ذكرى النكبة: المتغيرات… أدبها… والغيتو
د. فايز رشيد بدأت احتفالات الكيان بمناسبة ذكرى إنشائه الـ68. إقامة إسرائيل هي نكبتنا الفلسطينية العربية الإنسانية.
بعد 68 عاما، ليس من الصعب على المراقب أن يلاحظ وبلا أدنى شك، أن جملة التطورات التي حدثت على الصعيدين الرسمي والاجتماعي، في المدى الذي يقارب سبعة عقود زمنية منذ تشكيلها، تتلخص في الجنوح نحو اليمين والعنصرية.. ذلك أن الأيديولوجيا الصهيونية ذات الجذور التوراتية، ما زالت هي الأساس والمنــــبع للسياسات الإسرائيلية في المناحي المختلفة، أي أننا أمام صورة أبقت على المضامين كأهداف استراتيجية (ومنها تلك التي ما زالت تطرح في الإطار الشعاراتي السابق لها) على قاعدة تعزيز هذه الشعارات مثل: «يهودية الدولة» و»عقيدة الأمن الإسرائيلي». أما بعض الأهداف الاستراتيجية الأخرى فقد بقيت تحمل المضمون نفسه، ولكن مع اختلاف بسيط في نمطية الشعارات المطروحة لتحقيقها، مقارنة مع مثيلاتها لدى ترسيم ولادة الدولة.
هذه الشعارات أخذت تبدو وكأنها أكثر مرونة لكنها المرونة التكتيكية التي لا تتعارض مع الجوهر، بل هي تتواءم وتصل حدود التماهي معه، ولكن مع الحرص على إعطائها شكلاً انتقالياً جديداً للتحقيق، لاعتبارات سياسية وإقليمية ودولية تحتّم هذا الشكل الانتقالي، ولكن على قاعدة الاتكاء على ذات الأيديولوجيا، فمثلاً الهدف في إنشاء «دولة إسرائيل الكبرى» الذي كان مطلباً ملحاً ما قبل وعند إنشاء الدولة، أصبح بفعل المستجدات السياسية الموضوعية، مسألة صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة في الظروف الراهنة، وبالتالي فإن السيطرة تحوّلت من الشكل المباشر عبر الاحتلال إلى شكل آخر غير مباشر، وهو السعي لتحقيق السيطرة ذاتها من خلال السيادة والهيمنة الاقتصادية والسياسية، لذا فإن الخلفية التي أصبحت تتحكم في النظرة الإسرائيلية، إن على صعيد رؤية الذات، كالدولة الأهم في المنطقة! أو على صعيد العلاقة مع الدول العربية والإقليمية، تقوم على نظرية السيادة والتسيّد المطلق.
أما لماذا التحوّل من شكل الهيمنة الجغرافية إلى الأخرى الاقتصادية – السياسية فإن ذلك يعود إلى:
أولاً: وجود عقبات فعلية في تطبيق المشروع الصهيوني جغرافيا، لأسباب خاصة باليهود أنفسهم، فالخطة الصهيو- إسرائيلية بتهجير كافة يهود العالم إلى إسرائيل واجهت وما زالت تواجه مصاعب كبيرة، بالتالي فإن أي احتلال إسرائيلي لمناطق جغرافية جديدة يلزمه بُعد ديموغرافي عسكري، وهو ما يفتقده الكيان.
ثانياً: العامل الفلسطيني ذاته، الذي عبّر عن نفسه أكثر بالمقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها، خاصة العسكرية منها، والذي فرمل الحلم الصهيوني من جهة، ومن جهة أخرى عمل على الحد من الهجرة اليهودية إلى الكيان، كما ساهم في رفع وتيرة الهجرة المعاكسة منه نتيجة لانعدام الأمن. ثالثاً: عوامل شعبية عربية كاصطفاف الجماهير العربية مع القضية الفلسطينية واعتبارها قضيتها الرئيسية، وفشل التطبيع معها، كما الرفض الرسمي الصهيوني لما يسمى بـ»مبادرة السلام العربية»، إضافة إلى العدوانية الصهيونية الدائمة على الفلسطينيين والعرب. كل ذلك وغيره يعلق الجرس في أذهان العرب للتذكير بالخطر المستقبلي الصهيوني عليهم.
رابعاً: عوامل دولية، فإذا ما استثينا الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي ما زالت آثاره باقية، وأفغانستان، فإن الاحتلال الوحيد الذي بقي في القرن الواحد والعشرين هو الاحــــتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وعلينا ألا ننسى ما قاله رابين، للصحافي الإسرائيلي حاييم بار: «إن اضطراري لتوقيع اتفاقيات أوسلو في أحد جوانبه يتمثل في شكي في القدرة القتالية الحالية لجيش الدفاع الإسرائيلي». رابين أيضا وبعد احتلال الأراضي العربية في حرب عام 1967، قال في مذكراته «لقد بكيت عندما رأيت الأراضي الواسعة التي قمنا باحتلالها… لكنني تساءلت في الوقت ذاته كم هو صعب علينا الاحتفاظ بها».
في السياق نفسه يأتي التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين وقضيتهم في مناطق 48، والضفة الغربية وقطاع غزة، بالولوج إلى شكل توافقي يحقق الهدف الاستراتيجي في (الدولة اليهودية) بدون الاصطدام بالقنبلة الديموغرافية التي يشكلونها مستقبلاً… فمن مبدأ التنكر المطلق لحقوقهم الوطنية في منطقة 48 وسن القوانين العنصرية ضدهم، وضد أهلنا في الضفة الغربية، باعتبار أراضيهم تشكل «يهودا والسامرة»، التي هي جزء من «أرض إسرائيل التاريخية»، إلى إعطائهم «حقوقا» تجمع بين السيطرة الفعلية الإسرائيلية كعامل متحكم في شؤونهم السيادية، باستثناء إشرافهم المباشر على القضايا الحياتية، ومبدأ الترانسفير والتخلص المباشر من معظمهم، إلى خلق وقائع اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية عسكرية تدفع بالكثيرين منهم إلى الهجرة الطوعية، كما استنتج إيلان بابيه، ولذلك تفتق الذهن الإسرائيلي عن الحكم الذاتي، الذي يُقدّم إليهم في مشاريع (سلامية) وتحت مسميات مختلفة، وكلها تضمن لإسرائيل السيادة الفعلية على أكثر من ثلاثة أرباع الضفة الغربية.
بعد 68 سنة على إنشائها، فإن اسرائيل طورت مذابحها وسلاح قتلها للفلسطينيين والعرب، وازدادت نهما لسرقة الأراضي الفلسطينية في كل المواقع، إضافة إلى طرائق القتل: قتل الجرحى، التفنن في وسائل الحرق. إعطاء الشرعية لكل الجرائم والمذابح بحق شعبنا وامتنا، ازدياد العدوانية على الدول العربية، رغم اتفاقياتها مع العديد منها. بعد 68 عاما اعتقدت إسرائيل أنها امتلكت الوجود الشرعي في المنطقة، باعتراف النظام الرسمي العربي بها! لكنها لا تدرك الرفض المطلق من قبل عموم الجماهير العربية لها، خاصة لتنكرها المطلق لتطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وتنكرها لـ «مبادرة السلام العربية»، وإصرارها على ضم المزيد من الأراضي العربية، والاعتداء على دولها أيضا. كما أن الحاخامات بفتاواهم، يضفون الشرعية على إرهاب دولتها وعلى ارتباطه بـ «المقدّس»، أي أنه أوامر إلهية. اسرائيل أيضا تطورت إن في اعتمادها على الظاهرة الاستعمارية القديمة والحديثة، أو في التماهي معها وصولا إلى تشكيلها رأس جسر لتنفيذ الخطط الإمبريالية في منطقتنا والعالم. إسرائيل قوننت العنصرية لتكون في إطارها القانوني، ازدادت قوة عسكرية، جناحان يحكمانها: العسكري والديني. الظاهرة الأبرز في تحولاتها الداخلية هي التطرف والجنوح يمينا.
بالنسبة لأدب النكبة، فإنه كثير جدا، غير أن ما جُمع منه في كتب متخصصة، لا يتواءم مع حجم كل ما كُتب.. هذا إذا استثنيا الروايات العديدة، المقالات، الابحاث، الروايات الشفوية، التوثيقات وتأريخ الأحداث: مجازر، هدم قرى، اعتقالات، تدمير بيوت..الخ. وكأنني على موعد مع النكبة، مصادفة وبلا أدنى تخطيط، أنجزت قراءة ثلاث روايات في الشهر الأخير، وكانت كلها عن النكبة: رواية رشاد أبو شاور «وداعا يا ذكرين» وهي سرد أدبي لحياة عائلية جماعية عامة، وللترحيل القسري من فلسطين إلى المنفى، الرواية بشكل عام تتطرق للحدث الفلسطيني برمته، مع تركيز خاص على منطقة الخليل وقراها: «حضر إسماعيل وقرر أن يخبرهم: يا أهل ذكرين، اليهود اقتحموا دير ياسين وذبحو أهلها ..(.. ) أرادوا أن يدب الخوف في نفوسنا فيدفعنا إلى الهرب (..) أكثر رجال البلد ما معهم بواريد، اهجموا على اليهود بالشباري، وبالحجارة وبالعصي واطردوهم، خذوا سلاحهم (..) تقدمت سيارات مصفحة عليها رشاشات تلتف حول ذكرين، دارت طائرة في سمائها، ومن جوفها أسقطت برميلا على البيادر قرب المسجد، فأحدثت دويا هائلا، لم يتوقع مسلحو ذكرين أنها معركتهم الأخيرة، راهنوا أنهم سيتجمعون مع مسلحي القرى المجاورة ويعودون لطرد اليهود..(..) تساءل المختار: هل سنصل إلى الخليل؟». الرواية الثانية «سِفر الاختفاء» للروائية الفلسطينية ابتسام عازم، وتتحدث فيها عن تهجير أهالي يافا: «هكذا وصفتِ أيامكِ، والذين شُردوا خلف البحر، ولم تقولي إن عدد السكان أصبح أربعة آلاف تقريبا بعدما كان يفوق مئة ألف..(..) قلت مرة إنك لا تحبين البرتقال ولم تأكليه إلا بعد أن هجّروكم من المنشية إلى العجمي. واحاطوا العجمي بأسلاك شائكة». الروائية تتخيل «اختفاء كل الفلسطينيين» في منطقة 48، وكيف هي ردود الفعل الإسرائيلية، المبنية على الهلع من هذا الاختفاء، وانتظار هجوم مباغت. الرواية رصد للواقع في إطار جانبي متخيل، مزنّر بإيمان تاريخي بالعودة إلى الوطن.
قبل استعراض ملخص صغير للرواية الأخيرة، حريّ التوضيح: أنني في التحضير لروايتي عن بلدي بعنوان: «وما زالت سعاد تنتظر»، قرأت كل ما كتب عن تهجير الفلسطينيين آنذاك، إضافة الى استعانتي بالصديق العزيز د. جوني منصور، العلامة بكل ما يتصل بحيفا، حتى أسماء شوارعها قديما، كما بعد تغييرها من قبل الكيان، سألته عن تفاصيل معركة سقوط حيفا، فأجابني شاكرا. الرواية المعنية للروائي العربي اللبناني الفلسطيني الياس خوري «أولاد الغيتو..اسمي مريم». رواية ترصد إجرام العدو الصهيوني في مذبحة جامع «دهمش» في اللد وفي تهجير أهلها. كما في كشف تفاصيل الحياة اليومية لـ500 إنسان من أهلها عاشوا موزعين بين المستشفى والكنيسة، أحاطهم الكيان بأسوار من الأسلاك الشائكة بدون طعام أو شراب، «دبرّوا أموركم»! ومنَعهم من الذهاب لبيوتهم وسط الحكم العسكري. رواية المقاومة والصمت والانتظار والتهجير القسري. رواية قاسية نابعة من مرارة وقسوة المشهد المحكي عنه، خاصة في مشاهدها السبعة الاخيرة: القتل والحرمان، تنظيم الشباب لمهمة دفن الجثث، وحرق الأخرى المتبقية والمالئة لشوارع اللد وأزقتها، وسماع طقطقة العظام، التي تلتهمها النيران، «انتهينا مكبلين في الشارع الفارغ، برؤوس منحنية، محاطين بالجنود، الذين صوبوا بنادقهم في اتجاهنا… أخذونا إلى غرفة تحت الأرض، بتنا ليلتنا من دون طعام أو شراب، كنت مقتنعا بأنهم سيرحلوننا في صباح اليوم التالي». أدرك ، أنني لم أف الروايات حقها، فكل منها يحتاج إلى بحث، ولكن هذه معاناة شعبنا على مدار قرن زمني كامل، في ظل الحكم العسكري، والعيش داخل أسوار الغيتو، المحاط بأسلاك أو جدران عالية كما بلدي قلقيلية الآن!.
ذكرى النكبة: المتغيرات… أدبها… والغيتو
آخر تحديث: May 12, 2016, 2:31 pm
د. فايز رشيد بدأت احتفالات الكيان بمناسبة ذكرى إنشائه الـ68. إقامة إسرائيل هي نكبتنا الفلسطينية العربية الإنسانية.
بعد 68 عاما، ليس من الصعب على المراقب أن يلاحظ وبلا أدنى شك، أن جملة التطورات التي حدثت على الصعيدين الرسمي والاجتماعي، في المدى الذي يقارب سبعة عقود زمنية منذ تشكيلها، تتلخص في الجنوح نحو اليمين والعنصرية.. ذلك أن الأيديولوجيا الصهيونية ذات الجذور التوراتية، ما زالت هي الأساس والمنــــبع للسياسات الإسرائيلية في المناحي المختلفة، أي أننا أمام صورة أبقت على المضامين كأهداف استراتيجية (ومنها تلك التي ما زالت تطرح في الإطار الشعاراتي السابق لها) على قاعدة تعزيز هذه الشعارات مثل: «يهودية الدولة» و»عقيدة الأمن الإسرائيلي». أما بعض الأهداف الاستراتيجية الأخرى فقد بقيت تحمل المضمون نفسه، ولكن مع اختلاف بسيط في نمطية الشعارات المطروحة لتحقيقها، مقارنة مع مثيلاتها لدى ترسيم ولادة الدولة.
هذه الشعارات أخذت تبدو وكأنها أكثر مرونة لكنها المرونة التكتيكية التي لا تتعارض مع الجوهر، بل هي تتواءم وتصل حدود التماهي معه، ولكن مع الحرص على إعطائها شكلاً انتقالياً جديداً للتحقيق، لاعتبارات سياسية وإقليمية ودولية تحتّم هذا الشكل الانتقالي، ولكن على قاعدة الاتكاء على ذات الأيديولوجيا، فمثلاً الهدف في إنشاء «دولة إسرائيل الكبرى» الذي كان مطلباً ملحاً ما قبل وعند إنشاء الدولة، أصبح بفعل المستجدات السياسية الموضوعية، مسألة صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة في الظروف الراهنة، وبالتالي فإن السيطرة تحوّلت من الشكل المباشر عبر الاحتلال إلى شكل آخر غير مباشر، وهو السعي لتحقيق السيطرة ذاتها من خلال السيادة والهيمنة الاقتصادية والسياسية، لذا فإن الخلفية التي أصبحت تتحكم في النظرة الإسرائيلية، إن على صعيد رؤية الذات، كالدولة الأهم في المنطقة! أو على صعيد العلاقة مع الدول العربية والإقليمية، تقوم على نظرية السيادة والتسيّد المطلق.
أما لماذا التحوّل من شكل الهيمنة الجغرافية إلى الأخرى الاقتصادية – السياسية فإن ذلك يعود إلى:
أولاً: وجود عقبات فعلية في تطبيق المشروع الصهيوني جغرافيا، لأسباب خاصة باليهود أنفسهم، فالخطة الصهيو- إسرائيلية بتهجير كافة يهود العالم إلى إسرائيل واجهت وما زالت تواجه مصاعب كبيرة، بالتالي فإن أي احتلال إسرائيلي لمناطق جغرافية جديدة يلزمه بُعد ديموغرافي عسكري، وهو ما يفتقده الكيان.
ثانياً: العامل الفلسطيني ذاته، الذي عبّر عن نفسه أكثر بالمقاومة الفلسطينية بكافة أشكالها، خاصة العسكرية منها، والذي فرمل الحلم الصهيوني من جهة، ومن جهة أخرى عمل على الحد من الهجرة اليهودية إلى الكيان، كما ساهم في رفع وتيرة الهجرة المعاكسة منه نتيجة لانعدام الأمن. ثالثاً: عوامل شعبية عربية كاصطفاف الجماهير العربية مع القضية الفلسطينية واعتبارها قضيتها الرئيسية، وفشل التطبيع معها، كما الرفض الرسمي الصهيوني لما يسمى بـ»مبادرة السلام العربية»، إضافة إلى العدوانية الصهيونية الدائمة على الفلسطينيين والعرب. كل ذلك وغيره يعلق الجرس في أذهان العرب للتذكير بالخطر المستقبلي الصهيوني عليهم.
رابعاً: عوامل دولية، فإذا ما استثينا الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي ما زالت آثاره باقية، وأفغانستان، فإن الاحتلال الوحيد الذي بقي في القرن الواحد والعشرين هو الاحــــتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وعلينا ألا ننسى ما قاله رابين، للصحافي الإسرائيلي حاييم بار: «إن اضطراري لتوقيع اتفاقيات أوسلو في أحد جوانبه يتمثل في شكي في القدرة القتالية الحالية لجيش الدفاع الإسرائيلي». رابين أيضا وبعد احتلال الأراضي العربية في حرب عام 1967، قال في مذكراته «لقد بكيت عندما رأيت الأراضي الواسعة التي قمنا باحتلالها… لكنني تساءلت في الوقت ذاته كم هو صعب علينا الاحتفاظ بها».
في السياق نفسه يأتي التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين وقضيتهم في مناطق 48، والضفة الغربية وقطاع غزة، بالولوج إلى شكل توافقي يحقق الهدف الاستراتيجي في (الدولة اليهودية) بدون الاصطدام بالقنبلة الديموغرافية التي يشكلونها مستقبلاً… فمن مبدأ التنكر المطلق لحقوقهم الوطنية في منطقة 48 وسن القوانين العنصرية ضدهم، وضد أهلنا في الضفة الغربية، باعتبار أراضيهم تشكل «يهودا والسامرة»، التي هي جزء من «أرض إسرائيل التاريخية»، إلى إعطائهم «حقوقا» تجمع بين السيطرة الفعلية الإسرائيلية كعامل متحكم في شؤونهم السيادية، باستثناء إشرافهم المباشر على القضايا الحياتية، ومبدأ الترانسفير والتخلص المباشر من معظمهم، إلى خلق وقائع اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية عسكرية تدفع بالكثيرين منهم إلى الهجرة الطوعية، كما استنتج إيلان بابيه، ولذلك تفتق الذهن الإسرائيلي عن الحكم الذاتي، الذي يُقدّم إليهم في مشاريع (سلامية) وتحت مسميات مختلفة، وكلها تضمن لإسرائيل السيادة الفعلية على أكثر من ثلاثة أرباع الضفة الغربية.
بعد 68 سنة على إنشائها، فإن اسرائيل طورت مذابحها وسلاح قتلها للفلسطينيين والعرب، وازدادت نهما لسرقة الأراضي الفلسطينية في كل المواقع، إضافة إلى طرائق القتل: قتل الجرحى، التفنن في وسائل الحرق. إعطاء الشرعية لكل الجرائم والمذابح بحق شعبنا وامتنا، ازدياد العدوانية على الدول العربية، رغم اتفاقياتها مع العديد منها. بعد 68 عاما اعتقدت إسرائيل أنها امتلكت الوجود الشرعي في المنطقة، باعتراف النظام الرسمي العربي بها! لكنها لا تدرك الرفض المطلق من قبل عموم الجماهير العربية لها، خاصة لتنكرها المطلق لتطبيق قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية، وتنكرها لـ «مبادرة السلام العربية»، وإصرارها على ضم المزيد من الأراضي العربية، والاعتداء على دولها أيضا. كما أن الحاخامات بفتاواهم، يضفون الشرعية على إرهاب دولتها وعلى ارتباطه بـ «المقدّس»، أي أنه أوامر إلهية. اسرائيل أيضا تطورت إن في اعتمادها على الظاهرة الاستعمارية القديمة والحديثة، أو في التماهي معها وصولا إلى تشكيلها رأس جسر لتنفيذ الخطط الإمبريالية في منطقتنا والعالم. إسرائيل قوننت العنصرية لتكون في إطارها القانوني، ازدادت قوة عسكرية، جناحان يحكمانها: العسكري والديني. الظاهرة الأبرز في تحولاتها الداخلية هي التطرف والجنوح يمينا.
بالنسبة لأدب النكبة، فإنه كثير جدا، غير أن ما جُمع منه في كتب متخصصة، لا يتواءم مع حجم كل ما كُتب.. هذا إذا استثنيا الروايات العديدة، المقالات، الابحاث، الروايات الشفوية، التوثيقات وتأريخ الأحداث: مجازر، هدم قرى، اعتقالات، تدمير بيوت..الخ. وكأنني على موعد مع النكبة، مصادفة وبلا أدنى تخطيط، أنجزت قراءة ثلاث روايات في الشهر الأخير، وكانت كلها عن النكبة: رواية رشاد أبو شاور «وداعا يا ذكرين» وهي سرد أدبي لحياة عائلية جماعية عامة، وللترحيل القسري من فلسطين إلى المنفى، الرواية بشكل عام تتطرق للحدث الفلسطيني برمته، مع تركيز خاص على منطقة الخليل وقراها: «حضر إسماعيل وقرر أن يخبرهم: يا أهل ذكرين، اليهود اقتحموا دير ياسين وذبحو أهلها ..(.. ) أرادوا أن يدب الخوف في نفوسنا فيدفعنا إلى الهرب (..) أكثر رجال البلد ما معهم بواريد، اهجموا على اليهود بالشباري، وبالحجارة وبالعصي واطردوهم، خذوا سلاحهم (..) تقدمت سيارات مصفحة عليها رشاشات تلتف حول ذكرين، دارت طائرة في سمائها، ومن جوفها أسقطت برميلا على البيادر قرب المسجد، فأحدثت دويا هائلا، لم يتوقع مسلحو ذكرين أنها معركتهم الأخيرة، راهنوا أنهم سيتجمعون مع مسلحي القرى المجاورة ويعودون لطرد اليهود..(..) تساءل المختار: هل سنصل إلى الخليل؟». الرواية الثانية «سِفر الاختفاء» للروائية الفلسطينية ابتسام عازم، وتتحدث فيها عن تهجير أهالي يافا: «هكذا وصفتِ أيامكِ، والذين شُردوا خلف البحر، ولم تقولي إن عدد السكان أصبح أربعة آلاف تقريبا بعدما كان يفوق مئة ألف..(..) قلت مرة إنك لا تحبين البرتقال ولم تأكليه إلا بعد أن هجّروكم من المنشية إلى العجمي. واحاطوا العجمي بأسلاك شائكة». الروائية تتخيل «اختفاء كل الفلسطينيين» في منطقة 48، وكيف هي ردود الفعل الإسرائيلية، المبنية على الهلع من هذا الاختفاء، وانتظار هجوم مباغت. الرواية رصد للواقع في إطار جانبي متخيل، مزنّر بإيمان تاريخي بالعودة إلى الوطن.
قبل استعراض ملخص صغير للرواية الأخيرة، حريّ التوضيح: أنني في التحضير لروايتي عن بلدي بعنوان: «وما زالت سعاد تنتظر»، قرأت كل ما كتب عن تهجير الفلسطينيين آنذاك، إضافة الى استعانتي بالصديق العزيز د. جوني منصور، العلامة بكل ما يتصل بحيفا، حتى أسماء شوارعها قديما، كما بعد تغييرها من قبل الكيان، سألته عن تفاصيل معركة سقوط حيفا، فأجابني شاكرا. الرواية المعنية للروائي العربي اللبناني الفلسطيني الياس خوري «أولاد الغيتو..اسمي مريم». رواية ترصد إجرام العدو الصهيوني في مذبحة جامع «دهمش» في اللد وفي تهجير أهلها. كما في كشف تفاصيل الحياة اليومية لـ500 إنسان من أهلها عاشوا موزعين بين المستشفى والكنيسة، أحاطهم الكيان بأسوار من الأسلاك الشائكة بدون طعام أو شراب، «دبرّوا أموركم»! ومنَعهم من الذهاب لبيوتهم وسط الحكم العسكري. رواية المقاومة والصمت والانتظار والتهجير القسري. رواية قاسية نابعة من مرارة وقسوة المشهد المحكي عنه، خاصة في مشاهدها السبعة الاخيرة: القتل والحرمان، تنظيم الشباب لمهمة دفن الجثث، وحرق الأخرى المتبقية والمالئة لشوارع اللد وأزقتها، وسماع طقطقة العظام، التي تلتهمها النيران، «انتهينا مكبلين في الشارع الفارغ، برؤوس منحنية، محاطين بالجنود، الذين صوبوا بنادقهم في اتجاهنا… أخذونا إلى غرفة تحت الأرض، بتنا ليلتنا من دون طعام أو شراب، كنت مقتنعا بأنهم سيرحلوننا في صباح اليوم التالي». أدرك ، أنني لم أف الروايات حقها، فكل منها يحتاج إلى بحث، ولكن هذه معاناة شعبنا على مدار قرن زمني كامل، في ظل الحكم العسكري، والعيش داخل أسوار الغيتو، المحاط بأسلاك أو جدران عالية كما بلدي قلقيلية الآن!.