عصر وإمـام
أ.د. نبيل خالد أبو علي
أستاذ الأدب والنقد – الجامعة الإسلامية
نائب رئيس مجمع اللغة العربية الفلسطيني
الملخص
يحاول هذا البحث الوقوف على جوانب شخصية الإمام الشهيد أحمد ياسين من خلال استقراء وتحليل أبرز الأحداث التي أثرت في العالمين الإسلامي والعربي وكيفية تأثيرها على فلسطين ، ثم الوقوف على مختلف العوامل التي أثَّرت في شخصية الإمام ، والتعرف على كيفية استجابته لهذه الأحداث ، ومدى تأثيره فيها ، ويمتد هذا البحث إلى حكايات وشهادات الذين عاصروا الإمام الشهيد أينما كانوا ، في فلسطين وباقي البلاد العربية والإسلامية ، ساسة ورجال دين ، علماء وأدباء ... اتفقوا معه في الفكر والرأي أو اختلفوا ...
وقد سعينا فيه إلى إبراز الصورة – المادية والمعنوية – التي ارتسمت في قلوب وعقول أهل العصر ، الذين عرفوا الشيخ عن قرب ، والذين عرفوه من خلال وسائل الإعلام المختلفة .
أما قبل :
قال المتنبي :
أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدَبي
أنامُ مِلءُ جُفوني عن شَوارِدِها
وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاها ويَخْتَصِمُ([1])
هذا هو حال فارس القصيدة العربية مع أهل عصره ، إنه يعرف قدر شعره ومنزلته تماماً مثلما يعرف أنهم لن يعرفوا قدره ومنزلته إلا بعد رحيله ، ويبدو أن حالنا مع فارس الشهداء أكثر صعوبة وإجهاداً للفكر ، نعم سيسهر الخلق ويعكفون على دراسة سيرته ، وقد يختصمون حول معاني ودلالات أقواله وأفعاله ... ونحن وهو في ذلك ليس بدعاً بين الأمم فقد عاش كثير من العظماء بين أهلهم وأقوامهم في شتى العصور حياة العامة ، فأَلِفَ الناس أقوالهم واعتادوا أفعالهم حتى احتجبت عنهم عبقريتهم ، ليس ذلك فحسب بل عاني بعض هؤلاء العظماء سوء المعاملة ، وتعرضوا لألوان البطش والتنكيل ، ولعلّ في قصص الأنبياء والرسل الأكرمين شواهد لا يمكن حصرها ، هذا بالإضافة إلى سِير الأئمة ودعاة المسلمين ، التي تحفل ببطولات إيمانية لم يدركها أهل زمانهم إلا بعد فوات الأوان ، ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى محنة الإمام "أحمد بن حنبل" وسجنه وتعذيبه ، أو ما لاقاه شيخ الإسلام الإمام "عز الدين بن عبد السلام" في السجن ، أو اغتيال الإمام "حسن البنا" ...
نعم لقد عاش فارس الشهداء الشيخ الإمام أحمد ياسين بين ظهرانينا ثمانية وستين عاماً، اعتدنا أقواله وأفعاله حتى خلناها اعتيادية لا تستدعي شحذ الهمم لفهم معناها وغاياتها... رأيناه يُمهِّد طريق الدعوة إلى الله منطلقاً من بيته ومدرسته ومسجد المخيم الذي يسكن فيه – المسجد الشمالي بمخيم الشاطئ – إلى قطاع غزة ثم جميع أرجاء فلسطين ، حتى تصل إلى آفاق العالم بأسره ، ويستشعر أعداء الإسلام في أوروبا والبيت الأبيض الأمريكي خطورة دعوته ومبادئه ... لقد رأيناه ينازل الفكر الشيوعي الإلحادي ، ثم الفكر القومي العروبي ، الذي طالما ناهض الجماعات الإسلامية ، ويقع في قبضته مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1965م ، ثم يعود من سجنه لطرق الدعوة لا ترهبه سياط السجان ، مصمماً على انتشال الشباب من براثن هذا الفكر الإلحادي ، وما يكاد يصل لغايته حتى تسقط الضفة الغربية وفلسطين في قبضة المحتل الصهيوني عام 1967م ، ثم يقع عليه الاختيار ليكون مرشداً عاماً لحركة الإخوان المسلمين في فلسطين عام 1968م ، ولم يستسلم لجبروت الاحتلال الذي هزم الجيوش العربية ، حيث بدأ تأسيس حركة إسلامية تقاوم المحتل ، ووقع في قبضة الاحتلال الصهيوني عدة مرات ، كان يخرج منها أكثر عزيمة من ذي قبل ..
كل هذا يقع تحت عيوننا وأسماعنا ، ونحن نراه لا يملك من أدوات الإمامة والدعوة ، والقيادة والنضال إلا قلباً يسع الجميع ، وعقلاً لم يتمكن منه الشلل ، نرى إماماً مرشداً ، وفارساً مناضلاً أصاب الشلل معظم جسمه حتى أضحى أنموذجاً فريداً لا مثيل له في العالم ، ومع ذلك لم نفكر في أسرار عظمته وهو يعيش بين ظهرانينا ، ولم ينزله أبناء أمتنا المنزلة التي يستحقها ، فبينما كان العالم بأسره يعي منزلته وأسباب عظمته ، كان أبناء أمتنا يعزلونه عن العالم ، ويفرضون عليه قيود الإقامة الجبرية ، ألم يعده قادة الدولة الصهيونية أخطر رجل على دولتهم في الشرق الأوسط([2]) ؟!
أبرز ملامح العصر :
لا يحمل تاريخ العالمين العربي والإسلامي في العصر الحديث إلا أنباء الفرقة والهزيمة ، ومشاهد القتل والدمار ، فخلافة المسلمين التي كانت تنتظم عقد بلاد المسلمين في جميع أرجاء المعمورة ، التي كانت رمز وحدتها ودليل قوتها وصلت إلى سن الشيخوخة وسجلت آخر فصول هزيمتها في مطلع القرن العشرين ، حيث وصلت المؤامرات التي حيكت ضد الخلافة إلى الذروة في عهد الخليفة العثماني "محمد السادس" حينما ألغيت الخلافة الإسلامية في 29 أكتوبر 1923م ، وعُزل الخليفة ، وأُعلنت الجمهورية التركية ، وعُين "عبد المجيد بن عبد العزيز" خليفة ، للإبقاء على رمزية الخلافة ، ثم انتخب "مصطفى كمال أتاتورك" من قِبَل الجمعية الوطنية لرئاسة الجمهورية التركية ، ولم نصل إلى الثالث من مارس عام 1924 للميلاد حتى يطرد "أتاتورك" آخر خليفة عثماني "عبد المجيد بن عبد العزيز" ، ويكتب شهادة وفاة الخلافة بعد عمر ناهز الخمسة قرون([3]) .
لقد شهد التاريخ موقف الخلافة المُشرِّف في الحفاظ على أرض فلسطين ، والوقوف في وجه اليهود وأعوانهم من الصليبيين ، وكتب اسم السلطان "عبد الحميد" بحروف من نور ، وسجل رفضه السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين ، وإصداره قانوناً يحول دون هجرتهم إليها، ويمنع إقامة مستعمرات لهم فيها([4]) ، كما شهد التاريخ على صدق رؤيته حينما وقف في وجه دعاة القومية ، حيث رأى القومية أداة فرقة وتشرذم ، ومؤامرة على الإسلام الذي هو أداة وحدة الأمة ورمز عزتها .
وحينما اشتدت المؤامرة على الخلافة ، وثارت القومية العربية متبنية فكرة الدولة الوطنية بديلاً عن الخلافة ، وساعية إلى الانسلاخ عن جسم الخلافة ، سقطت بغداد وبيت المقدس عام 1917م([5]) ، وأصدر "آرثر بلفور" وزير خارجية بريطانيا في الثاني من نوفمبر من العام نفسه وعده المشئوم بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين([6]) ، ولما أقحم زعماء "جمعية تركيا الفتاة" و"حركة الاتحاد والترقي" تركيا في الحرب الكونية الأولى بلا سبب أو مبرر معقول ، اعترفت بهزيمتها مع هزيمة الألمان([7]) ، ووقعت اتفاقية رودس في 11 نوفمبر عام 1918م ، وسقط آخر الخلفاء العثمانيين الأقوياء "السلطان عبد الحميد" ، وانفرط عقد البلاد الإسلامية والعربية ، واقتسم المنتصرون إرث آخر خلافة إسلامية ، وكانت فلسطين من نصيب بريطانيا ، حيث وضعت تحت الانتداب عام 1920م ، وكان نصيب اليهود من هذا الإرث استنجاز البريطانيين الوفاء بوعد بلفورهم([8]) .
وبدأ دعاة القومية من العرب والمسلمين يبحثون عن مغانم شخصية بعد أن ساهموا في القضاء على الخلافة ، سواء بالثورة عليها أو المشاركة في الجيوش التي حاربتها([9]) ، ووقعت بلدانهم في ربقة التبعية أو تحت الوصاية والاحتلال تباعاً منذ سقوط الخلافة حتى الحرب العالمية الثانية ، ووصل بعضهم إلى سدة الحكم بمساعدة العديد من القوى المعادية للإسلام كالشيوعيين والصليبيين والصهيونيين والماسون ...([10]) ، وقد ساعدت بريطانيا العظمى العرب على إنشاء جامعة الدول العربية لتأكيد القطيعة بين العرب ودينهم وإخوانهم المسلمين من غير العرب([11]) .
وأصبح من البدهي أن تنشغل البلاد الإسلامية بتدبير شئونها بعد أن وجدت نفسها وحيدة بين القوى التي مزقت خلافتها ، وأن ينقسم العرب على أنفسهم بعد أن فقدوا أهم أسباب وحدتهم ، حيث لم يصمد شعار القومية العربية الذي رفعوه في تخليصهم من التبعية للشرق أو الغرب ، ولم يحل دون انبهارهم ببريق شعارات الأيدلوجيات المتباينة ، كما لم تفلح جامعة الدول العربية في توحيدهم تحت هذا الشعار ، حيث أصبحت الجنسية بديلاً للقومية ، وأضحى العرب شعوباً عربية ، فالعربي مغربي ، أو يمني ، أو مصري ، أو فلسطيني ، أو سوري ، أو عراقي ، أو سعودي ... وأضحى تخلص الشعوب العربية من هؤلاء الحكام أكثر صعوبة من التخلص من الاحتلال .
وفي خضم انشغال المسلمين والعرب بأنفسهم ، وتبعية حكامهم واستبدادهم بدأت فصول تنفيذ وعد بلفور ، فبدأت موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وبدأ البريطانيون إخراج مشاهد أكثر المسلسلات دموية في التاريخ البشري الحديث .
فحينما رفض الفلسطينيون سياسة بريطانيا التي تُسهِّل الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وانتفضوا ضد الصهاينة فيما يُعرف باسم "ثورة العشرين" ، كان ردّ المندوب السامي البريطاني هو فتح سجلات بيع الأراضي ، ومساعدة الصهاينة في السيطرة على الأرض الفلسطينية([12]) ، وحينما هاجمت العصابات الصهيونية أهالي يافا وانتفض الفلسطينيون للدفاع عن أنفسهم فيما عُرف باسم "ثورة يافا" وضعت بريطانيا مدرعاتها تحت تصرف العصابات الصهيونية([13]) ، ولمّا تجددت الثورة ضد ممارسات الصهاينة واعتداءاتهم على حائط البراق يوم 23/8/1929م تآزر البريطانيون مع الصهاينة في قمع الثورة وإعدام بعض أبطالها([14]) .
وازدادت أطماع الصهاينة وبدأوا يفكرون في استغلال قوة بريطانيا لإخلاء الأرض من سكانها فارتكبوا العديد من المجازر ، وكثفوا موجات الهجرة إلى فلسطين ، ثم قدموا إلى بريطانيا مشروع قرار يقضي بتهجير الفلسطينيين إلى شرق الأردن([15]) ، وتتابع رفض الفلسطينيين وازدادت ثوراتهم حدة([16]) ، وازدادت الهجمة الصهيونية البريطانية شراسة ، وتوزعت أشكال الإرهاب الصهيوني البريطاني بين اغتيال قادة المجاهدين ، وذبح الأبرياء ، وتدمير المباني على رؤوس سكانها([17]) .
وعجز الفلسطينيون العزل عن التصدي للعصابات الإرهابية الصهيونية المؤيدة بقوات بريطانيا العظمى ، ووقعت نكبة فلسطين وقبل زعماء العرب شروط الهدنة يوم 9/5/1948م، وأعلن الصهاينة قيام دولة إسرائيل في 14/5/1948م ، ولكي لا تتهم الشعوب العربية حكامها بالتخلي عن فلسطين ، وبترك العصابات الصهيونية وأعوانها البريطانيين يستفردون بهم أرسلت بعض الدول فرقاً من قواتها ، ودخلت هذه الفرق فلسطين في اليوم الذي اعترفت فيه الولايات المتحدة بالدولة الصهيونية 15/5/1948م ، في محاولة من الزعماء العرب لذر الرماد في عيون الشعوب العربية([18]) .
وهُجِّر الفلسطينيون وتشتتوا في البلاد المجاورة ، وتحول الخطاب العربي السياسي والإعلامي إلى الحديث عن حقوق اللاجئين ، وأحوالهم في دول الشتات ، وحق العودة ...
ولم يتوقف الإرهاب الصهيوني عند هذا الحد بل استمر في ممارسة جرائمه ، فارتكب في قرية "قبية" مذبحة راح ضحيتها 42 فلسطينياً وهدم 41 منزلاً ، وبعد اعتراف العرب الضمني بالكيان الصهيوني في هدنة 11/6/1953م شن الصهاينة هجوماً على قطاع غزة أسفر عن استشهاد 38 فلسطينياً وعشرات الجرحى([19]) ، وفي أثناء العدوان الثلاثي على مصر سقط قطاع غزة في أيدي الصهاينة ومارسوا ضد سكانه أبشع الجرائم([20]) ، وفي 7/6/1967م التهمت القوات الصهيونية ما تبقى من أرض فلسطين ، بعد مهزلة حربية هُزمت فيها جيوش دول المواجهة مصر والأردن وسوريا ولبنان ، وسقطت في قبضة الاحتلال بعض أراضيها ، وانشغل كل بلد من هذه البلدان بقضيته الخاصة ، سواء بالتعايش مع الصهاينة والصليبيين ، أو بمواجهتهم ، وتحولت قضية فلسطين من قضية إسلامية ، إلى قضية قومية ، وأخيراً قضية وطنية تتعلق بالفلسطينيين وحدهم ، وانحدر الخطاب العربي تدريجياً حتى أضحى عاجزاً أحياناً عن شجب واستنكار المجازر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ، وأصبح على الفلسطينيين أن يتصدوا للسرطان الصهيوني الاستيطاني بصدورهم العارية ، فاتخذوا من الحجارة سلاحاً ، وانتفضوا على الجلاد الصهيوني في 9/12/1987م ، وبعد سبع سنوات من النضال حققت الحجارة ما عجزت الجيوش العربية عن تحقيقه ، تجلى ذلك في اتفاقية أوسلو وعودة السلطة الوطنية([21]) .
وما هي إلا عشية وضحاها حتى علت أمواج المد الصليبي ، ونكث الصهاينة باتفاقياتهم ، وعادوا لسياسة الاغتيال وقتل الأبرياء وهدم البيوت وتدمير البنية التحتية والعبث بأسباب عيش الفلسطينيين ، وما زال الفلسطينيون يتصدون لهذه الهجمة الصهيونية الشرسة بحجارتهم وبما تيسر لهم من أدوات المقاومة([22]) ، وما زال العرب والمسلمون يتراجعون أمام الهجمة الصليبية العالمية .
هذه هي أبرز سمات العصر الذي شهد ميلاد الإمام الشهيد ، وتلك هي الظروف التي أحاطت بنشأته ، فكيف أضحى الإمام الذي اقتلع مع أهله من وطنه مشرداً في مخيمات الشتات أبرزَ قادة النضال الفلسطيني ، وأهم القادة الإسلاميين في العالم المعاصر ؟
الإمام شاهد على العصر :
في ظل هذه الظروف الصعبة التي مازالت تمر بها فلسطين ولد الشيخ الإمام ، وقد تزامن ميلاده مع انطلاق الثورة الكبرى ضد العصابات الصهيونية والقوات البريطانية ، هذه الثورة التي استمر أوارها مشتعلاً حتى استوت خطوات الوليد على ظهر البسيطة([23]) ، وقبل أن يعي معنى اليُتم والأحزان اختطف الموت والده([24]) ، ومع انتظام الطفل في المدرسة بدأت خيوط المؤامرة الصهيونية الصليبية على فلسطين تكتمل ، وبدأت بريطانيا تنجز وعد وزير خارجيتها "آرثر بلفور" ، وتدفق المهاجرون الصهاينة من كل أصقاع الأرض للاستيطان في فلسطين ، واشتعلت الثورات وناضل الثوار ، وارتكب الصهاينة المجازر ... وقبل أن ينهي الطفل دراسته الابتدائية وقعت نكبة فلسطين ، وتشرد الفلسطينيون ، وهاجر الطفل مع أسرته إلى غزة ، وتعايشت الأسرة مع واقعها الجديد ، ولم يجد الإمام بداً من العودة لمقاعد الدراسة لمداواة آلام الهجرة ، فاستكمل دراسته وحاز شهادة المرحلة الثانوية ، وبعد لأيٍ حصل على وظيفة مدرس بمديرية التربية والتعليم ، وبدأ مرحلة طموحة تهدف إلى إعداد جيلٍ من الشباب إعداداً إيمانياً يؤهله لتحمل تبعات المرحلة([25]) .
لقد أنهى دراسته حتى حاز شهادة الثانوية العامة ، وتسابق مع قرنائه على الوظيفة حتى فاز بها ، وبدأ تأسيس أسرة ... في ظروف قاهرة ، العام منها محبط والخاص مقعد لا يستطيع إنسان أن يواصل معه الحياة السوية . عاش فصولاً من المعاناة تنوء عن تحملها الجبال ، وتحملها الإمام بإصرار وإيمان عميق ، وواصل رسالته في الحياة ، وتعمقت تجربته وتشكلت غاياته ، واتضحت أهداف حياته .
نعم لقد عانى من أطماع الصهاينة ، التي لم تتوقف عند تشريد معظم سكان فلسطين والتهام أرضهم ، بل لاحقتهم في غزة وسفكت دماء الأبرياء وارتكبت المجازر ، ثم احتلت القطاع بأكمله بمساندة البريطانيين والفرنسيين([26]) ، وعلى الصعيد الشخصي كان المُصاب جللاً حيث تعرض الإمام لحادثة لازمته نتائجها طيلة حياته ، لقد أصيب بشللٍ رباعيٍ تدرج معه من صعوبة الحركة حتى التحرر من قيود الجسد([27]) .
ولم تزد هذه التجارب والحوادث القاسية - العام منها والخاص – الإمام إلاّ صبراً على الابتلاء وإيماناً راجحاً بمشيئة الله ، فاتجه إلى الله عزّ وجلّ بكل جوارحه ساعياً إلى التبحر في الدين([28]) ، وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين متحملاً أعباء رسالتها وتبعات خصوماتها مع أعداء الله ، عندما كان الفكر الشيوعي والمؤسسات الصليبية والصهيونية تغوي الشباب وتهيمن على عقولهم ، فوقع الإمام مع مجموعة كبيرة من إخوانه في قبضة حُرّاس الفكر القومي ، وكانت التجربة الأولى في السجن ، التي امتحنت قوة الإيمان وكسرت حاجز الرهبة([29]) .
وعندما احتلت قوات العدو الصهيوني ما تبقى من أرض فلسطين يوم 7/6/1967م ، أصبح لزاماً على الإمام أن ينتقل من طور بناء العقول إلى بناء المؤسسات ، ومن العمل الفردي إلى العمل المؤسساتي ، لأن مجابهة السرطان الصهيوني الاستيطاني ، والتصدي لزحفه يستدعي تطوير أدوات النضال وتنويع أشكاله([30]) ، لذلك شرع في بناء جسم الحركة بعد اختياره لقيادة حركة الإخوان المسلمين في فلسطين عام 1968م ، فأسس الجمعية الإسلامية ، والمجمع الإسلامي ، وأسهم في تأسيس الجامعة الإسلامية ، ثم مدرستي دار الأرقم للبنين والبنات ، وبعد أن أرسى قواعد عمل الحركة الإسلامية ، وأحسن تنظيمها بدأ يعمل على تطوير المقاومة وتسليحها ، وقد تنبهت سلطات الاحتلال لما يقوم به الإمام فقامت باعتقاله عام 1983م ، ووجهت له تهمة حيازة أسلحة ، وتشكيل تنظيم عسكري ، والتحريض على إزالة الدولة العبرية ، وحكمت عليه بالسجن لمدة 13 عاماً ، ولكن "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة" أفلحت في تحريره من السجن في صفقة تبادل الأسرى مع الصهاينة عام 1985م .
ولم تفت تجربة الاعتقال في عضد الإمام بل زادته قوة وإصراراً على المضي في طريق المقاومة حتى التحرير ، إذ قام مع مجموعة من أصفيائه ومريديه بتشكيل تنظيم عسكري حمل اسم حركة المقاومة الإسلامية – حماس - ، التي أعلنت عن انطلاقها ببيان أصدرته يوم 14/12/1987م مع اشتعال فتيل الانتفاضة المباركة .
ومع تصاعد وتيرة المقاومة وتنوع عملياتها ضد الجنود الصهاينة وعملائهم أقدمت السلطات الصهيونية على اعتقال الزعيم الروحي لحركة المقاومة الإسلامية – حماس يوم 18/5/1989م مع مجموعة كبيرة من أعضاء الحركة ، ووجهت له عدة تُهم منها : تأسيس حركة حماس ، والتحريض على اختطاف وقتل جنود صهاينة ، وحكمت عليه بالسجن مدى الحياة إضافة إلى 15 عاماً أخرى . وتم تحريره مرة ثانية في صفقة أبرمتها المملكة الأردنية مع الدولة الصهيونية في أكتوبر عام 1997م ، وعاد ثانية لممارسة دوره النضالي على الرغم مما ألم به من علل وأمراض نتيجة لممارسات السجان وظروف السجن.
ولأن الانتفاضة المباركة قد أكرهت المحتل على التفاوض مع الفلسطينيين ، وأثمرت بعض النتائج التي عمل الإمام من أجل تحقيقها حاولت السلطة الفلسطينية المحافظة على ما أنجز ، والوفاء بالتزاماتها ، فعملت على كبح جماح طموحات الإمام ، وفرضت الإقامة الجبرية عليه . ولمّا تعثرت المفاوضات وتنكر الصهاينة لالتزاماتهم اندلعت انتفاضة الأقصى المباركة - 29/9/2000م – ليتحقق رأي الإمام في عدم جدوى المفاوضات ، وأن الحكومة الصهيونية لا تفهم إلا لغة القوة .
وانطلق مارد الحركة الإسلامية بعد تطوير وسائله القتالية وتنويعها ، كما انطلقت جميع فصائل المقاومة الفلسطينية ، لتؤكد فشل خيار المفاوضات ، وأن الخيار الذي يؤمن به الإمام هو الخيار الصواب . وبدأ الصهاينة يعانون من العمليات الموجعة التي تنفذها المقاومة فضيقوا الخناق على الحركة ، ولاحقوا قادتها ، وعملوا على تصفيتهم جسدياً ، واستهدفوا الإمام يوم 6/9/2003م ، ولمّا كتب الله له النجاة لم يأخذ الحيطة ، متمنياً الشهادة ، وقد نال ما أراد حينما استهدفته الطائرات الصهيونية ثانية وهو خارج من المسجد بعد صلاة فجر يوم الاثنين الموافق 22/3/2004م ، رحم الله الإمام الشهيد وأسكنه فسيح جناته([31]) .
إمام العصر:
إن دراسة سيرة الإمام الشهيد أحمد ياسين تشف عن كثير من الصفات التي اتصف بها السلف الصالح من أئمة المسلمين ، سواء على صعيد تدينه وأخلاقه ، أو أسلوب حياته وواقعه الاجتماعي ، أو غاياته ورسالته في الحياة ، ثم استشهاده وآثاره …
إن الحديث عن تدين الإمام وعلاقته بربه قد يكون ضرباً من المجازفة ، لأن ماهية علاقة العبد بربه وحدود هذه العلاقة لا يعلمها إلا الله عزّ وجل ، ومع ذلك فإن ما ظهر من شواهد هذه العلاقة كثير ، ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين([32]) وهو في مقتبل العمر ، ودلالة هذا الانضمام على اتفاق تربيته وانسجام فكره وميوله مع فلسفة الحركة وأهدافها ، حيث آمن بشعار الحركة "الله غايتنا ، والرسول زعيمنا ، والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا" ، وربى مريديه وأبناء حركته عليه حتى أضحى متجسداً بكل دلالاته في واقع حياتهم ونضالهم ، وقد سار في طريق الدعوة متسلحاً بمقولة الإمام الشهيد حسن البنا "سنقاتل الناس بالحب"([33]) ، وتصدى للفكر الإلحادي ، والاحتلال الصهيوني منطلقاً من أهداف الحركة التي من أبرزها تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي ، وإقامة دولة الإسلام([34]) ، ونظراً لخصوصية الواقع السياسي الفلسطيني حَرِصَ الإمام الشهيد أحمد ياسين على تحديد دعائم حركته مشدداً على أهمية الوحدة الوطنية والإسلامية في تحرير فلسطين([35]) .
لقد كان الإمام الشهيد أحمد ياسين قدوة لمريديه وأبناء حركته ، كان مربياً ومعلماً قولاً وفعلاً ، حيث أخذ نفسه بالشدة ، وحَمِّل جسده ما ينوء عن حمله ، حتى اعتاد الجسد السقيم طقوس حياته وعبادته ، من ذلك ما نراه في قول ابنه : "كان يستيقظ قبل الفجر بساعتين أو ثلاث ، ونوضئه فيصلي ويتهجد ويقرأ القرآن ، ثم يصلي الفجر في مسجد المجمع الإسلامي . بعد الفجر يقرأ القرآن ، ويستمع للأخبار ويقرأ نشرات خاصة يعدها المكتب الخاص به حول آخر الأخبار والمستجدات . وكان يهتم بشدة بالشؤون الإسرائيلية ، ويظل هكذا حتى الساعة السادسة أو السابعة صباحا ً. ثم ينام حوالي ساعتين ويصحو حوالي الساعة 10 أو 11 فيتناول فطوره ، وهو فطور خفيف جداً حيث لا يكمل رغيف خبز واحد بالإضافة إلى كوب من لبن الزبادي . وكان يؤدي صلاة الظهر في مسجد المجمع ، ويجلس مع الناس في المسجد ، وبعد الظهر يجتمع مع قادة حماس وكوادرها ، وكذلك مع الصحافيين أو مع الناس العاديين الذين يأتون لزيارته ..."([36]) ، وقد كان صوّاماً يحافظ على صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، ولم يحل السجن دون الحفاظ على برنامجه اليومي ، "يبدأ منذ صلاة الفجر جماعة ، ثم تلاوة القرآن حتى موعد الفطور ، ويسبق صلاته الفجر قيام الليل ما تيسر له ، تليها فترة قراءة ومطالعة حتى موعد الفورة - وهي النزهة اليومية للمعتقلين - في العاشرة صباحاً والتي تستمر حتى صلاة الظهر التي كان يصليها دوماً في ساحة النزهة ، ثم يأتي موعد الغداء الذي تقدمه إدارة السجون ، يلي ذلك فترة قراءة الكتب الثقافية والدينية التي تستمر حتى صلاة العصر ، وبعد صلاة العصر يسمع الأخبار ويشاهد التلفاز في محاولة منه ليبقى على تواصل دائم مع شعبه خارج السجن . يصلي المغرب مع مرافقيه ، ثم يكرر مشاهدة التلفاز ويتحدث في أمور الدنيا والأمور التي تهم الأسرى مع مرافقيه ومن تواجد داخل غرفته حتى صلاة العشاء التي تليها فترة قراءة تستمر عادة حتى الثانية عشرة أو الواحدة حيث يخلد شيخنا الجليل للنوم "([37]) .
إنه المؤمن بقضاء الله عزّ وجلّ ، القادر على تهيئة نفسه للتوافق مع المكان حتى يضحي مكان خلوة وعبادة ، ويكفي أن نتأمل قوله في وصف حالته وهو في السجن : "أنا بخير في روضة من رياض الله ... إنهم يضعون عليّ الحُراس ، أنا أنام وهم يسهرون يحرسونني"([38]) ، إنها التربية الإيمانية ، والمنهل الذي نهل منه أئمة المسلمين ، ألم يقل ابن تيمية من قبل لسجانيه : "ماذا تصنعون بي ؟ إنَّ قتلي شهادة ، وإن سجني خلوة ، وإن نفيي سياحة"([39]) ، ليس ذلك فحسب بل إنه اختزل كل ما يمكن أن نصفه من حياته الإيمانية بقوله : "أملي أن يرضى الله عني ... نحن طُلاب شهادة" ، ولنا أن نتدبر بعد ذلك معنى هذه العبارة ، وكيف يمكن أن تتحقق دلالاتها ، وهل يبالي من كان يسعى لبلوغ رضا الله عزّ وجلّ ؟ كأني به يتمثل قول الصحابي الجليل خُبيب بن عدي([40]) :
ولستُ أُبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
لقد كان خلقه القرآن ، وقدوته النبي صل الله عليه وسلم ، يقتفي أثر السلف الصالح في عباداته ومعاملاته ، عاش متقشفاً زاهداً في الدنيا وبهرجها ، سكن بيتاً متواضعاً وكان في مكنته أن يعيش في منزل عصري([41]) ، قال أحد مريديه المصريين في وصف تواضعه : "تصورت الشيخ مثل الزعماء لا يسير إلا بحراسة ، ولا يتحرك إلا بأوامر ، نسيت أن الشيخ يصلي بجوارهم في المسجد البسيط ، ويتمشى على كرسيه المتحرك في ذات الشوارع الفقيرة التي يسيرون فيها ، وتطوله أتربة الطرقات .. هو رجل منهم وربما أبسط وأنقى وأكثر تواضعاً"([42]) .
نعم لقد وصل تواضع الإمام درجة الاهتمام بفض النزاعات الأسرية ، والخلافات العائلية ، حتى إذا ما أردنا الحديث عن رجال الإصلاح في المجتمع الفلسطيني فإننا لا يمكن أن نغفل دور الإمام الشهيد أحمد ياسين ، لقد كان من أبرز رجال الإصلاح المحنكين ، انشغل بفض النزاعات والمشاجرات الصعبة بين العائلات بنفسه ، وإصلاح ذات البين ، إضافة إلى إشرافه على لجان الإصلاح المنبثقة عن الحركة المقاومة الإسلامية ، ومتابعة عملها حتى آخر أيام حياته ، يقول الشيخ عبد العزيز الكجك – أحد رجال الإصلاح – في وصف اهتمام الإمام بالإصلاح : "كان الإصلاح من أهم الأمور التي يهتم بها الشيخ ؛ لأنه كان يقول : "إن إصلاح ذات البين هي أرضية ودعامة لبناء المجتمع الصالح وللعمل الإسلامي" ، خاصة أن مجتمعنا قَبَلي ، وكانت فيه عادة الثأر عميقة . كان الشيخ ذا وقار بين العائلات ، واستطاع بحكمته ووعيه وذكائه أن ينال احترام جميع العائلات في قطاع غزة .. خلال الانتفاضة المجيدة الأولى عام 1987م ركزنا كثيراً على مجال الإصلاح ؛ لأن العدو كان يبث العملاء داخل مجتمعنا لافتعال المشاكل بين العائلات والفصائل من أجل إشغال المجتمع بمشاكل داخلية ، وسبحان الله فقد التفت الشيخ بفطنته إلى ذلك الخطر الجسيم الذي كان يدبره العدو لشعبنا لتفتيت قواه ، وكان الرجل متواضعاً برغم هيبته ووقاره ، ولا يقطع في الإصلاح أمراً إلا بعد أن يسأل ويستشير ، والله وفقنا في إصلاح كثير من المشاكل وخاصة مشاكل القتل والثأر"([43]).
لقد بلغ اهتمامه بإصلاح ذات البين ، وحرصه على وحدة الصف الوطني ، أن زاوج بين لوعة الشوق إلى فلسطين - الأهل والأرض – والحديث عن أهمية الوحدة الوطنية ، وذلك في الأبيات التالية التي قالها في المعتقل([44]) :
من الشُّبَّاكِ أَلقَيتُ شِباكي
وعانيتُ الهوى نظراً إليه
ألا يا لائمي عُذراً فإني
هي الأوطان نحميها بسيفٍ
نُوحِّدُ صفَّنا أبداً بعزمٍ
فلا تَهِنوا بني قومي فإنِّا
فلسطينُ الغزالةُ إنَّ قَلبِ
وطاردتُ الغزالَ بلا افتراقِ
فما شافيتُ نفسي بالعناقِ
أُلاقي في الهوى ما لا تلاقي
ولا عزٌّ لها دون اتفاقِ
ولا صفٌ يُوحَدُ بالشِّقاقِ
ليومِ النصرِ نَرنو باشتياقِ
لها يَهفو وتَرقُبُها المآقي
لقد استكمل الإمام بذلك جانباً مهماً من جوانب مشروعه الشامل الذي بدأه بإعداد الشباب إعداداً روحياً ، حيث كانت خطبه على منابر قطاع غزة في البداية تعالج قضية التربية والأخلاق الإسلامية ، وبعد أن قطع شوطاً كبيراً في إعداد جيل مؤمن ، بدأ يوزع جهوده بين الإصلاح والحفاظ على وحدة المجتمع الفلسطيني من جانب ، والحث على الجهاد ومقاومة المحتل من جانب أخر ، وقد حقق في المجالين نتائج تفوق التوقعات ، فهو يعد أبرز رموز الوحدة الوطنية في فلسطين ، وعلى صعيد المقاومة والجهاد أعدّ جيلاً مؤمناً أربك العدو الصهيوني بمقاومته وعملياته الاستشهادية .
وكما سبق القول في مطلع هذا البحث فإننا لم نتدبر حقيقة الإمام الشهيد وهو بيننا – رغم الاحترام والتقدير الذي كان يحظى به - ولم نحاول تدبر أسرار عظمته ، بل قد لا أكون مبالغاً لو قلت إن العدو الصهيوني كان أكثر إدراكاً لعظمة هذا الإمام من العرب والمسلمين ، فإذا كان السجناء الصهاينة قد لمسوا نفحاته الإيمانية وانتظروا وقت الخروج في فسحة السجن للتسليم عليه([45]) ، فإن قادتهم قد صرحوا بعظمته ، وحسبوا له ألف حساب على الرغم من أنهم لم يحسبوا حساباً لجميع الدول العربية والإسلامية ، فهو في نظرهم الذي يهدد أمن الدولة العبرية ، هذه الدولة النووية التي لم تشعر يوماً أن الجيوش العربية والإسلامية تهدد أمنها ، وهو على حدّ قول "تساحي هانغبي" وزير الأمن الداخلي : "ألد أعداء دولة إسرائيل في الشرق الأوسط .. كبير المدبرين والمخططين ، وعقل الاستشهاديين"([46]) ، وهو في رأي "شارون" رئيس الوزراء "دماغ غزة"([47]) ، وفي رأي "موفاز" وزير الحرب الصهيوني "ابن لادن الفلسطينيين"([48]) ، .. وطبعاً لا تنبع خطورته على الصهاينة والصليبيين الجدد من كونه قوة مادية تفوق قوتهم ، حتى نجد رئيس الوزراء الصهيوني وأعوانه من صليبيي البيت الأبيض الأمريكي يخططون لاغتياله ، ثم يهنئون أنفسهم بنجاح عمليتهم العسكرية في قتله ، وهو الأعزل المشلول ، الذي يسير بكرسيه المتحرك في وسط الشارع تحت نظر الصهاينة وأعوانهم ، لا ليس ذلك ، بل لأنه قوة روحية إيمانية لا تكترث بقوتهم المادية ، ولأنه يعي حقيقة الصراع وجذوره الصليبية ، ويعمل على إجهاض ما حققوه من انتصارات في تفتيت الأمة الإسلامية ، وتحويل الصراع من صراع عقيدة ووجود إلى صراع قومية وحدود ، ألم يقل قادتهم الأوائل أمثال "بن جوريون" و"موشي ديان" وغيرهما في تبيين أسباب غلبتهم : "إن الخطر على إسرائيل غير متوافر ما دامت العرب تحاربنا باسم القومية أو الأرض ، إن الخطر كل الخطر إذا حاربنا العربُ باسم الدين([49]) ، وكأني بهم في هذه المقولة يستندون إلى مقولة جدهم "حيي بن أخطب" – زعيم يهود بني قريظة – للنبي صل الله عليه وسلم : "لم تنتصر يا محمد لأن الحرب بيني وبينكم ، وإنما انتصرت لأن الحرب تحولت إلى أن تكون بيننا نحن اليهود وبين الله تعالى"([50]) ، أو يستخلصون العبر من تاريخ الحروب الصليبية ، وكيف جمع الإسلام شمل الأمة الإسلامية وحقق لهم الغلبة على أعدائهم آنذاك .
ومع ذلك فقد وقع ما يخشاه الصهاينة ، واعترف غير واحد من زعمائهم أن اغتيال الإمام قد أماط اللثام عن طبيعة الصراع ، وأدى إلى نتائج غير التي خططوا لها ، من ذلك ما نراه في تبرير "أبراهام بورج" رئيس الكنيست السابق معارضته عملية الاغتيال : "إن إسرائيل حولت الصراع مع الفلسطينيين من صراع سياسي إلى صراع ديني ، ولا يمكن حل صراع ديني بالطرق الدبلوماسية ... إن عملية اغتيال الشيخ أدت إلى تعزيز مكانة حماس وتسليمها قطاع غزة"([51]) . وكذلك تبرير رفض وزير الداخلية "أبراهام بوراز" الاغتيال بقوله : "أخشى أن يزيد دافع حماس ، ياسين سيصبح شهيداً أو بطلاً قومياً بالنسبة لهم .. النتيجة يمكن أن تكون في غاية الخطورة"([52]) .
أما العرب والمسلمون فقد تحدثوا عن مكانته ، وأسباب عظمته بعد استشهاده ، وذلك في ثنايا تعليقهم على اغتياله ، وتدبرهم الآثار التي يمكن أن تترتب على ذلك ، فرأى بعضهم أن مكانة الإمام الشهيد واحترامه بين القادة والزعماء إضافة إلى قادة الفصائل الفلسطينية والشعوب الإسلامية سيؤثر سلباً على محادثات السلام مع الفلسطينيين ، من ذلك رأي الرئيس المصري "محمد حسني مبارك" الذي قال : "إن عملية الاغتيال أجهضت عملية السلام"([53]) ، إنه يشير بوضوح إلى أثر الإمام الشهيد في الساحة الفلسطينية ، هذا الأثر الذي بينه بعض الزعماء الفلسطينيين أمثال رئيس الوزراء "أحمد قريع" الذي قال : "الشيخ ياسين كان معروفاً باعتداله ، وكان قادراً على أن يتحكم بحركة حماس"([54]) ، والوزير "نبيل عمر" الذي رأى أن اغتيال أحمد ياسين هو دعوة لاغتيال السلام ، واصفاً إياه بأنه رجل التفاهمات الصعبة الذي يحترم كلمته ، ويحترمها الآخرون ، وقال : "لقد خسرنا الشيخ أحمد ياسين ، ليس فقط كرمز وطني وقائد مؤثر على ساحة الصراع ، بل والأهم من ذلك خسارته كرجل كان يمكن الاتفاق معه في أمور خطرة ، والاعتماد على كلمته حين تنضج الظروف لاختيار فعلي لكلمة "نعم" التي تقال لمصلحة الشعب وأمانيه ، في الوقت المناسب"([55]) ، وقد انسجمت رؤى معظم القادة العرب في تبيين أثر الإمام الشهيد في الصراع مع الصهاينة ، وأن اغتياله سيشكل قوة رفع للقضية الفلسطينية ، بخلاف ما خطط له الصهاينة وأعوانهم ، من ذلك توقع أمين العام المؤتمر الشعبي السوداني "الدكتور حسن الترابي" أن تؤدي عملية الاغتيال إلى صحوة شعبية عارمة ، وذلك في قوله : "إن استشهاد ياسين سيدفع الشعوب العربية لتدفع حكوماتها لاتخاذ مواقف واضحة تجاه الكيان الصهيوني ، كما أنه سيحدث أثراً واضحاً وسط غير المسلمين" ، ومثل ذلك توقع وزير العلاقات بالبرلمان السوداني "عبد الباسط سبدرات" أن تولد انتفاضة جديدة ، وأن يشتعل فتيل الثورة في كل ثغر من الثغور الإسلامية التي أحست بالألم والأسى لاغتيال الشيخ المجاهد([56]) ، هكذا كانت ثقة العرب في هذا القائد الرباني الملهم ، وتلك هي مكانته التي أجمعوا عليها ، هذا مع العلم أنهم – في ظني - المسئولون في المقام الأول والأخير عن اغتياله ، كيف لا وقد شاهدوا معاناته في المعتقلات الصهيونية ، ومحاولة اغتياله الأولى([57]) ، ولم تتعد مواقفهم عبارات الشجب والاستنكار ، حيث تركوه وحيداً يناضل العدو النووي ، وأخذوا يلوكون الحديث عن خارطة الطريق ومفاوضات السلام ، ويغضون الطرف عن ممارسات هذا العدو الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني بأسره ، وصدق الشاعر الذي يقول([58]):
هكذا .. هم
يغيبون ، ينحدرون
إذا اشتاقت الأرض
للدم ،
للثأر من زمن الغاصبين!
أيها الأقربون الأشقاء
ماذا فعلتم بيوسفكم
مزقته صواريخهم
تحت مرأي الشعوب
وفي غفلة الحاكمين؟!
وقد أجمعت الدول الإسلامية على أهمية الشيخ ، واستمرار تأثيره وتناميه بعد استشهاده ، من ذلك ما نراه في قول المتحدث باسم الحكومة الباكستانية : "إن إسرائيل لن تنجح في جهودها لقمع الفلسطينيين من خلال استخدام القوة ، مشيراً إلى أن مثل هذه الأعمال الجبانة ستمنح دماً جديداً للفلسطينيين في كفاحهم من أجل حريتهم"([59]) ، وكذلك قول وزارة الخارجية الماليزية : "إسرائيل ارتكبت عملاً يصنف في خانة إرهاب الدولة ، ومن شأن ذلك تأجيج دوامة العنف الدموي ، وزيادة حدة التوتر"([60]) .
وعلى الصعيد الدولي اعترف العالم بأسره بأهمية الإمام وقوة تأثيره ، وأن اغتياله سيؤجج الصراع ، إضافة إلى تأكيده على فشل رئيس الوزراء الصهيوني في قمع المقاومة الفلسطينية ، من ذلك مثلاً ما ينطوي عليه قول "جاك سترو" وزير خارجية بريطانيا – المتحالفة دوماً مع الصهاينة – في التعليق على الاغتيال : "إن هذه العملية غير مقبولة ، إنها جائرة ، ومن المستبعد جداً أن تحقق هدفها في صد المقاومة" ، أما وزير الخارجية الفرنسي "دومينيك دي فيلبان" فيرى "أن عملية الاغتيال ستزيد من قوة العنف في المنطقة"([61]) ، وفي خاتمة تحليل سياسي لآثار عملية الاغتيال توصلت صحيفة صادرة في "وارسو" إلى القول : "إن عجز شارون التام أمام العمليات الانتحارية التفسير المنطقي الوحيد لاغتيال ياسين"([62]) .