سوق نخاسة وعبودية جنسية للاجئات في الدول المضيفة وشاشاتنا الإسلامية مشغولة بتفسير الأحلام!
هي ظاهرة بشرية قديمة، أن ترتبط الحروب والمعارك العسكرية بالعبودية الجنسية، لكن لم نكن نتخيل أن هذه السوق سوف تعود بأقسى صورها في قرننا الحاضر. فمع دخول الأزمة السورية عامها السادس، ما زال المدنيون يدفعون الثمن الأغلى من حياتهم ونظام عيشهم ومستقبلهم، فيندفع الآلاف منهم مهاجرين إلى البلدان المجاورة، ومنها ربما إلى أوروبا ودول العالم بحثاً عن النجاة وعن الكرامة المفقودة.
لكن رحلة اللجوء هذه بدأت تتحول إلى مأساة كبرى مستقلة بحد ذاتها. فكثير من اللاجئين ينتهون في رحلة الموت غرقاً أو على أيدي العصابات التي تتاجر بأعضائهم، فيما يخرج أبناؤهم من المنظومة التعليمية ويهيمون في الشوارع أو يعيشون أجواء شديدة المخاطر وفقرا مدقعا.
استرقاء النساء وبيع أجسادهن
الحلقة الأضعف في هذه التراجيديا المؤلمة تبقى النساء السوريات، اللواتي يدفعن ثمناً مضاعفاً فوق الهجرة والمخاطرة بتعرضهن لأشكال مختلفة من العبودية الجنسية تقضي على إنسانيتهن وتحولهن إلى أجساد للمتاجرة في سوق الحرام الهابط. «حتى الكلاب لم تعان كما نعاني»… تقول السورية اللاجئة فاطمة (30 عاماً) وهي تصف حياتها في إسطنبول، بعد أن لم يعد الإستجداء قادراً على توفير لقمة العيش لأولادها الصغار ولزوجها المعدم، فاضطرت إلى دخول عالم إسترقاء النساء وبيع جسدها من أجل حفنة ليرات تشتري فيها ما يدفع بالكاد عن عائلتها غائلة الجوع والحاجة! فاطمة هربت من القصف في حلب، لكنها تقول الآن إن القصف لا يقارن بما تواجهه في الشوارع الخلفية لاسطنبول: من تمييز عنصري سافر، واعتداءات وإساءات، بل والإغتصاب على أيدي العصابات أو حتى الزبائن المنحرفين. هي تعيش الآن في أدنى قائمة المنظومة البشرية مستغلة ومستحقرة ومعتدى عليها وعلى شرفها وكرامتها، كل ذلك من أجل مجرد العيش فقط.
«بي بي سي» الإنكليزية تكسب
قصة فاطمة واحدة من خطوط سرد في الحلقة الأولى المخصصة لتركيا عن «الجنس في أماكن غريبة» ـ وهو برنامج وثائقي استقصائي قدمته في ثلاث حلقات على قناة «بي بي سي» الثالثة المذيعة البريطانية المحبوبة ستيسي دوولي.
وإلى جانب تركيا في الحلقة الأولى، قدمت ستيسي حلقتين أخريين من كل من روسيا والبرازيل. وقد رحب النقاد ببرنامجها، وإعتبره أحدهم أفضل عمل لها على الإطلاق.
البرنامج شديد الواقعية والإبهار ويحزن القلب على ما يمكن أن تصل إليه الحياة البشرية عندما تنتهي الأمور بك للعيش في «أماكن غريبة»، وفي طبقة غريبة.
وهو ـ وإن كان يعاني من عيب مرض الإستشراق الدائم ـ حيث أوروبا هي المقياس وأن الآخر ـ أي آخر ـ إنما هو «في أماكن غريبة»، لأنه مختلف وأنه قدم نماذج هامشية من بائعات وبائعي الهوى الأفراد أو من هم في حكمهم في عوالم الدعارة الرخيصة، دون التطرق مطلقاً لمنظومة العصابات والمافيات، التي تدير الجزء الأكبر من هذا العالم الشديد القتامة ـ فإنه ورغم هذه العيوب قدم محاولة جريئة للإقتراب من حدود مأساة المرأة السورية ومواجهة الحقيقة ـ التابو، التي لا تجد لها مكاناً يذكر تحت شمس الإعلام الملتحق دوماً بالسياسة وذوي الياقات والمغنين والمغنيات.
عجائب الجنس في تركيا
بالطبع البرنامج بالإنكليزية وموجه أساساً للجمهور البريطاني والغربي، ولذلك فإن مأساة النساء في سوريا وفي المهجر ليست إلا واحدة من موضوعات، قد تثير إهتمام ذلك المشاهد عن بلد «غريب»، مثل تركيا.
فمثلاً تركيا، حسب البرنامج ما زالت، ربما الدولة المسلمة الوحيدة، التي تمتلك بيوت دعارة يملكها القطاع العام، وهي نتاج قوانين العصرنة، التي وضعتها جمهورية مصطفى كمال أتاتورك لمحاولة «تغريب» المجتمع التركي.
لكن النساء اللواتي يخترن العمل في هذه الأماكن البائسة بسبب الفقر الطبقي يقعن في مطب اللاعودة، إذ أن ـ صفة الدعارة ـ تدخل في توصيفهن الشخصي في الأوراق الرسمية وهو ما يعني تقريباً إستحالة دخول سوق العمل العادي أو حتى الزواج.
تروي إحدى النساء، التي تعمل في واحد من هذه الأماكن قصصاً مرعبة عن الأمراض النفسية، التي يعاني منها كثير من زبائنها الرجال في تركيا، ومن الجهل المطبق بالعملية الجنسية إلى «الفانتازيات المنحرفة» الناتجة عن الكبت، رغم أن 90 ٪ منهم متزوجون ويعيشون حياة تبدو طبيعية أمام الآخرين.
أيضاً ينفق البرنامج وقتاً كبيرا على تغطية متحولي الجنس والمثليين وما يتعرضون له من مصاعب وقساوة في الشارع وحتى في المعاملة مع المؤسسة الرسمية، التي بحكم نزعتها الإسلاموية، لا ترغب أن يسجل عليها التساهل مع أمثال هؤلاء. وهنا أيضاً يصدمك الرواج الذي يلاقيه هؤلاء من قبل الأشخاص الذين يصرون على أنهم رجال ذوو عائلات ومحترمون ويرفضون فكرة أنهم مثليون بدورهم.
ممارسة الجنس باسم الدين
لكن تبقى القصة الأهم في الحلقة الأولى هي المقابلة التي أجرتها المذيعة البريطانية مع إثنتين من النساء إسترققتهما «داعش» داخل سوريا. لقد بيعتا كما تباع اللحوم في الأسواق وأجبرتا على الترفيه عن (المجاهدين) والقادة كل يوم، وتمت الإساءة اللا أخلاقية إليهما بالطرق كلها، والتعامل معهما بوصفهما أشياء يتم تبادلها بين المسلحين!
نجحت الإمرأتان بالهرب من هذا الجحيم وقابلتا ستيسي في جنوب تركيا، لكن قصة السورية الأخرى فاطمة ـ لا تجعلك تكون متفائلا أبداً، بما يمكن أن ينتهي وضع أمثالها في قاع المجتمع التركي المهمش شديد الإضطراب.
استرقاق اللاجئات في الدول المجاورة
البرنامج سبق قبل أيام تسريب الأخبار من جونية ـ بيروت عن تحرير عشرات من الفتيات السوريات المستعبدات من براثن عصابة إجرامية منظمة تستعبدهن وتجبرهن بأقسى الأساليب على ممارسة الدعارة القذرة. لكن هذا الخبر الذي أثار بعض اللغط في الشاشات والصحف اللبنانية لم يكن عن مجرد شبكة دعارة أخرى، إنها أفضع من ذلك بكثير. بل هي مجرد رأس جبل جليدي هائل كشف لنا جميعاً وبما لا يدع مجالاً للشك وجود سوق نخاسة وعبودية جنسية تتاجر بأجساد اللاجئات في الدول المضيفة، كلها دون استثناء، تحميها دون شك سيادة الفساد ومصالح الرأسمال المشبوه، خاصة في الدول الإسلامية، فقد عرضت «بي بي سي» سابقا برنامجا مماثلا تحدث عن استرقاق اللاجئات السوريات في مخيمات الأردن، وبعض الحالات في مصر. بينما لم تسجل أي حالة مطلقا في أي دولة غربية!
ماخور جنسي وسياسي في لبنان
ممارسات فظيعة كشفت عنها التحقيقات: فترات عمل طويلة تزيد عن 20 ساعة يومياً، والجلد والضرب المبرح، إذا خرجت إحداهن عن التوجيهات وترويج الرعب السيكولوجي في عرض مشاهد التعذيب على الأخريات من ثم الإجهاض في حالة الحمل في ظل منظومة متكاملة من الموظفين والحراس والأطباء والممرضات ولا بد أن القتل كان مصير البعض.
أي مأساة هذه التي تعيشها بناتنا وأخواتنا في سوريا، وأي تقصير يقوم به إعلامنا العربي في مواجهة هذه التراجيديا السوداء؟ مقابل كل برامج الإنحطاط السافر، حيث نرى على الضفة الأخرى من العالم برامج وثائقية استقصائية تقدمها بعض الشاشات الغربية جاهدة لتسجيل وتوثيق مأساتنا من خلال عيون لا تحكي لغتنا.
لا شك أن ستيسي الإعلامية البريطانية قد وضعت أمامنا بواقعية إبداعية، فظاعة وهول حاضرنا المخزي وجريمة معظم شاشاتنا المشغولة في التسلية والتفاهات عن وظيفتها الإجتماعية والأخلاقية والإنسانية.
٭ إعلامية من لبنان
ندى حطيط