مراجعة الذات: معرفياً وأخلاقياً
بعض الناس حين يبهتهم منطق صائب، وينقلب بصرهم خاسئا حسيراً عن قامة فكرية، ولا يرون مناصا من الاعتراف بسموقها، تراهم يصطنعون حيلة نفسية يدارون بها ما يعتريهم من وقع ذلك عليهم، فيلجأون مثلا الى الصيغة التعبيرية التالية: «انه عبقري، ولكن له جاراً عديم الموهبة» او الى صيغة اخرى تقول: «لقد ملك فلان على الناس البابهم، ولكن بعض اصحابه غير فصحاء»، او الى صيغة ثالثة تقول «انه يقدم صورة رائعة للاسلام ولكن اقواما من بني امته يقدمون صورة مختلفة».
مثل هؤلاء لو امتلكوا عافية العقل والروح لامكن مخاطبتهم بقوله تعالى «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ان لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى» إذ لا يعوّل عند الحكم الصائب، لا على قرابة ولا على عداوة، ويكون التعديل كله على فحوى القضية وحيثياتها، وعلى القراءة الموضوعية لمعطياتها.
ويستوي لنا ان ننصب هذا الميزان في مواجهة هذا الفكر او ذاك، بغض النظر عن انتماءاتنا الدينية اوالايديولوجية، ولكن معظم من نرى عن مثل هذه الخطة ناكبون، وعن الخروج من دوائرهم الذاتية الضيقة عاجزون، ولقد ترى احدهم احيانا يراجع نفسه فيما استقر عليه من وعي متقادم العهد ومن افكار مطموسة ومفاهيم عجفاء، فاذا هو اوشك ان يغادر ضيق ذلك الى سعة ما في الدنيا من رؤى وعلوم وتصورات وفلسفات، اخذته الحمية الذاتية او الحزبية او الطائفية او ما شئت من موانع التفكير الحر, فاذا هو ينكص على عقبيه, واذا هو يزداد استمساكاً بما جمد عليه من هيئة, او اتخذه من سمت, أو اعتاده عارفوه منه. وهي حال سائدة قلّما يخرج منها الذين شهروا بطابع معين الا في اعقاب تجربة صعبة او صدمة نفسية تقفهم على حقائق الاشياء في أنفسهم وفي العالم الذي يضطربون فيه.
إن من دلائل عظمة الانسان انه قادر على مثل هذه المراجعة ذات البعدين المعرفي والاخلاقي. وأنه مسكون بنفس لوّامة, وعقل متسائل, وضمير لا ينفك يتقاضاه الحساب.
على أن هذه العظمة مرتبطة بسلامة الفطرة وطهارة القلب, وندر أن تجدها في مطموسي الفطرة أو قساة القلوب.
واذا كان من نتيجة ننتهي اليها من هذه التداعيات, فهي أن على المرء أن يتجدد بشكل مستمر, وأن يتخلّق بما يجعله ممتثلاً لمقتضى الآية الكريمة في وصف الله سبحانه: «كل يوم هو في شأن». فاذا لم يكن الانسان في شأن جديد من فكره وذوقه والوان قرباه من ربه, وضروب نفعه لاخوته من بني البشر, فهو في خسران مبين وفي ظلمة مطبقة, وساء ذلك واقعاً, وساء مصيرا.