لماذا كان الفشل حصيلة صراعنا،على مدى خمسين عام، مع الاحتلال ؟
الكاتب: نعيم الأشهب
يشكل استمرار الاحتلال الاسرائيلي لبقية الأرض الفلسطينية ، منذ حزيران ١٩٦٧، حالة شاذة ،لا مثيل لها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ؛ واي مراجعة نقدية لمسيرة صراع شعبنا مع هذا الاحتلال ،على مدى الخمسين عام المنصرمة تؤكد أن هذا الفشل لا يعود الى احجام هذا الشعب أو تردده في ميدان التضحية الوطنية. فمنذ وقوع هذا الاحتلال ، قدم شعبنا أكثر من ثلاثين ألف شهيد ، ما يتجاوز بشكل مرموق قتلى اسرائيل في جميع الحروب التي خاضتها منذ نشوئها؛ ودخل سجون الاحتلال قرابة المليون ، منهم حوالي السبعة الآف يرزحون، اليوم، في سجون هذا الاحتلال، وفي كل يوم تقريبا لنا شهيد ، حتى من أطفالنا ، في المعركة ضد هذا الاحتلال.
ويوم وقع هذا الاحتلال في حزيران ١٩٦٧، لبقية الأرض الفلسطينية ، تصرف شعبنا بمسؤولية تاريخية، مستمدا العبرة من نكبة العام ١٩٤٨، ولم يكرر عملية النزوح الجماعي عن أرض وطنه ، وبذلك أرسى حجر الأساس للصمود في أرض الوطن ، هذا الصمود الذي يمثل، اليوم،العقبة الحاسمة في وحه المشروع الصهيوني المستهدف استكمال الاستيلاء على كامل وطننا الفلسطيني . وفي الوقت ذاته ، هبّ هذا الشعب وعلى نحو مغاير لمناخ الهزيمة التي نزلت بالجيوش العربية ، واندفع دون تردد لمقاومة هذا الاحتلال. وفي اطار هذه المقاومة تحوّلت حركة المقاومة المسلحة، خارج الأرض المحتلة ، الى حركة جماهيرية عريضة ، أسهمت ولادتها على هذا النحو، في اعادة الاعتبار للشخصية الوطنية الفلسطينية التي جرى طمسها وتغييبها عمدا منذ النكبة.
وعليه، اذا كان هذا الفشل لا يقع على عاتق شعبنا ، فهو بالضرورة مسؤولية القيادة الفلسطينية . قال أحد القادة العسكريين القدماء يوما: أنا لا أخشى جيشا من الأسود يقوده خاروف ، لكنني أخشى جيشا من الخراف يقوده اسد! وبغض النظر عن مقدار المبالغة أوعدم الدقة في هذا القول ، الاّ أنه يرمز الى أهمية القيادة ودورها في ادارة الصراع. فالقيادة التي تفتقد الحزم والجرأة أولا، ووضوح الهدف وبرنامجه ثانيا، وتقديم المصلحة العامة على مصالحها الخاصة ثالثا، من غير المنطقي ولا الطبيعي أن تحقق الهدف المنشود.
***
زعامة فتح وريثة زعامة الحاج امين الحسيني
من المعروف ، في هذا السياق ، أن حركة فتح احتلت موقع القيادة الفلسطينية ، عبر مؤسسة هذه القيادة - منظمة التحرير الفلسطينية - منذ العام ١٩٦٨، بعد فترة فراغ وتغييب، أعقبت افلاس القيادة السابقة بزعامة الحاج أمين الحسيني، بعد النكبة. وحينها، فرضت فتح الكفاح المسلح ، شكلا وحيدا لمقاومة الاحتلال. وكانت قيادة هذه الحركة قد نشأت، تاريخيا، في الشتات، من عناصر أكاديمية ، كانت في معظمها، ان لم تكن جميعها، تعمل في دول الخليج . ولم يكن اختيارها للكفاح المسلح دون سواه من اشكال النضال ضد الاحتلال من باب الصدفة ، بل لكونه ، دون سواه ، يتلاءم مع وجودها في الخارج ؛ وباعتباره الوسيلة لتكريس زعامتها وقيادتها للشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج . بمعنى آخر: فأشكال النضال الأخرى المتنوعة، وبخاصة النضالات الجماهيرية وميدانها ، حصرا، هو الداخل، لا يمكن أن تكون تحت قيادتها المباشرة، وبالتالي، فقد خشيت أن تفرز ممارسة هذه الأشكال من النضال داخل الأراضي المحتلة قيادة بديلة أو مزاحمة لها. وقد اتضحت هذه الهواجس الخاطئة التي سيطرت على تفكير قادة فتح ، في وقت لاحق، وفي أكثر من مناسبة .
وفي اطار تكريس الكفاح المسلح كالشكل الوحيد المعتمد من هذه القيادة في الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي ، فرضت قيادة فتح عدة اجراءات ومفاهيم في هذا المجال، منها :
أولا - حصرعضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالفصائل الفلسطينية المسلحة ، وإغلاق أبوابها في وجه الأحزاب السياسية الوطنية ، مهما كانت فاعلة في النضال ضد الاحتلال . وحين فرض الحزب الشيوعي الفلسطيني تمثيله في مختلف مؤسسات منظمة التحرير، في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني ، المنعقدة في العام ١٩٨٧، تقديرا لدوره البارز في النضال ضد الاحتلال ، بخاصة داخل الأراضي المحتلة ، هذا التقدير الذي فرض نفسه في ظروف ما بعد رحيل المنظمة بعيدا الى تونس وتوقف النشاط المسلح عمليا ؛ وتقييما للدور المتميز الذي لعبه هذا الحزب في انجاح عقد تلك الدورة التي اعادت الوحدة لمنظمة التحرير، في ظروف ما بعد بيروت؛ حينها ، جرى تبرير دخول هذا الحزب لمنظمة التحرير، بتشكيله منظمة الأنصار العسكرية عام١٩٦٩. وقد تطلب هذا الأمر"تخريجة" قانونية تولاها المستشار القانوني للمنظمة ، آنذاك، المحامي أنيس القاسم ، بالاستناد الى هذا المبرر العسكري!؛ والمفارقة الصارخة ، في هذا المجال، أن جميع الفصائل العسكرية ، وعلى رأسها فتح ، تحوّلت الى تنظيمات سياسية، قبل تحرير شبر واحد من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام ١٩٦٧، ناهيك عن التحرير الكامل، الذي كانت فتح تعتبر ما دونه تفريطا وحتى خيانة وطنية!.
ثانيا - طغى وساد، حتى خروج المنظمة من لبنان ١٩٨٢، مفهوم " كل شيء من فوهة البندقية"! والكفاح المسلح استراتيجية وليس مجرد تكتيك ، في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي. وقد بلغ تقديس السلاح حدا غدا معه معيارا لتقييم الشخصيات السياسية الفلسطينية التي كان الاحتلال يقوم بابعادها من الأراضي الفلسطينية المحتلة ، حيث كان يجري تقييم المبعد ، من أجل تقديم المساعدة المالية له في الابعاد وغيرها من الاعتبارات ، بالمعايير العسكرية، وذلك "بصبّه" في قالب عسكري وتحديد الرتبة العسكرية التي يستحقها: رئيس أو رائد أو مقدم.. الخ ! والمفارقة الثانية ، في هذا المجال ،هي في تحوّل الكفاح المسلح من هذه الحالة القدسية الى مكانة المحرّم والمدان ، باعتبار ممارسته ، حتى من شعب تحت اﻹحتلال ، إرهابا!، في عهد الرئيس محمود عباس.
والمفارقة الثالثة ، أن قيادة فتح التي فرضت هذه المكانة للكفاح المسلح ، مع الاستخفاف ، الى حد التجاهل ، بأشكال النضال الأخرى ضد الاحتلال، لم تتقن ، أو على الأصح، لم تولي الاهتمام المطلوب لاتقان ممارسة هذا الشكل من أشكال مقاومة الاحتلال ، في مجالات التعبئة والتنظيم والتدريب ، الملائمة لممارسته ، بتميّز نوعي ، في كل من الخارج والداخل، بل ركزت اهتمامها على الكمية ، على حساب النوعية ، وغدت كمية المنتسبين هي مجال المنافسة بين الفصائل المسلحة ؛ والدليل القاطع على هذا الاستنتاج هو النتائج ، أو على الأصح ، انعدام النتائج الفعلية على أرض الواقع لممارسة الكفاح المسلح ؛ اذ لم يحرر الكفاح المسلح شبرا واحدا من أرضنا المحتلة.
وفي أية عملية جرد فعلية للمعطيات الحقيقية للكفاح المسلح ، على مدى الخمسين عام الماضية ، يمكن أن يسجل له التجلّي في معركتين جديتين مع العدو الاسرائيلي ، لكنهما كانتا في مجال الدفاع ، وليس الهجوم وتحقيق انجازات في مجال تحرير الأرض المحتلة ؛ الأولى، معركة الكرامة، عام ١٩٦٨، وقد أفلحت حركة المقاومة الفلسطينية في صدّ وافشال الهجوم الاسرائيلي على قواعدها المسلحة هناك، بمساندة فعالة من قطعات الجيش الأردني المرابطة هناك، بقيادة الضابط مشهور حديثة ، الذي شارك في تلك المعركة على مسؤوليته الخاصة؛ والثانية ، معركة الدفاع البطولي عن بيروت في وجه الاجتياح العسكري الاسرائيلي ، صيف ١٩٨٢، مع أنها انتهت باخراج منظمة التحرير والفصائل المسلحة من لبنان. وفي الحالتين كانت قواعدنا وتجمعاتنا ثابتة ومكشوفة للعدو، خلافا لمقتضيات حرب الأنصار.
وفي ضوء انعدام أية انجازات حقيقية للكفاح المسلح في مجال تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة ١٩٦٧، فان بعض التنظيمات الفلسطينية ، التي تماهت مع فتح في التركيز على الكفاح المسلح ، على حساب الأشكال الأخرى في مقاومة الاحتلال، راحت تموّه انعدام أية نتائج ملموسة للكفاح المسلح ، في مجال تحرير الأرض المحتلة ، بالتركيز على عدد شهدائها كبديل للانجازات ، وكأن الاستشهاد هو الهدف!.
وطالما كانت قيادة فتح في ألخارج فقد اعتبرت الساحة الخارجية هي الساحة الرئيسية والحاسمة في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال ، يقابل ذلك استخفاف بوزن ساحة الداخل ، رغم كونها ساحة المواجهة الرئيسية واليومية مع الاحتلال ؛ ولكن حين انتقلت هذه القيادة الى الداخل ، بعد اتفاقات أوسلو انعكس تقييم هذه القيادة لساحتي الداخل والخارج وغدا الاهمال والاستخفاف نصيب الساحة ألخارجية علما بأن قسما أساسيا من شعبنا يعيش في اللجوء ، في دول الجوار على وجه الخصوص .وقد انعكس هذا اﻹهمال على منظمة التحرير التي تمثل جماهير الداخل والخارج . بمعنى آخر، غدا مكان القيادة يتقدم على مكانة الوطن. وهذه هي المفارقة الرابعة.
أ***
كيف تعاطت القيادة الفلسطينية
مع الطابع القومي للقضية الفلسطينية
من المعروف ، فيما يتعلق بالطابع القومي للقضية الفلسطينية ، أن الحركة الصهيونية ، قبل غيرها، هي من حدّدت ، منذ لحظة ولادتها، هذا الطابع للقضية الفلسطينية. فقد تعهد هرتسل، مؤسس هذه الحركة، للامبراطورية البريطانية ، بأن تكون الدولة الصهيونية الموعودة "سدا في وجه بربرية الشرق" وأن تتولى حراسة قناة السويس وطريق الهند، درة الامبراطورية البريطانية ، آنذاك، مقابل تبني هذه الامبراطورية للمشروع الصهيوني في فلسطين. ومن الواضح أن هذه المهام التي أخذتها الصهونية على عاتقها تتجاوز فلسطين وشعبها، وتطال المحيط العربي ، ومن هنا في اﻷساس نشأت قومية القضية الفلسطينية.
وقد تأكد هذا الطابع للمشروع الصهيوني الذي وضع نفسه في خدمة ليس الامبريالية البريطانية وحدها، بل ومختلف الامبرياليات ، في الممارسة العملية ، وذلك في سلسلة الحروب العدوانية التي شنتها اسرائيل منذ قيامها. فالعدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر، خريف 1956، لم يكن بسبب القضية الفلسطينية ، بل بسبب تأميم عبد الناصر لقناة السويس ، وكذلك الحال مع عدوان حزيران 1967، الذي استهدف ضرب الحركة القومية العربية التحررية بقيادة مصر عبد الناصر، هذه الحركة التي راحت تقلق مختلف القوى الامبريالية التي لها مصالح استغلالية في المنطقة . ومن هنا، فالتصدي للمشروع الصهيوني وعدوانيته وطموحه الدائم للتوسع، ليست مهمة الشعب الفلسطيني وحده، بل مهمة عربية مشتركة .
لكن هذا الطابع القومي للقضية الفلسطينية يتطلب ، بالضرورة ، في الممارسة العملية ، مستوى رفيعا من التنسيق بين القومي العربي والوطني الفلسطيني. ويشترط هذا التنسيق لتأمين جدواه وفعّاليته الكاملة، التزاما في اتجاهين متقابلين: من الجانب الواحد أن لا تتدخل قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في الشؤون الداخلية للبلدان العربية الأخرى، وأن تنأى بنفسها عن المحاور التي قد تنشأ في المحيط العربي ؛ ومن الجانب الآخر، أن لا تسمح لأي نظام عربي بالسطو على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني . فإلى أي مدى أفلحت قيادة فتح ، منذ توليها قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، في التعاطي الموزون مع هذه المعادلة الحساسة ؟.
في مجال عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية ، فقد خرقت قيادة فتح هذا المبدأ في الأردن أولا، حين سعت الى خلق دولة لها داخل الدولة الأردنية ، مستغلّة كون الأردنيين من اصول فلسطينية يشكلون أكثر من نصف عدد سكان ذلك البلد ؛ لكن هذه المحاولة قدّمت، في الوقت المناسب، الغطاء المطلوب للنظام الأردني المعادي بطبيعته وطبيعة تحالفاته الاقليمية والدولية لحركة المقاومة الفلسطينية ، لتنظيم مذابح أبلول ١٩٧٠، منتهزا في تلك اللحظة ، خلاف منظمة التحرير التي تقودها فتح مع نظام عبد الناصر على خلفية قبول الأخير، آنذاك، مبادرة وزير الخارجية الأميركية، روجرز، هذا القبول الذي اتضج لاحقا أنه تكتيكي من حيث المبدأ، الغرض الأساسي منه ، إيقاف الغارات الجوية الاسرائيلية على العمق المصري الى أن يتسنى ، سرا، نشر صواريخ سوفياتية حديثة ضد الطائرات الحربية الاسرائيلية، على امتداد قناة السويس، لحماية العمق المصري. والمفارقة الخامسة ، في هذا المجال، أن تكون قيادة فتح أول المطبعين مع نظام الردة المصري (الذي خلف نظام عبد الناصر) بعد الصلح المنفرد مع اسرائيل الذي أخرج مصر بثقلها النوعي من جبهة المواجهة مع إسرائييل ، وأن تغدو المفاوضات حصرا ، وبالرعاية الأميركية ، بدل الكفاح المسلح ؛ رغم ثبوت عبثية هذه المفاوضات ، خلال أكثر من عقدين .. أن تغدو هي النهج الوحيد لقيادة فتح في التعاطي مع قضية الاحتلال الاسرائيلي .
وحين انتقلت منظمة التحرير وفصائلها المسلحة الى لبنان بعد اخراجها من الأردن ، فان هذه القيادة لم تستخلص العبر من أخطائها في الأردن والتي أدت لخسارتها لأهم وأوسع قاعدة لها، جغرافيا وديموغرافيا، ضد الاحتلال الاسرائيلي، بل كررتها بتأسيس دولة الفكهاني وسط بيروت، وهذا ما أسهم في تسهيل تحالف بعض أوساط الموارنة اللبنانيين مع الغزو الاسرائيلي للبنان ، صيف١٩٨٢، والذي أسفر عن ابعاد منظمة التحرير عن لبنان أيضا بعد الأردن ، كما أسفرعن مذابح مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين ؛ والمحصلة العامة لهذه الممارسة المغلوطة في العلاقة بين الوطني والقومي، خسارة جبهات المواجهة المباشرة مع الاحتلال الاسرائيلي، ونفي المنظمة بعيدا - في تونس.
واذا كان سلوك قيادة فتح في كل من الأردن ولبنان ، منذ تسلّمها لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحتى الخروج من لبنان ، قد أسفر عن هذه النتائج السلبية المأساوية ، حيث كان لخرقها أحد طرفي العلاقة الموزونة بين الوطني والقومي، دورا بارزا في هذه النتائج السلبية ؛ فانها ، بالمقابل ، لم تتمسّك بمبدأ عدم التفريط باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني، ليس للأنظمة المعادية لاسرائيل وسندها الولايات المتحدة، وانما للأنظمة الساعية بلهفة للتحالف مع اسرائيل على حساب القضية الفلسطينية .
وقد تفاقم هذا الاستعداد للتخلي عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني ، منذ بداية الحراك الشعبي العربي، أوائل العام ٢٠١١ ، وانقسام النظام العربي الى محورين متعارضين ومتصارعين ؛ فبدل أن تنتظم هذه القيادة الفلسطينية، عند الضرورة ، في المحور المناصر للقضية الفلسطينية والمناويء لأعدائها، أو تلتزم موقف الحياد بين هذه المحاور، انحازت الى المحور الذي تقوده السعودية،التي لم تعد تخفي طموحها ولهفتها للتحالف الرسمي والعلني مع اسرائيل ضد محور المقاومة، المناصر الحقيقي للقضية الوطنية الفلسطينية والعدو اللدود لاسرائيل وسندها الولايات المتحدة، الى حدّ راح معه الرئيس عباس يردد ، بمناسبة ودون مناسبة، أنه مع السعودية، كما جاء في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خريف العام ٢٠١٦.
***
فتح والمال السعودي
تمّ تدشين العلاقة بين فتح والنظام السعودي ، في لقاء رسمي بين قيادة فتح ووفد سعودي رفيع المستوى ، في دمشق، عام ١٩٦٨، أي عقب الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني ، المنعقدة أواسط تموز ١٩٦٨، حين دخلت فتح وجميع المنظمات المسلحة الى منظمة التحرير واتضح أن فتح ستتولى قيادة منظمة التحرير، في ضوء اختيارعبد الناصر لها لملء هذا الموقع، بعد إطمئنانه الى نهجها البراغماتي، وتفضيله لها على حركة القوميين العرب( الجبهة الشعبية ﻻحقا) "العقائدية". وبالفعل، تمّ توليها، رسميا، لهذا الموقع في الدورة الخامسة لهذا المجلس أوائل شباط ١٩٦٩. وقد أرسى هذا اللقاء السعودي - الفتحاوي علاقات وطيدة لم تعرف الأزمات. ويعتقد بعض المؤرخين أن رسوخ هذا التحالف المتميز يعود لعاملين رئيسيين، الأول:اطمئنان حكام السعودية لنوعية العناصر المؤسسة لحركة فتح ، حيث سبق لمعظمهم أن مرّوا بتنظيم الاخوان المسلمين ، وأن أيا منهم لم يسبق له أن كان في تنظيم يساري ؛ والعامل الثاني ، تعهد حركة فتح بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للسعودية.
في ضوء هذا الاتفاق ، سمحت السعودية لمنظمة فتح ، دون سواها، بافتتاح مكتب رئيسي لها في العاصمة السعودية، الرياض، ومكاتب فرعية في عدد من المدن السعودية ، تحت أسماء فلسطينية ذات طابع انساني ، وليس باسم منظمة التحرير الفلسطينية التي اعتبرها حكام السعودية ، منذ لحظة تأسيسها عام ١٩٦٤، بقرار من مؤتمر القمة العربي الأول، مشروعا مصريا- ناصريا، ناصبه هؤلاء الحكام السعوديون التجاهل والجفاء.
وهكذا، بدأ تدفق المال السعودي ألغزير منذ العام ١٩٦٨، على تنظيم فتح حصرا. وقد صاغت السلطات السعودية ، في هذا المجال، "نظاما يدفع بموجبه المتبرعون السعوديون١٪ من مرتباتهم ، ويدفع الفلسطينيون (العاملون في السعودية) ١٠٪منها". (من كتاب "المملكة العربية السعودية وقضية فلسطين"، تأليف :الدكتور عبد الفتاح حسن أبو علية ورفيق النتشة؛ والأخير كان عضوا في اللجنة المركزية لفتح ومندوبها في العربية السعودية لسنين طويلة ، ص ٤٤٠). وفي وقت لاحق ، تمّ تعديل اسهام الفلسطينيين العاملين في السعودية ليصبح ٥٪ بدﻻ من ١٠٪ ؛ ويجري جمع هذه التبرعات باسم"اللجان الشعبية لمساعدة أسر ومجاهدي فلسطين"، (المصدر السابق) ، وقد "تمّ الاتفاق في البداية على أن يكون ريع هذه اللجان بنسبة ١٠٪ لأبناء الشهداء و٩٠٪ لحركة فتح، ولكن بعد ذلك أصبحت تحوّل بأكملها لحركة فتح لتقوم بمهمات الانفاق على الشهداء والأسرى والمعاقين والمقاتلين من مختلف التنظيمات الفلسطينية"، (نفس المصدر السابق).
ولكن الى جانب هذه التبرعات الشعبية ، كان هناك الدعم المالي من خزينة الدولة السعودية الذي يذهب الى تنظيم فتح حصرا. وقد حذت دول خليجية أخرى حذو السعودية في تقديم دعم مالي لفتح دون سواها من التنظيمات الفلسطينية . وبنتيجة ذلك تراكمت في خزائن فتح ثروات طائلة ، قدّرتها صحيفة ال "هيرالد تريبيون"الأميركية الدولية ، أواخر العام ١٩٧٩، ما بين سبعة الى تسعة مليارات دولار، بقيمة الدولار آنذاك.
وهكذا، غدت فتح ، ومنذ بداية ثمانينات القرن الماضي ، تمتلك وتدير مصالح ومشاريع اقتصادية وشركات تجارية تمتد من الخليج العربي وحتى نيكاراغوا في أميركا اللاتينية خلال فترة حكم الساندنيين الأولى ، اضافة الى مزارع شاسعة ومصالح أخرى في القارة الافريقية ، وأراض وعقارات في عدد من البلدان العربية. وفي هذا الاطار، كان "عيدي أمين"، دكتاتور أوغندا السابق، قد منح فتح مساحات شاسعة من الأرض للاستثمار في بلده. لكن حين غزت القوات التنزانية أراضي أوغندا ، بغرض التطويح بحكمه ، والذي تحقق في ١٩٧٩/٤/١١، كانت قيادة فتح قد أرسلت ، لدى اندلاع تلك الأزمة، قوة عسكرية للدفاع عن نظام أمين المذكور، وكان على رأس تلك القوة قائد سلاح المدفعية الفلسطينية جنوبي لبنان ، آنذاك ، واصف عريقات.أي غدت مصالح فتح تعلو على مصالح الوطن الفلسطيني المحتل ، الى حدّ التصرف كقوة عدوان وتدخل في شؤون الغير، من شعب واقع تحت اﻹحتلال!.
في البدء، كان المال السعودي نوعا من الرشوة ، الغرض منها ضمان عدم تعرّض الفدائيين الفلسطينيين لأنابيب شركة أرامكو الأميركية ، التي تنقل النفط السعودي؛ ولكن بعد أن تعوّدت فتح ورتبت أمورها على أساس استمرار تدفق هذه الموارد المالية الغزيرة، انقلب هدف السعودبة من وراء تقديم هذا المال ، وغدا ممارسة النفوذ على قيادة فتح، التي عزز المال السعودي هيمنتها على الساحة الفلسطينية. والملاحظ ، في هذا السياق، أن قيادة فتح اختلفت علنا، والى حد الخصام أحيانا، خلال الخمسين سنة المنصرمة، مع مختلف الأنظمة العربية المتصلة مباشرة بالقضية الفلسطينية، بدءا بالنظام الأردني ، فالناصري المصري ، وانتهاءا بالسوري والعراقي والليبي ، عدا النظام السعودي حصرا، إذا اسثنينا الفتور المؤقت في هذه العلاقة، خلال حرب الخليج الثانية١٩٩١.
لكن نموذج هذه العلاقة بين فتح والسعودية فتح المجال لبعض اﻷنظمة العربية لتقيم لها، بدورها، داخل الساحة الفلسطينية ، تنظيمات تنطق بإسمها وتحمل تصوّرها الخاص لمعالجة القضية الفلسطينية. وهكذا ، غدا النموذج الذي دشنته فتح في علاقاتها الخاصة بالسعودية سببا في تحويل الساحة الفلسطينية الى ميدان تجاذبات وصراعات، أحيانا، للأنظمة العربية المختلفة، وعلى حساب وحدة الحركة الوطنية الفلسطينية.
***
قيادة فتح والانتفاضة الأولى
حين اندلعت الانتفاضة الأولى ، خريف العام ١٩٨٧، تلقائيا وعفويا ، في الأراضي الفلسطينية المحتلة١٩٦٧، فان قيادة منظمة التحرير الفتحاوية ، التي تفاجأت كالكثيرين غيرها بالحدث أصيبت، في اﻷيام اﻷولى، بحالة من الارباك والفزع ، ظنا منها أن تفجير الانتفاضة جاء على يد قيادة بديلة في الداخل. ورغم أن تشكل القيادة الموحدة للانتفاضة وصدور بيانها اﻷول أكدا على الوحدة الوطنية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبالتالي: دحض هذه الهواجس الوهمية، فان قيادة فتح بدأت وعلى الفور العمل للسيطرة على هذه الانتفاضة التي فاجأتها.
ولما بلغ تدخل قيادة منظمة التحرير الفتحاوية من تونس ، عبر الفاكس والمال أساسا، مستوى معينا في تصاعده ، فقد شكل ذلك منعطفا وتحوّلا سلبيا في مسار الانتفاضة وانحدارا واضحا في طابعها الشعبي الشامل ومبادراتها الخلاقة. فقد حلّت عملية تجييش هذه اﻹنتفاضة محلّ المشاركة الجماهيرية الشاملة. وهذا ما قلّص نوعيا قاعدتها الجماهيرية. ومع التجييش راح يجري استبدال المبادرات والابداعات الجماهيرية بأوامر المليشيات ، وحلّ فرض المليشيات للاضرابات محلّ اﻹقناع والاقتناع الذاتي. ووصل الأمر حدّ اعلان عرفات من تونس ، للصحافيين، أنه يحتفظ في درج مكتبه في تونس بالبيان رقم ٧٥ للقيادة الموحدة للإنتفاضة ، في وقت كان آخر ما صدر من تلك البيانات عن القيادة الموحدة في الداخل ، والتي تنظم فعاليات اﻹنتفاضة اليومية ، لم يتجاوز رقمه نصف الرقم الذي ذكره عرفات للصحافيين . ومن الواضح أن عرفات كان يوجه بهذا اﻹعلان ، رسالة لمن يهمه اﻷمر في الخارج ، بأنه أصبح يحرّك الانتفاضة ب"الريمونت كونترول" من تونس!.
ويعكس هذا السلوك من القيادة الفتحاوية لمنظمة التحرير نظرتها وتقييمها لقيادة النضال الفلسطيني في الداخل، باعتبارها مجرد أحد أذرع منظمة التحرير وليس قيادة فعلية للداخل وشريك في منظمة التحرير الفلسطينية. يشير الى هذه القضية بسام الصالحي في كتابه"الزعامة السياسية والدينية في اﻷرض المحتلة : واقعها وتطورها، ١٩٦٧-١٩٩١" (القدس:دار القدس للنشر والتوزيع ،١٩٩٣، ص. ١٢٤ )؛ يقول الصالحي، في هذا الصدد: "كانت بعض اﻹختلافات التي ظهرت مع تشكيل القيادة الموحدة ، مجرد تغليف للخلاف اﻷساسي فيما يمكن اعتباره تحديد دور القيادة الوطنية الموحدة بين أن تكون قيادة استراتيجية فعلية للأرض المحتلة ، أو أن تكون ذراعا ل م.ت.ف. وبين أن تكون تشكيلا جبهويا متكاملا ، أو مجرد لجنة تنسيق محدودة المهام …".
وفي إطار هذه اﻹجراءات للسيطرة على اﻹنتفاضة ، راح المال الفتحاوي يتدفق بغزارة على اﻷراضي المحتلة ، في ظروف تضييقات اﻹحتلال لقمع اﻹنتفاضة، بما فيها العقوبات اﻹقتصادية وارتفاع منسوب البطالة ، ليلعب هذا المال دورا تخريبيا في ضرب وحدة المنظمات الجماهيرية ، التي شكلت عصب الانتفاضة ، كالنقابات العمالية والروابط الطلابية وغيرها من المؤسسات الجماهيرية، وذلك بشراء الوﻻء لفتح واستبدال هذه المنظمات الجماهيرية الفعالة بأطر بيروقراطية شكلية . يشير لهذه الظاهرة الصحافي الفرنسي المعروف ألن غريش ، في كتابه
: 1- Alain Gresh : The PLO: THE Struggle Within(London:Zed prss,1985),p.216
(نقلا عن كتاب د. غسان الخطيب " السياسة الفلسطينية وعملية سلام الشرق اﻷوسط"، ص.٥٩) حيث يقول غريش :"لقد بلغ اﻷمر بفتح شق صف الحركة النقابية ، وتوجيه تمويل منظمة التحرير نحو{أشخاص موثوق بهم}".
في الوقت ذاته، شكّل هذا التخريب للمنظمات الجماهيرية الفاعلة ، ضربة قوية لعملية تشكل مجتمع مدني فلسطيني، أساس البنية التحتية ﻷي نظام ديموقراطي . وقد مهّد هذا النشاط التخريبي لضرب وحدة المنظمات الجماهيرية الفاعلة، ﻹنتشار ظاهرة المنظمات غير الحكومية الممولة من الدول الغربية ، كبديل للعمل التطوعي، الذي أبدعته اﻻنتفاضة ، وكبديل أيضا لمجتمع مدني حقيقي يمثل قاعدة العمل الوطني واﻹجتماعي، وتحويل اهتمام الجمهور الفلسطيني عن أهدافه الجوهرية ، كاﻹحتلال وتداعياته ، الى أهداف ثانوية كقضايا الجندر وأمثالها؛ وليس من باب الصدف أنه ﻻ توجد منظمة واحدة من هذه المنظمات، في اﻷراضي الفلسطينية المحتلة، عنوانها مقاومة اﻹحتلال اﻹسرائيلي.
وحين تمّ لقيادة فتح السيطرة على الانتفاضة بالأساليب السالفة الذكر، باشرت باستعمالها ، أي اﻹنتفاضة، كورقة مساومة مع دولة الاحتلال. وكانت اﻷولوية في هذه المساومة هي لتأمين اعتراف الطرف اﻹسرائيلي بقيادة منظمة التحرير الفتحاوية، كممثل للشعب الفلسطيني، وهذا ما أكدته، ﻻحقا، محادثات أوسلو السرية ونتائجها.
***
مؤتمر مدريد العلني وأوسلو السرية
أكدت اﻹنتفاضة اﻷولى أن اﻹستخفاف بأشكال النضال الجماهيري ضد اﻹحتلال داخل اﻷراضي المحتلة كان خطيئة ﻻ تغتفر، وأنه كان ينبغي، منذ البدء ، تأمين التنسيق الموزون بين جميع أشكال النضال ضد اﻹحتلال، في الداخل والخارج، وفق الظروف الملموسة في الزمان والمكان . وكما هو معلوم ، كانت هذه اﻹنتفاضة ، قد أرغمت إسرائيل والوﻻيات المتحدة على بدء الحوار مع الطرف الفلسطيني، رغم أن القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير كانتا تمرّان بأسوأ ظروفهما، حيث كان اﻻتحاد السوفياتي، الحليف اﻹستراتيجي، يتهاوى، ومنظمة التحرير تعيش في المنفى البعيد بعد خروجها من لبنان. ذلك أن هذه اﻹنتفاضة بددت الشعار الذي شرّعه حكام إسرائيل ، منذ البدء، غطاءا لتنكرهم لحقوق الشعب الفلسطيني القومية، ولجرائمهم ضد الجماهير الفلسطينية الرازحة تحت اﻹحتلال ، بأن هدف نضال الفلسطينيين هو تدمير دولة إسرائيل. فسلاح اﻹنتفاضة اﻷساسي كان الحجر بيد الطفل الفلسطيني ، وحدود نشاطها الجغرافي، كان اﻷراضي الفلسطينية التي احتلت عام ١٩٦٧. وهذا ما أكسب القضية الفلسطينية تعاطفا دوليا واسعا، وأربك اﻹسرائيليين واﻷميركيين.
وكان المناخ الذي خلقته اﻹنتفاضة عنصرا هاما لانعقاد مؤتمر مدريد، تحت إشراف الوﻻيات المتحدة واﻻتحاد السوفياتي. لكن اﻷخير كان يلفظ أنفاسه آنذاك، مما أدى الى استفراد اﻷميركي في اﻹشراف على مسارهذا المؤتمر، بحيث جرى ، بعد افتتاحه في مدريد، نقل المفاوضات الثنائية والمتعددة اﻷطراف الى واشنطن. وقد تحققت المشاركة الفلسطينية بوفد مستقل ، بعد سلسلة مناورات أميركية - إسرائيلية لمنع ذلك. لكن بقيت تركيبة هذا الوفد من عناصر فلسطينية من الضفة والقطاع المحتلين ، دون الخارج والقدس المحتلة ، بسبب المعارضة اﻹسرائيلية - اﻷميركية لمشاركتهما.
ومع أن الوفد الفلسطيني المفاوض ، في واشنطن ، برئاسة د. حيدر عبد الشافي، جرى تعيينه من جانب قيادة منظمة التحرير في تونس ، وكان يجري تقييم كل جولة من مفاوضات واشنطن بشكل مشترك من الوفد المفاوض وقيادة منظمة التحرير، كما يجري وضع الخطوط العريضة للجولة القادمة .. برغم كل ذلك ، بقيت هذه القيادة تخشى أن يتحقق أي انجاز وطني في هذه المفاوضات ليس على يديها مباشرة، وبقي هاجس احتلال موقع المفاوض المباشر يسيطر عليها. يقول د. غسان الخطيب ، أحد أعضاء الوفد المفاوض في واشنطن ، في كتابه (السياسة الفلسطينية وعملية سلام الشرق اﻷوسط ، ص ٦٩):"كان الخارج يريد من الوفد (المفاوض في واشنطن)أن يتبع تكتيكات من شأنها أن تعيد الى القيادة في الخارج دور التمثيل المباشر، بما في ذلك فسح المجال لجلوسها الى طاولة المفاوضات . أما الداخل ، من جهته ، فقد آثر مقاربة تفاوضية تسعى أوﻻ ﻹيقاف النشاطات اﻹسرائيلية غير المشروعة ، وﻻ سيما تلك التي تثبت أقدام اﻹحتلال وتقمع الفلسطينيين في وطنهم…".
وانطلاقا من هذه الذاتيات المفرطة وانعدام الثقة بالوطنيين الفلسطينيين من الداخل ، واﻹصرار على وضع جميع اﻷمور في ايديها مباشرة، جاء فتح قناة أوسلو السرية.
والمفارقة المؤلمة أنه لما انتقلت عملية التفاوض، بعد توقيع إعلان المباديء لمحادثات أوسلو ، الى أيدي هذه القيادة، فإن أداءها التفاوضي كان مثيرا للحزن والشفقة. يقول ياسر عبد ربه، أمين سر اللجنة التنفيذية السابق والذي رافق ياسر عرفات في حلقات التفاوض التي باشرها عرفات بنفسه:"مشكلة ياسر عرفات أنه كان يعتقد أنه أفضل المفاوضين مثلما كان أفضل العسكريين والسياسيين واﻹداريين وفي كل اﻷمور. هاجس عرفات في عملية المفاوضات لم يكن الحرص على الجغرافيا، بل الحرص على توسيع صلاحيات السلطة ، على أمل تحسين شروط التفاوض على اﻷرض في المستقبل. كان يريد أن ينتزع من اﻹسرائيليين أكبر ما يمكن من سلطة ، والجغرافيا واحدة من المجاﻻت ، وليست المجال الرئيسي ، بينما كانت اﻷرض هي اﻷولوية لدى اﻹسرائيليين . وهذا الفارق بيننا وبينهم . هم كانوا يعتبرون اﻷرض أولوية ، فيما كانت اﻷرض عندنا واحدة من القضايا التي تتغلّب عليها أحيانا السلطة. كان ياسر عرفات يريد السلطة الكاملة على المصادر المالية . كان يريد السيطرة على مصادر الدخل والتصرف بها كما يرتأي لتعزيز دوره ونفوذه. كان يريد أن يكون صاحب القرار في المسائل المالية ، وأن يكون لديه دور قيادي من خلال اﻹمساك بالسلطة. كان يريد الحصول على صلاحيات أكثر من اﻹسرائيليين الى حد أنه في اتفاق القاهرة كان يطالب بإعطائه لقب رئيس السلطة . اتفاق أوسلو ﻻ يعطيه هذا اللقب … فكل هياكل السلطة ورموزها بما فيها لقبه هو كان ما يهمه في المفاوضات".
وفي مكان آخر من سلسلة مقابلات له مع صحيفة "الحياة" اللندنية ، التي نشرتها تباعا، اعتبارا من ٢٠٠٨/١١/٢٢، يشير عبد ربه الى ولع عرفات بالسلطة، قائلا:"عمل نظاما عربيا، وﻷنه يريد استكمال مظاهر الدولة ، بغض النظر عن مضمونها الذي كان محصورا وضيقا، عمل مثلا قوات بحرية وقوات جوية في بلد عندنا فيه بحر لكن ﻻ سيطرة لنا عليه. تصور أن نابلس مدينة في الداخل كان فيها مركز للقوات البحرية ، علما أنها تفتقر الى مياه الشرب وليس الى البحر فحسب ، وكذلك الخليل كانت هناك قوات بحرية ، وهكذا تعددت اﻷجهزة". وفي مجال تعدد اﻷجهزة وكثرتها يشير عبد ربه في هذه المقابلات الى أن عرفات :".. عمل أكثر من ١٢ جهازا أمنيا بين استخبارات وأجهزة أخرى ، ومعظمها كانت تتصارع فيما بينها".
وحيث أدرك اﻹسرائيليون ذاتيات عرفات ونرجسيته ، فقد جندوهما في عملية ابتزازه . يشير عبد ربه ، في مقابلاته السالفة الذكر الى حرص شمعون بيرس أن يكون تفاوضه مع عرفات ثنائيا ليبتزه ، باستغلال هذه الصفات في عرفات، ويضيف عبد ربه في هذا الصدد:"وكان يستخدم (أي بيرس) طبعا أسلوب التحايل ، من نوع : سيدي الرئيس أنت رئيس ولكن أنا وزير خارجية مسكين عندي مرجعيتي ، أنت تستطيع أن تأخذ قرارا وأنا ﻻ أستطيع أن آخذ قرارا.أنت صاحب قرار مطلق وسيد. وكانوا دائما، بعدما اكتشفوا نقطة ضعفه ، يحاولون اللعب عليها وهي حبّ ياسرعرفات لتعزيز سلطته، وكانوا يحاولون أن يساوموه على هذه النقطة :مقابل تعزيز سلطته تعزيز توسعهم في مجاﻻت أخرى وخاصة في مجال اﻹستيطان .هذه كانت النقطة اﻷخطر. ياسر عرفات كان يندفع في المفاوضات أحيانا. أحيانا كان ﻻ يعرف جغرافية مدينة أو منطقة ما ويجلس ويفاوض عليها. هذه كانت من بين المشاكل."
أما شغف عرفات بالمال، فهو ليس ﻹنفاقه الشخصي ، فقد كان أكثر قادة فتح زهدا في هذا المجال، وإنما ﻹستعماله سلاحا لفرض سلطته وتعزيزها. في هذا اﻹطار، سمح له اﻹسرائليون بناءا على طلبه، بعد دخوله المناطق المحتلة ، في تأسيس احتكار، بالتعاون مع "يوسي غينوسار" نائب رئيس جهاز الشاباك اﻹسرائيلي المتقاعد، للإتجار بأربعة مواد أساسية :الطحين واﻹسمنت والمحروقات والسجاير. وقد جنى من هذا اﻹحتكار مئات ملايين الدوﻻرات.(كتبت الصحافية اﻹسرائيلية اليسارية "عميرة هس" مادة مطولة ، في صحيفة هآرتس، حينها ، عن هذا اﻹحتكار). هذا، بينما لم تسفر سياسة السلطة، في الميدان اﻹقتصادي، عن أي تقدم نحو تحرر اﻹقتصاد الفلسطيني من التبعية المحكمة للإقتصاد اﻹسرائيلي ، بل على العكس، الى المزيد من هذه التبعية. واليوم، يتحكم اﻹحتلال بشكل مطلق تقريبا بمفاتيح اﻹقتصاد الفلسطيني كالكهرباء والماء واﻹتصالات الخارجي.
***
نتائج قناة أوسلو السرية
كانت حصيلة اللجوء لهذه القناة السرية ، مع التهميش الفعلي لقناة واشنطن العلنية ، النتائج التالية: أوﻻ - منح الطرف اﻹسرائيلي امتيازا استثنائيا ، على شكل "مناقصة" بين قناتين فلسطينيتين ، ليناور الطرف اﻹسرائيلي ويبتز ويختار، بين عروض الوفد الفلسطيني العلني في واشنطن وعروض الوفد السري في أوسلو، مأخوذ في الحسبان أن وفد واشنطن كان مطالبا من قيادة المنظمة في تونس بالتشدد، ومدعوما بالخبراء الضروريين في مختلف مجاﻻت العملية التفاوضية، بينما كان وفد أوسلو أكثر مرونة ، ويفتقر ﻷي خبير، بحكم الحرص الشديد على سريته ؛ وثانيا- الخلل النوعي في اﻹعتراف المتبادل ، إذ بينما اعترفت منظمة التحرير، عبر قناة أوسلو، بإسم الشعب الفلسطيني ، بدولة إسرائيل، فإن إسرائيل لم تعترف ، بالمقابل ، بأي من الحقوق اﻷساسية للشعب الفلسطيني التي ترمز لها منظمة التحرير ، وإنما مجرد اﻹعتراف بمؤسسة منظمة التحرير التي تقودها فتح ، لحصر تعامل الطرف اﻹسرائيلي معها ﻻحقا.
أما إكتشاف الطرف اﻹسرائيلي للهفة الطرف الفلسطيني في مفاوضات أوسلو السرية للإعتراف اﻹسرائيلي بمؤسسة منظمة التحرير قبل أي شيء آخر، فيشير اليه ممدوح نوفل ، في كتابه "اﻹنقلاب"،(عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع، ١٩٩٦ ص١٩-٢٠)،بقوله:"بلّغ سينغر رابين (واﻷول مندوب الثاني في مفاوضات أوسلو السرية) أنه يفضل التفاوض بشأن اعتراف متبادل مع منظمة التحرير الفلسطينية ﻷن ذلك سيكون هو نتيجة المفاوضات في أي حال، وعلى هذا ينبغي للإسرائيليين أن يستعملوه في وقت مبكّر ورقة تفاوضية ﻻستدرار التنازﻻت في موضوعات تعتبرها إسرائيل مهمة". (هذا المقتطف من كتاب ممدوح نوفل منقول عن كتاب غسان الخطيب الذي سبق ذكره).
ويشير تيسير العاروري (عضو لجنة توجيه مفاوضات واشنطن العلنية) الى واحدة من هذه التنازﻻت التي ابتزها الطرف اﻹسرائيلي من الطرف الفلسطيني في هذا المجال، في ورقة قدمها في المؤتمر السنوي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية تحت عنوان:"عشرون عاما على اتفاق أوسلو وخمسة وعشرون عاما على إعلان اﻹستقلال" - رام الله ، السابع والعشرين والثامن والعشرين من أيلول٢٠١٣"، يشيرالعاروري في ورقته هذه لتصنيف أراضي الضفة والقطاع الى ثلاثة:أ، ب ،ج (A,B,C) :" * الفئة اﻷولى A وتضم اﻷراضي التي تقوم عليها المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية ، وكذلك كل منطقة اﻷراضي المستغلة زراعيا من قبل الفلسطينيين ، ويكون حق الوﻻية عليها وإدارتها (المسؤولية المدنية واﻷمنية) للفلسطينيين ، ومساحتها تشكل ٦١,٨٪ من المساحة الكلية للأراضي المحتلة، (بموجب اتفاق أوسلو أصبحت هذه النسبة ٢,٥٪ فقط) . *الفئة الثانية - B وتضم اﻷراضي الخالية من السكان ، وهي من فئة اﻷراضي التي يطلق عليها اﻹسرائيليون أراضي الدولة ، وهي ليست كذلك ، ومساحتها تشكل ٣٠٪ من المساحة الكلية للأراضي المحتلة ، ويقترح المشروع إدارة مشتركة إسرائيلية - فلسطينية . المدنية للفلسطينيين واﻷمنية للإسرائيليين . (بموجب اتفاقات أوسلو أصبحت هذه النسبة ٢٢,٥٪). * الفئة الثالثة - منطقة C وتضم اﻷراضي المخصصة للمستوطنات وفق مخططات التنظيم الهيكلية الخاصة بها، والتي جرى توسيعها وإقرارها سابقا من قبل اﻹدارة المدنية اﻹسرائيلية ، وكذلك اﻷراضي التي أقيمت عليها معسكرات للجيش اﻹسرائيلي ، ومساحة هذه الفئة الثالثة تشكل ٨,٢٪ من المساحة الكلية للأراضي المحتلة ، وتكون المسؤولية المدنية واﻷمنية عليها ﻹسرائيل،(بموجب اتفاقية أوسلو أصبحت هذه النسبة ٧٥٪).
يضاف الى هذا النوع من تنازﻻت الطرف الفلسطيني، في أوسلو، نوع آخر. كان مندوب رابين الخاص في مفاوضات أوسلو السرية قد قدّم للجانب الفلسطيني ، في هذه المفاوضات ، أربعين سؤاﻻ ، طالبا اﻹجابة عليها. ويقتبس المحامي رجا شحادة ، المستشار القانوني لوفد واشنطن ، عن رابين ، في محاولة لسدّ هذه الثغرة (أي ما يتعلق بأجوبة الفلسطينيين على تلك اﻷسئلة) ما يلي، يقول رابين :" لقد وافقوا( أي الطرف الفلسطيني في أوسلو)، في أربعة موضوعات أو خمسة ، على أمور كنت أشك في أنهم سيوافقون عليها . أوﻻ،(اﻹحتفاظ بكامل) القدس تحت السيطرة اﻹسرائيلية وخارج سلطة الفلسطينيين خلال الفترة اﻹنتقالية كلها. ثانيا،(اﻹحتفاظ بكل) المستوطنات… ثالثا، المسؤولية اﻹسرائيلية اﻹجمالية عن أمن اﻹسرائيليين وعن اﻷمن الخارجي . رابعا،إبقاء كل الخيارات مفتوحة لمفاوضات الحل الدائم.:
Naseer Aruri, The Obstruction of Peace(Monroe Maine : Common Courage Press,1995),p.121
نقلا عن كتاب د. غسان الخطيب سالف الذكر).
***