل التردد أو العصيان، كما أن حسابات الوقت أثناء التنفيذ، هي حسابات بالغة الدقة والإتقان، لا تقديم فيها ولا تأخير، هكذا تذهب الملائكة وتحضر في مكان الحدث، وتعد ترتيباتها قبل (ساعة الصفر)، ويبدأ العد التنازلي قبل تنفيذ الهجوم على الظالمين، ذلك في الوقت الذي يكون فيه الظالمون في غمرتهم ساهون، لايدرون ما الذى يُدَبر لهم، فبعد عدة ساعات ستمطرهم الملائكة بمطر السوء، حجارة من سجيل منضود وهم لا يشعرون!!، فيلقون مصارعهم مرجومين، وهناك عدة حقائق بينها القرآن الكريم:

(أ) أن الملائكة علمت مسبقا تفصيل موعد إهلاك قرية لوط.

(ب) أن الملائكة أخبرت لوطا u بموعد إهلاك القرية قبل بدء التنفيذ، ليجهز نفسه وأهله للنجاة ليلاً قبل أن يحل عليهم الصباح: )قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ( (هود: الآية 81).

(ج) أن الملائكة على معرفة تامة بأسلوب نجاة المؤمنين، وليس لها أن تترك المؤمنين يُهلكون مع الهالكين، فهذا يخالف سُنة الله في عقاب الظالمين، ويخالف أيضاً سُنة الله في نجاة المؤمنين، فنجاة المؤمنين من القرى الظالمة أمر حتمي، فقد أوجب الله I على نفسه نجاتهم، قال تعالى: )ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ( (يونس: الآية 103). فالعشوائية غير واردة لا في تنفيذ إهلاك الظالمين ولا في نجاة المؤمنين، فكل شىء عند الله بحسابات وترتيبات، يدبرها الله من فوق سبع سماوات، وما على الملائكة إلا أن تقوم بالسمع والطاعة والتنفيذ.

(د) الملائكة ينفذون كل شيء بحسابات دقيقة ومعقدة ومتشابكة، إجراءات متشعبة وموقوته بين (الهالكين والناجين)، أي بين الكافرين والمؤمنين. تتحرك الملائكة في اتجاهات متعددة وفي توقيتات محددة، فلا احتمالات عندهم لخطأ في التنفيذ، ولا غفلة ولا غفوة، فلا احتمالات مثلاً بأن يُترك أحد من المؤمنين ليهلك مع الهالكين، ولا يوجد احتمال أن يهرب أحد من الذين كُتِب عليهم الهلاك لينجو مع الناجين، فما أراده الله أن يحدث لا بد وأن يحدث ولا بد من تنفيذه. قال تعالى: )وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( (يوسف: من الآية 21).

رأينا أن إهلاك القرى الظالمة لا يتم عشوائياً، وأن إهلاكها له ترتيبات مسبقة وتوقيتات محسوبة، والملائكة تتلقى من ربها الأوامر بالتدمير والإهلاك، في الوقت والمكان المحددين، وبالأسلوب والوسيلة والأداة التى حددها لهم الله من قبل، نظام ملكوتي مُحكم ثابت لا يتغير ولا يتبدل. نظام ملكوتي محكم التدبير يدبره العليم الخبير، تنفذه ملائكة موكلون بكل دقة ويفعلون ما يؤمرون!، وحين يأتي موعد هلاك الظالمين (ساعة الصفر)، فلا تأجيل ولا تقديم، وقد بين لنا القرآن الكريم كيف تسير تلك الأمور بوضوح تام، دون لبس أو تأويل.

من المهم أن نعلم أن الإهلاك بهذا الأسلوب ليس مقصوراً على الأقوام التى هلكت من قبل، فسواء كانت القرى الظالمة من السابقين أو اللاحقين فإن القاعدة العامة هي: (هلاك قرى الظالمين، ونجاة المؤمنين من تلك القرى)، وبتلك القاعدة تقر أعين المؤمنين في كل مكان، ويعلم الناس أن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، قال تعالى: )وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ( (إبراهيم: الآية 42).

لقد قص الله على رسوله الكريم e من أنباء الرسل، ومن أنباء القرى ما يثبت به فؤاده، وعلى المؤمنين من بعده أن يتذكروا ويتعظوا بما جاء في تلك القصص لتثبت به أفئدتهم، قال تعالى: )وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ( (يوسف: الآيات 120 – 122).



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Empty
مُساهمةموضوع: رد: عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها   عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها Emptyالأربعاء 16 مارس 2016, 11:43 pm

المصادر والمراجع
1. القرآن الكريم.
2. موسوعة الحديث الشريف، الأسطوانة الإلكترونية، شركة صخر، الإصدار الأول.
3. محمد فؤاد عبدالباقي، "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"، دار الريان للتراث، القاهرة، 1987.
4. الإمام أبى الفداء إسماعيل بن كثير، "قصص الأنبياء"، دار التراث العربي للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى،1981.
5. أحمد بهجت، "أنبياء الله"، دار الشروق، القاهرة، الطبعة السادسة، 1979.           
6. أبن هشام، " السيرة النبوية"، الجزء الأول، دار الريان للتراث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1987.
7. محمد حسين هيكل، " حياة محمد"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001.
8. الإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، "مختصر منهاج القاصدين"، دارالتراث العربى للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1982.
9. حسن أيوب، " تبسيط العقائد الإسلامية "، دار التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1986.
10. محمد صبري محسوب، محمد إبراهيم أرباب، " الأخطار والكوارث الطبيعية، الحدث والمواجهة، معالجة جغرافية "، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى, 1998.
11. محسن عبدالحي حسن، "عذاب وهلاك القرى الظالمة"، النسر الذهبي للطباعة، القاهرة، الطبعه الأولى، 2002.
12. مهدي بن محمد رشاد الحكمي، "من أسباب هلاك الأمم السابقة الواردة في السنة النبوية"، مجلة مركز البحوث والدراسات الإسلامية – كلية دار العلوم – جامعة القاهرة – العدد 46، مارس 2014.
13. مصطفى محمود، "على حافة الزلزال"، مقال بجريدة الأهرام بتاريخ 6 أكتوبر 2001م0
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
عذاب القرى في القرآن الكريم وهلاكها
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: