[rtl]أثَر تطبيق الحدود الشرعية في الصحة النفسية للفرد والأُسرة والمجتمع [/rtl]
[rtl] لكل فرد مساحة من الحرية يتمتع بها، ولكن يجب ألاّ تتعدى حريته إلى الإضرار بالآخرين، سواء كان هذا الإضرار يتعلق بذات الآخر أو ماله أو عِرضه، أو بما يسيء إلى المجتمع ويَضُر بأمنه واستقراره. ومن ثَمّ، كان تطبيق الجزاء على من يتجاوز الحدّ في تصرف من سلوكياته، التي تضُر بالآخرين أو تسيء إليهم. فجزءٌ مهمٌّ من الصحة النفسية، أن يشعر الفرد في المجتمع، الذي يعيش فيه، بالأمان على نفسه وماله وعِرضه. كما أن الردع، الذي تحقِّقه الحدود الشرعية، يُحكِم السيطرة على الغرائز، ويوجهها الوُجهة الصحيحة. فمثلاً، حين يعرف الفرد أنه إذا وَجَّه طاقته العدوانية تجاه آخر بقتله، فإنه سوف يُقتل، قِصاصاً، فإن هذا يجعله يفكر، مَلِيّاً، قَبْل ارتكاب جريمته. وبذلك، تُرَشّد طاقة العدوان، وتتمّ السيطرة عليها وتطويعها، كما تُسهِّل احتمال الآخرين وقبولهم، وهو ما هدفت إليه الحضارات وقامت عليه، فلولا كبْت طاقة العدوان والسيطرة عليها، لتقاتل الأفراد، وانتهت تجمعاتهم إلى أنانية فردية، يتصرف فيها كل فرد كما يحلُو له، من دون مراعاة للآخرين. ولتحولَت المجتمعات الإنسانية إلى غابات يأكل القوي فيها الضعيف. لذلك، كان لا بدّ للمجتمعات من تشريعات تنظّم العلاقة بين الأفراد، ومن بين تلك التشريعات الحدود الشرعية. وهي، وإن كانت توفّر الأمان للفرد، وتُشيع السكِينة بين أفراد المجتمع، فإنها تعالج، في الوقت نفسه، الشخص المجاوز للحدّ، إذْ إنه حين يُقام عليه الحدّ، يكُون قد تطهّر وتخلّص من شعوره بالذنْب، فيعود إلى توازنه النفسي، ويبدأ صفحة جديدة من حياته، من دون لَوْم لنفسه ومعاداة لها على ما ارتكبتْه في حق الآخر، وفي حق المجتمع، وفي حق الله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي شَرَع هذه الحدود؛ لأن الصحة النفسية، هي التوافق بين مكوّنات النفس، من غرائز ( وهي النفس الأمّارة بالسوء )، والأنا العليا، التي تمثّل الضمير ( وهي النفس اللوامة ). [/rtl]
[rtl] إن المجتمع مسؤول عن أَمْن أفراده وسلامتهم، وكذلك هو مسؤول عن صحتهم، الجسدية والنفسية. ولذلك، كان لا بدّ من الضرب على أيدي المنحرفين من الشخصيات، التي تهدد أَمْن الآخرين وسلامتهم، مِثل الشخصية "المضادّة للمجتمع"، والتي تتّسم بالسلوك المضادّ للمجتمع، والمستمر بَدْءاً من الطفولة، أو من بداية المراهقة. وتكون مؤشرات مثل هذه الشخصية في الطفولة، هي الكذب والسرقة والهروب من البيت أو المدرسة، وانتهاك حقوق الآخرين، والشجارات والاعتداءات الجسمانية على الآخرين. وتستمر السلوكيات المضادّة للمجتمع في الكِبَر، فيفشل صاحب هذه الشخصية في العيش شريفاً، كفرد مسؤول في المجتمع، ويفشل في الالتزام بقوانين المجتمع أو تنفيذها، إذْ يكرِّر انتهاك هذه القوانين، ويكُون عُرضة للمساءلة القانونية. والشخص المضادّ للمجتمع سريع الاستثارة، عدواني، ويتصرف بإهمال وعدم مبالاة، ومن دون مراعاة لسلامة الآخرين، ولا يحافظ على عَلاقة زوجية أو أُسرية لمدة طويلة، ولا يشعر بِوَخْز الضمير، عندما يسيء إلى الآخرين. وغالباً ما يكُون مُدمِناً متوتراً، لا يتحمّل الإحباط، سيئ العَلاقة بالآخرين، وليس له عَلاقات حميمة. [/rtl]
إن العِقاب، الذي فرَضه الله ـ سبحانه وتعالى ـ في الحدود الشرعية، يتّسق تماماً مع النفس التي خلقها الله، وهو أعلم بطبائعها. لذلك، كان العِقاب في كل حدّ بما يكفي لردْع الآخرين، وتحقيق الأمن لأفراد المجتمع. وسنفصّل ذلك في السطور التالية، من خلال عرض موجز لكل حدّ على حِدَة.
[rtl]. حدّ القَتْل [/rtl]
[rtl] وهو يُطبق في القتل العَمْد، ( والقتل العَمْد هو: أن يُقصد القتل، وباستخدام أداة مما يقتل غالباً كالسلاح مثلاً، فالقتل هنا يختلف عما عُرف بالقتل الخطأ، فالأول عمادُه النية والقصد، أما الثاني، فلا نية فيه ولا قصد، كمَن يضرب بيده، فتُفْضي ضربته إلى القتل، مع أن اليد عادة ليست من أدوات القتل)، إذْ إن من يَقصد ويتعمّد أن يَقْتل، إنما هو، ضمناً، يقبل أن يُقْتل، لأن الأصل هي المساواة بين البشر، من حيث حق الوجود والحياة والحفاظ على النفس. وقتْل إنسان هو أفظع جُرم، يمكِن أن يرتكبه إنسان في حق نفسه، وفي حق المقتول، وفي حق المجتمع، لأنه يطلِق العنان لطاقة التدمير في داخله، أن تُمْحُو وجود إنسان آخر. وهذه الطاقة التدميرية، لو أُطلِق لها العِنان، على مستوى المجتمع، لانهدمت أسُس المجتمع، وضاعت معالم حضارته، وأصبحت كل نفس مهدَّدة بالفَناء من قِبَل آخر، عدواني النزعة والسلوك. وهذا القاتل، قبل أن يصير قاتلاً، كان لديه سيطرة على طاقته العدوانية ( التدميرية )، تَمْنعه من قَتْل الآخرين، تشبه حاجزاً نفسياً داخلياً، يحمي البشر منه. هذا الحاجز هو جزء من القِيم والضمير. ولكن حين يقصد القتل مرة واحدة، ويكسر هذا الحاجز في داخله، يصبح القتل لديه سهلاً، وتتعدد ضحاياه من البشر. وقد كان في بعض القرى أناس يحترفون القتل، لأن حاجز السيطرة في داخلهم قد انهار، وماتت لديهم أي قيمة عُليا، تَمْنعهم من التفكير في إنهاء الآخر وتدميره. بل قد يصبح القتل في هذه الحالة "احترافاً"، لذلك سُمِّي صاحبه بـ "المجرم المحترف". [/rtl]
[rtl] لذلك، كان الحَلّ الأمثل لهذا القاتل المتعمد، هو قَتْله، قِصاصاً لِمَا اقترفت يداه. وعلى الرغم من كَوْن ذلك حفاظاً على المجتمع من شروره، وأخْذاً لحقِّ من قتَله، إلاّ أنه، في الوقت عينه، تطهير له من الشعور بالذَّنْب، الذي قد يستشعره يوماً ما، حين يَصْحو ضميره، وقد ينتحر وقتها. ويقول المولى ـ عزّ وجلّ ـ في كتابه الكريم: ]وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لِعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ (البقرة: 179).[/rtl]
[rtl] ويقول الأستاذ الدكتور محمود عبدالرحمن حمودة، أستاذ الطب النفسي: " حين جلست إلى قاتل محترِف، بعد أن تاب، أخبرني أن أول مرة قَتَل فيها، كانت أصعب مرة، بعدها أصبح ينظر إلى الأجر الذي سوف يتقاضاه، لا إلى الضحية ومعاناتها. لقد شبّه نفسه بأنه أصبح آلة قَتْل، لا تَحْكُمه المشاعر ". [/rtl]
[rtl] ويقول العزيز الحكيم في القرآن الكريم: ]ومَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً متَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَاِلداً فِيهَا وغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [ (النساء: 93). ويقول المصطفى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: ] أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء[ (متفق عليه). ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ:]لنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا[ (صحيح البخاري، ومسند أحمد).[/rtl]
[rtl] أمّا في القتل الخطأ، وشبه العَمْد، فإن الأمر يختلف، إذْ إن القصد غير موجود، ولا الأداة التي تقتل غالباً ( فالقتل الخطأ لا يوجد فيه قصْد أصلاً، كأن يقصد صيداً، فيصيب إنساناً فيقتله. أمّا شِبه العَمْد، فهو أن يقصد القتل غالباً ). لذلك، انتفى القصد المرتب، الذي يستلزم إحضار أداة القتل، بل انتفي القصد أصلاً، وهو ما يعني أن القتل حدث كحالة أو رد فعلٍ مفاجئ، من دون إعمال كافٍ للعقل. فقد تكون لحظة انفعال، أفلتت خلالها سيطرة القاتل على سلوكياته، فاندفع في فعل القتل بأداة لا تقتل غالباً. وعلى الرغم من أن هذا الشخص القاتل، قد يكُون لديه جهاز للقِيم، وضمير يَحْكُم تصرفاته في المواقف الأخرى، ولكن تَنقصه السيطرة على سلوكياته في لحظة الانفعال، وليس لديه خلل عقلي. لذلك، كان عليه أن يدفع دِيَة باهظة لأَهْل القتيل، وعليه كفارة، تطهيراً لنفسه من الشعور بالذنْب، الذي اقترفه في حق نفسه، بأن قبِل، في لحظة انفعال، أن يدمر حياة إنسان آخر مثله. ويقول الدكتور حمودة : " لا أنسى تلك السيدة، التي حضرت تشكو أعراض اكتئاب نفسي، شديدة، بدأت لديها قبل ستة أشهر، في صورة ضِيق وملل وحزن، وكراهية الحياة، وشعور شديد بالذنْب، وامتناع عن تناول الطعام، ورغبة في قَتْل نفسها. واتّضح من الجلسات النفسية، أنها قَتلت، من دون أن يعرف أحد أنها قاتلة. فلقد طلبت منها جارتها أن تسترها، وتسعف معها ابنتها، التي حملت سِفَاحاً. وكانت الجارة قد أخفَت عن زوجها وأولادها سِرّ ابنتها، حين عرفت به في الشهر السادس، وانتظرت حتى اكتمل الحَمْل، وجاء وقت الولادة، واستدعت جارتها ( المريضة ) لتساعدها. وحين وُضع المولود، وقبْل أن يتنفس، كتمت السيدة ( المريضة ) أنفاسه، خوفاً من أن يخرج بكاؤه، ويسمعه والد الفتاة وإخوتها، الذين لا يَدْرون ما يحدث في البيت، داخل حجرة الفتاة. ولم تَدْرِ ( المريضة ) ما فعلت، إلاّ بعد أن تعطلت واختفت معالم الحياة في الوليد، بفعلها، فاسودت الدنيا في عينيها، حين أدركت حقيقة ما فعلت من قَتْل لنفس حرّم الله قَتْلها إلاّ بالحق، فكان الشعور بالذنْب، الذي لم تستطع البَوح به، إلاّ للطبيب النفسي، والذي كان يكمُن خَلْف الاكتئاب الشديد، الذي كانت تعانيه". [/rtl]
[rtl] أمّا القتل الخطأ، فهو إزهاق الروح من دون قصْد، أصلاً، ومن طريق الخطأ غير المقصود. مثل الشاب الذي كان يركب، مع أخيه، قطاراً ذا أبواب آلية، وكان يستند بظهره إلى أحدها، وأخوه يتدلى إلى الخارج ممسكاً بيديه أحد الأعمدة. وعندما تحرك الشاب إلى الداخل فجأة، اندفع الباب الذي كان يستند بظهره إليه فطاشت يد أخيه، ولم يستطع إمساكها، وسقط الأخ ومات. ولم يتهمه أحد، ولم يكُن يقصد ما حدث، ولكن قتْل أخيه، من جراء خطأ شارك هو فيه، أشعره بالذنْب، وأصابه الاكتئاب، وفشِل في دراسته الجامعية عامين متتاليين، إذْ كان طَيف أخيه يطيح بتركيزه وبقدرته على الاستذكار، وكان شعوره بالذنْب يقتله كل يوم، مما دفعه إلى طلب العلاج النفسي. [/rtl]
[rtl] إن القتل الخطأ يُوجِب الدِّيَة، ولكن ـ في هذه الحالة ـ لم يطالبه أحد بها، فالقتيل أخوه، ومن ثَمّ، كانت الكفارة، التي وجبت عليه، تخفيفاً لهذا الشعور بالذنْب، الذي لم تخِفّ حِدّته إلاّ بعد عدة جلسات من العلاج النفسي.
[/rtl]
[rtl]. حدّ السرقة [/rtl]
[rtl] في البلاد التي تطبِّق القوانين الوضعية ( أي غير الشرعية )، يُحبس السارق عدة أشهر أو عدة سنوات، وحين يفرَج عنه، كثيراً ما يعود إلى السرقة، إلى درجة أن المشتبه فيهم معروفون لدى رجال الشرطة، ويستدعونهم عند حدوث السرقات الجديدة لاستجوابهم، بحثاً عن السارق. وهذا يؤكد ترجيح عودة بعضهم، إن لم يكُن أغلبهم، إلى السرقة من جديد. وقد يتكرر حبْس السارق، ومع ذلك يستمر في اقتراف السرقة عدة مرات، بل إن بعضهم يَعُدّها مهنته التي يحترفها ولا يرضى عنها بديلاً. ولكن عند قطْع يد السارق، فإن الخوف على يده الأخرى، سوف يوقفه عن السرقة تماماً. والأهم من ذلك، أن كل فرد يفكر في السرقة، سوف يخاف من مثل هذا العِقاب الرادع ( قطْع اليد )، ولن يَقْرَب السرقة أصلاً، حفاظاً على جزء مهم من جسده، وهو يده التي يقضي بها حاجته، والتي هي جزء مهم من صورة الجسد لديه. إذْ إن لكل منا صورة في عقله عن جسده، هذه الصورة تبدأ في التكون منذ بَدْء إدراك الطفل لنفسه ووَعْيِه بأجزاء جسده، تلك البداية المبكرة لصورة اليد حين كان يضع جزءاً منها في فمه، ليشعر بالأمان، وحين كان يرفعها أمام عينيه، لينظر إليها، ويحركها، ويرى اهتزازها، ليتأكد أنها جزء منه، يخضع لسيطرته، بل يحرك بها الأشياء، مُحدِثاً تغييراً في ما حولَه، أو يمدها طالباً العون من الآخرين لحَمله والاهتمام به. إنها الجزء الذي يمثّل التفاعل مع ما حولَه، وأداة مهمة للتواصل غير اللفظي بين البشر. وقد لوحظ في رسوم مَرضَى الفصام العقلي للأشخاص، أنها تنقصها الأيدي، ومن ثَمّ، فإن قطْعها يمثل تهديداً عظيماً لسلامة الإنسان، جسدياً ونفسياً، الأمر الذي يَحْدُو بِمَن يفكر في السرقة على أن يتجنبها، حفاظاً على هذا الجزء المهم من الجسد. [/rtl]
[rtl] والسرقة في الطفولة عَرَض مَرضي لاضطراب السلوك، الذي ينتشر بين الأطفال بنسبة تُراوِح بين 5 و15%، وذلك لأسباب عديدة، ( منها: نَقْص الإحساس بحقوق الملكية، أو إنها طريقة لإعادة الأم المفقودة، أو فعْل عدواني، أو رغبة في الامتلاك، أو بَحْث عن شيء مفقود من جسد الأنثى، أو خوف من فقْد جزء مهمّ من الجسد لدى الذكر، أو وسيلة للبحث عن العِقاب، أو نوع من البحث عن الإثارة واستبدال لفعل جنسي، أو الانتقام من الوالدين، أو ثورة ضد سلطة الوالدين، أو الإحباط والشعور بالفشل، أو هَوَس السرقة ). أمّا السرقة في الحياة البالغة، فإنها جزء من اضطراب الشخصية "المضادة للمجتمع"، أو هوس السرقة. والفَرْق بين الحالين أن المصاب بداء هوس السرقة، يكُون لديه جهاز القِيم، الذي يشتمل على الضمير، فيلومه على فعل السرقة، ويحاول إعادة الشيء المسروق، إذْ إنه سرق تحت تأثير نزعة مَرضية، فشِل في مقاومتها، وسرق أشياءَ لا يحتاج إليها، وهو ليس في حاجة إلى قيمتها، بل قد يُلقِي بما سرقه في سلة مهملات عامة في الطريق. وغالباً ما يكُون الشخص ثَرِيّاً، ويستطيع شراء الأشياء التي سرقها. ذلك أن النزعة المَرضية التي دفعته إلى السرقة، هي الشعور بالمتعة أثناء ارتكاب فعْل السرقة. وهذا النوع من السرقة، يتمّ من دون تخطيط، ولا تُؤخَذ التوقعات في الحسبان، ومن دون مساعدة من الآخرين. بينما السرقة الإجرامية، التي يرتكبها الشخص المضادّ للمجتمع، مخطَّطة، وتُؤخَذ التوقعات في الحسبان، وقد يشترك معه آخرون، وهو يسرق أشياءَ ذات قِيمة، ينتفع بها، ولا يحاول إعادة الشيء المسروق، وحين يواجَه بفعله، فإنه يكذب وينكِر ما فعل، ولا يلوم نفسه على فعْل السرقة، ولا يشعر بالذنْب تجاه من يسرقهم. فالسرقة، في هذه الحالة، تعكس خللاً كبيراً في تركيب الشخصية، وهو نَقْص وخلل في جهاز القِيم والأخلاقيات لدى السارق. [/rtl]
[rtl] ويحكي أحد أساتذة علم النفس، في كتابه، قصة تلك السيدة، التي كانت على قدْر كبير من الجَمال، حين حضرت ومعها زوجها، وأجهشت بالبكاء وهي تحكي عن نزعة السرقة، التي تباغتها وهي في المحالّ التجارية، فتسرق ما تصل إليه يدها. ولكنها عَقِب السرقة تَحَار كيف تُعيد ما سرقته، خوفاً من أن تشير إليها أصابع الاتهام. فتعود بمسروقاتها إلى المنزل، وهي في حالة نفسية سيئة، من الشعور بالذنْب، ولوم النفس والبكاء. وحين علِم زوجها، أحضرها للعلاج النفسي، الذي كشف أن هوس السرقة لدى تلك السيدة، كان استبدالاً بمتعة حسية مفقودة في عَلاقتها الزوجية. [/rtl]
[rtl] ويحكي الأستاذ نفسه قصة فتاة في العشرين من عمرها، أحضرتها أمها، لأنها تسرق النقود من شقّة أخيها، الذي يسكن الطابق الذي يعلوهم. فقد صنعت مفتاحاً للشقّة، وأصبحت تنتهز فرصة غياب أخيها وزوجته، وتصعد لسرقة نقود أخيها شخصياً، دون نقود زوجته أو أشيائها. واكتُشِف أمرُها، لأنها كانت تصرف النقود على صديقاتها بإسراف شديد، وتشتري أشياءَ تافهة بمبالغ باهظة، فأحضرتها أمها للعلاج النفسي، الذي تبيّن خلاله، أن هذا الأخ هو الابن الوحيد لأُسرة تتألف من خَمس بنات، غير المريضة. وكانت الأم، طوال الوقت، تحب هذا الابن، وتفضّله كثيراً على أخواته البنات، وتُردِّد على مَسامعهن دائماً، أن "ظفره برقبة البنات الست"، وأنه رَجل الأُسرة وسيدهن جميعاً. لذلك، كان عداء الفتاة لأخيها يتزايد يوماً بعد يوم، خاصة أنها الأخيرة في ترتيب الأخوات. فتمّ التعبير عن العدوان تجاه أخيها برغبتها في سَلْبه ما يملك من مِيزات الرجولة ( أي عضو الرجولة )، وإزاء استحالة ذلك، استعاضت عنه بسَلْبه النقود، التي تُبرِزه كرجل قادر على الإنفاق. وفي فعْل السرقة تنفيس لمعاناتها بسبب تفضيل أخيها عليها. [/rtl]
[rtl] من القصتيْن يُلاحظ، أن فعْل السرقة المَرضي، يبحث مُقترِفه عن العلاج تحت وطأة الشعور بالذنْب وعدم الراحة النفسية. أمّا مُقترِف السرقة الإجرامى، فإنه يخطّط، ولا يكشف نفسه، وأحياناً يستيقظ ضميره، ويبحث عن التكفير، الذي قد يتمثّل في التصدق على الفقراء، أو بناء مسجد، ويتمّ ذلك سِرّاً. ويكُون الشعور بالذنْب، أحياناً، باعثاً على الاكتئاب والأَرَق ليلاً، والكوابيس وعدم الشعور بالراحة، كما حدث للشاب الذي جاوز الثلاثين بسنوات قليلة، وكان يعمل محاسباً، بأحد فروع المصارف الموجودة في أحد الفنادق الكبرى، ولجأ إلى حيلة يستولي بها على نقود النزلاء، وظل يمارسها إلى أن أصبح ثَرِيّاً. وبعد فترة من توقّفه عن السرقة وصَحْوَة ضميره، باغته الشعور بالذنْب والاكتئاب، فلجأ إلى التكفير، بالإحسان والإمعان فيه والغلوّ في الشعائر الدينية، وما إلى ذلك. ولكن سِرّه ظَلّ جاثماً على صدره، يَقُضّ مَضْجَعه بالكوابيس والأَرِق ليلاً، فكان لجوؤه إلى الطبيب النفسي.
[/rtl]
[rtl]. حدّ الزنا [/rtl]
[rtl] تُعَدّ الغريزة الجنسية إحدى الغرائز الأساسية لدى الإنسان، وهي التي تحفظ له البقاء والاستمرار، من خلال التناسل. والإنسان بعد البلوغ، تتفجّر لديه هذه الطاقة، وتصبح مُلِحّة في أن تُشْبَع. وأحد التحديات في مرحلة المراهقة، هو كبْت تلك الطاقة، وإعلاء الغريزة، تفرغاً للإجادة في التعلم أو اكتساب مهنة، حتى يصل الإنسان إلى مرحلة الرشد، ويصبح قادراً على اختيار شريكه من الجنس الآخر، يقِيم عَلاقة دائمة به، من خلال الارتباط برباط مقدّس، هو الزواج، كي يَجِد الأبناء، الذين سوف يُولَدون من خلال العَلاقة الزوجية، ظروفاً ملائمة، لرعايتهم وتنشئتهم في كَنَف أُسرة تُعِدّهم ليكُونوا أفراداً صالحين في المجتمع. وبذلك، تَكُون الأُسرة نِواة للمجتمع، تُشبِع حاجات أفرادها، وتُوفّر لهم الشعور بالأمان، وتعطيهم الرعاية اللازمة، وتُعِدّهم لحَمْل أمانة المستقبل للأُسرة والمجتمع والدولة. أمّا إذا تم إشباع الغريزة الجنسية بعد البلوغ، من خلال عَلاقة غير مشروعة، فإن هذا سوف يتبعه ميلاد أطفال السِّفَاح، غير الشرعيين، الذين لن يجدوا أُسراً في انتظارهم، وسوف يصبحون لُقَطاء، ويَكثُر أطفال الشوارع والمشردون، وغالباً ما يضطرب سلوكهم، ليهدِّدوا أمْن المجتمع واستقراره. وإذا سلّمنا بأن وسائل مَنْع الحَمْل المختلفة، قد تنجح في مَنْع الإنجاب، والحدّ من هذه الظاهرة، فإنها من ناحية أخرى، تبدد طاقة الحب في عَلاقات غير مثمرة سوى اللَّذة الوقتية، وتؤجّل العَلاقات المشروعة، التي تقِيم الأُسر، وتَهَب المجتمع أبناء يحملون أمانة مستقبله. فيتهدَّد المجتمع بالفَناء، كما هو الحال في كثير من الدول الغربية، التي يتناقص عدد سكانها، ويمثّل تعداد سكانها بيانياً، بهَرَم مقلوب قمته، وهم كِبار السِّنّ، أكثر من عدد أطفاله، وهم قاعدة الهرم. ولعلّ ما تقدّمه تلك الدول الغنية إلى دول العالم الثالث، من دَعْم لبرامج تنظيم الأُسرة، قد يكْمُن خلْفه خوفها من التفوّق العددي، الذي قد يغزوها يوماً ما. ومن ثَمّ، فإن العَلاقات الآثمة المحرّمة، تبدِّد طاقة الحب لدى الفرد، دون عائد، أو ينتج منها ولادات السِّفَاح، ويَكثُر في المجتمعات فاقِدو الأب واللُّقَطاء، فيهتز استقرار المجتمع. [/rtl]
[rtl] كما أن هذه العَلاقة المحرّمة مع امرأة متزوجة، ارتضت الارتباط بزوج، وقبِلت أن تكُون أمّاً لأولاده، وشريكة له، يجعلها تتمرد على حياتها مع زوجها، بل ترفضه جنسياً، اكتفاء بما تحقِّقه من إشباع، من خلال عَلاقة آثمة، مما يترتب عليه مشكلات، تهدِّد استقرار الأُسرة وراحة أطفالها. ويروي أحد الأطباء النفسيين قصة سيدة كانت راضية بعَلاقتها الزوجية، على الرغم من عدم الارتواء من زوجها، إذْ كانت العَلاقة الزوجية بينهما رتيبة، غير باعثة على الإثارة. استدرجها زميلها، في العمل، برضاءٍ منها، لإقامة عَلاقة به، حركت الإثارة لديها، وشعرت بالإشباع، فبدأت في رفض زوجها، عاطفياً، وافتعال المشاكل معه لأَتْفَه الأسباب، وهدَّدت بتَرْك البيت، بل تركته عدة مرات، على الرغم من أن لديها ثلاثة من الأبناء. وانعكس عدم استقرار البيت، وتوتر جوّ الأُسرة، في مرض أحد الأبناء الثلاثة، نفسياً، وتطلَّب علاجه النفسي البحث عن السبب، الذي تمثَّل في عصبية الأمِّ، وسرعة استثارتها، وعدم تحمّلها. وكان لا بدّ من علاج السبب، وهي الأمّ، التي اعترفت، خلال العلاج النفسي، بعَلاقتها غير المشروعة. ومن خلال تقوية الذات، والاستبصار بالواقع الذي تعيشه، وبتحقيق قَدْر من النضج والشعور بالمسؤولية، وَاتَتْها القدرة على قَطْع عَلاقتها غير المشروعة، حفاظاً على بيتها وأولادها. ومن خلال بعض الإرشادات المساعدة، حققت الإشباع في عَلاقتها بزوجها، وكان لذلك تأثير إيجابي في نفسيتها، إذْ إنها كانت في صراع نفسي تجاه تلك العَلاقة غير المشروعة، وكثيراً ما كانت تكتم صوت ضميرها، وتغالط نفسها. وكانت في اندفاعها وراء الغريزة، في غربة عن نفسها، وعن قِيمها التي تربّت عليها، ومن ثَمّ، بعيدة عن رَبِّها. فاللجوء إلى المتعة الوقتية، على الرغم من أنه حقق لها الارتواء الجنسي، إلا أنه أفقدها التوازن النفسي، إذْ مالت إلى الغريزة على حساب القِيم، متناسية الواقع الذي تعيشه، فاختل أداؤها لهذا الواقع، وهو حياتها الزوجية كزوجة، واختل أداؤها لدورها كأمّ، وظهر ذلك في مرض أحد أطفالها، نفسياً. [/rtl]
[rtl] وإذا كان هذا مثالاً لزنا المرأة المتزوجة، فهناك أمثلة عديدة لزنا الرجال المتزوجين، وللأسف إن بعضهم يَعُدّ هذا تأكيداً لرجولته، وأن امرأة واحدة لا تكفيه. وقد جعل الإسلام علاجاً لهذه القضية، بأن أحلّ للرجل أربعاً من النساء، يجمع بينهن. ولكن، يكُون لدى الزاني، أحياناً، عقدة الميل إلى المرأة التي تكُون في عِصمة رَجل آخر، وتلك عقدة قد تكُون من بقايا الطفولة، حين كان يتطلّع إلى أمّه ( التي هي النموذج الأول للمرأة في حياته )، وهي في عِصمة أبيه. ومن ثَمّ، فإن الإغراء، الذي يحسه تجاه المتزوجة يكُون لديه أقوى من الذي يحسه تجاه غيرها، لأن العَلاقة بها، تمثل انتصاراً على رجولة رَجل آخر، وهو ما كان يشعر بافتقاده عندما كان صغيراً، يقارن نفسه برجولة أبيه، فكان يُحْبِطه أنه ليس كفؤاً لمنافسة هذا الأب القوي. لذا، فإن عَلاقة الزنا بالمتزوجات بشكل خاص، هي إشباع وتعويض لهذا النقص، وتأكيد للرجولة المشكوك فيها، مقارنة برَجل آخر، وبحثاً عن انتصار على رَجل آخر، تعويضاً عن الانهزام السابق في الطفولة. [/rtl]
[rtl] وبافتراض وجود المجتمع، الذي يبيح الزنا، ويُعْلِي قِيمة اللّذة الوقتية على قيمة الأُسرة، فلا شك أن روابطه سوف تتفكك، ولن يعرف الأبناء آباءهم، والعكس صحيح أيضاً. الأمر الذي يترتب عليه عدم شعور الآباء بالمسؤولية تجاه هؤلاء الأبناء أو رعايتهم والعمل على رفاهيتهم، فما الذي يَدفع الرَّجل إلى الارتباط بعمل، إذا لم يشعر بمسؤولية وأهمية وجوده واستمراره من خلال أُسرة أو أبناء يرعاهم! [/rtl]
[rtl] والزنا، إضافة إلى ما يُحْدِثه من خَلَل في عَلاقة الأفراد بعضهم ببعض، ينشر الأمراض السارية، مثل الزهري والسيلان والإيدز، فيؤثر، سلباً، في الصحة الجسدية، كما يؤثر، سلباً، في الصحة النفسية. لذا، كان تحريمه ووضْع الحدّ لِمَن يخالف هذا التشريع، حتى يتجه الأفراد إلى إقامة عَلاقة مشروعة يرضى عنها الخالق ثم المجتمع، تثمر الأبناء، الذين يَجدُون من يرعاهم، ويوفر لهم الأمان، من خلال جوّ الأُسرة، التي تربّي قيماً، في أبنائها، وتُعِدّهم، من ثَمّ، للسعي مسلحين بقِيَم ومُثلٍ في حياتهم. وهكذا، تنتقل أمانة المسؤولية بين الأجيال في المجتمع الإسلامي من خلال القدوة والإعداد الملائمين للأجيال التالية. [/rtl]
[rtl] إن الإسلام بوضع حدّ للزانية والزاني، وإباحة الطلاق، وتشريع تَعدُّد الزوجات، لم يترك ثَغرة، تُبيح للإنسان اقتِراف هذا الإثم، فقد أقفل أمامه كل ما يمكِن أن يتعلّل به، تحقيقاً لراحة الإنسان النفسية، فلا يتهدَّد عرضه من رَجل آخر، ولا يُهدِّد هو عِرض رَجل آخر، ليتفرغ أفراد المجتمع لأداء أدوارهم بالمَوَدَّة والرحمة، داخل الأُسرة لرعاية أطفالها، وخارجها بإجادة أعمالهم، وبناء حضارة راقية. ولا عَجَب أن الحضارات تقُوم عندما تُرشّد الغريزة بالطُّرق المشروعة، ويتمّ التسامي، إعلاءً للقِيم، وعملاً من أَجْل المستقبل. [/rtl]
[rtl]
الشُّــذوذ [/rtl]
[rtl] وهو الخروج عن الفطرة السَّوِيَّة، وهو عمل كان يفعله قوم لوط، من إتيان الرَّجل للرَّجل. ولكنه لا يقتصر على جنس الرجال فقط، فالنساء أيضاً قد يأتين النساء، في ما يسمى بالمساحقة. ولذا، كانت تسمية ( الجنسية المِثْلِيَّة ) أو ( الجَنُوسِيَّة ) أكثر دِقَّة، لأنها تشمَل وصفاً لما يقع بين أفراد كل من الجنسين ( الرجال والنساء ) من شذوذ. وفي الجنوسية الكاملة بين الرجال، تنتقل إلى الفاعل الإيجابي، من طريق الميكروبات والفيروسات والفِطريات، أمراض عدة، أخطرها، حتى الآن، مرض الإيدز ( مرض نَقْص المناعة المُكْتَسَب )، الذي ينتقل بين الجنوسيين بصفة خاصة. وهناك تأثيرات نفسية للأفعال الجنوسية، تعتمد على الموقف النفسي للجنوسيّ من الفعل، إذْ إن بعض الجنوسيين قد يفعلون ذلك بدافع نفسي لاشعوري، ثم يلوم الشخص نفسه على الفعل بعد انتهائه، ويندم، ويعاقب نفسه على ذلك، ويَصِل عِقاب النفس، أحياناً، إلى محاولات الانتحار، وأحياناً الانتحار فعلاً. وهذا النوع من الجنوسيين هم غير المتوافقين مع الجنوسية، إذْ يرغب كل منهم أن يكُون طبيعياً في ميوله، ولكن تَغْلِبه ميوله المِثلية ( أي تجاه أفراد جنسه )، ويسبب له ذلك معاناة نفسية فيشعر أنه ليس كبقية أفراد جنسه، ويشعر بأنه شاذّ، ويُكثِر من لوم نفسه، وينعزل ويَكتَئِب، ويفشل في إقامة عَلاقة مشروعة، من خلال الزواج، على الرغم من أن لديه رغبة في الزواج وإنجاب أبناء وتكوين أُسرة. [/rtl]
[rtl] وهناك أمثلة عديدة لشباب عانوا هذا الاضطراب، ومَثُلوا للعلاج النفسي. ويذكر أحد أساتذة علم النفس، مِثالين، من هذا الاضطراب: [/rtl]
- شاب في الثالثة والثلاثين من عمره، ومن أُسرة محافظة ومتديِّنة، وحاصل على مُؤَهّل جامعي، ويعمل في وظيفة مناسبة، تُلِحّ عليه أُسرته أن يرتبط بفتاة في خطوبة تمهيداً للزواج، وهو يرفض كل فتاة تُعرَض عليه، باختلاق عيب فيها، أو يتعلّل بعدم الارتياح إليها. وإزاء كَثْرَة إلحاح أُسرته عليه، حضر للعلاج النفسي، سِرّاً، من دون عِلم أُسرته، فأَفْضَى بسِرّه إلى الطبيب النفسي، وهو أنه لا يميل إلى جنس النساء، ويفضّل عليهن الرجال، ولكنه يعلم أن هذا الميل حرام، وغير مقبول، أخلاقياً واجتماعياً، فكان يكتم ميوله هذه وكان صراعه داخلياً ومعاناته ذاتية، ولا يقدر على الارتباط بأيّ من الفتيات، اللائِي عُرِضْنَ عليه. وهو وإن لم يرتكب عملاً جنوسياً بعد البلوغ، ولكن كان له خبرات جنسية مِثلية في الطفولة مع رفاقه من الصِّبْيَة، وعندما وصل البلوغ، عرف أن الجنوسية حرام، وأنها من فعل قوم لوط، الذين خُسِفَت بهم قريتهم من جرّاء تلك الفَعْلَة، فلم يَقْرَبها على الرغم من ميله إليها. ونظراً إلى قوة بناء جهاز القِيم لديه، ورغبته في العلاج، كان علاجه النفسي ميسوراً، وشُفِي، وتزوج فعلاً، وكوّن أُسرة.
- شاب في السابعة والعشرين من عمره، يحمل مُؤَهّلاً متوسطاً، ويعمل موظفاً في إحدى المصالح الحكومية، يقف على محطات الحافلات، ينظر إلى الرجال بصفة خاصة، حتى إذا وجد من لديه ميول مشابهه، ظَلاّ يتبادلان النظرات، ثم يتبع أحدهما الآخر إلى مكان يناسب الجنوسية الكاملة، التي يمارسها، حتى إذا ما انتهي من فَعْلَته، لا ينظر إلى وَجْه رفيقه، ويمضي مسرعاً، شاعراً بالخجل والمهانة والذلة. وعلى الرغم من ذلك، يعود مرة أخرى، ليكرّر فَعْلَته بعد فترة من الزمن. وبعد عدة أشهر، بدأ يَضِيق بهذا السلوك الجنوسي الرخيص، خاصة عندما بدا له أن زميلة في العمل، تميل إليه، وترغب في الاقتران به، وهو لا يجِد في نفسه ميلاً تجاه النساء. وعلى الرغم من أنه حضر للعلاج، إلا أن اللقاءات الشاذّة، كانت تُضعِف من إرادته واستمراره في العلاج. لأن الزواج يتطلّب منه عملاً موجباً، لا يقدِر عليه، ولا يشعر بميل إلى أدائه.
[rtl]ولعلّنا نتساءل: ما الذي يَحدُث في البناء النفسي للشخص، ويجعله جنوسياً بهذا الشكل؟ [/rtl]
[rtl] إن الإنسان يمرّ، في نموّه النفسي، بمرحلة حُبّ الذات والانشغال بها وبحاجاتها، بعيداً عن العالَم، وهو ما يطلق عليه النرجسية الأولية. ثم ينمو إلى مرحلة أخرى، وهي حُبّ المَثيل أو الشبيه، وهي مرحلة الانتماء إلى الجماعات من الجنس نفسه، في المرحلة الابتدائية. فيلعب الصبيّ مع الصبيان وتلعب البنت مع البنات. وقد يمارس الشذوذ في هذه المرحلة، وقد يجلب لذّة للطفل، وقد يعتادها الطفل في غياب التوجيه من الأهل. ويزيد الأمر سوءاً أن يكُون من يمارس الشذوذ مع الطفل شخصاً بالغاً، فيُوصِل إلى الطفل رسالة مفادها أن هذا الشذوذ أمر مرغوب فيه من الأشخاص البالغين، ولكنه يتمّ سِرّاً. ويحاول أن يظهر للطفل حُبّاً واهتماماً هو في حاجة إليهما، فيرتبط فعل الجنسية المِثلية بالحصول على الحُبّ والاهتمام. وبتكرار ذلك، يَثْبُت في نفس الطفل هذا الارتباط، ويصبح جزءاً من تكوينه النفسي، ويتوقف النمو النفسي للحُبّ لدى الطفل عند هذه المرحلة، والذي كان يجب أن ينتقل إلى المرحلة الثالثة، وهي حُبّ الجنس الآخر ( المغاير )، الذي يبزغ مع بداية البلوغ، تحت تأثير الهرمونات الجنسية. ولكن التوقف عند المرحلة السابقة، كما هو واضح، يُثبّت مشاعر الغريزة تجاه الجنس عينه، ويظل الفيصل بعد ذلك جهاز القِيم لديه، هل يتوافق مع طريقة الإشباع هذه للغريزة ؟ أو أنه لا يقبَل بذلك؟ [/rtl]
[rtl] وإذا كان جهاز القِيم لدى الشخص لا يقبَل بذلك، فهذا هو النوع غير المتّسق مع الذات، إذْ يرفض الشخص شذوذه، وهو ما تَحدَّثنا عنه في السطور السابقة. أمّا إذا كان جهاز القِيم لدى الشخص قابلاً لهذه الطريقة الشاذّة لإشباع الغريزة، فهذه هي الجنوسية المتّسقة مع الذات. والمُصابون بها ليس لديهم مشكلة مع أنفسهم، ولكن مشكلاتهم مع المجتمع، الذي يَصِمهم بالشذوذ، ويرفضهم. وقد تكوّنت لهم جماعات في بعض دول العالَم، بل أصبحوا يمارسون ضغوطاً انتخابية لِكَسْب التأييد من السلطة المرشَّحة، بل أصبح لضغطهم صدًى إلى درجة أن شذوذهم ( الذي من هذا النوع ) تم حَذْفه من نطاق الانحرافات الجنسية النفسية في بعض التصنيفات للأمراض النفسية، كخطـوة للاعتراف بأن ممارستهم الجنوسية طبيعيـة، وليست شـاذة. وهـذا النوع من الجنوسيين لا يَشْكُون ولا يطلبون العلاج، إلا إذا اصطدموا بتشريعات المجتمع. [/rtl]
[rtl] إن إقامة الحدود في كل حالات الزنا أو الشذوذ، تساعد الفرد على تجنّب تلك الجرائم، وتُعِينه على أن يسيطر على الغريزة الجنسية، التي تُعَدّ من أقوى الغرائز، وذلك لأن الإنسان يُمكِنه أن يزين لنفسه طريق الفضيلة، كما يُمكِنه أن يزين لها طريق الرذيلة، وذلك من طريق تفكيره الهادف، الذي يتجه به إلى ما يشاء. فتفكير الإنسان السَّويّ يخضع لإرادته، ويُمكِنه أن يوجهه إلى تخيّل الحلال ومعايشته بدلاً من الحرام، خاصة إذا حافظ على المدخلات الحسية إلى عقله، من طريق السمع والبصر وباقي الحواس الخمس، بعيدة عما يؤدّي إلى المحرّمات. وإذا أَمكَن أن يتجنب الفرد ما يَضُرّ بصحته النفسية، ففي ذلك حفاظ أيضاً على وحدة بناء المجتمع، وهي الأُسرة، وسوف ينعكس هذا، بلا شك، على المجتمع ككل. ويأمن المسلمون على أعراضهم، ويَسْمُون بالغريزة، فتتجه طاقاتهم إلى بناء الحضارة المرجوّة لأُمّة هي "خير أُمّة أخرجت للناس".[/rtl]