هيلدا حبش تكتب في الذكرى التاسعة لرحيل الحكيم الدكتور جورج حبش -
كتب المناضلة هيلدا حبش زوجة حكيم الثورة: أحداث أليمة ومآس نعيشها ويعيشها العالم، وبشكل خاص وطننا العربي، وشعبنا الذي تقع على كاهله أعباء وتبعات هذه الأحداث المأساوية ويدفع ثمنها باهظاً من دمه ودم أبنائه من دون ذنب ارتكبوه إلا أنهم يعيشون في بلاد عربية مستهدفة من قبل أعتى القوى المعادية للإنسانية والحضارة والمدنية، ولأبسط حقوق الإنسان في العيش الكريم في وطنه وبناء مستقبله ومستقبل أبنائه. إن الوطن العربي مهدد بشعبه وعلمائه ومفكريه وحضارته وتاريخه العريق وثرواته وموقعه الاستراتيجي على خريطة العالم.
وفي زحمة هذه الأحداث وقساوتها، يجد المرء نفسه عاجزاً عن التحليل العلمي والتعبير عن هول المأساة، وكل ما يجري على الأرض من معارك ضارية وقتال شرس، وأطنان من الأسلحة الفتاكة تنهال من دون رحمة على البشر والحجر، ومدن تتهاوى وشعوب تُشرد وتُهجر وتُباد، وإعاقات تترك بصماتها مدى الحياة على أجساد ندية.
قوى عديدة ومتشعبة لها أطماع ومصالح في استمرار الأوضاع المزرية وتأجيج الصراع الدامي. ما يجري في سورية والعراق واليمن وليبيا وفلسطين يدمي القلوب، ويفوق الوصف والخيال. حرب بلا هوادة؛ لا تحكمها قيم ولا أخلاق، وقودها ضحايا أبرياء من نساء وأطفال بعمر الورود. جميع القوى المتنازعة تسعى إلى تحقيق التوازن العسكري، كما تحقيق مكاسب على الأرض. وكل يدور في حلقة مفرغة، لأن هذه الحرب الضروس ليس فيها غالب ولا مغلوب، بل الخسارة تطال الجميع، بتكلفتها باهظة الثمن من أرواح بشرية تزهق كل يوم، كما جحافل النازحين المهجرين التي تتناثر في أرجاء المعمورة كافة، وقد تبددت آمالهم وأحلامهم وافترشوا الأرض والتحفوا السماء.
من يكبح جماح هذه القوى الشريرة الظلامية التي انتشرت كالوباء، وهدفها فقط تأجيج الصراع العنصري والطائفي والديني؟ لا بد من وقفة جادة لتقييم ومراجعة الحسابات؛ هل تستحق هذه الحرب القذرة كل هذه التكلفة البشرية والمادية؟ كيف يمكن تقليل الخسائر وحماية المدنيين العزل الذين يكتوون بلهيب المعارك وويلات الحرب؟ إذا كان تحرير حلب احتاج كل هذا الثمن الباهظ، فكم ستكون تكلفة تحرير باقي المدن السورية وإعادة الحياة إليها؟ ومن يعيد قوافل الشهداء والقتلى، ومن يضمد جراح المصابين، ومن يجمع شتات المشردين الذين تناثروا في جميع أصقاع الأرض، ومن يعيد كرامتهم، ومن يلملم أشلاء الأطفال وآلاف الضحايا الذين ابتعلتهم أمواج البحر؟
إن الطريق الوحيدة للخلاص هي الوحدة الوطنية ووحدة الشعب السوري بفئاته وأطيافه كافة، والمشاركة الحقيقية لجميع الأطراف في النهوض من جديد من بين الركام لبناء سورية موحدة؛ سورية لجميع السوريين وبناء جسور الثقة والمحبة والتسامح، والتعالي فوق الجراح لتسود العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وتحقيق الديمقراطية والتعايش السلمي بين الشعب الواحد، والعمل بجدية وبضمير لإيقاف نزف الدم. ولتنصب الجهود لمحاربة العدو الصهيوني والقضاء على ظاهرة الإرهاب الأعمى الذي يقلقنا ويقض مضجعنا.
في ظل هذا المشهد الدامي، تحل الذكرى السنوية التاسعة لفقيد الوطن الدكتور جورج حبش؛ الحكيم ورفيق الدرب النضالي الشاق. لقد رحل عنا جسداً لكنه يعيش فينا وفي وجداننا، وما يزال يسيطر على تفكيرنا ومشاعرنا وفي كل خطوة من خطواتنا. فهو باق بكل ما تركه لنا من زخم نضالي وإرث فكري ومعنوي لا ينضب، وستبقى الأجيال تنهل من عصارة فكره ومبادئه وحكمته. صفحة مجد لن تُطوى وتاريخ مشرف سيبقى ذخراً للأجيال.
وتتزامن هذه الذكرى الأليمة مع هبة شعبية شبابية في فلسطين المحتلة، يقودها خيرة المناضلين الأبطال، بشكل فردي في معظم الحالات، نتيجة القمع والقهر والظلم الذي يتعرض له شعبنا في الأرض المحتلة، وانسداد الأفق بسبب التمدد الاستيطاني ومصادرة الأراضي وهدم البيوت، إضافة إلى 800 ألف مستوطن يتغلغلون على أرض القدس والضفة الغربية. وبعد كل عملية استشهادية وإعدامات ميدانية مباشرة، يستمر الغليان في عروق الثوار. ومن جديد يعاهدون كل شهيد يدفن بالانتقام لدمه الطاهر، والاستمرار في حمل الشعلة المتقدة حتى تحرير الأرض ودحر الاحتلال. مئات الشبان يتحولون إلى مشاريع شهداء بكل إيمان وثبات، رغم تخلي القيادة الفلسطينية عنهم، وعدم مساندتهم وحمايتهم فيُتركون لمواجهة مصيرهم. قيادة منفصلة عن الواقع ما تزال تلهث وراء سراب المبادرات والحلول الوهمية. رحم الله أياماً كانت القيادة تسير في المقدمة وتخوض المعارك وتقود النضال إلى جانب المقاتلين في المواقع الأمامية داخل المعسكرات. أما اليوم، فقد تدهورت الأوضاع وأصبحت القيادة في واد والشعب المقاتل في واد آخر. قيادة تدافع عن مصالحها الذاتية وتغرق في الفساد والامتيازات، وهذا ما يشجع إسرائيل على الاستفراد بالمناضلين وذويهم من دون رحمة.
حان الوقت لتشكيل قيادة شابة جديدة، تتسلح برؤية علمية ثورية ثاقبة. تصون تضحيات شعبنا وتحرص على أرواح المناضلين، وترتقي إلى مستوى طموحات جماهيرنا ومستوى تضحياتهم. وليعرف العالم أن شعبنا لن يستسلم للظلم، وأن هذه المعاناة تولّد الانفجار، وفي لحظات قاسية يحسم المناضلون أمرهم وتتساوى لديهم الحياة بالموت، وهم يعلمون أن لا حل إلا بالتضحية والتفاني والعطاء والمقاومة ثم المقاومة، وأن عدونا لا يفهم غير لغة القوة والمقاومة.
لنعد ونرفع شعار حرب التحرير الشعبية طويلة ال
أمد، كما قال الحكيم منذ بدايات العمل الفدائي. أما عن مؤتمر باريس، فإنه لم يأت بجديد، ولم يحقق أي مكاسب للفلسطينيين؛ فهو عبارة عن حبر على ورق. والعدوان الإسرائيلي على أم الحيران في النقب، وهدم البيوت وإطلاق الرصاص الحي على المواطنين العُزل، دليل على أن إسرائيل مستمرة بسياساتها العدوانية أكثر من أي وقت مضى.
أحيي نضالات شعبنا الفلسطيني داخل مناطق 48 الذين يواجهون عدوا عنصريا شرسا، يعمل ليل نهار على هدم البيوت ومصادرة الأراضي وتفريغها من أهلها، وتشريد الشعب. وإزاء ما حدث في أم الحيران من مواجهات عنيفة في النقب أدت إلى استشهاد شاب عربي وجرح النائب أيمن عودة، أوجّه التحية له ولجميع النواب العرب الذين شاركوا في المواجهات، لأنهم يقدمون أنموذجا للانتماء للأرض والوطن، وأتمنى له ولكل المصابين الشفاء العاجل. كما أحيي أبطالنا في القدس المحتلة والضفة الغربية؛ قلوبنا معهم والله معهم. وأنحني أمام تضحيات جماهيرنا في جميع المناطق المحتلة.
حمى الله الوطن العربي بأقطاره وشعوبه كافة من جميع الأخطار المحدقة به. وبمناسبة تزامن ذكرى رحيل الحكيم مع ذكرى ثورتي مصر وتونس، نتمنى لمصر أم الدنيا ولتونس الحبيبة، الأمن والأمان والعزة والازدهار. وألف تحية إلى روح الحكيم القائد الرمز، رفيق الدرب النضالي الطويل والشاق. ستبقى ذكراه خالدة ومتوهجة عاما بعد عام، وإلى
أمد الدهر.
تحية إكبار وإجلال للأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال، ولأرواح شهدائنا الأبرار الذين ستبقى دماؤهم الغالية أمانة في أعناقنا جميعا.