فلسفة العولمة ! ؟... رجس من عمل الشيطان
الجزء الثاني
بقلم عبد الحميد حاج خضر الحسيني
أما أثر السوفسطائية في الاقتصاد والمال والأعمال فأمر عجيب . أريد أن أذكر أولاً بمقولة من كتاب (هنري فورد ) " أن معظم المصطلحات البنكية هي من صنع العقلية اليهودية " واليوم ونحن في عهد العوّلمة نتعامل مع مصطلحات جمة تبدو جديدة وبديهية المعنى والمضمون ، والأمر ليس كذلك ، ولنأخذ المصطلح الذي يقول " أن رأس المال الريعي أو الموردي لم يعد له قيمة في عصر العوّلمة وأصبحت القيمة ( لرأس المال المعرفي ) أو باختصار ،المعرفة بدل الكنز أو العقار أو الأرض . هذا المصطلح يدغدغ مشاعر الذين يعتقدون أنهم على قدر من العلم والمعرفة والدراية أو هم على الطريق الموصل إليها . المربون والأباء والذين لديهم حرص على مستقبل الأجيال ربما يرددون ، عند سماع هذا التعريف ، مقالة أرخميدس " لقد وجدتها " . لقد سمعت الأستاذ ( محمود جبريل ) يتنغم بهذا المصطلح في قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود الذي يديره الأستاذ أحمد منصور . داعياً إلى اكتساب وتعميق المعرفة ، لنتمكن من الوقوف على أقدامنا أمام تحديات العولمة . قال ( ص ) " سدد وقارب " فمعرفة الصواب مقدم على الجهد والجهاد بل معرفة الصواب هو سنام الجهاد وبالتالي سنام الدين . من هذا المنطلق أضع مصطلح ( رأس المال المعرفي ) تحت المجهر الفكري والمعرفي . آدم سمث (Adam Smith ) قال : إن قانون العرض والطب هو الذي يحدد قيمة السلعة ، وعليه فإن رأس المال تحدد قيمته وأهميته حسب آلية السوق والمنافسة ، والجملة الشهيرة في هذا المجال " ليس المهم أن تملك بيتاً جميلاً المهم أن يكون بيتك الأجمل " سمث كان ينظر لحرية السوق والغزو الاستعماري البغيض المرافق له أمر طبيعي ، وأنه لا غضاضة البتة أن تخوض حربا أو حروباً من أجل حرية السوق ، ولكن ماركس كان فذاً وحصيفاً في رده على آدم سمث عندما برهن في كراس صغير كان الاشتراكيون والشيوعيون يوزعونه على الكوادر النقابية بل ويتدارسونه معهم ، لصقل المعرفة العمالية ولشحذ الهمة من أجل الصراع الطبقي " المحتوم " . ومن عنوان الكراس " الأجر القيمة الربح " كان يفهم ما يراد . قيمة السلعة لا يحددها سوفسطائية سوق آدم سمث وإنما الأجر + فضل القيمة ، أي الربح الذي يجنيه صاحب المعمل .وذهب إلى القول أن العمل هو سلعة بل العامل نفسه سلعة ، ولكن قيمة هذه السلعة هي الأجر دون فضل القيمة ، ولهذا لم يحلو لماركس الحديث عن الرأسمال الريعي في مجتمع اشتراكي ، كما لم يجد الماركسيون قانون للإرث ينسجم مع النظرية التي يتبنونها ، ومع ذلك وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي هرب" الرفاق "بألف مليارد دولار إلى أرض "العدو" القديم . إن هذه النظرة إلى القيمة وراس المال كان التبرير اللازم والكافي لاغتصاب السلطة وإقامة النظم الشمولية المميتة . إن التعريف العولمي لرأس المال بأنه " معرفي " مقولة لا تستند إلى محسوس أو معقول .رأس المال هو ذلك الكم الحسابي لقيمة السلع المتراكمة مقيمة إلى سلعة أو سلع أساسية أو استراتيجية ضمن منظومة اجتماعية وقيمية ذات صلة بموازين القوى المحسوسة والمعقولة . ففي قصة قارون الذي كان من قوم موسى يقول تعالى في سورة القصص " إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليه وأتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنؤ بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين . قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون . " ومرة أخرى وفي سورة الزمر ينهانا القرآن من ادعاء أن ما يصيب الإنسان من نعمة أو ثروة يرجع إلى مبلغ العلم الذي وصل إليه يقول تعالى " فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم ، بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون " . ويذهب القرآن إلي طمأنة الناس الذين يصرون على الاستقامة ويتمسكون بأهداب الفضلة أن لا سبيل للفاقة والعوز عليهم .
يقول تعالى في سورة الأعراف الآية 95 " ولو أن أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون . " ولا تناقض البتة بين ما أوردناه سابقاً وتقرير القرآن في سورة النجم " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وأن سعيه سوف يرى . " فالسعي يجب أن يكون متكاملاً ومتوازناً لتتم النعمة ، بإذن الله . الإسلام يقرر الإرث بل ويدعوا للمحافظة عليه ويشرع أحكام ونظم للإرث . في سورة الكف قصة الخضر ، الذي يقيم جدار كاد أن يتداعى ، وبدن أجر ، وبلغة القرآن " لو شئت لتخذت عليه أجرا " فجاءت الإجابة " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك " وفي نفس السورة ونفس الصفحة من المصحف يخبرنا القرآن ، أن الخضر ، عليه السلام ، قام بخرق سفينة لتصبح غير صالحة للملاحة فأجاب : وبلغة القرآن المجيد " أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً . "
إن الخطورة التي تحملها النظرة الفلسفية لمفهوم "رأس المال المعرفي " ليس جديدة فقد قام الاستعمار على قدم وساق على تبرير مشابه لذلك ، حيث أعتبر استعمار الأمم والشعوب( عب الرجل الأبيض )، الرجل الأبيض الذي أكتشف القوة في الآلة البخارية وغيرها من المخترعات العلمية ما يخوله لغزو الدول الضعيفة وينهب ثروتها ويستبيح أرضها وكأنه حق له . إن العولمه بهذه المفاهيم تبرر سياسة الإكراه والنهب والسلب التي تمارسها مؤسسات العولمة للأمم والدول ، كما يمهد لاستباحة ثروات الشعوب بحجة أن الدول المتقدمة التي تملك التقنيات والمعارف الضرورية التي تجعل من مادة تبدو خسيسة إلى مادة نافعة مفيدة ومصدر من مصادر الثروة والغناء ، وبكلمة أخرى يجعلون كل مصادر الثروة بما في ذلك الإنسان نفسه كلأً مباحاً لأصحاب المعرفة . ولو افترضنا أن لديهم بعض الحق في دعواهم ، الا أن التطبيق الظالم " لبعض هذا الحق " هو أس المعاناة التي تعاني منها الأمم والشعوب والإنسان هو أسوء أنواع التعسف في استعمال الحق .
العولمة تعني لشعوب الدول الصناعية الغنية : إنهاء أو تحجيم آليات دولة الرعاية الاجتماعية ، كإيقاف العمل بالمعاهدات الجمعية النقابية ، وجعل عقود العمل عقود إكراه فردية ، وفرض أداء معيناً للعمل يستعبد الإنسان نفسه بنفسه ، ويستعبد العمال بعضهم بعضاً لمصلحة رأس المال . هذا يعني بالضرورة ، تهميش المؤسسات الديموقراطية والنقابية وكل مؤسسات المجتمع المدني ، التي يتخذ المدافعون عن العولمة عدم وجودها في الأنظمة الشمولية سبة وعورة في تلك الأنظمة . العولمة تنادي بالفردية ، ولكن الفرد هو العبد والسيد بآن واحد ، مما يفجر أمرض وعاهات نفسية لا حصر لها .
أما إنسان العالم الثالث فهو ، بكل بساطة ، للزرع والصنع للأسياد الذين يفرضهم صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي ، كملوك أو رؤساء ، ومهمتهم الأولى جمع " فضل القيمة " وتحويلها إلى البنوك الدولية لتعيد توزيعها من جديد بشكل قروض واستثمارات وفق آليات الهيمنة ، وعبر أقنية الشركات والبنوك العابرة للقارات العولمة ترفض مجتمع الدولة كما ترفض مجتمع المواطنة دون أن تلزم نفسها بتقديم البديل . العولميون لا يقبلون بالديموقراطية المقررة وإنما فقط بديموقراطية التبرير . القرار يتخذ وفق آلية الهينة حيث توضع المؤسسات الديموقراطية أمام الأمر الواقع وعليها مهمة تبرير ذلك . لنعود بالذاكرة قليلاً إلى الوراء ، عندما كان الشعار المرفوع على امتداد العالم ( الخصخصة ) ، طبعا لا زال الشعار مرفوعاً ولكن بصوت منخفض ، مؤسسات وشركات أو حصص في شركات وبنوك بل عقارات شاسعة واسعة كانت تباع للقطاع الخاص بأسعار تكاد تكون رمزية ، دون أن يكون للمؤسسات الديقراطية أو البرلمان رأي مسموع أو مطاع ، من كان على رأس السلطة التنفيذية كان البائع والسمسار بآن واحد ، ولا مانع أن يكون مخموراً على شاكلة يلسين . أما المشتري فحدث ولا حرج ، ولكن من يجيد الألمانية وتاريخ الاسم العائلي الذي عرفته الدولة القومية ، يعرف تقريباً من المشتري ومن البائع ومن السمسار . ألا يحق لنا أن نتسأل : من هم أصحاب المصلحة في تلكم الهجمة البغيضة على المال العام ، وتهمش المؤسسات الديقراطية ،والدستورية ، والقضائية ، ومعها الطبقة السياسة في كل دول العالم تقريباً . لقد شبهت إنهيار جدار برلين ، بعد سنة من ذلك الإنهيار ، بانهيار سد مأرب ، ليس أسفاً وحزناً على تلكم الأنظمة الشمولية البغيضة ، ولكن للعواقب الوخيمة التي سببها وسيسبها ذلك الانهيار . لقد أخذت الخصخصة طريقها إلى أخص خصوصيات الدولة القومية وأعني الجيش والمؤسسات القمعية و "الأمنية" . بعد "تحرير" زائير ، هكذا كان اسم الكنغو قبل زحف ( كبيلا ) وابنه إلى السلطة ، قامت شركات استخراج الماس والذهب بإنشاء قواتها المسلحة الخاصة ومؤسساتها القمعية ، وهكذا نجد عدد من الجيوش وعدد من قوات الأمن في الدولة الواحدة . إن خصخصة الجيش والأمن في العراق ، بعد احتلاله من قبل قوى التحالف الأمريكي الصهيوني ، من المواضيع التي تنضج على نار هادئة في المخبر الصهيوني .وعندما تتم الخصخصة وتتنوع أجهزة القمع ، لا مانع من رفع الراية الحمراء للحزب الشيوعي العراقي مكتوب عليها " وطن حر وشعب سعيد .
العولمة لم تكن نتيجة للتطور العلمي والتقني الذي عرفته الإنسانية منذ العقود الأربعة الماضية ، الذي بدأت معالمه تبرز بعد النصف الثاني من السبعينات من القرن المنصرم ، بدخول الكمبيوتر في عالم الضبط والربط ( الإدارة والتنظيم ) والروبوته والبنويماتك في عالم الأنتاج . العولمة ، فكراً وفلسفة ، بدأ ت قبل عشر سنوات من استخدام الكمبيوتر في المجالات المدنية ، وذلك بعد المحاضرة التي ألقاه الفليسوف الصهيوني ليو شتراس بعد حرب الأيام الستة عام 1967 ، أمام قادة الصهاينة ومن والاهم من الصليبين الجدد ، وإن شئت سمهم المحافظين الجدد . أعلن شتراوس دخول الصهيونية مرحلة العالمية ، لأن الفكر القومي التقليدي والدولة القومية لم تعد تفيان بمتطابات الهيمنة للمرحلة القادمة . كانت الضروف العالمية آنذك لا توحي بإمكانيات الهيمة على العالم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أوحتى مع معسكر الناتو . أما الانفراد بالهيمنة من قبل الولابات المتحدة فقد ضرباً من المبالغة غير المقبولة . أمريكا تغوص بأوحال فيتنام حتي ما فوق السرة ، الولايات المتحدة مثقلة بالديون لأوربا ، حتى أن الجنرال ديغول كان يطالب بتعامل تجاري على أساس الذهب بدلاً من الدولار ، المجتمع الأوربي والأمريكي يصاب بصدمة تجعل أبناء النخب ينشدون الخلاص بالمخدرات والإباحية الجنسية . في هذه الضروف جاء الإنتصار الإسرائيلى على الحكومات الشمولية الثورية والعنجهية العربية الكاذبة ، فكان الصهاينة ليس في وسط الحدث السياسي فحسب بل المنقذ للأمريكا من الورطة . لم يكن الصهاينة من النوع المتواضع ، بل استثمروا هذا الحدث أيما استثمار . على كل دول الغرب وخاصة المانيا أن تمول "بسخاء " المشرع الصهيوني ليس لبناء الوطن القومي لليهود ، حسب أطروحة هيرتزل ، وإنما الهيمنة الصهيونية حسب تصور ليو شتراوس .
ليو شتراوس : ولد في كيرخهاين في مقاطعة هيسن / ألمانيا في 20. 9 1899 ، دخل المرسة الثانوية في مدينة ماربورج عام 1912 . وفي سن السادس عشر كان مولعاً بقرأة نيتشه ( F. Nietzche ) وشوبنهاور ( A. Schopenhauer ) ، كان حلم طفولته أن يدرس فلاطون ويكون رابين أي حاخام وعندما بلغ 17 اعتنق الصهيونية ، وفي عام 1917 بدأ دراسته الجامعية . في ذلك الوقت كانت الجامعات الألمانية تتمتع بحرية علمية منقطعة النظير ، مكنت شتراوس من تنويع معارفه العلمية وخاصة في الرياضات والفيزياء كما أن إيمانه بالصهيونية وحماسه منقطع النظير لها سمح له بلقاءات متنوعة وغنية بالمعرفة الفلسفية الضرورية للدفاع عن وجهة نظره . ولكن شتراوس يقول عن نفسة : " أني مابين 22- 30 من عمري كنت أعيش تحت تأثيرات نيتشه الساحرة ، وأظن أني فهمت كل كلمة قالها نيتشه " . يبدو لي أن ، الحركة الصهونبة ، وكذلك الحركة القومية الألمانية ، وبعدها النازية ، كانت مفتونة جداً بعنصرية وسوفسطائية نيتشه . يبدو أن رومنسية فيخه ( Fichte ( لم تكن كافية للعنصرين من الصهاينة والنازين . في 17. 12 1921 تقدم للفحص الشفوي للحصول على لقب دكتور في الفلسفة ، وحصل على الدكتوراه عام 1922 . درس شتراوس على يد يوليوس إبنجهاوس ( Julius Ebbinghaus ) النظم الإجتماعية لعصري النهضة والتنوير حيث سمع لأول مرة بالفليسوف الإنكليزي توماس هوبز ( Thomas Hobbes ( } و 1588- ت 1679{ الذي قال عنه أنه كان يمور بالحيوية ولكن فيه صلافة التبسيط . لعها الصهيونية المبكر ة عند شتراوس هي الدافع الأقوي للتتلمذ ومتابعة أشهر الفلاسفة المعاصرين ، فنجده عند مارتين هايدجر( Martin Heidegger ) ( و26 .9 . 1889 – ت 26 .3 . 1976 ) ، الفليسوف المنظر للنازية والذي كان يصيغ فكره بلغة تمتاز بالتعقيد الشديد . شتراوس كان شديد الإعجاب به لدرجة دفعته للقول : أن ماكس فيبر ( Max Weber (، ( و 21 .4 .1826 ت 14 . 6 . 1920 ) ، يعتبر طفل يتم بالمقارنة بهايدجر ، ويضيف ، لقد بدأت أفهم الغيبيات ( المتافيزيك ) عند أرسطو عندما سمعت قرأة هايدجر لميتافيزيك أرسطو . لقد كان للرجل دراسات واسعة للتارخ شأنه شأن من عاصره من مثقفي ألمانيا حيث كان المثقف وفق الأعراف الجرمانية : من كان يمسك بناصية اللغة والتاريخ والفلسفة . وخلال العشرينات كان شتراوس كثير اللقاء بقائد الحركة الصهونية فلاديمر يابوتينسكي( Vladimir Jabotinsky ) ( و 1880 – ت 1940 ) أبرز قادة التصحيح المتطرفين ، كما واظب على حلقات المدارسة التي كان يعقدها الفليسوف فرنس روزنتسفايج ( Franz Rosenzweig ) في بيت المعهد اليهودي الحر ، روزنتسفايج الذي بدأ حياته الفلسفية كيهودي صهيوني متزمت ، ولكن بعد مشاركته في الحرب الأولى كمتطوع في قسم الاسعاف ، عاد إلى وطنه المانيا ينشد الحوار مع الآخر ، مع المسيحي ، ويبدو أنه ذهب بعيدأً في طلب التواؤم والمهادنة . لعل مآسي الحرب التي عاشها في البلقان حيث أدى واجبه الميداني كرجل اسعاف رفعت عن بصره وبصيرته غطاء الاديولوجية الصهيونية . إن ليو شتراوش كان أقل قدراً وشأناً من فرانس روزنتسفاج ، ولعله تعلم فقط كيف يوظف الحقد الصليبي ضد المسلمين عند بعض النصارى ؟ يبدو لنا أن شتراوس كان حريصاً على كسب المعلومة الفلسفية أو السياسية من مصدرها الأول ولهذا شد الرحال إلى كل من توسّم فيهم بضاعة العلم والمعرفة ، ولكن بشكل انتقائي موجهه ببوصلة الاديولوجية الصهيونية . ومع أنه يهموني مقولة القائل أكثر من القائل نفسه ، إلا أن هناك نقاط في سيرة الرجل يجب الإشارة إليها علّها تلقي مزيد من الضوء على العلاقة المريبة بين الصهيونية السياسية والنازية السياسية التي أشار إليها الأستاذ عبد الوهاب المسيري وآخرين ممن أهتم بدراسة هذه العلاقة . لقد كان هناك تعاطف فلسفي واضح بين ممثلي الفكر النازي والفكر الصهيوني ، شتراوس من جهة وكارل شميت ( Carl schmitt ) وهايديجر من جهة أخرى . شتراوس كان معروفاً في الأوساط العلمية والثقافية وحتى الأوساط السياسية ، دولة وأحزاب ، بأنه كادر غير عادي في الحركة الصهيونية , وكارل شمت رجل الفلسفة والقانون الذي وضع اللمسات الأخيرة على قوانين التفويض التى جعلت من هتلر الدكتاتور والسلطة المطلقة ، ومع هذا كان شمت يتوسط بما لديه من نفوذ ليحصل على منحة دراسية من مؤسسة روكفلر ( Rockefeller ) لطالبه "النجيب " شتراوس الى باريس عام 1932 ثم إلى انكلترا لدراسة الفلسفة الاسلامية واليهودية في العصور الوسطى . قبل رحلته إلى الولايات المتحد الأمريكية التي مرت عبر المملكة المتحدة أصدر ثلاث كتب باللغة الألمانية . ففي عام 1930 إصدر " كتاب سبنوثا ونقد العقيد أو الدين " ( Spinoza,s Critique of Religion ) وفي عام 1935 اصدر كتاب الفلسفة والتشرع ( Philosophie und Gesetz ) ، وفي عام 1936 أصدر كتاب فلسفة السياسة عن هوبز ( The Political Philosophy of Hobbes ) . علق كارل شمت على بحث قدمه شتراوس قائلاً " إن الوحيد الذي أدرك العلاقة بين هوبز المادي و سبينوثا هو ذلك الشاب اليهودي شتراوس " في الحقيقة لم أجد أي علاقة عقلانية حميمة بين هوبز وسبينوثا . سبنوثا كان متأثراً بالفلاسفة المسلمين إلى حد بعيد جداً . أما قرأة رسل للموضوع نفسه فقال : "لا شتراوس ولا غوته ولا كارل شميت استطاعوا فهم سبينو ثا " . وأستطيع القول بثقة أن أصحاب الاديولوجيات السياسية أعجز خلق الله أنساناً في فهم ، المحسوس والمعقول والمنقول ، لأنهم سوفسطائين يبحثون عن الحجة وليس عن اليقين . في عام 1938 وصل شتراوس إلى العالم الجديد ، طبعاً لم يعد جديداً ولا بكراً ، فقد أصبح مرتعاً للطير من كل جنس . الصفقة بين اللبرالية الأمريكية والصهيونية العالمية أصبحت واقع محسوس . لقد هجرت العقول اليهودية والصهيونية العالم القديم ، من ألمانيا ، بولندا ، المجر ، التشيك...... الخ ، واستقرت في المعاهد والجامعات ومراكز البحوث العلمية الحساسة ، وخاصة المتعلقة ببحوث الذرية وصناعة القنبلة الذرية ، " لقد جاءت الصهيونية إلى أمريكا وهي تحمل معها القنبلة الذرية " كما قال أحد علماء الذرة . تفرغ شتراوس إلى صناعة الإديولوجية ، وذلك قبل حصوله على الجنسية الامريكية ، فقد كان الرجل بين صحبه وأهله ممن يشاركونه الفكر والمعتقد . وكما يقول المثل من شب على شيء شاب عليه ، لقد بنى شتراوس كيانه الفلسفي والعلمي ، ليس بجهده ونبوغه فقط ، فقد كان أقل من المتوسط مقارنة بزملائه من غير الصهاينة ، ولكن بواسطة الشبكة العنكبوتية الحميمة التي حرص على نسج خيوطها منذ كان في ألمانيا . في عام 1944 حصل شتراوس على لقب الأستاذية ( بروفسور ) في العلوم السياسة والفلسفة ويقال أنه أنهى كتابة " الاضطهاد وفن الكتابة " ( Persecution and the Art of Writing ) ما بين 1941 – 1948 ولكن الكتاب نشر لأول مرة عام 1952 ، ولكن من الثابت أن شتراوس قام بنشر كتابه ( On Tyranny ) " الاستبداد " عام 1948 . في ربيع نفس العام أصبح كرسي العلوم السياسية في جامعة شيكاغو ، أحد قلاع المحافطين الفكرية ، شاغراً . مما دعى " معارف وأصدقاء شتراوس " يسارعون إلى طرح أسمه كمرشح لهذا المنصب العلمي السياسي المؤثر في صناعة القرار . في صيف نفس العام كان هانس مورجنتاو ( Hans Morganthau ) رئيساً للقسم . من هو هانس مورجنتاو ؟ هو أحد المستشارين ( مارشال ، مورجنتاو ) = ( G. Marshall , H. Morganthau ) للرئيس الأمريكي ترومان ( Truman ) خلال وبعد الحرب الثانية . مورجنتاو كان على النقيض من مارشال في قضيتين الأولى : ماذا نفعل بألمانيا المهزومة ؟ مورجنتاو الصهيوني رأى على ترومان أن تحول المانيا ذات التاريخ الصناعي العريق إلى حقول لزراعة البطاطا حتى لا تقوم للألمان قائمة بعد الآن . ولم يأخذ ترومان برأيه بل أخذ بمشورة مارشال الكاثوليكي ، أن يعاد بناء ألمانيا الصناعية لتكون سد في وجه الاتحاد السوفيتي . القضية الثانية كانت فلسطين . مارشل حذر بشدة من خطر قيام دولة إسرائيل ونصح بإقناع اليهود بالعدول عن فكرة الدولة القومية لليهود ، أما مورجنتاو فقد كان متحمساً لقيام دولة إسرائيل بعنصرية عجيبة . وأخذ الرئيس ترومان برأي مورجنتاو لأنه كان يحمل نفس التوجه الفكري حيال هذه المسألة . موجنتاو يصطحب البرفسور ليو شتراوس إلى مكتب روبرت هوتشين ( Hutchin ( R.ثم يتركهما على انفراد لمدة نصف ساعة لقد فهم السيد ر. هوتشين الرسالة فأصدر قرار بتعين شتراوس عضو في قسم العلوم السياسية وأستاذ كرسي كامل الصلاحية ، براتب أعلى من أي راتب تقاضاه أستاذ آخر من قبل . العملية قد تذكرنا بمكرمات القائد الضرورة في حالات مشابة .
بقي شتراوس عضو في قسم العلوم السياسية حتى عام 1973 ، ولكن كأستاذ للعلوم السياسية في شيكاغو حتى عام 1968 حيث توقف عن التدريس . في عام 1953 أصدر كتاب " الحق الطبيعي والتاريخ " ( Natural Right and History ) كما عمل أستاذاً زائراً في جامعة كاليفورنيا وفي نهاية عام 1954 وحتى منتصف عام 1955 ارتضى أن يعمل أستاذاً زائراً في الجامعة العبرية في القدس كمحاضر في العلوم السياسية والفلسفة . في عام 1958 أصدر كتاب " تأملات حول مكيافلي " ( Thoughts on Machiavelli ) ، وفي عام 1964 نشر كتابه " الرجل والمدينة " ( The City and Man ) الذي كان بمثابة الضوء الأحمر للمتتبعين لتطور الفكر الفلسفي ، حيث بدأت تبرز شكوك معتبرة حول القيمة العلمية للمناحي الفلسفية للرجل . ولم تكن الشكوك لتأتي فجأة فقد سبق نشر كتاب الرجل والمدينة أن أفصح الرجل عن فكر سياسي يميني متطرف ذا صلة وثيقة بالقرأة الصهونية للتراث اليهودي الذي يرفض قيم الرحمة والعدل من منطق عنصري مخيف ويتخذ من علم الاجتماع وفلسفة الاجتماع ، التي تقول بنسبية القيم والأحكام ، دريئة لسهامه المفعمة بالتهكم والسخرية ، وكانت تصدر المحاضرات والبحوث الجامعية بشكل كراسات صغيرة وتحت مسميات مختلفة حسب الجهة التي تصدرها والغاية السياسية التي تسعى إليها ، ثم تجمع على شكل كتاب ، ففي عام 1959 صدر كتاب تحت عنوان " ما هي فلسفة السياسة ؟ " (What is Political Philosophy ? ) وفي خضم التصعيد المقصود ضد مفكرين وفلاسفة الاجتماع الذين كان يتوجس منهم خيفة لميولهم الانسانية والاجتماعية ، خشية أن تقود إلى الاشتراكية . كما سفه منطلقات الرأسمالية الاجتماعية وسياسة السوق المنبثقة عنها واصفاً إياها باللبرالية والحداثة العجوزين . ففي كتابه " تاريخ فلسفة السياسة " ( History of Political Philosophy ) تبرز أفكار الرأسمالية المتوحش بصورة واضحة المعالم ، أعيد نشر الكتاب في عام 1968 . وفي عام 1966 نشر كتابه له بعنوان " سقراط و آريستوفانس " ( Socrates and Aristophanes ) وهي قرأة خلط بها الحابل بالنابل ، فقد كان أعجز من أن يفهم سقراط الذي كان ينهل من مشكاة النبوة ، كما قال الشهرستاني ، وكان أسلوبه الذى عرض فيه مقالة سقراط ليحاكي به آريستوفانس ، الكومدي الشاعر والسياسي الناقد ، سبة على الرجلين بآن واحد . ولكن ما عسانا أن نفعل والرجل أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وفليسوف الصهيونية قاطبة . وفي عام 1968 نشر كتابه اللبرالية العجوز والحداثة ( Liberalism Ancient and Modern ) ، وهو عبارة عن مجموعة مقالات ودراسات متفرقة في الغالب يهاجم فيها الأفكار والفلسفات التي تهدف إلى بناء نظام سياسي اجتماعي متوازن أو مايعرف " بدولة الرعاية الاجتماعية " . لقد كان عدو لدود لعلم الاجتماع ، فهاجم بشراسة مقالة ماكس فيبر ( Max Weber ) ورؤيته للانسان والمجتمع . ففي البحث الذي قدمه بالألمانية ، لعله أراد استفزاز المفكرين الألمان ، بعنوان " الوقائع والقيم " ( Tatsachen und Werte ) يكتب شتراوس : إن السبب الحقيقي وراء إصرار ماكس فيبر على حيادية علم الاجتماع وفلسفة الاجتماع هو اعتقاده بوجود تناقض أساس بين الكينونة والصيرورة وعدم امكانية وجود معارف تسبر كنه حقيقة الكينونة والصيرورة . لقد استبعد ماكس فيبر امكانية امتلاك الانسان معرفة علمية ، تجربية أو عقلية أومنظومة فلسفية تمكنه من الوصول إلى نظام قيمي يأخذ بناصية اليقن فيستحوذ على الحقيقة أو تستحوذ الحقيقة عليه ، ولكن لم يستبعد فيبر أن توجد نظم قيمية متعددة تهيمن على الواقع الاجتماعي الانساني ، وأن تعارضها أو حتى تصادمها لايمكن حله انطلاقاً من العقلانية الانسانية .
إن علم الاجتماع وكذلك فلسفة الاجتماع لا تستطيع أن تقدم أكثر من تحديد أبعاد التعارض والصراع مع تحديد الآثار الجانبية ممكنة الوقوع ، وحل التعارض والتصادم متروك لمن يعانون من ذلك . شتراوس يدعي أن ماكس فيبر كان يتجه إلى العدمية ، ولعله كذالك ، حيث يجعل العقل عاجز عن التميز بين الخير والشر بين اللؤم والمرؤة وبين الجد والهزل . نعم لقد كانت رؤية ماكس فيبر للحضارة الغربية حدية وحرجة ودعوة لتحديد الضروريات والبدائل . إما تجديد نبوي ينفث روح جديدة في الحضارة الغربية أو بعث للقيم والمثل القديمة ، وإما القبول بالتحجر الآلي المفروض على الانسان الذي قد ينتابه بين الحين والآخر تشنجات تذكره بأهميته كفرد إنسان ، أي القبول بإزاحة كل أمكانيات تحقيق الذات ماعدى القدرة على التخصص والاختصاص بدون روح أو نفس لوامة . أو الانتكاص إلى إنسان يقول في قرارة نفسه ، بعد أن وضع فؤاده جانباً ، دعني أبادر اللذات بما ملكت يدي .
البحث في بطون التاريخ عن نموذج قد يكون حلاً للتناقض الذي أشرنا إليه سيؤول إلى فريسة سهلة للتناقض بين ما تقتضيه الأعراف وما توجبه القيم . أحب أن أشير إلى خصوصية غربية تكونت عبر المخاض الحضاري الغربي ، وهي أن الانسان الغربي وبعقلانية إنسانية متزنة يقر بضرورة وجود منظومة للقيم الأخلاقية بشكل عام ولكن يجعل القضية برمتها قضية ذوقية تتباين الآراء حولها وتختلف . لهذا نجد ماكس فيبر يقر ويعتقد بوجود منظومة قيمية عقلانية ترتقي إلى مرتبة الفرض أو الواجب الديني ولكن شتراوس يسخر من ذلك ويقّول فيبر ما لا يقل . " إن تلك المنظومة القيمية ، التى يقتقد فيبر بوجودها ، لا أكثر من بقايا أعراف وتقاليد والتعاطي معها أمر ذوقي فردي محض .
أعتقد أن ماكس فيبر كان يقول بإمكانية تحقيق الشخصية والكرامة للإنسان رغم الضروف الاجتماعية غير المواتية ولكن يصر على العلاقة الحميمة بين الشخصية والكرامة من جهة والحرية من جهة أخرى . إن حرية الإختيار تعبر عن نفسها ليس بمجرد غياب الاكراه الخارجي أو التحكم بالرغبةوالغريزة الجامحة وإنما بتحقيق التناغم والموازنة بين الوسيلة والقصد ، ولتكون الحرية حقيقية لا بد من نوع من المقاصد المبررة والمشروعة .
لقد كان شتراوس شرساً في انتقاء حججه وصياغتها وهو يتصدى لماكس فيبر ومدرسته فيصفه وأمثاله بالعدمية ويتسأل بسوفسطائية قبيحة . هل يمكن التفريق بين العدمية النبلية والعدمية الخسيسة عندما لا نملك الموازين العلمية الدقيقة للتفريق بين ماهو نبيل وما هو خسيس ؟