الذكر والأنثى: شرارة الحضارة الإنسانية
معاذ بني عامر
(1)
عندما يُفكّر الرجل بإهداء امرأة هدية ما، كنوعٍ من تعزيز ثقافة الودّ والرحمة بينهما، فإنه سيفكّر -على الأغلب- بأشياء ثقيلة، سوداوية، تشاؤمية، عقلية. وعندما تفكّر المرأة -هي الأخرى- بإهداء رجل هدية ما، تثبيتاً لنسق الودّ والرحمة بينهما، فإنها ستفكّر -على الأغلب- بأشياء خفيفة، فرائحية، ناعمة، تفاؤلية، قلبية!
ثمة استنطاق عميق لـ"لا وعي" الطرف الآخر، لحظة التفكير بتعزيز ثقافة الودّ والرحمة بينهما؛ لذكورة الأنثى من قبل الرجل، ولأنوثة الذكر من قبل المرأة. فالإرث الغائر في أعماق الطرف الآخر، لا يفتأ يطفو على السطح ساعة التلامس الظاهري. فَتِلكُمُ الهدية تعبير حيّ وفاعل عمّا هو مُتوارٍ ومطمور في أغوار الشريك الوجودي. فالرجل إذ يعمد إلى إهداء امرأة ما هديةً تُعبّر عن جانبه الخشن، فإنه يعي -على مستوى اللاوعي- أن جزءاً من خشونة العالَم مُتوارية في هذا الكيان الأنثوي الناعم، ولا يمكن لشعلة الحضارة الإنسانية أن تنقدح انقداحها العظيم، إلا بتفجير مكامن هذه الخشونة البديعة. والمرأة إذ تعمد إلى إهداء رجل ما هديةً تُعبّر عن جانبه الناعم، فإنها تعي -على مستوى اللاوعي- أن جزءاً من نعومة العالَم مُتوارية في هذا الكيان الذكوري الخشن، ولا يمكن لشعلة الحضارة الإنسانية أن تنقدح انقداحها العظيم، إلا بتفجير مكامن هذه النعومة البديعة.
(2)
(أ)
جاء على لسان أحد الحكماء الصينيين القدامى: "كُنْ ذكراً وتعلّم أدوار الأنثى". تقمّص الآخر ليس جنسانياً فقط وتبادل أدوار الألفة والمحبة بالتالي، بل حياتياً أيضاً، فما نقص لدى طرفي المعادلة الحضارية يُتمّمه الطرف الآخر، لكي يبقى المرء في دائرة التذكّر أنه بإزاء شريك أساسي في العملية الحضارية، لا يمكن لها أن تكتمل إلا بوجوده.
(ب)
وفي النص القرآني: "... هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ..." (البقرة، الآية 187)؛ تجاوز -بالنسبة للذكر والمرأة- المركّب الجدلي بينهما إلى مرحلة الذوبان الكامل في ذاتٍ (ذكورية/ أنثوية) واحدة، تُستنطق عبرها الخبرات اللاواعية للطرف الآخر. فالنبعان الأساسيان في معادلة الوجود الإنسانية، يدفقان من نفس الجبل العالي، ولكن بشحنتين مختلفتين، وإذا ما أريد إنتاج أرض صالحة للعطاء والإثمار، فالأولى أن يحتوى الماء الدافق على الشحنتين الكهربائيتين المختلفتين؛ شحنتي الذكورة والأنوثة، وإن تموضعت أجزاء من شحنة الطرف الآخر لدى قَبَيله الآخر.
(ج)
الضمائر اللغوية في نشيد الإنشاد أو نشيد سليمان في الكتاب المقدّس، لعبة خطيرة جداً، أمكن تطويعها لإحلال الحبيب في الحبيبة، والحبيبة في الحبيب، بحيث لا يعود ثمة فرق بين الذكر والأنثى في لحظات الوصال العظيم. أما في مرحلة ما بعد ذاك الوصال البديع، فالوصل قائم بينهما، إذ الشعور بالنقص الوجودي لا يكتمل إلا بوجود الطرف الآخر، لذا ثمة حاجة لرَحْمَنَة العلاقة بينهما والإبقاء على جذوة الأفق التصالحي، التعاوني، التواصلي، التشاركي بينهما.
(د)
في أبيات شعرية تُنسب إلى مجنون ليلى، ثمة إلماحة عبقرية إذ يقول:
ولقد هممتُ بقتلها من حبّها
كيما تكونَ خصيمتي في المحشرِ
حتى يطول على الصراط وقوفنا
فتلذّ منها مقلتاي بمنظرِ
ثم ارتجعتُ فقلتُ روحي روحها
لما هممتُ بقتلها لم أقدرِ
هَهُنا سيبدو الشاعر (في الحقيقة وردت الأبيات أعلاه بأكثر من صيغة) كائناً تنبؤياً، استبصارياً، لديه القدرة على منح الوجود الإنساني أفقاً رحمانياً، لا يمكن له أن يكتمل بناءً، سواء داخل الذات أو خارجها (أعني في العالَم)، إلا عبر طرف آخر، يُنظر إليه بصفته "أنا" خالصة، فالأنثى تنطوي على خلاصٍ ما، فجزء من خُلاصات الذكر حالّة فيها حلولاً وجودياً ابتداءً.
(هـ)
في ملحمة "جلجامش"، كانت "شمسة" قد روّضت بربرية "أنكيدو" وأَنْسَنَت وحشيته ودفقاته الغرائزية، فصار يتهندم ويتغندر إرضاء للنظرات الولهى لهذه الأنثى المغناج. وعندما خاض صراعه الدامي مع جلجامش -قبل أن يتحوّلا إلى صديقين عزيزين- كان مدفوعاً بقوةٍ عاتية للقضاء عليه، فهو بانتظار طرف معادلته الأخرى. وأعتقد أن كاتب ملحمة جلجامش، لو ترك للصراع بينهما أن يأخذ مداه، فعلى أنكيدو أن يُميت جلجامش بالضربة القاضية، في حال قاربنا النص مقاربةً أنطولوجية، على اعتبار إمكان تهديد الحضارة الإنسانية في حال فُقد أنكيدو بصفته كائناً إنسانياً، ولا يمكن لأنثاه "شمسة" أن تكتمل في هذا العالَم إلا بوجود شحنتها الكهربائية المغايرة، والتي هي بالضرورة موجودة لدى أنكيدو، وليس لدى جلجامش الكائن المشغول بمسائل الخلود والأبد، أكثر من انشغاله بحادثات الوجود الإنساني وإحداثياته الفانية! وبالمقابل كان أنكيدو قد منح أنثاه قوته العاتية، فتبادلا الأدوار: أدوار النعومة والخشونة، فقامت الحضارة لحظتذاك، ودفقت بفعل شحنتين إنسانيتين هائلتين.
(و)
ومن الأشعار التي كُتبت من قبل النساء البشتونيات، وبقيت لفترة طويلة طيّ النسيان:
"إذا ماتَ حبيبي، لأكُنْ كفنه... هكذا نتزوج الرماد معاً"
في تعبير صريح وواضح عن الثقافة الحلولية بين الذكر والأنثى، والامتزاج العظيم بينهما حتى في عالَم الفناء والموت. فالأنثى إذ تُنادي نداءً موجوعاً لغاية بقاء حبيبها إلى جانبها، والإمكان الدافئ الذي ينطوي عليه هذا البقاء، وسط بَرْدٍ وجودي قاسٍ، فإن نداءها سيتحوّل إلى نوعٍ من الصرخة المُدوّية، لغاية الإبقاء على هذا القُرب حتى في حال الغياب والبعاد الطويل. فهي تعي أيّ قيمة لتلك الشحنة الذكورية في الحقل المغناطيسي الخاص بها، كما الأمر بالنسبة لتلك الشحنة الأنثوية في الحقل المغناطيسي الخاص بالذكر.
(3)
لعبة "الخشونة/ النعومة" بين الذكر والأنثى؛ لعبة ضرورية ضرورة قصوى لإعادة هيكلة المُركّب الجدلي بينهما، واستبصار الإمكان الذاتوي الذي ينطوي عليه الآخر؛ الذكر بالنسبة للأنثى، والأنثى بالنسبة للذكر هَهُنا، ليس لغاية بناء الحضارة الإنسانية وتشييد معمارها الكبير فحسب، بل لأجل -أيضاً- بناء عالَم تراحمي بين الذكر والأنثى، والإبقاء على خيط الودّ والرحمة بينهما، فأحدهما حالّ في الآخر حلولاً هائلاً، وأيّ اعتداء على أحدهما من قبل الآخر وسلب لحقوقه أو امتهان لواجباته، هو اعتداء -بالضرورة- على الذات وسلبٌ وامتهان لها، بما يحدّ من قدرتها على الإبداع الحضاري الرحماني.