|
| قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 8:49 am | |
| |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 8:50 am | |
| مقدّمة المترجم
انتشرت بين العربِ في العصر الحديثِ فكرةُ وجودِ مؤامرةٍ غربيّةٍ ضدَّهم؛ ثمّ انقسمَ المثقفون إلى فئتين: فئةٍ لا تزالُ تعزو للمؤامرة كلَّ مشاكلنا، وفئةٍ ترفضُ وجودَها وتردُّ مشاكلنا إلى قصورٍ فينا أو تقصيرٍ منا. ولعلّ فكرةَ المؤامرة هذه ظهرت بظهور الاستعمارِ الغربيِّ للوطنِ العربيّ، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى التي تقوّضت على أثرها الدولةُ العثمانية، فاتحةً البابَ للاستعمار البريطانيِّ في المشرق العربي.
على أنّ التطرُّف في الحالين ممقوت. فلا يجوز لنا أن نكتفي بملامة الاستعمار في كلِّ مشكلةٍ نواجهُها؛ لكننا في الوقت ذاته لا يجوزُ أنْ ننسى ما يفعلُه الاستعماريون لنا في الحاضر ولا ما يُخططون لفعله في المستقبل. والمؤامرةُ تعريفا تعني التخطيط، وإنْ كان تخطيطاً لعملٍ خبيثٍ مكتوم. ومما لا شكَّ فيه أنّ الغربَ الإمبرياليَّ لا يُضمرُ الخير لنا، لأن مثل هذا الخير يتناقضُ بالضرورة مع مصالحه. والمصالحُ في السياسةِ هي الفيصل؛ والخيرُ – كما الشرُّ – ينطوي على عاطفة، ولا مكانَ في السياسة للعاطفةِ. بلى، يُريدُنا الغربُ أتباعاً مُطيعين، نفتحُ له مواردَنا الطبيعيةَ ليستغلَّها على هواه، وأسواقَنا ليُصرِّفَ فيها منتجاتِ صناعته، وعقولَنا ليزرعَ فيها لغته وثقافته. ولا يتأتَّى له هذا إلا بقهر إرادتنا بتنصيبِ حكام مستبدّين يُؤمِّنون له الطريق. وهنا تبدأ جدليةُ الإرادةِ الذاتيةِ وفعلِ المؤامرة، أيُّهما يفعل فينا فعلَه.
لعلّ أكثرَ ما حمل مثقفينا على تبني فكرةِ المؤامرةِ مواقفُ الحكامِ العربِ الممالئين للغرب، إعجاباً أو استخذاءً، خاصةً بعد الحرب العالمية الأولى، بالرغم من الخديعة الكبرى التي خدعتهم بها بريطانيا وفرنسا، يوم اتفقتا على اقتسام غنائم الحرب في ما بينهما، فأبرمتا معاهدة سايكس-بيكو (16 أيّار 1916) التي قُسِّم بموجبها الهلالُ الخصيب إلى خمس دول، كانت حصةُ فرنسا منها شمالَ بلاد الشام، وحصةُ بريطانيا العراقَ وجنوبَ بلاد الشام. وفي العام التالي للمعاهدة، في 2 تشرين الثاني 1917، أصدر وزيرُ خارجية بريطانيا، آرثَر جِمس بَلفور، “إعلانه” المسمى وعد بلفور، يعدُ فيه يهودَ أوربا الصهاينةَ بتسهيل هجرتِهم إلى فلسطين لإقامة دولةٍ يهوديةٍ عليها، مُعتبرا سكانَها الأصليين محضَ طوائفَ غيرِ يهودية. ولم يكن الدافعُ وراء هذا الوعد – الذي عُزِّز بالعمل لاحقا – أن الحكومةَ البريطانيةَ شعرت بالشفقةِ على حال اليهود بسبب اضطهاد مسيحيي أوربا لهم، بل لأنّ تلك الحكومةَ كانت ترى في زراعةِ هذا الجسم السرطانيِّ الغريبِ في خاصرةِ الوطنِ العربيِّ وسيلةً لاستنزاف العرب وإعاقةِ قيام دولة عربيةٍ موحدةٍ لن تكون في صالح الإمبرياليةِ البريطانيةِ ومطامعِها في الوطن العربيّ. كلُّ هذا بينما كان عربُ المشرق يعتبرون بريطانيا حليفتَهم في ثورتهم على الحكم العثمانيّ، تساعدهم في إقامة دولتهم الموحّدة، ويساعدونها في حربها على العثمانيين والألمان. تلك، إذاً، مؤامرةٌ لا لبس فيها. فكيف لنا أن نظنَّ أنّ المؤامرةَ ليست موجودةً إلا في عقولنا؟
هذا الكتابُ كتبه الأمريكيّ جون بيركنز سرداً لتجربتِه الشخصية. وهو توكيدٌ واضحٌ على المؤامرةِ الأمريكيةِ على شعوبِ العالمِ الثالثِ المستضعَفِ الذي تريد أن تطويه الإمبراطوريةُ الأمريكية تحت جناحها. صحيحٌ أن الكاتبَ في آخر الكتاب لا يراها مؤامرة، لكنه يُفسّرُها بطريقته التي تُفضي في نهاية المطافِ إلى السوء ذاته، لا على العالم الثالث وحده، بل على الولايات المتحدة أيضا.
جوهرُ الكتابِ شرحٌ لأسلوب الولايات المتحدة الحديث في بناء إمبراطوريتها، وإخضاع العالم لها. وهو يختلفُ عن الأسلوبِ الإمبرياليِّ القديم في أنه لا يلجأ للقوة العسكرية إلا بعد استنفادِ وسيلتين يُسهبُ الكاتبُ في شرحهما، باعتبار أنه كان واحدا من “القتلة الاقتصاديين”، وهو تعبير كان متبعاً رسميا حين دُرِّبَ على وظيفته. وقد لخّص الكاتبُ مهمته بقوله: كانت وظيفتي “أن أُشجِّعَ زعماء العالم على الوقوع في شَرَكِ قروضٍ تؤمِّنُ ولاءهم. وبهذا يُمكننا ابتزازُهم متى شئنا لتأمين حاجاتِنا السياسية والاقتصادية والعسكرية.”
فإذا رفض حاكمُ دولةٍ ما غوايةَ القتلة الاقتصاديين، تحرّك للعمل من يُسمًّوْن الواويات (بنات آوى). وهؤلاء مجرمون محترفون مهمتُهم تصفيةُ الحاكمِ العنيدِ تصفيةً جسدية، أو الإطاحةُ به والإتيانُ بحاكم مُطيع. وقد كان هذا مصيرَ جيم رُلْدُس، رئيس الإكوادور، وعمر توريجُس، رئيس بنما، اللذين اغتيلا في حادثِ تحطم طائرتيهما واحتراقهما. أما في العراق، كما يقولُ الكاتب، فقد فشلَ القتلةُ الاقتصاديون وبناتُ آوى جميعاً، لذلك لم تجدْ الولاياتُ المتحدة سبيلا لإخضاعه سوى باحتلاله عسكريا. ذلك، حسب تعبير الكاتب، أن “العراقَ مهمٌّ جدا لنا، أهمُّ بكثيرٍ مما هو ظاهرٌ على السطح.” بلى، كانت الحربُ على العراق للسيطرةِ على نفطه وموقعِه الجغراسيّ المهمّ، بغضِّ النظر عن الذرائع التي سيقت في الحربين.
يُطالبُ الكاتبُ الشعبَ الأمريكي بأن يتحرّك، لأنّ جشعَ حكامِه، وهم من يُمثِّلون مصالح الشركات الكبرى، يزيدُ من حقد العالم على الولايات المتحدة وكرهه لها، وهو ما يقود إلى أعمال الإرهاب ضد الشعب الأمريكيّ وفي عقر داره، كما حدث في الحادي عشرَ من أيلول، 2001.
فهل نقعدُ نحنُ بانتظار أنْ تتحسّنَ أخلاقُ الساسةِ الأمريكيين فيكفُّوا شرّهم عنا؟
بسام شفيق أبوغزالة
عمّان: 1 كانون الثاني 2010
(أ)
تمهيد
القتلة الاقتصاديون رجال محترفون يتقاضون أجراً عاليا لخداع دول العالم بابتزاز ترليونات الدولارات. وهم بهذا يحوِّلون الأموالَ من البنك الدولي، ومن الوكالة الأمريكية للتنمية العالمية، ومن منظمات “مساعداتٍ” أجنبية أخرى، لتصبَّ أخيراً في خزائن الشركات الضخمة وجيوب قلةٍ من الأسر الغنية التي تتحكم بموارد الأرض الطبيعية. وسبيلهم إلى ذلك تقاريرُ مالية محتالة، وانتخاباتٌ مُزوَّرة، ورشاوى، وابتزاز، وغواية جنس، وجرائم قتل. إنهم يمارسون لعبةً قديمةً قِدَمَ الإمبراطوريات، ولكنها لعبةٌ اتخذت في هذا الزمن العولمي أبعاداً جديدة رهيبة.
بلى، لقد كنت واحداً من هؤلاء.
كتبتُ هذا الكلام عام 1982، كبداية لكتاب اتخذت له عنوان ضمير قاتل اقتصادي. وكنتُ كَرَّستُ هذا الكتابَ لرئيسي دولتين كانا من زبائني، وكنتُ أحترمُهما وأرى فيهما روحين متآلفتين – أعني جيم رُلْدُس، رئيس الإكوادور، وعمر توريجُس، رئيس بنما، وقد قُتِلَ كلٌّ منهما في تحطم طائرتيهما واحتراقهما. وما كان ذلك بحادث عارض، بل اغتيلا لمعارضتهما أُخوَّةَ الشركات والحكومة ومدراء البنوك، الذين كان هدفهم إقامة الإمبراطورية العالمية. وإذ فشلنا، نحن القتلةَ الاقتصاديين، في تدجين رُلْدُس وتوريجُس، تولَّى الأمرَ الفريقُ الآخرُ من القتلة، أعنى أبناء آوى التابعين لوكالة الاستخبار المركزية.
ولقد أقنعني بعضُهم بأنْ أكفَّ عن كتابة ذلك الكتاب. بَيْدَ أني شرعتُ في كتابته أربعَ مرات أخرى خلال العشرين سنة القادمة. وفي كل مناسبة كان قراري بشروعي ثانية في الكتابة لتأثُّري بالأحداث العالمية الجارية: غزو الولايات المتحدة لبنما، وحرب الخليج الأولى، والصومال، وبروز أسامة بن لادن. غير أنّ التهديدات والرشاوى كانت دائما تُقنعُني بالتوقف.
في العام 2003، قرأ مديرُ دار نشر كبرى تملكُها شركةٌ عالميةٌ قويةٌ مخطوطةَ ما أصبح اليوم اعترافات قاتل اقتصادي. وقد وصفها بقوله “إنها قصة مثيرة تستحقُّ الرواية.” لكنه ابتسم لي بحزن، وهزَّ رأسه، وقال إنه لا يستطيع المجازفة بنشرها لأن المتنفذين في مراكز قيادة العالم قد يعترضون. وقد اقترح عليّ أنْ أُحوِّلَها إلى رواية خيالية، عندها “نستطيع تسويقَكَ باعتبارك روائيا مثل جون لو كاريه أو غْراهَم غْرين.”
لكنها ليست من صنع الخيال. إنها قصة حياتي الحقيقية. ولقد وافق على مساعدتي في قولها ناشر شجاع لا علاقة له بشركة عالمية.
لا بدّ لهذه القصة من أن تُروى. ذلك أننا نعيش في زمن الأزمات الرهيبة – والفرص الضخمة. وقصة هذا القاتل الاقتصادي بالذات إنما تروي كيف وصلنا إلى حيث نحن ولماذا نواجهُ اليوم أزماتٍ تبدو عصية على الحل. لا بدّ لهذه القصة من أن تُروى لأننا بفهم أخطائنا السابقة فقط نستطيع الاستفادة من الفرص القادمة؛ لأن ضربةَ الحادي عشر من أيلول والحربَ الثانية على العراق حدثتا؛ لأنه، بالإضافة إلى الثلاثة الآلاف الذين قُتِلوا في 11 أيلول 2001 على أيدي الإرهابيين، مات أربعة وعشرون ألفا آخرون بسبب الجوع وما يتأتى عنه. والحقيقة أن أربعة وعشرين ألفا يموتون كل يوم لعجزهم عن الحصول على ما يسد رمقهم من قوت.[i] والأهم من ذلك أن هذه القصة يجبُ أن تُروَى لأن ثمة اليوم، لأول مرة في التاريخ، دولةً تملك القدرة والمال والقوة لتغيير ذلك كله. إنها الدولة التي وُلدتُ فيها والتي خدمتُها كقاتل اقتصادي، أعني الولايات المتحدة الأمريكية.
ما الذي أقنعني أخيرا بأنْ أتجاهل التهديداتِ والرشاوى؟
جوابي الموجز هو أن ابنتي الوحيدة، جيسيكا، تخرجت من الجامعة، وهاهي ذي تخرجُ إلى العالم مسؤولةً عن نفسِها. وحين قلت لها حديثاً إنني أفكر في نشر هذا الكتاب مُعرباً لها عن مخاوفي، قالت، “لا تخف يا أبي، إن هم نالوا منك، فسوف أتولى الأمرَ من حيث انتهيت. إننا في حاجة إلى القيام بهذا لأجل الأحفاد الذين سأقدِّمُهم لك يوما ما.”
أما السبب الأهم فذو علاقةٍ بإخلاصي المتفاني للبلد الذي ترعرعتُ فيه، ولعشقي للمُثُلِ التي نادى بها آباؤنا المؤسِّسون، ولالتزامي العميق بالجمهورية الأمريكية التي تعد اليوم بـ”الحياة والحرية ونشدان السعادة” للناس قاطبةً وفي كل مكان، ولتصميمي بعد الحادي عشر من أيلول ألا أقعد عاجزا مرة أخرى بينما يُحوِّلُ القتلةُ الاقتصاديون تلك الجمهورية إلى إمبراطورية عالمية. هذه هي الصيغة الهيكلية للجواب الطويل؛ أما اللحم والدم فسوف يضافان في الفصول التالية.
هذه قصة حقيقية عشتُ كلَّ دقيقةٍ فيها. وما أصف من مشاهد، وأناس، ومحادثات، ومشاعر، كانت كلُّها جزءاً من حياتي. إنها قصتي الشخصية، لكنها حدثت ضمن السياق الأكبر للأحداث العالمية التي شكلت تاريخنا، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم وتشكِّلُ أساس مستقبل أطفالنا. وقد بذلت ما أوتيتُ من جهد لأقدم بدقة هؤلاء الناس وهذه التجارب والمحادثات. وحين أبحث الأحداث التاريخية أو أسترجعُ محادثات مع أناس آخرين، أفعل ذلك مستعينا بأدوات عديدة: الوثائق المنشورة؛ السجلات والمذكرات الشخصية؛ ذكرياتي وذكريات غيري من المشاركين؛ المخطوطات الخمس التي بدأتُها سابقا؛ التقارير التاريخية لمؤلفين آخرين، وبصورة خاصة تلك المنشورة حديثا وتكشف عن معلومات كانت في السابق محجورا عليها أو غير متوافرة. أما المراجع، فمثبتة في الهوامش لتعطي الفرصة للقراء المهتمين في متابعة هذه المواضيع بمزيد من التعمق. ولتيسير تدفق السرد في بعض الحالات، كنتُ أعمد إلى جمع عدة محاورات مع شخص ما في محادثة واحدة.
تساءل ناشر الكتاب إن كنا حقيقة نصف أنفسنا بالقتلة الاقتصاديين، فأجبتُ بنعم، وإن كان ذلك باستخدام الأحرف الأولى من هذا التعبير.* والحقيقة أن مُدَرِّبَتي كلودين، يوم بدأتُ معها عام 1971، قالت لي، “مهمتي هي أن أُشكِّلَكَ لتصبح قاتلا اقتصاديا. وليس لأحدٍ أن يعرفَ ما تفعل – حتى زوجتك.” ثم تحوَّلت إلى الجدِّ وقالت، “حين تدخل، تدخل إلى الأبد.”
دورُ كلودين مَثَلٌ رائعٌ للتلاعب الذي يقوم عليه العمل الذي انضممتُ إليه. فقد كانت، إلى حُسنها وذكائها، فعالةً جدا؛ أدركتْ نقاط ضعفي واستخدمتْها لصالحها إلى أقصى حد. فوظيفتها والطريقة التي تؤديها تمثِّلُ حذقَ أولئك القوم القابعين وراء هذا النظام.
كانت كلودين واضحةً تماما في وصف ما كان سيُطلَبُ مني عملُه. فقد قالت، إن وظيفتي “أن أُشجِّعَ زعماء العالم على الوقوع في شَرَكِ قروضٍ تؤمِّنُ ولاءهم. وبهذا يُمكننا ابتزازُهم متى شئنا لتأمين حاجاتِنا السياسية والاقتصادية والعسكرية. مقابل ذلك يُمكنُهم دعمُ أوضاعهم السياسية بجلب حدائقَ صناعيةٍ ومحطاتٍ كهربائيةٍ ومطاراتٍ لشعوبهم، فيغدو أصحابُ شركات الهندسة والإنشاءات الأمريكية أثرياء بصورة خرافية.”
واليوم نرى النتائج المسعورةَ لهذا النظام. نرى مدراء تنفيذيين في أكثر شركاتنا احتراماً يستخدمون أناساً في آسيا بأجور تقرب من الاستعباد لكي يكدحوا في ظروف غير إنسانية. نرى شركات النفط تضخ السموم بلا اكتراثٍ في أنهار الغابات المطيرة، فتقتل الإنسان والحيوان والنبات، وترتكب الإبادة الجماعية بين الحضارات القديمة، وهي واعيةٌ لما تفعل. نرى الصناعاتِ الدوائيةَ تضنُّ بالأدوية المنقذةِ لحياة المصابين في أفريقيا بالفيروس المسبب لنقص المناعة المكتسبة. نرى في بلدنا، الولايات المتحدة، اثني عشر مليون أسرةٍ قلقةً على وجبة طعامها القادمة.[ii] نرى صناعة الطاقة تخلق شركة على شاكلة إنرون، وصناعة الحسابات تخلق شركة على شاكلة أنديرسَن. نرى أن معدل الدخل لخُمس سكان العالم في أغنى الدول مقارنة بخُمسهم في أفقرها قد تغيرت من 30 إلى 1 عام 1960 إلى 74 إلى 1 عام 1995.[iii] نرى أن الولايات المتحدة تنفقُ أكثر من 87 مليار دولار لشن حرب على العراق بينما تُقدر الأمم المتحدة أننا بأقلَّ من نصف هذا المبلغ نستطيع تأمين الماء النقيّ، والغذاء الكافي، وخدمات الصرف الصحي، والتعليم الأساسي لكل فرد على وجه الأرض.[iv]
ثم نستغرب كيف يهاجمنا الإرهابيون.
يُلقي بعض الناس باللائمة على مؤامرة منظمة؛ وليت الأمر بهذه البساطة. فالمتآمرون يُمكن اجتثاثهم وجلبهم للعدالة. بَيْدَ أن هذا النظام يتغذى على ما هو أخطر من المؤامرة، وهو ليس منقادا لثلة صغيرة من الرجال، بل لفكرة باتت مقبولة كأنها تنزيل مقدس؛ فحواها أن كل نموٍّ اقتصادي ينفع الجنس البشري، وكلما كان النموُّ أكبر كانت الفائدة أعمّ. ولهذا الاعتقاد نتيجة طبيعية: أن الذين يتفوقون في جني مكاسب النموِّ الاقتصاديِّ يُعلَى من شأنهم ويكافئون، بينما المولودون في الأطراف مُقَدَّرٌ عليهم أن يكونوا ضحيةَ الاستغلال.
هذه الفكرة، بطبيعة الحال، خاطئة. فنحن نعلم أن النموَّ الاقتصاديَّ في الكثرة من البلدان لا يُفيد إلا جزءاً صغيرا فقط من السكان، بل قد يورثُ حالاتٍ متزايدةً من اليأس لدى الأغلبية. ويُقوَّى هذا الأثر بالاعتقاد الملازم له أن لا بدَّ لقادة الصناعة الذين يُسيِّرون هذا النظام من أن يتمتعوا بمركز خاص، وهو اعتقاد يُشكِّلُ أصل الكثير من مشاكلنا؛ ولعله السبب أيضا وراء انتشار نظريات المؤامرة. فحين يُكافأُ الرجال والنساء على الجشع، يغدو الجشعُ حافزا مُفسدا؛ وحين نعتبر الاستهلاك الجشع لموارد الأرض عملا نبيلا، ونُعَلِّمُ أطفالنا أن يُحاكوا أناسا يعيشون حياة غير متوازنة، ونحكم على قطاعات ضخمة من السكان أن يكونوا خدما لأقلية من النخبة، فإننا نبحث عن المتاعب، وننالها.
في سعيها للوصول إلى الإمبراطورية العالمية، تستخدم الشركاتُ والبنوكُ والحكوماتُ (أي معا “سلطة الشركات”*) عضلاتِها الماليةَ والسياسيةَ لتجعل مدارسنا وأعمالنا ووسائل اتصالنا داعمة لتلك الفكرة المُضلِّلة وما يتأتى عنها. وقد أوصلتنا إلى حدٍّ أصبحت فيه ثقافتنا العالمية آلة رهيبة تتطلب بصورة متزايدة كمياتٍ متزايدةً من الوقود والصيانة بحيث تستهلك في النهاية كلَّ شيء أمامها، ثم لا تجد بُدًّا من أن تلتهم نفسها.
وسلطة الشركات هذه ليست مؤامرة؛ بل إن أعضاءها متفقون قطعا على قيم وأهداف مشتركة. وأهم مهامِّ هذه السلطة أن تُديم ذلك النظامَ وتستمرَّ في توسيعه وتقويته. أما حياة “صانعيه” وما يملكون من قصور ومراكبِ ترفيهٍ وطائراتٍ خاصةٍ، فتُقدَّمُ كأمثلةٍ لحثنا جميعاً على الاستهلاك، والاستهلاك، والاستهلاك. وتُقتَنَصُ كلُّ فرصةٍ لإقناعنا بأن شراءَ الأشياء واجبٌ مدني، ونهبَ الأرض جيدٌ للاقتصاد، وهو لذلك يخدم مصالحنا العليا. وتُدفعُ لأمثالي رواتبُ عاليةٌ بصورة مُفرطة لنعرضَ بما يُقدِّمُه النظام. فإنْ فشلنا في مهمتنا، دخلَ الحلبةَ صنفٌ من القتلةِ أشدُّ مكرا، هو ابنُ آوى. فإن فشل ابنُ آوى، تولى العسكرُ المهمة.
هذا الكتابُ، يوم كنتُ قاتلا اقتصاديا، هو اعترافُ رجل كان جزءاً من مجموعةٍ صغيرةٍ نسبيا. أما اليوم فإن من يقومون بأدوار مشابهةٍ أصبحوا أكبر عددا، ويحملون مسمياتٍ أجملَ، ويتجوَّلون في ردهات شركات من مثل مُنسانتو، وجنرال إلكترك، ونايك، وجنرال موتورز، وولمارت، وجميع الشركات الكبرى الأخرى في العالم. و”اعترافات قاتل اقتصادي” بمعناها الحقيقي هي قصتهم جميعاً كما هي قصتي.
إنها قصتُك أيضاً، قصة عالَمِكَ وعالَمي، قصة الإمبراطورية العالمية الحقيقية. ويُعلّمُنا التاريخ أنه ما لم نُعدِّلْ هذه القصةَ، فمن المؤكَّدِ أنها ستنتهي بصورة مأساوية. ذلك أنَّ الإمبراطوريات لا تخلد؛ وقد سقطت جميعُها بصورةٍ فظيعة. إنها، في مسعاها إلى مزيد من السيطرة، تُدمِّرُ العديدَ من الحضاراتِ، ثمّ بدورِها ينالها السقوط. وما من دولةٍ أو مجموعةٍ من الدول يُمكن في المدى البعيدِ أنْ تزدهرَ باستغلال غيرها.
وقد كُتِبَ هذا الكتابُ لكي نتعظ ونعيد تشكيل قصتنا. وإني لواثقٌ من أنه حين يُصبحُ العديدُ منا على علم بكيفية استغلالنا من قِبَلِ الآلة الاقتصادية التي تبتدعُ شهيةً لموارد العالم لا تشبع، وتُنتِجُ أنظمةً ترعى العبوديةَ، فلن نتحمَّلها أكثر مما تحمَّلْنا. سوف نُعيدُ تقييم دورنا في عالمٍ تسبحُ أقليتُه في الثراء بينما تغرقُ أغلبيته في الفقر والتلوِّثِ والعنف. سوف نُلزم أنفسنا بالمضيِّ قُدُماً في سبيل المحبة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية للجميع.
إن الاعتراف بالمشكلة لهو الخطوة الأولى نحو حلها. كما أنّ الاعتراف بالخطيئة بداية الصلاح. فلْيكنْ هذا الكتابُ بداية خلاصنا؛ ولْيكن هاديا لنا إلى مستويات جديدة من التفاني؛ وليقُدْنا إلى تحقيق أحلامنا في مجتمعات متوازنة ذات كرامة.
ما كان لهذا الكتاب أن يُكتب من غير الكثرة من الناس الذين شاركتُهم حياتهم والذين أوردتُ أوصافَهم في الصفحات التالية. فلهم الشكر لما قدموا لي من خبرات ودروس.
كذلك أشكر أولئك الذين شجعوني على الإقدام على رواية قصتي: ستيفن رِشتشافن (Stephan Rechtschaffen)، بل ولِن توِست (Bill and Lynne Twist)، آن كِمب (Ann Kemp)، آرت روفي (Art Roffey)، والكثيرين ممن شاركوا في رحلات وورشات “تغيير الحلم”، خاصة إيف بروس (Eve Bruce)، ولِن روبرتس-هارِك (Lyn Roberts-Harrick)، وماري تِندول (Mary Tendall)، وزوجتي وشريكتي الرائعة لخمسة وعشرين عاما، وِنِفْرِد (Winifred)، وابنتنا جيسيكا (Jessica).
كما أشكر الكثرة من الرجال والنساء الذين قدّموا لي أفكاراً عميقة شخصية ومعلومات عن المصارف متعددة الجنسيات، والشركات العالمية، وتلميحات سياسية عن مختلف الدول، وأخص بالشكر مايكل بن-إلاي (Michael Ben-Eli)، وسابرينا بولوني (Sabrina Bologni)، وجوان غابرييل كرّاسكو (Juan Gabriel Carrasco)، وجامي غرانت (Jamie Grant)، وبول شو (Paul Shaw)، وآخرين يودون ألا تُعرف أسماؤهم لكنهم يعرفون من هم.
حين انتهيت من كتابة المخطوطة، لم يكتفِ ستيفن بيرسانتي (Steven Piersanti)، مؤسس بيرِت-كولر (Berrett-Koehler) بامتلاكه الشجاعة لقبولي، بل إنه كرّس ساعات طويلة لي كمحرر لامع، فساعدني في تشكيل الكتاب أكثر من مرة. فشكري الجزيل لستيفن ولرِتشَرد بيرل (Richard Perl)، الذي قدّمني له، كذلك لنوفا براون (Nova Brown)، وراندي فيات (Randi Fiat)، وألِن جونز (Allen Jones)، وكرِس لي (Chris Lee)، وجَنِفر لِس (Jennifer Liss)، ولوري بيلوشو (Laurie Pellouchoud)، وجِني وليمز (Jenny Williams)، الذين قرأوا المخطوطة ونقدوها؛ ولديفد كورتن (David Korten)، الذي لم يكتف بالقراءة والنقد، بل جعلني أبذل جهدا كبيرا لتصل إلى معاييرة العالية؛ ولوكيلي بول فِدوركو (Paul Fedorko)؛ ولفَلَري بروستر (Valerie Brewster) لإبداعها تصميم الكتاب؛ ولتُدْ مََنْزا (Todd Manza)، المحرر اللغوي والفيلسوف المبدع.
وكلمة شكر خاص أصل بها جيفان سيفسُبرامَنيان (Jeevan Sivasubramanian)، مدير التحرير لدى بيرِت-كولر (Berrett-Koehler)، وكِن لوبُف (Ken Lupoff)، ورِك وِلسُن (Ric Wilson)، وماريا جيسَس أغويلو (Maria Jesus Aguilo)، وبات أنديرسَن (Pat Anderson)، ومارينا كوك (Marina Cook)، ومايكل كرولي (Michael Crowley)، وروبِن دونوفان (Robin Donovan)، كرِستِن فرانتز (Kristen Frantz)، وتيفاني لي (Tiffany Lee)، وكثرين لِنغرُن (Catherine Lengronne)، وديان بلاتنر (Dianne Platner) – جميع موظفي بيرِت-كولر الذين يدركون الحاجة إلى الوعي والذين يعملون بلا كلل لجعل هذا العالم مكانا أفضل.
حين التزمت [دار النشر] بلوم (Plume) ومجموعة بنغوِن (Penguin) بنشر هذا الكتاب في غلاف ورقي، اجتهد موظفوها في إنتاج هذا الإصدار الجديد، بما في ذلك المواد الإضافية. وإني لممتنٌّ جداً للمحرِّرة، إميلي هينز (Emily Haynes)، لاهتمامها الكبير منذ البداية، ولصبرها عليّ، ولمواهبها كمحررةِ ودبلوُماسية. كما أشكر ترينا كيتنغ (Trena Keating)، رئيسة التحرير، وبرانت جينواي (Brant Janeway)، مدير الدعاية، ونورينا فرابُتّا (Norina Frabotta) وأبِغيل بَوَرْزْ (Abigail Powers)، محررَيْ الإنتاج؛ وألين أكيلِس (Aline Akelis)، مديرة الحقوق الفرعية؛ وجايا مايسِلي (Jaya Micely)، مصممة الغلاف الجديد القوي؛ وغرِتشن سوورتلي (Gretchen Swartly)، منسق التسويق. أما موظفو كل من بلوم وبيرِت-كولر، فقد تعاونوا بطريقة رائعة، وكرَّسوا أنفسهم هم وبول فِدوركو لتحقيق الهدف المشترك في إيصال هذه الرسالة إلى أكبر عدد من الناس، بتركيز خاصٍّ على تلاميذ الجامعات والمدارس الثانوية.
لا بدّ لي من أن أشكر كلّ من عمل معي في شركة مين (MAIN) ولم يكونوا على علم بالأدوار التي كانوا يقومون بها في مساعدة القتلة الاقتصاديين في تشكيل الإمبراطورية العالمية. أشكر بصورة خاصة أولئك الذين عملوا معي ورافقوني في السفر إلى بلدان قصيّة، وشاركوني في أوقات عديدة غالية. كذلك أشكر إيهود سبيرلنغ (Ehud Sperling) وموظفيه في إنر ترادِشِنز الدولية، ناشري كتبي السابقة عن الثقافات المحلية والشامانية، والأصدقاء الذين شجعوني على التأليف.
كما أتقدم ببالغ الشكر لأولئك الرجال والنساء الذين آوَوْني في بيوتهم في الغابات والصحارى والجبال، وفي أكواخ الكرتون حول قنوات جاكرتا، وفي أحياء الفقراء في مدن العالم التي لا تُحصى، ممن أشركوني في طعامهم وحياتهم، وكانوا أعظم مصدر إلهام لي.
جون بيركنز
آب 2004
مقدِّمة
تمتدُّ مدينةُ كويتو، عاصمة الإكوادور، عبر وادٍ بركاني عالٍ في جبال الأنديز، على ارتفاع يبلغ تسعة آلاف قدم. وقد اعتاد سكان هذه المدينة، التي بنيت قبل وصول كولمبُس إلى الأمريكيتين بزمن طويل، على أن يروا الثلج على القمم المحيطة، بالرغم من أنهم يعيشون على بعد بضعة أميال من خط الاستواء.
أما مدينة شِل، التي هي مركز حدودي وقاعدة عسكرية مقتطعة من غابة الأمازون في الإكوادور لتخدم الشركة التي تحمل اسمها، فإنها تنخفض حوالي ثمانية آلاف قدم عن كويتو. وهي مدينة حارة رطبة، أغلبُ سكانها من الجنود وعمال النفط، ومن سكانٍ محليين من قبيلتي الشوار والكِشوا، يعملون في خدمتهم كمومساتٍ وعمال.
ولكي تسافر من مدينة إلى أخرى، عليك أن تقطع طريقاً متعرِّجاً وأخاذاً. والمسافر في هذه الرحلة، كما يقول سكان البلاد، يخبُرُ الفصول الأربعةَ في يوم واحد.
وبالرغم من أنني قطعتُ هذه الطريق مراتٍ كثيرة، فإنني لا أملُّ مطلقا من المنظر الرائع. فمن جانب منها يرى الناظرُ جُروفاً عمودية تخترقها شلالاتٌ مائية ونباتات البروميليا الوهاجة. وفي الجانب الآخر تهوي الأرضُ عميقا وبصورة مفاجئة إلى حيث يتلوَّى نهر بَستَزا أحد روافد الأمازون منحدرا سفوحَ الأنديز. ويحمل هذا النهرُ الماءَ من أنهر الجليد في كوتوبَكسي، أحد أعلى البراكين الحية في العالم، والذي كان مقدساً لدى الإنكا، إلى المحيط الأطلسي على بعد ثلاثة آلاف ميل.
في العام 2003، غادرتُ كويتو في سيارة سوبارو متجها إلى شركة شل في مهمة لم أقبل القيام بمثلها من قبلُ قط. كنتُ آملُ في إنهاء حربٍ سبق أنْ ساعدتُ في نشوبها. وكما هو الحال في أشياءَ عديدةٍ نتحمّل مسؤوليتها نحن القتلةَ الاقتصاديين، إنها حربٌ غير معروفة عمليا في أي مكان خارج البلد الذي تحدث فيه. كنتُ في طريقي للاجتماع بقبيلتي الشُوار والكِشوا، وبجيرانهما قبائل الأشوار والزَبارو والشِويار – وهي قبائل مصممة على منع شركاتنا النفطية من تدمير منازلها وأسرها وأراضيها، حتى لو دفعت حياة أبنائها ثمنا. ذلك أن هذه الحربَ بالنسبة إليهم تعني الدفاعَ عن حياة أطفالهم وثقافتهم، بينما تعني لنا الحصولَ على الطاقة والمال والمصادر الطبيعية. إنها جزء من الكفاح للسيطرة على العالم، وحلم قلة من الجشعين بإقامة إمبراطورية عالمية.[i]
هذا خيرُ ما نفعله نحن القتلةَ الاقتصاديين: نبني إمبراطورية عالمية. إننا نخبة من الرجال والنساء الذين يستخدمون المؤسساتِ الماليةَ العالمية لاختلاق ظروف تجعل الشعوب الأخرى خاضعة للسلطة التي تُدير حكومتَنا وشركاتِنا الكبرى ومصارفَنا. وكمثل ما يفعل أندادُنا في المافيا، يُقدِّم القتلةُ الاقتصاديون صنيعَ الخدمات. وهذه تتخذ شكل قروضٍ لتطوير البنية التحتية – مثل محطات توليد الكهرباء، والطرق السريعة، والموانئ، والمطارات، والمدن الصناعية. وشرطُ هذه القروض أن تتولّى بناءَ هذه المشاريع شركاتُ الهندسة والبناء من بلدنا نحن. فذلكةُ القول إن معظم المال لا يُغادر الولايات المتحدة مطلقا؛ إنه بكل بساطة ينتقل من مكاتب البنوك في واشنطن إلى مكاتب الشركات في نيويورك أو هيوستن أو سان فرانسيسكو.
وبالرغم من أن المال يكادُ يعودُ فورا إلى الشركات الأعضاء في سلطة الشركات (صاحبة القرض)، فإن على البلد المدين أن يُسدِّدَه بالكامل، أصلَه وفوائدَه جميعا. فإنْ حظي القاتلُ الاقتصاديُّ بالنجاح التامّ، فالقروض التي اختلقها تكون من الضخامةِ بحيثُ يُضطرُّ المدينُ بعد بضع سنين إلى التخلف عن سداد دفعاتِه. فإن حدث هذا، نفعلْ كما تفعلُ المافيا، نطلبُ نصيبَنا من اللحم. وغالباً ما يعني ذلك واحداً أو أكثرَ مما يلي: سيطرتنا على التصويت في الأمم المتحدة، أو إقامة قواعد عسكرية، أو الوصول إلى مصادر طبيعية ثمينة، كالنفط أو قناة بنما. وبطبيعة الحال، لا يزال المدين مديناً لنا بالمال المقترض – وبذلك تكون دولةٌ أخرى قد انضمت إلى إمبراطوريتنا العالمية.
وإذ كنتُ أقود سيارتي من كويتو إلى شركة شل في ذلك اليوم المشمس من عام 2003، تذكّرت المرةَ الأولى التي وصلت فيها إلى هذا الجزء من العالم قبل خمسة وثلاثين عاما. كنتُ قرأتُ أن لدى الإكوادور، بالرغم من أن مساحتها تبلغ مساحة ولاية نيفادا، أكثرَ من ثلاثين بركانا نشيطاً، وأكثرَ من 15 في المئة من أصناف الطيور في العالم، والآلاف من النباتات التي لما تُصنّفْ بعد، وهي بلاد ذات ثقافات مختلفةٍ حيث أن من يتكلمون اللغات المحلية القديمة يبلغون عدد من يتكلمون الإسبانية، تقريبا. لهذا وجدتُها بلادا ساحرةً وعجيبة حقا. لكن ما كان يعنُّ ببالي من كلمات يومئذٍ أنها نقية، عذراء، بريئة.
بيد أن التغيير خلال خمسة وثلاثين عاماً كان كبيرا.
يومَ زيارتي الأولى عام 1968، كانت شركة تكساكو قد اكتشفت النفط لتوِّها في منطقة الأمازون من الإكوادور. واليوم يُشكِّلُ النفطُ نصفَ صادرات البلاد تقريبا. وقد تسرَّبَ أكثرُ من نصف مليون برميل من النفط في الغابة المطرية الهشة من خط الأنابيب الذي يقطع الأنديز – وهو أكثر من ضعفي ما تسرّب من حاملة النفط، فالديز،*التابعة لشركة إكسُن.[ii] واليوم هناك خط أنابيب نفطي تبلغ قيمته 1.3 مليار دولار، ويبلغ طوله 300 ميل [483 كم تقريبا]، ويقوم ببنائه تجمع هندسي نظمه أحد القتلة الاقتصاديين، من شأنه أن يجعل الإكوادور إحدى أكبر عشر دول تزوّد الولايات المتحدة بالنفط.[iii] والنتيجة أنّ مساحاتٍ شاسعةً من الغابات قد قضي عليها، وأنّ الببغاء الأمريكية الضخمة والنمور المرقطة قد اختفت، وأنّ ثلاثَ ثقافاتٍ محليةٍ إكوادوريةٍ تكاد تنهار، وأنّ أنهارا أصيلة النقاء تحوّلت إلى بالوعات ملتهبة.
في هذه الفترة من الزمن، بدأت الثقافاتُ المحليةُ تدافع عن نفسها. من ذلك أن مجموعة من المحامين الأمريكيين تمثل أكثر من ثلاثين ألفا من أهل الإكوادور المحليين أقامت دعوىً قضائيةً بقيمة مليار دولار أمريكي ضد ائتلاف شيفرُن-تكساكو. وتستند الدعوى على أن هذا المارد النفطي، في ما بين عامي 1971 و1992، كان يُلقي يوميا في الآبار المفتوحة والأنهار أكثر من أربعة ملايين غالون [حوالي 15 مليون لتر] من المياه العادمة السامة الملوّثة بالنفط، والمعادن الثقيلة، والمسرطنات، وأن الشركة تركت خلفها حوالي 350 حفرة عادمة غير مغلقة لا تزال تقتل البشر والحيوان.[iv]
حين كانت سُحُبٌ ضخمةٌ من الضباب تتدحرج خارج شباك سيارتي آتيةً من الغابات فوق وادي نهر بَستَزا، أخذ العرقُ ينقعُ قميصي وبدأت معدتي تتلوّى. لكنّ ذلك لم يكن بسبب الحرارة الاستوائية وتعرُّج الطريق وحدهما، بل لأن معرفتي بالدور الذي اضطلعتُ به في تخريب هذه البلاد الجميلة أخذتْ تطلبُ ثأرها مني. ذلك أنه بسببي وسبب زملائي من القتلة الاقتصاديين أصبحت الإكوادور في حالة رثة اليوم مقارنة بما كانت عليه قبل أن قدّمناها للمعجزات الاقتصادية والمصرفية والهندسية الحديثة. فمنذ عام 1970، في الفترة المعروفة بالازدهار النفطي، ارتفع معدل الفقر، حسب الحساب الرسمي، من 50 إلى 70 في المئة، وارتفعت نسبة البطالة من 15 إلى 70 في المئة، وازداد الدين العام من 240 مليون دولار إلى 16 مليار دولار، بينما انخفضت حصة المشاركة في المصادر الطبيعية المخصصة للفقراء من 20 إلى 6 في المئة.[v]
من حسن الحظ أن الإكوادور لم تكن استثناءً للقاعدة. فكلُّ بلدٍ جلبناه، نحن القتلةَ الاقتصاديين، إلى مظلة الإمبراطورية العالمية أصابه القدرُ ذاتُه.[vi] ذلك أنّ دينَ العالم الثالث ازداد إلى أكثر من 2.5 تريليون دولار؛ وقد بلغت كلفة خدمة هذا الدين – وهو أكثر من 375 مليار دولار في السنة اعتباراً من عام 2004 – أكثرَ مما يُنفقه العالمُ الثالثُ كلُّه على الصحة والتعليم، وهو يساوي 20 ضعفَ ما تتلقاه الدول النامية من مساعدات خارجية. كذلك يعيش أكثر من نصف سكان العالم على أقلَّ من دولارين اثنين في اليوم، وهو في حدود المبلغ ذاته الذي كانوا يكسبونه في أوائل سبعينات القرن العشرين. في الوقت نفسه، تحتكر الأسر الغنية التي تشكل واحدا في المئة من العالم الثالث 70 إلى 90 في المئة من الثروة والعقارات الخاصة في بلدانها؛ أما النسبة الحقيقية فتعتمد على البلد.[vii]
تباطأت سيارتي السوبارو إذ دخلت شوارع المنتجع الجميل، مدينة بانيوس، المشهورة بحماماتها المعدنية الحارة الآتية من الأنهار البركانية الجارية تحت الأرض، والتي تنبعُ من البركان النشيط جدا في جبل تُنْغُراغوا. كان الأطفالُ يتراكضون من حولنا، يحاولون أن يبيعونا اللبان والكعك. بعد ذلك خرجنا مُخلِّفين بانيوس وراءنا، فانتهى فجأة المنظر الرائع حين تسارعت السوبارو خارج الفردوس إلى منظر حديث من “جحيم دانتي”.
انتصب لي خارجاً من النهر جدارٌ رماديٌّ عملاقٌ يخاله المرءُ وحشا ضخما. كان من الإسمنت المسلح، لا علاقة له بالمكان، غيرَ طبيعيٍّ ولا منسجماً مع البيئة على الإطلاق. وبطبيعة الحال، لم أُفاجأ بوجوده هناك. كنتُ أعلمُ أنه يكمن في انتظاري، فقد رأيته من قبل كثيرا. وفي الماضي كنت أمتدحه كرمز لإنجازات القتلة الاقتصاديين. لكنّ جلدي، بالرغم من ذلك، أصيب بالحُكاك.
كان هذا الجدارُ البشعُ النفورُ سداً يحجز مياه نهر بَستَزا المتدفقة، ويجرُّها إلى أنفاق ضخمة تخترق الجبل لتتحوَّلَ طاقتها إلى كهرباء. إنه مشروع أغُويان الكهرومائي البالغ 156 ميغاوَط، الذي يزوِّد بالطاقة الصناعاتِ التي تهبُ الثروة لعدد صغير من الأسر في الإكوادور. وهو مصدر المعاناة المسكوت عنها لدى الفلاحين وأهل البلاد المحليين الذين يعيشون على النهر. وما هذه المنشأة الكهرومائية إلا واحدة من مشاريع عديدة طُوِّرت بجهدي وجهد قتلة اقتصاديين آخرين. ولهذه المشاريع يعود السبب في أنّ الإكوادور الآن عضو في الإمبراطورية العالمية؛ كما يعود لها السبب في أنّ الشوار والكشوة وجيرانَهم يُهددون بالحرب على شركات النفط.
بسبب مشاريع القتلة الاقتصاديين، باتت الإكوادور غارقة في الدين الخارجيّ، وعليها أن تُكرِّس جزءاً ضخماً من موازنتها لسداده، بدل استخدام رأس مالها لمساعدة الملايين من مواطنيها المصنفين رسميا بالفقر المدقع. ولا تملك الإكوادور من سبيل لذلك إلا بيع غاباتها المطيرة لشركات النفط. والحقيقة أن السبب وراء اهتمام القتلة الاقتصاديين بالإكوادور يكمن في الدرجة الأولى في الاعتقاد بأن بحر النفط الذي تعوم عليه منطقة الأمازون التابعة لها ينافس حقول النفط في الشرق الأوسط.[viii] وهنا، تطلب الإمبراطورية العالمية حصتها من اللحم على شكل امتيازاتٍ نفطية.
أصبحت هذه المطالب مُلحةً بصورةٍ خاصّةٍ بعد أحداث 11 أيلول 2001 حين خشيت واشنطن من توقف إمدادات الشرق الأوسط. وفوق هذا، فإن فنزويلا، ثالثَ أكبر مزودينا بالنفط، قد انتخبت حديثاً رئيساً ذا شعبية عالية، هو هوغو تشافيز الذي اتخذ موقفاً قويا ضد ما أسماه الإمبريالية الأمريكية؛ وقد هدد بقطع مبيعاتهم من النفط للولايات المتحدة. وإذ فشل القتلة الاقتصاديون في العراق وفنزويلا، فقد نجحنا في الإكوادور؛ وها نحن أولاء نحلبها بكل معنى الكلمة.
تُعتبر الإكوادور مثالا نموذجياً لبلدان العالم التي جرَّها القتلةُ الاقتصاديون إلى الحظيرة الاقتصادية-السياسية. ذلك أن شركات النفط تمكُسُ 75 دولارا من كل 100 دولار من النفط الخام المستخرَج من غاباتها المطيرة. أما الخمسة والعشرون دولارا المتبقية، فيذهب ثلاثة أرباعها لسداد الدين الخارجي، ومعظم الباقي للمصروفات العسكرية والحكومية الأخرى – ويبقى حوالي دولارين ونصف فقط للرعاية الصحية والتعليم وبرامج مساعدة الفقراء.[ix] وهكذا، فإن أقل من ثلاثة دولارات من كل ما يُساوي 100 دولار تُنتَزَعُ من الأمازون تذهب إلى الناس الأشدِّ حاجةً إلى المال من غيرهم، أولئك الذين دمّرت حياتَهم السدودُ والحفرياتُ وأنابيبُ النفط، والذين يموتون لفقدانهم الطعام والماء الصالحين للاستهلاك.
كل هؤلاء – ملايينُ في الإكوادور وملياراتٌ حول العالم – أرهابيون بالقوة. وليسوا كذلك لأنهم شيوعيون أو فوضويون، أو لأنهم شريرون بطبعهم، بل لأنهم، ببساطة، يائسون. وإذ أنظر إلى هذا السد أسائل نفسي – كما أفعل غالباً في الكثرة من بقاع العالم – متى سيثور هؤلاء الناس كما ثار الأمريكيون على إنكلترا في سبعينات القرن الثامن عشر، وكما ثار الأمريكيون اللاتينيون على إسبانيا في مطلع القرن التاسع عشر؟
المكرُ في بناء هذه الإمبراطورية الحديثة أنها تصم بالعيب ما قام به القادةُ الرومانُ والغزاةُ الإسبانُ والقوى الاستعماريةُ الأوربيةُ في القرنين الثامنَ عشر والتاسعَ عشر. ذلك أننا، نحن القتلةَ الاقتصاديين، بارعون في صنعتنا؛ فلقد تعلمنا من التاريخ. إننا اليوم لا نحملُ السيوف ولا نلبس الدروع أو ما يميِّزُنا من ملابس. ففي بلادٍ كالإكوادور ونيجيريا وإندونيسيا، نلبسُ ألبسة الناس العاديين كمعلمي المدارس وأصحاب الدكاكين. وفي واشنطن وباريس نبدو كموظفي الحكومة والبنوك. مظهرنا متواضع وعادي. نزور مواقع المشاريع، ونتمشى في القرى الفقيرة. نقول قولا خيِّراً، ونتكلم مع الصحف المحلية عما نقوم به من أشياءَ إنسانية رائعة. ننشر جداولنا وتوقعاتنا الاقتصادية على طاولات المؤتمرات التي تعقدها اللجان الحكومية، ونحاضر عن معجزات الاقتصاد الكلي في مدرسة الأعمال التابعة لجامعة هارفارد. إننا معروفون منفتحون؛ أو هكذا نُقدِّمُ أنفسنا وهكذا يتقبلنا الناس. وكمثل هذا يعمل نظامنا. ومن النادر ما نلجأ إلى كسر القانون، لأن نظامنا ذاته مبنيٌّ على الحيلة، ونظامنا شرعي بالضرورة.
ولكنْ – وهذا تحذير هامّ – إذا فشلنا، فإن سلالةً أشدَّ شرّاً تدخل الساحة، وهم من نسميهم نحن القتلةَ الاقتصاديين بالواويات (أولاد آوى). وهؤلاء رجال ينتمون في تراثهم إلى تلك الإمبراطوريات القديمة. وأولاد آوى موجودون دائما؛ يكمنون في الظل. وحين يظهرون، يُطاحُ برؤساء الدول أو يموتون في “حوادث” عنيفة.[x] فإن لم تُُفلح الواويات في مهمتها، كما لم تُُفلح في أفغانستان والعراق، تظهرْ على السطح الأساليب القديمة. عندها، يُرسَلُ الشبابُ الأمريكيون ليَقتُلوا وليموتوا.
حين جُزْتُ ذلك المخلوقَ الضخم، أعني الجدارَ المبنيَّ من الخرسانة الرمادية الصاعدة من النهر، انتبهت للعرق الذي كان ينقع ملابسي وللانشداد الذي اعترى أمعائي. توجّهتُ منحدراً صوب الغابة للاجتماع بأهل البلاد المصممين على القتال حتى آخر رجل منهم لكي يوقفوا هذه الإمبراطورية التي شاركتُ في قيامها. عندئذٍ تملكني شعور بالذنب.
ساءلتُ نفسي، كيف لصبيٍّ لطيف من بيئة ريفية في هامبشير أن تقوده قدماه إلى عمل قذر كمثل هذا؟
* وقع هذا التسرب النفطي من حاملة النفط، إكسن فالديز، (Exxon Valdez) في ألاسكا يوم 24 آذار 1989. ويُعتَبَرُ من أضخم النكبات البيئية التي أحدثها الإنسان. وكانت منطقة هذا التسرب بيئة للأسماك وطيور البحر. بلغ حجم هذا التسرب 40 مليون لتر من النفط الخام، حسب الإحصاء الرسمي، وغطى مساحة 28 مليون كلم2 من مياه المحيط. [المترجم] |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 8:51 am | |
| الجزء الأول
1963-1971
الفصل الأول
ولادة قاتل اقتصادي
لقد بدأت ببراءة تامة.
ولدتُ عام 1945، وكنتُ الطفلَ الوحيدَ لأسرةٍ تنتمي للطبقة المتوسطة. وينحدر كلا والدَيّ من أولئك الأمريكيين الذين استوطنوا نيو إنكلاند لثلاثة قرون خلت. وكانا يتمسكان بعادات “الجمهوريين” الملتزمةِ بالحزم والاستقامةِ التي كانت انعكاسا لعادات أجيالٍ من السلف “البيوريتانيين” المتزمِّتين. وكانا في أسرتيهما أولَ من ابتُعِثا لتلقي التعليم العالي. شارك أبي في الحرب العالمية الثانية كملازم في سلاح البحرية، وكان آمراً للمجموعة البحرية المسؤولة عن الحراسة المسلحة على ظهر ناقلة نفط تجارية قابلةٍ للاشتعال الشديد في المحيط الأطلسي. يوم وُلدتُ في هَنُوفر، نيو هامبْشَيَر، كان أبي يتعافى من كسر في وِرْكِهِ في مستشفىً بتكساس، فلم أره حتى بلغتُ من عمري عاما.
عمل أبي مُدرِّساً للغات في مدرسة تِلتُن، وهي مدرسة داخلية للأولاد في ريف نيو هامبْشَيَر. كان حرم المدرسة مقاما على تلةٍ يُطلُّ من علٍ باعتزازٍ – أو بكبرياءَ، كما يزعم بعضُهم – على البلدةِ التي تحمل المدرسةُ اسمَها. وقد انحصر القبولُ في هذه المدرسة الخاصّةِ على خمسين تلميذا تقريباً في كل مرحلة دراسية، من الصف التاسع إلى الثاني عشر. وكان أغلبُ التلاميذِ من أبناء الأسر الغنية من بيونِس آيرس وكراكاس وبوسطن ونيويورك.
لم تكنْ أسرتي ميسورةَ الحال؛ ولكننا قطعاً لم نكن نعتبر أنفسنا فقراء. فبالرغم من ضآلةِ رواتبِ المُعلِّمين في المدرسة، فقد كانت حاجاتِنا كلَّها مؤمَّنةً: من طعام، ومسكن، وتدفئةٍ، وماء، وعمال لجزِّ المسطح الأخضر في حديقتنا ولإزاحة الثلج عن مدخل بيتنا. حين بلغتُ الرابعةَ من عمري، أخذتُ أتناول وجباتي الغذائية في غرفة طعام المدرسة التمهيدية، وألمُّ الكرات للاعبي كرة القدم الذين كان أبي يُدرِّبُهم، وأقدِّم المناشف في غرفة الغيار.
لعلّ القول إن المُعلِّمين وزوجاتِهم كانوا يستعلُون على أهل البلد قولٌ مُخَفِّفٌ من وطأة الحقيقة. فقد كنتُ أسمع والديَّ يتمازحان حول كونهما سيدي العزبة، ويحكمان على الفلاحين من أهل البلد، مُدركاً أنها أبعدُ من مجرد نكتة.
كان أصدقائي في المدرسة الابتدائية والمتوسطة من تلك الطبقة من الفلاحين الفقراءَ جدا، الذين كان آباؤهم مُزارعين متسخين، وحطّابين، وعمال مطاحن، يُضمرون حقداً على “أولاد الكلية فوق التل”. أما أبي وأمي، فقد كانا يُحذِّرانني من مخالطة بنات البلدة، اللواتي كانا يصفانهنّ بالساقطات. وكنتُ أتبادل الكتب المدرسية والأقلام مع هؤلاء البنات منذ صفِّي الأول، ووقعتُ في غرام ثلاثٍ منهن: آن وبريسِلاّ وجودي. وبالرغم من أنني استصعبتُ فهمَ وجهة نظر والديَّ، فقد أذعنتُ لرغبتيهما.
كنا نقضي ثلاثة شهور من عطلة أبي الصيفية في كوخ على البحيرة بناه جدّي عام 1921، مُحاطٍ بالغابات، حيث كنا نسمع في الليل أصوات البوم وأسود الجبل. لم يكن لنا هناك جيران، فكنتُ الطفلَ الوحيدَ ضمنَ مساحةٍ يُمكن قطعها مشيا. لذلك كنتُ أقضي وقتي في السنين الأولى متخيِّلا الأشجارَ فرسانَ الدائرة المستديرة، والفتاةَ المختطفة إما آن أو بريسِلاّ أو جودي (حسب السنة). وكانت عاطفتي، بلا شكٍّ، كمثل عاطفة لانسِلُتْ تجاه غْوينيفر – بل أكثر سريّة.
حين بلغتُ الرابعةَ عشرةَ مُنحتُ منحةً دراسيةً في مدرسة تِلتُن. وبناءً على ضغط والديَّ، تخلّيتُ عن كل علاقةٍ لي بالبلدة ولم أعدْ أرى أصدقائي القدامى. وحين كان أبناءُ صفي الجدد يعودون إلى ديارهم في العطلة، كنتُ أبقى وحدي على التل، فكانت صديقاتُهن جديداتٍ، بينما لم يكن لي صديقات، إذ أن الفتيات اللواتي كنتُ أعرفُهن كن “ساقطات”، فتخليتُ عنهن، وهنّ بدورهنّ نسينني. بلى، كنت وحيدا مُحبَطا.
كان والداي بارعين في التلاعب بالكلام؛ فقد أكّدا لي أنني كنتُ محظوظا بمثل تلك الفرصة التي سأكون ذات يوم ممتناً لنيلها. ولسوف أجدُ زوجة ممتازة تناسب مستوانا الخُلُقيََّ العالي. لكنني في داخلي كنت أغلي؛ فقد كنتُ تواقاً لصديقةٍ أنثى – وللجنس؛ و كثيراً جدا ما كانت تُغويني فكرة فتاةٍ ساقطة.
بيد أني، بدل التمرُّدِ، كبتُّ غُلوائي، مُعبِّراً عن إحباطي بالتفوُّق. فقد كنتُ في الدراسة على لائحة الشرف، ورئيساً لفريقين منتخَبيْن، ومحرِّراً لصحيفة المدرسة. كنتُ مُصمِّماً على أن أتميَّزَ على أبناء صفِّي الأغنياء وأن أترك ورائي تِلْتُنْ إلى الأبد. وقد مُنِحتُ بعثةً رياضيةً كاملة إلى براون، وأخرى دراسيةً إلى مِدِلْبَري. فاخترتُ براون لأنني فضّلتُ أن أكون رياضيا – ولأن موقعَها كان في مدينة. كانت أمي تخرجت من مِدِلْبَري، و من هناك أخذ أبي درجة المَجستير، لذلك فضّلا مِدِلْبَري، بالرغم من أنّ براوْن كانت عضوا في العصبة الجامعية (آيفي ليغ).
قال أبي: “ماذا لو أنّ ساقكَ انكسرت؟ أُفضِّلُ أن تأخذ المنحة المدرسية.” لذلك تنازلتُ عن رأيي.
لم تكنْ مِدِلْبَري، برأيي، إلا صورة منفوخةً لتِلْتُنْ – إلا أنها في ريف فيرمُنت بدل ريف نيوهامبْشَيَر. صحيح أنها كانت مختلَطة جنسيا، لكنني كنتُ فقيراً وكان معظمُ الآخرين أغنياء، ومنذ أربع سنوات لم أدخل مدرسة مختلطة. لذلك كنتُ افتقدُ الثقة بالنفس، بائساً، شاعراً بأنني خارج طبقة أترابي. رجوتُ أبي أن يوافقَ على خروجي من تلك الكلية أو أن آخذ إجازةَ سنة. أردتُ أن أذهبَ إلى بوسطن لأخبُرَ الحياةَ والنساء هناك. لكنه لم يكن ليُنصت. كان يتساءل: “كيف لي أنْ أزعمَ أنني أُعدُّ أولاد غيري من الآباء للجامعة إذا كان ولدي أنا لا يتقبلها؟”
أدركتُ فيما بعد أنّ الحياةَ سلسلةٌ من المصادفات. وكلُّ شيءٍ فيها يتلخَِّصُ بطريقةِ تفاعلنا معها – وطريقةِ ممارسة ما يُسميه بعضُهم “الإرادة الحرة”. واختياراتُنا ضمنَ تعرُّجاتِ القدر تُقرِّرُ من نحن. وقد حدثت في مِدِلْبَري مصادفتان أساسيتان طبعتا شكل حياتي. إحداهما تتعلّقُ بشابٍّ إيرانيٍّ كان ابنَ ضابطٍ عسكريٍّ كبير مستشارٍ للشاه؛ والأخرى تتعلَّقُ بفتاةٍ جميلةٍ اسمُها آن، كاسم حبيبتي أيام الطفولة.
الأول، وسأسميه فرهَد، كان يلعبُ كرةَ القدم في روما لعباً احترافيا. وكان ذا جسم رياضيٍّ، وشعرٍ أسودَ مُجعّدٍ، وعينين خضرواين صافيتين، وخلفيةٍ وجاذبيةٍ لا تملك النساءُ مقاومةً أمامهما. كان على العكس مني في كثير من الأمور، فأجهدتُ نفسي للظفر بصداقته. وقد علّمني كثيرا من الأشياء التي أفادتني في قادم أيامي. كذلك التقيتُ بآن. وبالرغم من أنها كانت على علاقةٍ جادّةٍ بشابٍّ في كلية أخرى، فقد أخذتني تحت جناحها. وقد كانت علاقتنا العذرية أول حبٍّ صادقٍ خبرته في حياتي.
شجعني فرهد على الشُّرب والذهاب إلى الحفلات وتجاهل والديّ. فاخترتُ مُتعمِّداً أنْ أتوقف عن الدراسة، وقرّرتُ أنْ أكسر ساقي المدرسية لأنتقم من أبي. فكان أنْ هبطتْ علاماتي، وخسرتُ منحتي الدراسية. وفي منتصف سنتي الثانية قرَّرتُ أن أترك الدراسة، فهددني أبي بأن يتبرّأ مني؛ لكنّ فرهد حثني على المضيِّ قُدُما. وهكذا انطلقتُ إلى مكتب العميد وتركتُ الدراسة. لقد كانت لحظةً محوريةً في حياتي.
في حانةٍ محليةٍ احتفلتُ أنا وفرهد بآخر ليلةٍ لي في المدينة. وهناك اتهمني مزارعٌ مخمورٌ ضخمُ الجثة بمغازلةِ زوجته، فحملني وقذفني على الجدار. عندها اعترضه فرهد واستلّ سكيناً شرط بها خدَّ المزارع. ثم جرّني من الغرفة ودفعني عبر النافذة، فقفزنا وعدنا بمحاذاة النهر إلى مسكن الطلاب.
في صباح اليوم التالي، حين استجوبتني شرطةُ الحرم الجامعي، كذبتًُ ورفضتُ الاعتراف بعلمي بالحادث. بالرغم من ذلك، طُرد فرهد، فذهبنا كلانا إلى بوسطن، حيث اشتركنا في شقة واحدة. وجدتُ هناك وظيفةَ مساعدٍ شخصيٍّ لرئيس تحرير جريدة صنداي أدفيرتايزر.
في تلك السنة، 1965، تمّ تجنيدُ العديدِ من أصدقائي في الجريدة، فدخلتُ كلية إدارة الأعمال في جامعة بوسطن لكي أتجنب المصير ذاته. في هذا الوقت، انفصلتْ آن عن صديقها القديم، وكثيرا ما كانت تأتي من مِدِلْبَري لتزورني، فكنت أرحِّبُ باهتمامها. ثم تخرّجتْ هي عام 1967، بينما بقي لي عام واحد لأتخرَّج من جامعة بوسطن. وقد رفضتْ بعنادٍ أن تعيشَ معي قبل أنْ نتزوّج. لكني استمتعتُ بصحبتها بالرغم من أنني كنتُ أمازحُها بتعرُّضي للابتزاز. والحقيقةُ أنني شعرتُ بالاستياء لما وجدتُ فيه استمراراً لمقاييس والديَّ الأخلاقية المحافظة، والتي عفا عليها الدهر. لكننا أخيرا تزوّجنا.
كان والدُ آن مُهندساً ألمعيّاً، وكان العقلَ المخطِّطَ لنظام ملاحيٍّ لنوع مهمٍّ من الصواريخ؛ فكوفئ بمنصبٍ عالٍ في البحرية. وكان صديقُه الحميم رجلا تُخاطبُه آن بالعم فرانك (وهذا ليس اسمَه الحقيقي)، يشغل مديرا تنفيذيا في أعلى مراتب وكالة الأمن القومي، وهي المنظمةُ التجسسيةُ الكبرى والأقلُّ شهرةً في البلاد.
بعد زواجنا بقليل استدعاني الجيشُ للفحص الطبّي. وإذ نجحتُ في الفحص، واجهتُ إمكانيةَ التجنيدِ بعد تخرُّجي [للحرب] في فيتنام. وبالرغم من أنّ الحرب كانت دائما تستثيرُ في نفسي السحر، إلا أنّ فكرة القتال في جنوب شرق آسيا قد مزَّقتني عاطفيا. لقد شببتُ على سماع حكايات أسلافي المستوطنين – ومنهم طومَس بين وإيثَنْ أَلِنْ،* وكنتُ قد زرتُ جميع مواقع المعارك الفرنسية والهندية وحروب الثورة في نيوإنكلَند وفي أعالي ولاية نيويورك، وقرأتُ كلَّ الروايات التاريخية التي وقعت بين يديّ. بل إنني كنت تواقاً للتطوع في القوات الخاصة التي دخلت فيتنام لأول مرة. لكنَّ قلبي تحوَّلَ حين كشفتْ وسائلُ الإعلام عن الفظائع وعن تذبذب السياسة الأمريكية. وجدتُني أتساءلُ: تُرى مع أي جانب يمكنُ طومَس بين أن يكون؟ وكنتُ متأكِّداً من أنه سوف ينحاز لأعدائنا من الفيتكُنغ.
أنقذني العمّ فرانك. أخبرني أنَّ الحصولَ على وظيفةٍ في وكالة الأمن القوميِّ تمنحُ صاحبَها فرصةَ تأجيل تجنيده الإجباري؛ وقد رتّب لي سلسلة اجتماعات في وكالته، منها يومٌ مرهقٌ من المقابلات المرصودة على جهاز كشف الكذب. قيل لي إن هذه الفحوصات سوف تُقرِّرُ ما إذا كنتُ مؤهَّلاً للعمل والتدريب في تلك الوكالة. فإنْ كنتُ كذلك، فسوف تُعطي النتائجُ لمحةً عن نقاط قوتي وضعفي، وتُستخدمُ لتقرير سيرتي العملية. وبسبب موقفي من حرب فيتنام، كنتُ مُقتنعاً من أنني سوف أرسبُ.
اعترفتُ في أثناء الفحص بأنني، كأمريكي مخلص لوطني، أعارضُ حرب فيتنام. ولدهشتي، لم يهتمَّ من قابلوني بالأمر، وبدل ذلك ركَّزوا على نشأتي، وعلى نظرتي لوالديّ، وعلى شعوري المتولِّدِ من كوني نشأتُ “بيوريتانياً” فقيراً بين تلاميذَ أغنياءََ مشدودين لمبدأ المتعة. كذلك تحرَّوا عن شعوري بالإحباط لعدم وجود النساء والجنس والمال في حياتي، وعن عالم الخيال الذي تولَّد من ذلك. وقد استغربتُ اهتمامَهم بعلاقتي بفرهد وبقبولي أنْ أكذبَ على أمن الجامعة لحمايته.
افترضتُ في بادئ الأمر أن كلَّ ما بدا سلبياً من جانبي لا بد أن يُشكِّلَ عاملَ رفض لي من قبل وكالة الأمن القومي؛ لكن استمرارَ من قابلوني معي وشَى لي بغير ذلك. ولم أعلمْ إلا بعد ذلك بسنوات أنّ هذه السلبياتِ كانت إيجابياتٍ في نظر تلك الوكالة. كان تقييمُهم مهتماً بما واجهتُ من إحباطاتٍ في حياتي أكثر من مسألة الولاء لبلادي. فاستيائي من والديَّ، والهاجسُ النسائيُّ لديّ، وطموحي إلى حياة أفضلَ أعطاهم وسيلةَ اقتناصي؛ كنتُ ذا قابليةٍ للغواية. كذلك فإن تصميمي على التفوّق في المدرسة وفي الرياضة، وتمرُّدي أخيرا على والدِي، وقدرتي على معاشرة الأجانب، وقبولي الكذبَ على أمن الجامعة، كانت كلُّها المناقبَ التي يبحثون عنها. كذلك اكتشفتُ لاحقاً أنّ والدَ فرهد كان يعمل مع الاستخبارات الأمريكية في إيران؛ لذلك اعتُبِرَتْ صداقتي مع فرهد نقطة إيجابية مؤكَّدة.
بعد فحصي من قبل وكالة الأمن القومي بأسابيعَ قليلةٍ، استلمتُ عرضَ عمل للبدء في التدريب على فنِّ التجسُّس يبدأ بعد عدة أشهر حين أنالُ شهادتي من جامعة بوسطن. غير أني، قبل قبولي العرضَ بصورةٍ رسمية، اندفعتُ إلى الالتحاق بحلقةٍ دراسيةٍ في جامعة بوسطن تُنظَّمُ للتجنيد في فرقة السلام، حيث كانتْ النقطةُ الأساسيةُ المُغريةُ لديهم جعلَ المرء مؤهلا لتأجيل تجنيده العسكري، كما هو الحال لدى وكالة الأمن القومي.
كان قرارُ الالتحاق بتلك الحلقة الدراسية واحدةً من تلك الصدف التي تبدو غير مهمة في حينها ولكنها تُثبتُ أنها ذاتُ آثار مُُغيِِّرةٍ لمجرى الحياة. وَصَفَ القائمُ على التجنيد عدةَ أماكنَ في العالم كانت في حاجةٍ ماسّةٍ للمتطوِّعين. أحدُها كان في غابة الأمازون المطيرة حيث يعيشُ السكانُ الأصليون، حسب قوله، كما كان عليه حالُ السكان الأصليين في أمريكا الشمالية قبل وصول الأوربيين.
كنتُ دائماً أحلمُ بالعيش مثل الأبناكيين الذي كانوا يقطنون في نيوهامبْشَيَر حين استوطنها أسلافي. وإذ كنتُ أعلمُ أنّ لديَّ دما أبناكياً يجري في عروقي، أردتُ أن أتعرَّفَ على ثقافتهم في الغابة. لذلك تقدّمتُ إلى القائم على التجنيد بعد محاضرته وسألتُه عن إمكانية عملي في الأمازون، فأكد لي أنّ ثمة حاجةً كبيرةً جدا للمتطوِّعين في تلك البقعة وأن حظوظي ستكون وافرة. عندها هاتفتُ العم فرانك.
ولدهشتي، شجّعني العم فرانك على التفكير بفرقة السلام. وأسرَّ لي أنه بعد سقوط هانوي – وكانت يومئذٍ لمن في مركزه مسألةً مفروغاً منها – سوف يصبح الأمازون نقطة ساخنة.
قال: “إنها مفعمةٌ بالنفط، وسنحتاجُ هناك إلى عملاءَ جيدين – أناسٍ يُمكنُهم التفاهمُ مع السكان المحليين.” وأكَّد لي أنّ فرقةَ السلام مكانٌ ممتازٌ للتدريب، مُلِحّاً عليّ أن أُتقنَ اللغةَ الإسبانيةَ واللهجاتِ المحليةَ هناك. ثم قال ضاحكا، “قد ينتهي بك الأمرُ أن تعمل في شركةٍ خاصّةٍ بدل الحكومة.”
لم أفهمْ يومَها ما كان يقصدُ من قوله. كنتُ أترقّى من جاسوس إلى قاتل اقتصادي، بالرغم من أنني لم أسمع قطُّ بذلك التعبير ولم تتسنَّ لي معرفتُه لسنوات لاحقة. لم تكن لديّ فكرةٌ أن ثمّةَ مئاتِ الرجال والنساء منتشرين حول العالم، يعملون لدى شركاتٍ استشارية وغيرها من الشركات الخاصّة، لا يقبضون فلساً واحداً من أية مؤسسة حكومية، ولكنهم يخدمون مصالح الإمبراطورية. ولم يخطرْ ببالي أيضاً أنّ نوعا جديداً، بألقابٍ لطيفة، سيبلغ الآلاف عدداً في نهاية الألفية، وأنني سوف أقوم بدور مهمٍّ في تشكيل هذا الجيش المتنامي.
قدَّمنا، آنْ وأنا، طلباً للالتحاق بفرقة السلام وطلبنا أن تكون خدمتنا في الأمازون. وحين وصلنا إشعارُ القبول، كانت خيبةُ الأمل القصوى أولَ ردة فعل لديّ. فقد ذكرتْ الرسالةُ أننا سوف نُرسَلُ إلى الإكوادور. فقلتُ لنفسي، كنتُ طلبتُ الذهابَ إلى الأمازون، لا إلى أفريقيا.
استطلعتُ من الأطلس موقعَ الإكوادور، فشعرتُ بالاستياء أنني لم أستطع أنْ أجدَها في أي مكان في القارة الأفريقية. لكنني تبيّنتُ من الفهرس أنها تقع حقيقةً في أمريكا اللاتينية، وعلى الخريطة رأيتُ أنّ النظامَ النهريَّ المتدفِّقَ من الأنهار الجليدية في الأنديز يُُشكِّلُ الروافدَ الأولى للأمازون العظيم. ومن قراءاتي اللاحقة عرفتُ أنّ أدغالَ الإكوادور كانت بعضَ أكثر غابات العالم تنوُّعا وجبروتا، وأن سكانها لا يزالون يعيشون كما كانوا قبل آلاف السنين. لذلك قبلنا عرضَ العمل.
أنهينا، آنْ وأنا، تدريبنا في فرقة السلام في جنوب كاليفورنيا، ومضينا إلى الإكوادور في أيلول 1968. أقمنا في الأمازون مع الشوار الذين كان طرازُ حياتهم يُشبهُ حياةَ سكان أمريكا الشمالية الأصليين قبل الاستعمار؛ كذلك عملنا في الأنديز مع المتحدِّرين من الأنكاس. لقد كان ذلك مكانا من العالم لم يخطر ببالي قطُّ أنه لا يزال موجودا. فحتى ذلك الزمن، لم ألتق من الأمريكيين اللاتينيين إلا بالتلاميذ الأغنياء في المدرسة حيث كان أبي يُعلِّم. شعرتُ بالتعاطفِ مع هؤلاء الناس المحليين الذين كانوا يعيشون على الصيد والزراعة، وأحسستُ كذلك بنوعٍ غريبٍ من القرابة معهم، فقد ذكّروني بأهل البلدة الذين تركتهم خلفي.
ذاتَ يوم، حطت في مهبِطِ الطائراتِ طائرةٌ تحملُ رجلا يرتدي بذلة رجال الأعمال اسمه آينر غريف.* كان مساعد رئيس شركة تشاس ت. مين،** وهي شركةُ استشاراتٍ دوليةٌ كانت تلتزم عدم الظهور، وكانت مسؤولةً عن إجراء دراساتٍ يتقرَّرُ بموجبها ما إذا كان يُمكنُ البنكَ الدوليَّ أن يقدِّمَ قرضاً للإكوادور وللدول المجاورة لها بمليارات الدولارات لبناء سد كهرومائي وإقامة مشاريعَ بنيةٍ تحتيةٍ أخرى. وإلى ذلك، كان آينر ضابط احتياط في الجيش الأمريكيّ برتبة عقيد.
أخذ آينر يتكلّمُ معي حول منافع العمل مع شركةٍ مثل مين. وحين ذكرتُ له أنني كنتُ قُبِلتُ لدى وكالةِ الأمنِ القوميِّ قبل انضمامي لفرقة السلام، وأنني أُفكِّرُ في العودة لهم، أخبرني أنه أحيانا ما كان يعملُ ضابطَ اتصالٍ مع تلك الوكالة. وقد نظر لي بطريقة جعلتني أظنُّ أنّ جزءاً من مهمته كان تقييمَ إمكانياتي. والآن أعتقد أنه كان يُكملُ ما عندهم من معلوماتٍ عني، خاصّةً في تقدير قدراتي على العيش في بيئاتٍ لا يُطيقُها معظمُ الأمريكيين الشماليين.
أمضينا يومين معا في الإكوادور، وبعد ذلك أصبحنا نتراسل بالبريد. وقد طلب مني أنْ أرسلَ له تقاريرَ تُقيِّمُ إمكانيات الإكوادور الاقتصادية. وإذ كانت لديّ آلةٌ كاتبةٌ محمولةٌ، وكنتُ أحبُّ الكتابة، كنتُ سعيداً في الاستجابة لطلبه. وخلال سنةٍ أرسلتُ لآينر ما لا يقلُّ عن خمسَ عشْرةَ رسالةً، أودعتُ فيها تقديري لمستقبل الإكوادور الاقتصادي والسياسي. كذلك شرحتُ الإحباط المتنامي بين المجتمعات المحلية في كفاحها ضد شركات النفط، ووكالات التطوير الدولية، والمحاولات الأخرى لجرِّهم إلى العالم الحديث.
حين انتهت جولتي مع فرقة السلام، دعاني آينر إلى مقابلةٍ لوظيفةٍ في شركة مين في مقرِّها الرئيسي في بوسطن. وفي اجتماعنا الخاصّ أكّد لي أنّ عمل “مين” الرئيسي هو الهندسة. لكنّ أكبرَ عملائها، وهو البنك الدولي، بدأ حديثا يُصرُّ على وجود اقتصاديين بين موظفيهم لوضع التنبؤات الاقتصادية المهمة التي يُعتمَدُ عليها في تقرير جدوى المشاريع الهندسية وحجمها. وقد أسرَّ لي أنه كان استخدم ثلاثة اقتصاديين ذوي مؤهلاتٍ عالية وشهادات ممتازة – منهم اثنان يحملان الماجستير وثالثٌ يحمل الدكتوراه. لكنّ ثلاثتهم رسبوا بطريقة مخزية.
قال آينر، “ما من أحدٍ منهم كان قادراً على التعامل مع فكرة إنتاج تنبؤاتٍ اقتصاديةٍ في بلاد لا توجد فيها إحصاءاتٌ يُمكن الاعتمادُ عليها.” وأضاف قائلا إنهم، إلى ذلك، وجدوا من غير الممكن لهم أن يُوفُوا ببنود عقودهم التي اقتضت منهم السفرَ إلى أماكنََ بعيدةٍ في بلاد كالإكوادور، وإندونيسيا، وإيران، ومصر، لكي يقابلوا القادة المحليين ويُقدِّموا تقديراتٍ شخصيةً حول إمكانات التنمية الاقتصادية في تلك البقاع. وقد أُصيب أحدُهم بانهيار عصبيٍّ في قريةٍ معزولةٍ في بنما؛ مما جعلَ الشرطةَ البنميةَ تحملُه إلى المطار وتضعُه في طائرةٍ أعادته إلى الولايات المتحدة.
“تُشيرُ الرسائلُ التي أرسلتَها لي أنه لا مانعَ لديك من أنْ تحشرَ أنفَك، حتى لو لم تتوافر المعطيات المؤكَّدة. وبالنظر إلى الأحوال المعيشية التي واجهتَها في الإكوادور، فإنني واثق من أنّ باستطاعتك العيشَ في أي مكان.” كذلك قال لي إنه أنهى خدماتِ أحد هؤلاء الاقتصاديين ومستعدٌّ لفعل الشيء ذاته مع الآخرَيْن إنْ أنا قبلتُ الوظيفة.
وهكذا كان أنْ عُرِضَ عليَّ في كانون الثاني 1971 منصبُ اقتصاديٍّ في شركة مين. يومها كنتُ بلغتُ السادسة والعشرين من عمري، وهو السن السحريُّ الذي يجعلُ مجلس الخدمة العسكرية لا يريدني. استشرتُ أسرةَ آن، فشجعتني على قبول الوظيفة؛ وافترضتُ أن رأيها هذا انعكاسٌ لرأي العمّ فرانك. وقد تذكّرتُ قوله بإمكانية أنْ ينتهي بي الأمرُ إلى العمل في شركةٍ خاصّة. بالرغم من أنّ شيئاً من هذا لم يُذكرْ بصراحة، إلا أنني لم أشكَّ في أن توظيفي في شركة مين كان نتيجةً لترتيبات العمّ فرانك قبل ثلاث سنوات، بالإضافة إلى خبرتي في الإكوادور واستعدادي للكتابة عن الوضع الاقتصاديّ والسياسيّ لتلك البلاد.
لأسابيع كان رأسي يدور، وقد كبرتْ عندي الأنا. ذلك أنني لم أنلْ أكثرَ من درجةِ بكالوريوس من جامعة بوسطن لا تُبرِّرُ تبوُّئي منصبَ اقتصاديٍّ لدى مثل هذه الشركة الاستشارية الكبيرة. كنتُ أعلمُ أني سأكونُ موضعَ حسدِ الكثرةِ من زملائي في جامعة بوسطن ممن لم يُقبََلوا للتجنيد العسكريِّ، ومضَوا للحصول على المَجستير في إدارة الأعمال أو غيرها من الشهادات العليا. تصوَّرتُ نفسي عميلا سريّاً مندفعاً، يذهبُ إلى البلاد الغريبة، ويستلقي في برك السباحة في الفنادق، تُحيط به الحسناوات شبهَ عاريات، وكأس الخمر لا ينزل من يده.
وبالرغم من أنّ هذا ليس سوى محضِ خيال، إلا أنه لم يخلُ من حقيقة. لقد استخدمني آينر كاقتصاديٍّ، لكنني علمتُ بسرعةٍ أنّ وظيفتي الحقيقيةَ كانت أبعدَ من ذلك بكثير، وأنها أقربُ إلى عمل جيمس بوند مما كان يُمكنُ أنْ يخطرَ ببالي.
الفصل الثاني
“فيها مدى الحياة”
بلغةِ القانون، يمكنُ اعتبارُ “مين” شركةً مساهمةً خاصّة؛ ذلك أنّ مُلكيتَها تعودُ إلى أقلَّ من خمسةٍ في المئة من موظفيها البالغِ عددُهم ألفين. ويُشارُ إلى هؤلاء بالشركاء، وهم محسودون على وضعهم. ولا يتمتَّعُ هؤلاء الشركاءُ بالسلطة على كل من عداهم في الشركة فقط، بل إنهم أصحابُ الدخل الأكبر. شعارُهم الكتمان، ويتعاملون مع رؤساء الدول وغيرهم من كبار المدراء التنفيذيين الذين يتوقعون من مستشاريهم، المحامين والمعالجين النفسانيين، أنْ يلتزموا التزاما صارما بالسرية المطلقة. فالحديثُ مع الصحافة من المحرمات التي لا يُمكنُ قبولُها. وبناءً على ذلك، من الصعبِ لمن هو خارجَ شركةِ مين أن يسمع بنا، بالرغم من أنّ الكثيرين يعرفون منافسينا مثل آرثر د. لِتِلْ، وستون ووبستر، وبراون وروت، وهَلِبيرتُن، وبِكتل.*
استعمالي لتعبير “منافسينا” إنما هو استعمالٌ فضفاضٌ، لأن شركة مين حقيقةً كيانٌ قائم بذاته. وبالرغم من أنّ الأغلبية من موظفينا المهنيين مهندسون، فإننا لا نملكُ معداتٍ ولم نبن قطُّ حتى زريبةً للتخزين. والكثرةُ من منتسبي الشركة عسكريون سابقون؛ بيد أننا لم تكن لدينا عقودُ عمل مع وزارة الدفاع أو أيٍّ من الخدمات العسكرية. ذلك أنّ بضاعتَنا تختلفُ عما هو معهود؛ حتى أنني خلال أشهري الأولى هناك لم أستطعْ فهمَ ما كنا نقوم به. لم أكن أعرفُ إلا أنّ أول مهمة لي ستكون في إندونيسيا، وأنني سأكون جزءاً من فريق يتألفُ من أحدَ عشرَ رجلا أُرسلوا ليضعوا مخططا رئيسياً للطاقة في جزيرة جاوة.
كنتُ أعرف أيضا أنّ آينر وغيره ممن بحثوا معي أمر وظيفتي كانوا توّاقين لإقناعي أنَّ اقتصاد جاوة سوف يزدهر، وأنني إنْ أردتُ أن أُميِّزَ نفسي كمتنبئ اقتصاديٍّ جيد (مما سيفتحُ لي سُبلَ الترقّي)، فعليّ أنْ أُنتجَ مُخططاتٍ تشرح ذلك.
كان آينر يُحبُّ أن يقول، وهو يُحرِّكُ إصبعه في الهواء فوق رأسه، “خارج الرسم البياني، سوف يُحلِّقُ هذا الاقتصادُ كالطائر!”
كان آينر يقوم برحلاتٍ متكرِّرةٍ ليومين أو ثلاثة فقط. ولم يكنْ أحدٌ يتكلّمُ عنها كثيراً أو يعرفُ أين ذهب. وغالباً ما كان يدعوني للجلوس معه على فنجان قهوة حين يكونُ في المكتب، فيسألني عن آنْ، وعن شقتنا الجديدة، وعن القطة التي جلبناها معنا من الإكوادور. حين ازددتُ معرفةً به أصبحتُ أكثر جرأة، وحاولتُ أنْ أعرفَ عنه المزيد وما كان يُتَوَقَّعُ مني عملُه في وظيفتي. لكنني لم أكنْ لأسمعَ جواباً شافيا؛ فقد كان بارعا في المراوغة في كلامه. وفي إحدى المناسبات حدجني بنظرة غريبة.
قال لي، “لا داعيَ لقلقك، فآمالنا فيك كبيرة. كنتُ في واشنطن حديثاً…” ثم تضاءل صوتُه، وابتسم ابتسامةً غامضة، واستأنف يقول، “على أيِّ حال، عندنا مشروعٌ في الكويت قبل ذهابك إلى إندونيسيا بوقت. أرى أنْ تستغلَّ بعضَ وقتِك في قراءة شيءٍ عن الكويت. مكتبةُ بوسطن العامة مصدر عظيم، ويُمكنُنا أن نُؤمِّنَ لك تصريحَيْ دخول إلى مكتبات معهد ماساشوستس للتقانة وجامعة هارفارد.”
بعد ذلك صرفتُ ساعاتٍ عديدةً في هذه المكتبات، خاصّةً مكتبة بوسطن العامة، التي كانت تقع قريباُ من المكتب ومن شقتي في باك باي. أصبحتُ مُلمّاً بالكويت واطلعتُ على كتبٍ كثيرةٍ حول الإحصاء الاقتصاديّ أصدرتها الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. كنتُ أعلم أنّ عليّ أنْ أُنتجَ نماذجَ اقتصاديّةً رياضية لإندونيسيا وجاوة، فقرّرتُ أن أبدأ بعمل نموذج للكويت.
بَيْدَ أنّ دراستي في إدارة الأعمال لم تؤهلْني لأكون ملمّاً بالاقتصاد الرياضي. لذلك صرفتُ وقتاً طويلاً مُحاولا تدبير الأمر، حتى أني انخرطت في مساقاتٍ دراسية عن الموضوع. وفي هذه العملية، اكتشفتُ أنّ الإحصاءاتِ يُمكن مُعالجتُها لتُعطي منظومةً واسعةً من الاستنتاجات، منها تلك المُعَزِّزةُ لميول المحلل.
كانت “مين” شركةً يُديرُها الرجال. فلم يكن هناك عامَ 1971 سوى أربع نساء يتبوَّأنَ مناصبَ مهنية. غير أنّ حوالي مئتي امرأةٍ كنَّ موزَّعاتٍ بين أُطُر الأمينات الشخصيات – كان لكلِّ مساعدِ رئيس ولكلِّ مدير دائرة واحدةٌ منهن – وبين غرفة الطباعة المشتركة التي تخدم بقيةَ الموظفين. وإذ كنتُ تعوّدتُ على هذا الانحياز الجنسي، أذهلني بصورة خاصّةٍ ما حدث لي ذات يوم في قسم المراجع في مكتبة بوسطن العامة.
جاءت امرأةٌ سمراءُ جذّابةٌ وجلستْ على كرسيٍّ في الجهة المقابلة لطاولتي. وقد بدتْ في بذلتها الخضراء الداكنة على درجةٍ عاليةٍ من الحنكة. قدَّرتُ أنها تكبرُني بعدة سنوات، لكنني حاولتُ أن أركِّزَ على تجنُّبِ النظر إليها وعلى عدم إعارتها اهتمامي. وبعد بضع دقائق، وبدون أن تتفوَّهَ بكلمةٍ واحدةٍ، مرَّرَتْ صوبي كتاباً مفتوحا يحتوي على جدول معلوماتٍ عن الكويت كنتُ أبحثُ عنها – كذلك بطاقةً تحمل اسمها، كلودين مارتن، ولقبها، مستشارة خاصة لشركة تشاس ت. مين. وإذ نظرتُ إلى عينيها الخضراوين الناعمتين، مدّتْ لي يدها تصافحني، وقالت، “طُلِبَ مني أنْ أُساعدَ في تدريبك.” ولم أصدِّقْ أن ذلك كان يحدث لي.
ابتداءً من اليوم التالي، أخذنا نلتقي في شقة كلودين في شارع بيكُنْ، على مسافةٍ قصيرةٍ من مقرّ شركة مين في مركز برودنشال. في ساعتنا الأولى معا، شرحتْ لي أنّني في مركز غير عاديٍّ، وأنّ علينا أنْ نلتزم السرية التامة. وقالت إنّ أحداً لم يُعطني معلوماتٍ مُحدَّدةً عن وظيفتي لأنه ليس هناك من هو مُخوَّلٌ بذلك – إلا هي. ومن ثمّ أخبرتني أنّ مُهمتها أنْ تُشكلني لأكون “قاتلا اقتصاديا”.
أثار بي هذا الاسمُ أحلام “القناع والخنجر”، فضحكتُ ضحكةً عصبية أحرجتني. فابتسمتْ كلودين وأكّدتْ لي أن النكتة كانت من أسباب اختيار الاسم. “فمن ذا الذي سيأخذها على محمل الجد؟” كما قالت.
عندها اعترفتُ لها بجهلي لدور القاتل الاقتصادي.
ضحكتْ وقالتْ، “لستَ وحدك. إننا سلالةٌ نادرةٌ في عمل قذر. ولا يجوزُ لأحدٍ أنْ يعرفَ ما تقومُ به – حتى زوجتك.” بعد ذلك تحوَّلتْ إلى الجدّ. “سأكون صريحةً معك، سأُعلِّمُكَ كلَّ ما أستطيعُ خلال الأسابيع القادمة. وبعد ذلك عليك أنْ تختار. وقرارُك سيكون نهائيا. فإن دخلتَ، دخلتَ مدى الحياة.” بعد ذلك نادراً ما استخدمت الاسم الكامل؛ فنحن ببساطة ق.ا.*
أعرفُ الآن ما لم أكنْ أعرفُه يومئذ – أنّ كلودين استفادت تماماً من نقاط الضعفِ في شخصيتي التي كشفتها إضبارتي لدى وكالة الأمن القومي. لا أعلمُ من أعطاها المعلومات – آينر، أم وكالةُ الأمن القومي، أم دائرةُ الموظفين في شركة مين، أم غيرهم – كلُّ ما في الأمر أنها استخدمتها ببراعة. فطريقتُها، التي كانت مزيجاً من الإغواء الجسدي والمراوغة اللفظية، كانت مفصّلةً لي تحديدا، ولكنها كانت تُلائمُ طرق العمل المعهودة التي أخذتُ أراها منذ ذلك اليوم تُستخدَمُ في الأعمال التجارية المتنوعة حين تكون الرهاناتُ عاليةً وضغطُ الحصول على الصفقات المربحة قويا. كانت تعرفُ منذ البداية أنني لن أُعَرِّضَ زواجي للخطر بإفشاء أنشطتنا الخفية. وكانت حاسمةً في صراحتِها حين حان الوقت لوصف الجانب الخفيِّ مما هو مطلوب مني القيامُ به.
لم أعرفْ من كان يدفعُ راتبَها، بالرغم من أنه لم يكنْ لديَّ شكٌّ في أنها شركة مين، كما تدلُّ على ذلك بطاقة عملها. لكنني في ذلك الوقت كنتُ أكثر سذاجةً ورُعباً وانبهاراً من أنْ أسألَ الأسئلةَ التي تبدو اليوم واضحة.
أخبرتني كلودين أن ثمةَ غايتين رئيسيتين لعملي. أولاهما أن عليّ أن أُبرِّرَ القروض الدولية الضخمة التي سوف تُعيدُ المالَ إلى شركة مين والشركات الأمريكية الأخرى (مثل بِكتل، هاليبيرتُن، ستون ووبستر، براون وروت) من خلال المشاريع الهندسية والإنشائية الكبيرة. وثانيتُهما أنّ عليّ أنْ أعمل على إفلاس الدول التي تتلقى تلك القروض (بعد أن تُسدِّدَ مستحقاتها لشركة مين وغيرها من الشركات الأمريكية، طبعا) بحيث يُمسك الدائنون برقابها أبداً، فتغدو أهدافاً سهلةً حين نطلبُ منها خدمةً ما، مثل إقامةِ قواعدَ عسكريةٍ في أراضيها، أو التصويتَ لصالحنا في الأمم المتحدة، أو الحصول على النفط أو الموارد الطبيعية الأخرى.
كانت وظيفتي، حسب قولها، أن أتنبّأ بآثار استثمار مليارات الدولارات في بلد ما. كان عليّ تحديداً أن أقوم بدراساتٍ تتنبّأ بالنمو الاقتصادي خلال عشرين إلى خمسٍ وعشرين سنةً في المستقبل وتقيّمُ آثار مختلف المشاريع. ولأضربْ لذلك مثلا: إذا تقرَّر إقراضُ دولةٍ ما مليارَ دولار لإقناع قادتها بالابتعاد عن الاتحاد السوفييتيّ، فعليّ أن أقارن بين فوائد استثمار ذلك المال في محطاتٍ للكهرباء وبين فوائد استثماره في شبكة جديدة للطرق الحديدية في البلاد أو في نظام للاتصالات اللاسلكية. أو قد يُقالُ لي إن تلك الدولة قد مُنحت فرصةَ الحصول على نظامٍ كهربائيٍّ حديث، وإنَّ عليَّ أنْ أُبيّنَ أنّ مثلَ هذا النظام سوف ينتجُ عنه نموٌّ اقتصاديٌّ كافٍ لتبرير القرض. والعاملُ الحاسمُ في كلِّ حال هو الناتج المحلي الإجمالي. وهكذا يفوزُ المشروعُ الذي يُنتج أعلى معدلٍ سنويٍّ لنمو الناتج المحلي الإجمالي. أما إنْ كان هناك مشروعٌ واحدٌ فقط تحت الدراسة، فعليّ أنْ أبيّنَ أنّ تطويرَه سوف يأتي بفوائدَ عاليةٍ للناتج المحليِّ الإجمالي.
إنّ الجانبَ المسكوتَ عنه في كلِّ واحدٍ من هذه المشاريع هو أنّ الغايةَ منها خلقُ أرباحٍ كبيرةٍ للمقاولين، وإسعادُ حفنةٍ من الأسر الغنية المتنفذة في الدول المستدينة، وفي الوقت ذاته ضمانُ وقوع حكوماتها في تبعيةٍ ماليةٍ طويلةِ الأجل، وما يستتبعُ ذلك من ولاء سياسي. وكلما كان القرضُ أكبرَ كان أفضل. أما حقيقةُ أنّ العبءَ الذي يوقعُه الدَّيْنُ على عاتق الدولة المعنية سوف يحرمُ مواطنيها الأشدَّ فقراً من الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية الأخرى لعشرات السنين، فأمرٌ لا يؤخذ في الاعتبار.
بحثنا، كلودين وأنا، الطبيعةَ الخادعةَ للناتج المحليِّ الإجمالي. فنموّهُ قد يتحقّقُ حتى لو كان المستفيدُ منه شخصاً واحدا فقط، كشخص يملكُ شركةَ منفعة، مثلا. وقد يتحقّقُ حتى لو رزحت أغلبيةُ السكان تحت وطأةِ الدين. فالغنيُّ هنا يزداد غنىً والفقيرُ فقرا. ومع ذلك، من وجهة نظر إحصائية، يُسجَّلُ هذا باعتباره نموّاً اقتصاديا.
وكمثل المواطنين الأمريكيين، يعتقد أغلبُ موظفي شركة مين أننا نُقدِّمُ خيراً للدول حين نبني لها محطاتٍ كهربائيةً، وطرقاً سريعة، وموانئ. وقد علّمتنا مدارسُنا وصحافتنا أنْ ننظر إلى كل ما نفعله على أنه حبٌّ للخير. ولقد سمعتُ على مدى السنين تعليقاتٍ متكرِّرةً مثل هذا التعليق: “ما داموا يُحرقون العلمَ الأمريكيَّ ويتظاهرون أمام سفارتنا، لمَ لا نخرج من بلدهم اللعين ونتركهم يتمرّغون بفقرهم؟”
من تصدرُ عنهم مثل هذه الأقوال أناسٌ يحملون شهاداتٍ تدلُّ على أنهم متعلمون. لكنهم لا يعلمون أنّ خدمةَ مصالحِنا هي السببُ الرئيسيُّ الذي يجعلنا نفتحُ السفاراتِ حول العالم. وخلالَ النصف الأخير من القرن العشرين كانت هذه المصالحُ تعني تحويل الجمهورية الأمريكية إلى إمبراطورية عالمية. وبالرغم من شهاداتهم تلك، فإنّ هؤلاء الناسَ على القدر ذاته من قلّةِ الثقافة كالمستعمرين في القرنِ الثامنَ عشرَ الذين كانوا يعتقدون أنّ الهنود [الحمر] الذين كانوا يُقاتلون دفاعاً عن أراضيهم إنما كانوا خدماً للشيطان.
خلال عدة أشهر، كنتُ سأسافرُ إلى جزيرة جاوة في إندونيسيا، تلك التي وُصِفتْ يومئذٍ بأنها أكثرُ بقعةٍ أرضٍ ازدحاما بالسكان على هذا الكوكب. وإندونيسيا إلى ذلك دولةٌ مسلمةٌ غنيةٌ بالنفط وأرضٌ خصبةٌ للنشاط الشيوعي.
“إنها قطعةُ الدومينو التاليةُ بعد فيتنام،” كما وَصَفتْها كلودين. “علينا أن نكسبَ الإندونيسيين إلى جانبنا. فإن انضمُّوا إلى المعسكر الشيوعي،…” هنا وخزت حنجرتَها بإصبعها، مبتسمةً بعذوبة، وأضافت، “لنقلْ إنّ عليك أنْ تأتي بتنبّؤٍ متفائل جدا للاقتصاد، وكيف يمكنُ أنْ يظهرَ بعد بناء جميع المحطات الكهربائية وخطوط التوزيع. فمن شأن هذا أنْ يسمحَ لبرنامج المساعدات الأمريكيِّ وللبنوك الدولية أن تُبرِّرَ القروض. بطبيعة الحال، سوف تُجزَى جزاءً حسناً، وتستطيعُ من بعدُ أن تنتقلَ إلى مشاريعَ أخرى في أماكنَ غريبة. وسيكونُ العالمُ سلةَ مشترياتك.” ثم حذّرتني من صعوبةِ دوري، قائلةً: “سيلاحقُك خبراءُ البنوك، لأن وظيفتهم أن يكشفوا العيوبَ في تنبؤاتك – فمن أجل ذلك يتقاضَوْن رواتبَهم. فإنْ هزّؤوك بلغوا غايتهم.”
ذكَّرْتُ كلودين ذات يوم أنّ فريق شركة مين الذي أُرسلَ إلى جاوة كان من عشرة رجال. وسألتُها إنْ كانوا تلقَّوا النوعَ نفسَه من التدريب، فأجابتْ بالنفي، وقالت: “إنهم مهندسون، يُصمِّمُون محطاتِ الكهرباء وخطوطَ الإرسال والتوزيع، والموانئَ البحريةَ والطرقَ لنقل الوقود. أنتَ من يتنبّأُ للمستقبل، وتنبؤاتُكَ تُقرِّرُ حجمَ الأنظمةِ التي يُصمِّمونها – وقيمةَ القروض. ألا ترى؟ إنك أنتَ المفتاح.”
كلما خرجتُ من شقة كلودين، ساءلتُ نفسي إن كنتُ أفعلُ خيرا. ففي قرارةِ نفسي شعور كامنٌ بغير ذلك. بيد أنّ ما لقيتُ من إحباطٍ في ماضي حياتي كان يلازمني. وقد بدت لي شركة مين بأنها تُعطيني كلَّ ما افتقدتُه في حياتي. مع ذلك كنتُ أسأل نفسي دائما إن كان طومس بين* يقبلُ بهذا. أخيراً أقنعتُ نفسي بأنني حين أتعلّمُ أكثرَ، وأخبُرُ الأمر، أستطيعُ أن أكشفه لاحقا – إنه المبرِّرُ القديم: “العمل من الداخل”.
حين أخبرتُ كلودين بفكرتي، نظرتْ لي بارتباكٍ وقالتْ، “لا تكن سخيفا. إذا دخلتَ فلن تستطيعَ الخروج. عليك أنْ تأخذ قرارك قبل أن تغوصَ في العمق.” أدركتُ رأيَها، لكنّ قولها أفزعني. وبعد أن خرجتُ، تمشيتُ في شارع كُمُنْوِلْث، ثم تحوَّلتُ إلى شارع دارتمُث، وأكَّدتُ لنفسي بأنني كنتُ الاستثناء.
ذاتَ عصرِ يوم بعد عدة أشهر، جلسنا، كلودين وأنا، على أريكةِ نافذةٍ نُراقبُ الثلجَ المتساقط على شارع بيكُنْ. قالت كلودين، “نحنُ نادٍ صغيرٌ خاصّ. نتقاضى راتبا – راتبا عاليا – لكي نخدعَ الدولَ حول العالم بمليارات الدولارات. إنّ جزءاً كبيراً من وظيفتك أنْ تُشجِّعَ قادةَ العالم على أنْ يُصبحوا ضمنَ شبكةٍ تدعمُ مصالحَ الولاياتِ المتحدة التجارية. وفي نهاية المطاف، يقعُ هؤلاء القادةُ في شِباكٍ من الدَّيْن تضمنُ ولاءهم. عندئذٍ نستطيعُ الاعتمادَ عليهم حين نرغبُ لكي نُحقق أغراضَنا السياسية والاقتصادية والعسكرية. وبالمقابل، يُعزِّزُ هؤلاء القادةُ أوضاعَهم السياسيةَ بأن يجلبوا لشعوبهم مناطقَ صناعيةً ومحطاتٍ كهربائيةً ومطارات. في الوقت نفسه، يُثري أصحابُ الشركات الهندسية والإنشائية ثراءً كبيرا.”
في عصر ذلك اليوم، في تلك الجلسة الشاعرية في شقة كلودين، بينما كنتُ مسترخياً أرقبُ نديفَ الثلجِ يتلوَّى في الخارج، تعلّمتُ تاريخ المهنة التي كنتُ على وشكِ وُلوجِها. شرحتْ كلودينُ كيف قامت الإمبراطورياتُ عبر التاريخ بالقوة العسكرية عموما، أو بالتهديد بها. غير أنّ الحلَّ العسكريَّ في نهاية الحرب العالمية الثانية، بظهور الاتحاد السوفييتي وشبح المحرقة النووية، أصبح مخاطرة لا تُحتَمَل.
حدثتْ اللحظةُ الحاسمة في العام 1951، حين ثارتْ إيرانُ على شركة النفط البريطانية التي كانت تستغلُّ المصادر الطبيعية الإيرانية والشعب الإيراني. كانت تلك الشركةُ سَلَفَ شركة النفط البريطانية اليوم.** بناءً عليه، قام رئيسُ الوزراء الإيرانيُّ، محمد مُصدَّق، ذو الشعبية الكاسحة، المنتخبُ ديمقراطيا، بتأميم جميع المرافق النفطية الإيرانية (وقد اعتبرته مجلة تايم شخصية عام 1951). عندها طلبتْ إنكلترا الغاضبةُ مساعدةَ حليفتها في الحرب العالمية الثانية، الولايات المتحدة الأمريكية. بيد أن الدولتين خشيتا من أن الردَّ العسكريَّ سوف يستفزُّ الاتحادَ السوفييتي، فيقومُ بعمل لصالح إيران.
لذلك، بدل قوات البحرية، أرسلت واشنطن عميلَ وكالةِ الاستخبارِ المركزية كيرمِت روزفِلت (حفيد الرئيس ثيودور روزفلت). وقد عمل بذكاءٍ، مُنتزعاً تأييدَ الناس بالمال والتهديد. بعد ذلك حشد الناسَ لتنظيم سلسلةٍ من أعمالِ الشغبِ والمظاهراتِ العنيفةِ في الشوارع، مما خلق الانطباعَ بأن الرئيس مُصدَّق لم يكن ذا شعبية أو كفاءة. وفي نهاية المطاف، سقط مُصدّق وقضى بقية حياتِه في الإقامة الجبرية في بيته، وأصبح الشاه محمد رضا، المؤيِّدُ للسياسة الأمريكية، الدكتاتورَ الذي لا ينافَس. لقد أسَّسَ كيرمِت روزفِلت لمهنةٍ جديدة، تلك التي انضممتُ لها.[i]
لقد أعادتْ حركةُ روزفلت تشكيلَ تاريخِ الشرقِ الأوسط حتى حين جعلتْ من المخططات القديمة لبناءِ الإمبراطوريات أمرا عفا عليه الزمن. كذلك تزامنتْ مع بداية التجارب في “أعمالٍ عسكرية محدودة غير نووية،” وهو ما أدى أخيراً إلى الذلّةِ التي أصابت الولايات المتحدة في كوريا وفيتنام. في العام 1968، وهو العام الذي حدثتْ فيه مقابلتي لدى وكالة الأمن القومي، أصبح واضحاً أنه إذا أرادت الولاياتُ المتحدةُ أن تُحقِّقَ حلمها في الإمبراطورية العالمية (كما تصوَّرَها رجالٌ من أمثال جونسُن ونِكسُن)، فعليها أن تستخدمَ مخططاتٍ مبنيةً على الطراز الذي ابتدعه روزفلت في إيران. فقد كانت تلك هي الطريقة لهزيمة السوفييت بدون التهديد بحرب نووية.
غير أنّ مشكلةً كانت هناك. ذلك أنّ كيرمت روزفلت كان موظفاُ في وكالة الاستخبار المركزية. فلو ألقي القبضُ عليه، لكانت النتائجُ مؤلمة. ذلك أنه كان يقودُ أولَ عمليةٍ أمريكيةٍ للإطاحةِ بحكومةٍ أجنبية، وكان مُحتملا أنْ تتبعها عملياتٌ كثيرةٌ أخرى. فكان مُهمّاً أنْ يُبحَثَ عن وسيلةٍ لا تتورطُ واشنطن مباشرةً فيها.
لحسن حظ المُخططين الاستراتيجيين أنّ ستينات القرن العشرين شهدت أيضاً نوعا آخر من الثورات: تعزيزَ قوة الشركات العالمية والمنظمات متعددة الجنسيات، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. والمؤسستان الأخيرتان كان تمويلهما الأساسي يأتي من الولايات المتحدة وشقيقاتنا في أوربا من بانيات الإمبراطورية. فتطورت علاقةٌ تكافلية فيما بين الحكومات والشركات والمنظمات متعددة الجنسيات.
يوم انضممتُ إلى جامعة بوسطن، كان قد وُجد حلٌّ لمشكلة روزفلت كعميل لوكالة الاستخبار المركزية. من ذلك أن على وكالات الاستخبار الأمريكية – منها وكالة الأمن القومي – أنْ تجد قتلةً اقتصاديين يُمكنُ توظيفُهم من قبل الشركات العالمية، بحيثُ لا يقبضون رواتبَهم من الحكومة مطلقا، بل من القطاع الخاص. فإذا اكتُشف عملهم القذر، وقعتْ اللائمة على جشع الشركات، لا على سياسة الحكومة. أضفْ إلى ذلك أن الشركاتِ التي تستخدمُهم، بالرغم من أنّ الوكالات الحكومية ونظراءها من البنوك العالمية هي التي تموّلها (من أموال دافعي الضرائب)، ستكون في مأمنٍ من مراقبة الكُنغرس والتدقيق العامّ، باختبائها تحتَ جسم متنامٍ من الحقوق المشروعة، كالعلامات التجارية والتجارة العالمية وقوانين حرية المعلومات.[ii]
وتستنتج كلودين قائلةً، “ألا ترى؟ إننا الجيلُ التالي لتقليد عظيم بدأ حين كنتَ في السنة الجامعية الأولى.
عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأربعاء 25 مايو 2016, 8:54 am عدل 1 مرات |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 8:52 am | |
| الفصل الثالث
( سوف اضعه لاحقا ) |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 8:52 am | |
| الفصل الرابع
حماية البلد من الشيوعية
كانت لي نظرةٌ خياليةٌ لإندونيسيا، ذلك البلد الذي سأعيشُ فيه الأشهرَ الثلاثةَ القادمة. وقد رأيتُ صوراً فاتنةً لنساء جميلات في ملابس السارُنغ ذاتِ الألوان البهيجة، ولراقصاتٍ باليّاتٍ غريبات، ولكهنةٍ ينفخون في النار، ولمحاربين يُجدِّفون زوارقَ طويلةً محفورةً من جذوع الشجر في مياهٍ زمرّدية عند أقدام البراكين التي تصاعد دخانها. كان أخّاذاً بصورة خاصةٍ مسلسلٌ عن السفن الرائعة ذات الأشرعة السوداء التي لا يزالُ قراصنةُ البوجي المخيفون يُبحرون بها في مياه الأرخبيل، وكانوا يُرعبون البحارة الأوربيين الأوائل، حتى إذا عاد أولئك البحارةُ إلى أوطانهم أخذوا يهددون أطفالهم بقولهم، “تأدّبوا وإلا أخذكم رجال البوجي.” لكم أثار نفسي هؤلاء القراصنة!
يُمثل تاريخُ تلك البلاد وأساطيرُها وفرةً من الصور الأسطورية: كغضب الآلهة، وتنين كومودو، وسلاطين القبائل، والحكايات القديمة التي ترحّلت قبل ميلاد المسيح بزمن طويل عبر الجبال الآسيوية والصحارى الفارسية، وفوق البحر المتوسط لتنغرس عميقاً في نفسنا الجمعية. مُغويةٌ للعقل بحدِّ ذاتها أسماءُ جزرها الأسطورية – جاوة، سومطرة، بورنيو، سُلاويسي. هاهنا بلادُ التصوُّفِ والخرافةِ والجمالِ الشهيّ؛ هاهنا الكنزُ المراوغُ الذي أطلقَ الشراعَ إليه كُلُمْبُس فما اهتدى إليه؛ هاهي الأميرةُ التي شبّبتْ بها إسبانيا وهولندة والبرتغال واليابان، فما استطاعتْ أنْ تنالها. إنها الخيالُ والأحلام.
كانت توقعاتي عالية، وأعتقد أنها عكست توقعاتِ المستكشفين العظام. وكمثل كُلُمْبُس، مع ذلك، كان عليَّ أنْ أعرف كيف أخفِّفُ من غُلواء خيالي. لعلي كنتُ حزرتُ أن المنارة تشعُّ على مصيرٍ لا يخطرُ دائما بالبال. بلى، لقد عرضتْ إندونيسيا كنوزَها، ولكنها لم تكن ذلك البلسم الشافي الذي توقعت. والحقيقةُ أنّ أيامي الأولى في جاكارتا، عاصمة إندونيسيا الرطبة، في صيف 1971، كانت صدمةً لي.
من المؤكد أن الجمال كان موجودا: نساءٌ جميلات في ملابس السارُنغ الملونة؛ حدائقُ مترفةٌ تتلألأ بالأزهار الاستوائية؛ راقصاتٌ باليّات غريبات؛ عرباتٌ تجرُّها الدراجات الهوائية، ذاتُ مقاعدَ عاليةٍ رُسمت على جانبيها مناظرُ رائعة بألوان الطيف، حيث يتمطى الركابُ عليها بينما يُحرّك السائقون أقدامهم على الدواسات؛ قصورٌ من مخلفات الاستعمار الهولندي، ومساجدُ ذات مآذن. إلا أنّ للمدينة وجها آخر قبيحا مُفجعا. فثمة المصابون بالجذام ذوو الأيدي المقطوعة الدامية؛ والصبايا اللائي يعرضن أجسادهن لقاء حفنةٍ من قطع النقد؛ والقنواتُ الهولنديةُ التي كانت جميلةً يوما فتحولتْ إلى بالوعات آسنة؛ والزرائبُ الكرتونية التي تعيشُ فيها أسرٌ بأكملها حول ضفاف الأنهر السوداء المغطاة بالقمامة؛ والأبواق المدوية والغازات الخانقة. الجميل والقبيح، الأنيق والمبتذل، الروحاني والدنِس، كلها جنباً إلى جنب معا. هكذا كانت جاكارتا، حيث يتصارع أريجُ القرنفل وعبيرُ أزهارِ البساتين مع الرائحة العفنة للمجاري المفتوحة.
كنتُ رأيتُ الفقر من قبل. كان بعضُ زملاء دراستي في نيو هَامْبْشَيَر يعيشون في أكواخ من ورق القار، ويأتون المدرسة مرتدين معاطفَ رقيقةً وأحذيةً مُهترئةً في أيام الشتاء التي تهبط حرارتها تحت الصفر؛ ومن أجسادهم التي لا تغتسل، كانت تفوحُ رائحةُ العرقِ المعتّقِ وروثِ الحيوانات. وقد عشتُ في أكواخ من طين مع الفلاحين في الأنديز، أولئك الذين يكاد غذاؤهم يتكوّنُ كليا من الذرة الجافة والبطاطا، وكان حظُّ وليدهم الجديد من الحياة والموت واحدا أحيانا. بلى رأيتُ الفقر؛ لكنه لم يكن ليُعدَّني لما رأيتُ في جاكارتا.
بطبيعة الحال، كان فريقنا ينزل في أجمل فندق في البلاد، فندق إنتركنتننتال إندونيسيا، الذي تملكه شركة طيران بان أميرِكان، كما كانت تملك بقيةَ هذه السلسلة من الفنادق المتناثرة حول العالم، والذي يقدم خدماته لنزوات الغرباء الأغنياء، خاصةً لمديري شركات النفط وعوائلهم. في مساء يومنا الأول، أقام مدير مشروعنا، شارلي إلنغويرث، وليمة عشاء لنا في المطعم الأنيق في الطبقة العليا.
كان شارلي خبير حرب؛ وكان يصرفُ معظم وقتِ فراغه في قراءة كتب التاريخ والروايات التاريخية عن القادة العسكريين والمعارك العظيمة. كان يمثل الجنديَّ النظريَّ المؤيد لحرب فيتنام. وكالعادة، كان في تلك الليلة يلبس سروالا من الكاكي وقميصا بنصف كم من الكاكي أيضاً ذا كتفين عسكريين شكلا.
بعد أنْ رحّب بنا، أشعل سيجارا، وحمل كأسا من الشمبانيا وقال متنهدا: “لأجل حياة جيدة.” وإذ قعقعتْ كؤوسنا، رددنا عليه القول، “لأجل حياة جيدة.”
كان شارلي يتأمّلُ أرجاء الغرفة، بينما كان دخانُ السيجار يتلوى من حوله. قال وهو يهزُّ رأسه استحسانا، “سوف يعتني الإندونيسيون بنا جيدا هنا، كذلك سيفعل موظفو السفارة الأمريكية. لكنْ، لا ننسَ أن علينا مهمةً يجب إنجازُها.” ثمّ نظر إلى حفنة من بطاقات الملاحظات، وأضاف، “بلى. نحن هنا لكي نطوّر خطةً رئيسيةً لكهربة جاوة – أكثر بقعة أرضٍ ازدحاما بالسكان في العالم. لكن هذا ليس سوى قمة جبل الجليد.”
ثمّ تحوّل تعبيرُ وجهه إلى الجد؛ فذكّرني بجورج سْكُتْ وهو يُمثل دور الجنرال باتون، أحد أبطال شارلي. “نحن هنا لننقذ البلاد من قبضة الشيوعية. إندونيسيا، كما تعرفون، ذاتُ تاريخ طويل مفجع. والآن، حين تتهيّأُ للانطلاق إلى القرن العشرين، تجد نفسها على المحك مرةً أخرى. مسؤوليتنا أن نتأكد من أنها لا تتبع خطى جاراتها في الشمال، فيتنام وكمبوديا ولاوس. إن نظاماً كهربائيا متكاملا لهو عنصر أساسي، لأنه، أكثر من أي عامل فردٍ آخر (باستثناء ممكن للنفط)، سوف يضمن حكم الرأسمالية والديمقراطية.”
ثم قال، وقد أخذ نفساً آخر من سيجاره وحرّك بضع بطاقات في يده، “نعلم كلنا، إذ نتكلم عن النفط، مدى اعتماد بلادنا عليه. يُمكنُ إندونيسيا أنْ تكون حليفةًً قويةًً لنا في هذا الشأن. لذلك أرجوكم، وأنتم تُطوِّرون هذه الخطةَ الرئيسية، أن تقوموا بما في وسعكم لتضمنوا أنّ صناعةَ النفط وكلَّ ما يخدمها – من موانئ وخطوط أنابيب وشركات إنشائية – تنال كلَّ ما قد تحتاج من كهرباءَ خلال كامل مدة هذه الخطة التي تستغرق خمسةً وعشرين عاما.”
ثم رفع عينيه عن بطاقات ملاحظاته، ونظر إليّ مباشرة، وقال، ” أنْ تُخطئ في إعطاء تقدير أعلى خيرٌ من أن تبخس تقديرك. فأنت لا تحبُّ أنْ ترى على يديك دمَ الأطفال الإندونيسيين – أو دمنا نحن. لا تريدهم أن يعيشوا تحت حكم المنجل والشاكوش، أو تحت علم الصين الأحمر!”
حين اضطجعتُ على فراشي في تلك الليلة، عاليا فوق المدينة، آمناً مترفاً في جناح من الدرجة الأولى، أطلّتْ عليّ صورة كلودين. فقد كانت تُطاردُني محاضراتُها عن الدَّيْن الخارجي. حاولتُ أنْ أريحَ نفسي باستذكار دروس تعلمتُها في مساقات الاقتصاد الكليّ في مدرسة الأعمال. قلتُ لنفسي، إنني هنا لمساعدة إندونيسيا في نهضتها من الاقتصاد القديم لكي تأخذ مكانها في العالم الصناعي الحديث. لكنني كنتُ أعلمُ أنني سأنظر من نافذتي في الصباح، عبر حدائق الفندق ومسابحه الغنية، وأرى الزرائب الممتدة أميالاً خلفها. سأعرف أن الأطفالَ يموتون هناك لافتقادهم الطعامَ والماءَ الصالحَ للشرب، وأنّ الصغار والكبار جميعا يعانون من الأمراض المخيفة ويعيشون في أحوالٍ مؤلمة.
وإذ تقلّبتُ في فراشي، وجدتُ مُحالا أنْ أُنكرَ أنّ شارلي وكلَّ واحد غيره في فريقنا قد جاؤوا جميعا لأسبابٍ أنانية. لقد كنا نُعزِّزُ السياسة الخارجية للولايات المتحد ومصالح الشركات، وكان يحفزُنا الطمعُ، لا الرغبةُ في تحسين حياة الغالبية العظمى من الإندونيسيين. عندئذٍ خطر ببالي تعبير “سلطة الشركات”*. لم أكن متأكداً إن كنتُ سمعتُه من قبل أو أنني ابتدعتُه. لكنه يصف تماما تلك الصفوةَ الجديدة التي وضعت نصب أعينها أنْ تحكم كوكب الأرض.
كانت هذه أخوّةً شديدة الترابط بين قلة من الرجال ذوي الأهداف المشتركة، يتنقّلُ أعضاؤها كثيراً وبسهولة بين مجالس إدارة الشركات وبين المناصب الحكومية. وقد أدهشني أنّ رئيس البنك الدولي، روبرت مكنَمارا، كان مثلا نموذجيا. فقد انتقل من منصبه كرئيس لشركة فورد للسيارات، إلى وزير للدفاع تحت رئاسة كل من كندي وجونسُن، ثم تبوّأ أعلى منصب لأقوى مؤسسة مالية في العالم.
تبيّن لي أيضاً أن أساتذتي في الجامعة لم يفهموا الطبيعة الحقيقية للاقتصاد الكلي: أنّ مُساعَدةَ الاقتصادِ على النموّ، غالبا ما تجعلُ تلك القلة من الناس المتربعةَ على قمة الهرم تزداد ثراء، بينما لا تفعل شيئاً لمن هم في القاع سوى أن تدفعهم أكثرَ إلى الأسفل. حقاً، إن تعزيز الرأسمالية غالباً ما يُنتج نظاماً شبيها بالمجتمعات الإقطاعية في القرون الوسطى. وإنْ كان أيٌّ من أساتذتي يعلمون ذلك، فإنهم لم يعترفوا به – ربما لأن الشركات الكبرى، والرجال الذين يديرونها، هم من يموِّلُ الجامعات، والكشف عن الحقيقة سوف يُكلف هؤلاء الأساتذة وظائفهم قطعاً – تماما كما كان يُمكن مثلُ هذا الكشف أن يُكلفني وظيفتي.
استمرّت هذه الأفكارُ تؤرّقُ نومي في كل ليلةٍ قضيتُها في فندق إنتركنتننتال إندونيسيا. وفي نهاية المطاف، كان دفاعي الأول شخصيا تماما: لقد جاهدتُ لكي أخرج من بلدة نيو هَمْبْشَيَر، ومن المدرسة الإعدادية، ومن الخدمة العسكرية. وبالجمع بين الصدف والعمل الجادّ، استطعتُ أنْ أنال مكاناً في الحياة الجيدة. كذلك واسيتُ نفسي بحقيقة أنني كنتُ أفعل الشيءَ الصحيح من وجهة نظر ثقافتي. كنتُ في طريقي إلى أن أصبح خبيراً اقتصاديا ناجحا ومحترما. كنتُ أفعلُ ما كانت مدرسةُ الأعمال تُعدني له. كنتُ أساعد في تطبيق نموذج تطويري أقرته أفضلُ العقول في أسمى الحلقات التفكيرية في العالم.
بالرغم من ذلك، غالبا ما كنتُ أعزّي نفسي في لجة الليل بأنني في يوم من الأيام سوف أكشف الحقيقة. بعد ذلك كنتُ أهدهد نفسي للنوم بقراءة روايات لويس لامور عن المحاربين بالبنادق في الغرب القديم.
الفصل الخامس
بيعُ نفسي
أمضى فريقُنا المؤلَّفُ من أحدَ عشرَ رجلاً ستة أيام في جاكارتا قام خلالها بالتسجيل لدى السفارة الأمريكية، وبالاجتماع بمختلف المسؤولين، وبتنظيم أنفسنا، وبالاسترخاء حول بركة السباحة. وإذ أدهشني عدد الأمريكيين الذين كانوا يعيشون في فندق إنتركنتننتال. كنتُ أستمتعُ في مشاهدة الصبايا الجميلات – زوجات مديري شركات النفط والبناء الأمريكية – اللواتي كنَّ يُمضين أيامَهنّ على المسبح وأماسيهنَّ في بضعة مطاعم أنيقة في الفندق أو حوله.
بعد ذلك نَقَلَنا شارلي إلى مدينة باندُنغ الجبلية، حيث كان الطقسُ ألطف، والفقرُ أضعفَ وضوحاً، والملهياتُ أقل. أُنزلنا في مضافةٍ حكومية تُدعى “وِسمة”، فيها مديرٌ، وطباخٌ، وبستانيٌّ، ومجموعةٌ من الخدم؛ وقد كانت منتجعا بُني أيام الاستعمار الهولندي، تطلُّ شرفتها الواسعة على مزارع الشاي الممتدة عبر التلال الملتفة، وعلى منحدرات جبال جاوة البركانية. وبالإضافة إلى السكن، زُوِّدْنا بإحدى عشرة سيارة تويوتا للطرق الوعرة، لكل منها سائق ومترجم. وفوق هذا، زُوِّدْنا أيضاً ببطاقات عضويةٍ لنادي باندُنغ للجولف والرَّكت الخاص. وكانت مكاتبنا في جناحٍ في المقرِّ الرئيسي لشركة المنفعة الكهربائية التي تعود ملكيتها للحكومة.
فيما يتعلق بي، قضيتُ بضعةً من أيامي الأولى في باندُنغ في سلسلة اجتماعات مع شارلي وهِوارْد باركر. كان هوارد في السبعينات من عمره، وكان قبل تقاعده المُخطِّطَ الرئيسَ للأحمال الكهربائية في منظومة نيو إنكلاند الكهربائية. واليوم أصبح المسؤول عن التخطيط لكمية الطاقة والقدرة التوليدية (الأحمال) التي تحتاج إليها جزيرة جاوة خلال الخمسة والعشرين عاما القادمة، وكذلك عن تقسيم ذلك إلى مخططات على مستوى المدينة والمنطقة. ولأن الحاجة الكهربائية تعتمد اعتمادا كبيرا على النمو الاقتصادي، فلا بد لتنبؤاته من الاعتماد على تنبّؤاتي الاقتصادية. أما بقية فريقنا، فعليه أن يضع الخطة الرئيسية بناءً على هذه التنبؤات، وذلك في موضعة المحطات الكهربائية وتصميمها، وفي خطوط الإرسال والتوزيع، وفي أنظمة نقل الوقود بطريقة تفي بمخططاتنا بأعلى كفاءة ممكنة. وفي أثناء اجتماعاتنا كان شارلي يؤكد على أهمية عملي، وكان يُضايقني دائما حول الحاجة إلى التفاؤل في تنبؤاتي. لقد كانت كلودين على حق حين قالت إنني مفتاحُ الخطة الرئيسية بأكملها.
قال شارلي: “ستكون بضعةُ الأسابيع الأولى هنا لجمع المعطيات.”
كنا، شارلي وهوارد وأنا، نجلس في مقاعد كبيرة مصنوعةٍ من أسَل الهند في مكتب شارلي الفخم. كانت الجدرانُ مزخرفةً بتطريز من الباتيك، ذي رسوم لحكاياتٍ ملحميةٍ مأخوذةٍ من النصوص الهندوسية القديمة لملحمة رامايانا. وكان شارلي ينفخ سيجاره الغليظ.
قال شارلي، “سوف يضع المهندسون صورةً مفصَّلةً للنظام الكهربائي الحالي، وسعة الميناء، والطرق، والسكك الحديدية، إلى آخر هذه الأشياء.” ثم سدد سيجاره صوبي وقال، “عليك أن تعمل بسرعة. ففي نهاية الشهر الأول، سيحتاج هوارد إلى فكرة جيدة عن حجم المعجزات الاقتصادية التي ستحدث حين يعمل المشروع الجديد. وفي نهاية الشهر الثاني، سوف يحتاج إلى تفاصيل أكثر – مقسمة على مستوى المناطق. والشهر الأخير يُخصَّصُ لملء الفراغات. وهذا سيكون حاسما. كلنا سوف نتعاون في التفكير. لذلك، علينا قبل أن نغادر أنْ نكون متأكدين من أن لدينا جميع المعطيات اللازمة لنا. ثم نعود إلى البلاد للاحتفال بعيد الشكر. هذا هو شعاري. ولا عودة لنا بعد ذلك.”
بدا لي هوارد من نوع الجَدِّ الودود؛ والحقيقة أنه كان رجلا مُسِنّاً لاذعا، يشعر أنه خُدع في حياته. ذلك أنه لم يصل قط ذروة المسؤولية في منظومة نيو إنكلاند الكهربائية، وهو ما أورثَ لديه استياءً كبيرا. قال لي، “تجاوزوني لأنني رفضت قبول خط الشركة.” ثمّ أُجبر على قبول التقاعد. وإذ لم يُطقْ الجلوس في البيت مع زوجته، قَبِلَ منصبا استشاريا مع شركة مين. كانت هذه مهمته الثانية، وكان آينر وشارلي حذراني أن أنتبه له، واصفَيْنِ إياه بالعنيد، والوضيع، والحقود.
وكما تبيّن لي، كان هوارد واحدا من أحكم أساتذتي، بالرغم من أنني لم أكن مستعداً لقبوله في ذلك الوقت. لم يكن قطُّ قد تلقى نوع التدريب الذي تلقيته أنا من كلودين؛ إذ لعلهم اعتبروه أكبر سنا أو أشدَّ عناداً مما يجب. أو لعلهم رأوا أنه سيعمل معهم لمدة قصيرة إلى أنْ يُغرُوا رجلا مثلي أكثر مرونة يعمل كامل الوقت. على أي حال، كان هوارد من وجهة نظرهم معضلة. ومن الواضح أنه كان يُدرك الوضع والدور الذي يريدونه أن يقوم به؛ لكنه كان مصمما على ألا يكون حجر شطرنج في أيديهم. كلُّ ما ألصقه به آينر وشارلي من صفات كانت صحيحة؛ لكن بعض عناده كان على الأقل نابعا من التزامه الشخصي ألا يكون خادما لهم. أشك في أنه سمع يوما ما بتعبير “قاتل اقتصادي”. لكنه كان يعرف أنهم ينوون استخدامه لتعزيز شكل من الإمبريالية لم يكن باستطاعته قبولُها.
أخذني جانبا بعد أحدِ اجتماعاتنا بشارلي. كان يلبس سماعة أذن ويلعب تحت قميصه بالصندوق الصغير الذي يتحكم بقوة الصوت.
وقفتُ مع هوارد بالقرب من النافذة في مكتبنا المشترك المطلِّ على القناة الآسنة التي كانت تلتفُّ حول عمارة شركة الكهرباء. كانت امرأةٌ شابةٌ تستحم في مياهها الملوَّثة، تحاولُ الحفاظ على بعض الاحتشام بلفِّ ثوبها السارُنغ بدون إحكام حول جسدها شبه العاري. دنا هوارد، وقال بصوت خفيض، “هذا بيني وبينك. سوف يُحاولون إقناعَك بأن هذا الاقتصاد سيبلغ السماء ازدهارا. شارلي هذا عديم القلب. لا تدعْه يقترب منك.”
أشعرني كلامه بهبوطٍ في قلبي. ولكني أيضا كنت أودّ إقناعه بأن شارلي على حق؛ ففي نهاية المطاف تعتمد سيرةُ عملي على إرضاء رؤسائي في شركة مين. لذلك قلتُ له، “من المؤكد أن هذا الاقتصاد سوف يزدهر.” وإذ كانت عيني تقع على الفتاة في الترعة، أضفتُ قائلا، “انظر لما يحدث.”
بدا واضحاً أنه لم ينتبه للمنظر من تحتنا، فتمتم قائلا، “هكذا إذاً. قد أخذتَ طريقَهم، أليس كذلك؟”
لفتت نظري حركةٌ في أعلى القناة. انحدر رجلٌ كهلٌ من الرصيف، ثم خلع سرواله، وقرفص عند حافة الماء مستجيباً لنداء الطبيعة. رأته الشابّةُ، لكنها لم تكترث، بل واصلت استحمامها. عندها ابتعدتُ من النافذة ونظرتُ إلى هوارد مباشرة، وقلت، “لقد تجولتُ في بعض الأماكن. ربما أكون صغيرا، ولكني عائد للتوّ من أمريكا الجنوبية حيث قضيتُ ثلاث سنوات. وقد رأيتُ ما يمكن أن يحدث حين يُكتَشَفُ النفط. الأمور تتغيّرُ بسرعة.”
أجابني ساخراً، “آه، وأنا أيضا تجوّلتُ، ولسنوات طويلة جدا. أيُّهذا الفتى، دعني أقلْ لك شيئاً. لا تعنيني اكتشافاتُك النفطية مطلقا. لقد أنفقتُ حياتي كلَّها أخطِّطُ للأحمال الكهربائية – أيامَ الكساد الاقتصادي، في أثناء الحرب العالمية الثانية، أيامَ الضيق والسعة. وقد رأيتُ ما فعلتْه لبوسطن ما تسمى بمعجزة ماساشوسِتْسْ، الطريق 128. واستطيع القول بثقة مؤكدة أنه ما من حمل كهربائيٍّ يمكن أن ينمو سنويا أكثر من 7 إلى 9 في المئة لأية فترة مستمرة. وهذا في أحسن الأحوال. بل إن ستة في المئة معقولة أكثر.”
تملّكتْني غريزةُ الدفاع، وإنْ كان جزءٌ مني يظنه على حق. كنتُ أعلم أنّ عليّ إقناعَه، لأن ضميري كان يصرخ طلباً للتبرير.
قلت له، “هوارد، هذه ليست بوسطن. هذا بلدٌ لا يستطيعُ أحدٌ فيه حتى الآن الحصولَ على الكهرباء. الأمور هنا مختلفة.”
فانقلب على عقبه محركاً يده وكأنه يريد أنْ يكنسني من أمامه، وقال مزمجرا، “امض في سبيلك. بِعْ بضاعتك. لا يهمني البتةَ ما تخرج به.” ثم جرّ كرسيَّه من خلف مكتبه بعنفٍ وألقى بجِرمه عليه، وقال، “سوف أضع مخططاتي للكهرباء بناءً على ما أعتقد، وليس بناء على دراسةٍ اقتصاديةٍ تشبه بناء القصور في القمر.” ثم أمسك بقلم الرصاص وأخذ يُخربش على قطعة من ورق.
لا أنكر أنّ الأمر كان تحديا. لذلك ذهبتُ ووقفتُ أمام مكتبه.
“لسوف تبدو غبياً إذا قدّمتُ أنا ما يتوقعه الجميع – ازدهاراً ينافس هجمة الذهب في كاليفورنيا – بينما تُقدِّمُ أنتَ توقعا لنموٍّ كهربائيٍّ بمعدَّلٍ يشبه معدَّل بوسطن في الستينات.”
صفع مكتبه بقلم الرصاص وحدّق إليّ وقال، “بلا ضمير! هذا كلُّ ما في الأمر.” وأشار بذراعيه إلى المكاتب خلف جدران مكتبنا. “أنتم جميعاً بعتُم أنفسكم للشيطان. أنتم هنا لأجل المال.” ثم رسم على وجهه ابتسامةً مفتعلة، ومد يده تحت قميصه، وقال، “سأقفل سماعات أذني وأعود للعمل.”
اهتزّتْ أعماقي. وأسرعتُ إلى مكتب شارلي. وفي منتصف الطريق توقفتُ غير متأكِّدٍ مما أريد فعله. ثم بدل ذلك استدرتُ هابطا الدرج إلى الخارج صوب فضاء ما بعد الظهر. كانت الفتاةُ الشابةُ تصعد خارج القناة، وقد لفّتْ ثوبها بإحكام حول جسدها. أما الرجل الكهل، فقد اختفى. وكان عدة صبيان يلعبون في القناة، يتراشقون بالماء ويتصايحون، بينما وقفت امرأةٌ في الماء حتى ركبتيها تفرشي أسنانها، وكانت أخرى تدعك بعض الملابس.
تورّمتْ حنجرتي. جلستُ على قطعةٍ مكسورةٍ من الإسمنت، محاولا تجاهل الرائحة النفاذة الآتية من القناة. جاهدتُ كثيرا لأمنع دموعي من الانهمار؛ وكنت بحاجة إلى أن أفهم سبب شعوري بالبؤس.
“أنتم هنا لأجل المال.” كانت كلماتُ هوارد تتردد في مسامعي. لقد أصابَ لديّ عصبا مكشوفا.
استمرّ الصبيانُ يتراشقون بالماء، وأصواتُهم المرحة تملأ الفضاء. تساءلتُ ما الذي يمكنني فعله. كيف لي أنْ أُصبح لامباليا كهؤلاء الصغار؟ عذبني السؤال إذ جلستُ أراقبُهم يتقافزون في براءتهم السعيدة، غير مُدركين خطورةَ اللعبِ في ذلك الماء المنتن. مرّ رجلٌ عجوزٌ محدودبُ الظهر أعرج، يتكئ على عصا كثيرة العقد، ووقف على الرصيف يشاهد الصبيان؛ ثمّ ابتسم فمه الذي ذهبت أسنانه.
لعلي أستطيع أن أضع ثقتي بهوارد. لعلنا معاً نصل إلى حل. عندئذٍ تملكني شعورٌ بالارتياح، فالتقطتُ حجراً صغيراً وألقيته في القناة. ولكنْ، ما إنْ تلاشت المُويجاتُ حتى تلاشت معها سعادتي. كنت أعلم أنني لا أستطيع فعل ذلك. كان هوارد عجوزا ولاذعا. وقد تجاوز الفرص للتقدم بمهنته، ومن المؤكد أنه لن ينثني الآن. لكنني لم أزل شابّاً، وقد بدأتُ للتو، وأكيدٌ أنني لا أريد أن أنتهي إلى ما انتهى إليه.
بينما كنتُ أحدِّقُ إلى تلك القناة العفنة، حضرتني صور من مدرسة نيو هامبشير الإعدادية فوق التل، حيث كنت أقضي إجازاتي المدرسية وحيدا، بينما كان الأولاد الآخرون يذهبون إلى الحفلات. عندها أخذتْ الحقيقةُ الحزينةُ تترسب في داخلي ببطء، ومرة أخرى، هاأنذا لا أجد من أكلمه.
استلقيتُ في تلك الليلة في فراشي أفكر لوقتٍ طويل بالناس الذين عاشرتهم – هوارد، شارلي، كلودين، آن، آينر، العم فرانك – متسائلاً كيف يمكن أن تكون عليه حياتي لو لم ألتق بهم قط. أين كنت أعيش؟ ليس في إندونيسيا. هذا مؤكد. تساءلت أيضا عن مستقبلي، إلى أين تُراني أمضي؟ تفكرتُ في القرار الذي يجابهني. لقد أوضح شارلي أنه يتوقع مني ومن هوارد أن نأتي بمعدلات نموٍّ لا تقل عن 17 في المئة في السنة. فما نوع التنبُّؤ الذي سأخرج به؟
فجأة خطرتْ ببالي فكرةٌ أراحتني، ولا أدري لمَ لمْ تخطرْ ببالي من قبل؟ القرار ليس قراري مطلقا؛ فقد قال هوارد إنه سوف يفعل ما يعتبره صحيحا، بغض النظر عن استنتاجاتي. أما أنا، فأستطيعُ أنْ أُسعد رؤسائي بتنبُّؤ اقتصادي عالٍ، بينما يأخذ هو قراره بنفسه. ولن يكون لعملي تأثير على الخطة الرئيسية. لقد أكد المعنيون على أهمية دوري، لكنهم كانوا مخطئين. بهذا تخلصتُ من حمل كبير، فاستغرقتُ في نوم عميق.
بعد بضعة أيام، مرض هوارد بالتهاب أميبي حادٍّ، فأسرعنا به إلى مستشفىً لإرسالية كاثوليكية. وصف له الأطباء الدواء، وكذلك نصحوه بقوة أن يعود فوراً إلى الولايات المتحدة. وقد أكد لنا هوارد أن لديه كل المعطيات اللازمة ويستطيع بسهولة أن يُكمل توقعاته للأحمال من بوسطن. وحين ودعني أعاد على مسمعي تحذيره السابق.
قال لي، “لا حاجة بك لأن تطبخ الأرقام، فلن أكون جزءاً من ذلك التزوير، مهما قلتَ عن معجزات النموِّ الاقتصاديّ.”
عدل سابقا من قبل ابراهيم الشنطي في الأربعاء 25 مايو 2016, 8:56 am عدل 1 مرات |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 8:52 am | |
| الجزء الثاني
1971-1975
الفصل السادس
دوري كمحقق
كانت عقودُنا مع الحكومة الإندونيسية، وبنك التنمية الآسيوي، والوكالة الأمريكية للتنمية العالمية تتطلّبُ قيامَ أحدِ أعضاء الفريق بزيارة جميع المراكز السكانية المهمة في المناطق التي تغطيها الخطة الرئيسية. وقد انتُدِبتُ للوفاء بهذا الشرط لما عبّر عنه شارلي بقوله لي، “لقد اجتزتَ محنة الأمازون، وتعرفُ كيف تتعاملُ مع الحشرات والأفاعي والمياه الملوثة.”
قمتُ، مصطحبا سائقاً ومترجما، بزيارة أماكنَ جميلةٍ كثيرةٍ، وأقمتُ في مساكن كئيبة. قابلتُ قادةً محليين من أهل الأعمال والسياسة، واستمعتُ إلى آرائهم حولَ توقعاتِ النموِّ الاقتصاديّ. لكنني وجدتُ معظمَهم مترددين في إعطائي ما عندهم من معلومات. لقد بدوا متخوفين من وجودي، والتقَوْا جميعاً على مقولةٍ واحدةٍ أنّ عليّ أنْ أراجع رؤساءهم، أو المؤسسات الحكومية، أو المقرات الرئيسية للشركات في جاكارتا. حتى أني أحيانا ما ارتبتُ في وجود مؤامرة ما ضدي.
كانت هذه الرحلاتُ في العادة قصيرة، لا تتجاوز يومين أو ثلاثة، وفي ما بينها كنت أعود إلى الوِسمة في باندُنغ. كان للمرأة المسؤولة عن زياراتي ولدٌ يصغرني ببضع سنين، اسمه راسمُن، وكنا جميعا، باستثناء أمه، نُطلق عليه اسم راسي. وإذ كان يدرس الاقتصادَ في جامعةٍ محلية، أثار عملي اهتمامَه، حتى أني ظننتُه سيطلبُ مني أنْ أوظِّفَه. كذلك أخذ يُعلمني بَهاسا إندونيسيا (اللغة الإندونيسية).
كان ابتداعُ لغةٍ يسهل تعلّمُها أحدَ أعلى أولويات الرئيس سوكارنو بعد حصول إندونيسيا على استقلالها من هولندة. وإذ كانت ثمّةَ أكثرُ من 350 لغةً ولهجة في أرجاء الأرخبيل،[i] أدرك سوكارنو أن هذا البلد يحتاج إلى لغة مشتركة لتوحيد الناس القادمين من جزرٍ وثقافاتٍ شتى. لذلك جنّد فريقا عالميا متخصصا في اللسانيات، فكانت بَهاسا إندونيسيا نتيجة ناجحة جدا. وإذ بُنيت هذه اللغة على لغة الملايو، تجنّبتْ الكثيرَ من تغيُّر صيغ الأفعال، ومن القواعد غير المنتظمة، ومن التعقيدات الأخرى الموجودة في معظم اللغات. وقد أخذ أغلبُ الإندونيسيين يتكلمونها في وقت مبكر من سبعينات القرن العشرين، بالرغم من أنهم استمروا في استعمال اللغة الجاوية وغيرها من اللهجات المحلية في مجتمعاتهم. كان راسي معلما فذّاً وذا حسٍّ فكاهيٍّ رائع. وبالمقارنة بتعلم لغة الشوار أو حتى الإسبانية، كانت الإندونيسية سهلة جدا.
كان راسي يملك دراجةً ناريةً صغيرة، وتعهد بتعريفي بمدينته وشعبه. وإذ رجاني ذات مساء أن أركب خلفه، وَعَدَني قائلا، “سوف أُريك جانبا من إندونيسيا لم تره من قبل.”
مررنا بعرض لدمى العرائس، وبموسيقيين يعزفون على الآلات التقليدية، وبباعةٍ متجولين يبيعون كل ما يُمكنُ تخيُّلُه، من أشرطةٍ أمريكيةٍ مهربةٍ إلى تحفٍ محليةٍ نادرة. أخيراً أتينا إلى مقهىً صغيرٍ ممتلئٍ بالشبابِ والصبايا تشبهُ ملابسُهم وقبّعاتُهم وأسلوبُ تصفيفِ شعورهم ما يمكن أن يُرى في حفلة للبيتلز في أواخر الستينات؛ لكن كلا منهم كان إندونيسيا بشكل واضح. قدَّمني راسي إلى مجموعةٍ تجلسُ حول إحدى الموائد، وجلسنا معهم.
كانوا كلُّهم يتكلمون اللغةَ الإنكليزيةَ بدرجات متفاوتة من الطلاقة؛ لكنهم جميعا أُعجبوا بمحاولاتي تعلمَّ الإندونيسية وشجعوني، متسائلين بصراحةٍ لمَ لا يتعلم الأمريكيون لغتهم. لم أجدْ جوابا، ولم أستطعْ أنْ أفسِّرَ لماذا كنتُ الأمريكيَّ أو الأوربيَّ الوحيدَ في هذا الجزء من المدينة، بالرغم من أنك تستطيعُ أنْ تجدَ الكثرة منا في نادي الجولف والرَّكت، والمطاعم الفخمة، ودور السينما، وأسواق الطبقة العليا.
كانت ليلةً فريدةً سوف أذكرُها دائما، وقد عاملني راسي وأصدقاؤه كواحد منهم. لقد استمتعتُ بشعور من الفرح لذهابي إلى هناك، ولمشاركتي مدينتَهم وطعامَهم وموسيقاهم، ولاستنشاقي رائحة لفافات القرنفل وغيره من العطور التي كانت بعضاً من حياتهم، ولمزاحي وضحكي معهم. كان الوضعُ يُشبهُ فرقةَ السلام مرة أخرى، ووجدتُني أتساءل لمَ فكَّرتُ بالرغبة في السفر على الدرجة الأولى نائياً بنفسي عن مثل هؤلاء القوم. وإذ كاد الليلُ ينقضي، أصبحوا مهتمين كثيرا بمعرفة رأيي عن بلادهم وعن الحرب التي كانت بلادي تخوضُها في فيتنام. فقد كان كلُّ واحد منهم مرتعباً مما وصفوه بـ”الغزو اللاشرعي”. وقد ارتاحت نفوسُهم حين اكتشفوا أنني أشاركُهم مشاعرهم.
حين عدنا، راسي وأنا، إلى المضافة، كان الوقتُ متأخراً والمكان مظلما. شكرته شكراً جزيلا أنْ دعاني إلى هذا العالم، وشكرني بدوره أنني انفتحتُ على أصدقائه، وتواعدنا أن نكررها مرة أخرى. ثم تعانقنا ومضى كلٌّ منا إلى غرفته.
أثارتْ تلك التجربةُ مع راسي شهيتي لقضاء مزيد من الوقت بعيداً عن فريق شركة مين. في صباح اليوم التالي اجتمعتُ بشارلي وقلتُ له إنني محبطٌ من محاولتي الحصولَ على معطياتٍ من أهل البلاد. أضفْ إلى ذلك أن معظم الإحصاءات المطلوبة لعمل تنبؤاتٍ اقتصادية لا توجد إلا لدى المكاتب الحكومية في جاكارتا.
عبّر شارلي عن تعاطفه معي لاضطراري إلى مغادرةَ باندُنغ لأذهب إلى تلك المدينة الحارة الرطبة. أما أنا فقد تظاهرتُ بكرهي هذه الفكرة؛ لكنني في سرِّي كنتُ سعيدا جدا بهذه الفرصة لكي آخذ وقتاً ألوذُ به إلى نفسي، وأستكشفُ فيه جاكارتا، وأعيشُ في فندق إنتركنتننتال إندونيسيا الأنيق. لكنني، إذ وطئتُ جاكارتا، اكتشفتُ أنني الآن أرى الحياة من منظور مختلف. فقد غيَّرتني تلك الليلةُ التي قضيتُها مع راسي والشباب الإندونيسيين؛ كذلك فعلَ بي ترحالي في البلاد. وجدتُني أرى زملائي الأمريكيين بطريقة مختلفة. ولم أعد أرى الزوجاتِ الصبايا جميلاتٍ إلى هذا الحد. أما السلسلةُ التي تسيِّجُ المسبح، والأعمدةُ الحديدية خارج نوافذ الطبقات الدنيا من الفندق، تلك التي لم أكد انتبه لها من قبل، فقد اتخذت الآن مظهرا مشؤوما. كذلك بدا لي الطعامُ في مطاعم الفندق الأنيقة بلا طعم.
لاحظتُ شيئاً آخرَ أيضا. في أثناء اجتماعي بالقادة السياسيين ورجال الأعمال، انتبهتُ إلى بعض المكر في طريقة معاملتي. لم أدرك ذلك من قبل، ولكنني أصبحتُ أرى أنّ الكثرةَ منهم لم يُعجبهم وجودي. من ذلك مثلا، حين كانوا يُقدمونني بعضُهم لبعض، كانوا غالباً ما يستخدمون عباراتٍ من اللغة الإندونيسية، معناها، حسب مُعجَمي، “محقِّق” و”مستجوِب”. وكنتُ كتمتُ عن قصد معرفتي بلغتهم – حتى ترجماني نفسُه لم يكنْ يعرف إلا أنني أستطيع أن أسرد بعض العبارات المحفوظة فقط – وكنتُ اشتريتُ مُعجما جيدا للغتين الإنكليزية والإندونيسية، غالبا ما كنتُ أستعمله بعد اجتماعي بهم.
أكانت هذه المخاطباتُ صدفةً لغوية، أم سوءَ تأويل في معجمي؟ حاولتُ أن أقنع نفسي بذلك. بيد أني كلما قضيتُ مع هؤلاء القوم وقتا أطول، ازددتُ اقتناعاً بتطفُّلي عليهم، وبأنّ أمراً بالتعاون معي أُلقي عليهم من علٍ، فلم يملكوا له إلا الطاعة. لم تكن عندي فكرةٌ عن مَن أصدرَ هذا الأمر؛ أكان أحدَ المسؤولين في الحكومة، أم أحد المصرفيين، أم ضابطا في الجيش، أم السفارةَ الأمريكية؟ كلُّ ما أعرفه أنه، بالرغم من دعوتي إلى مكاتبهم، وتقديمهم الشاي لي، وإجابتهم على أسئلتي بأدب جمٍّ، وترحيبهم الواضح بوجودي، إلا أنّ ظلالاً من الابتعاد والحقد كانت تمورُ تحت السطح.
جعلني هذا أتساءل أيضا عن أجوبتهم على أسئلتي وعن صحة معطياتهم. من ذلك مثلا، أنه ما كان بمقدوري قطُّ أنْ أدخلَ هكذا إلى مكتبٍ ما، مصطحبا ترجماني، وأجتمعَ بأحد. كان علينا أنْ نتفقَ مسبقاً على موعد. ولم يكن هذا غريبا بحد ذاته؛ غير أنه كان مفرطاً في تبديد الوقت. وإذ كان من النادر أن تعملَ الهواتفُ، كان علينا أنْ نسوق السيارة في شوارعَ مختنقة بالحركة، ومخططةٍ بطريقةٍ ملتويةٍ، بحيث كان يُمكنُ أنْ يستغرقنا ساعةً كاملةً وصولُنا إلى عمارةٍ لا تبعد عنا سوى مسافة قصيرة. فإذا وصلنا، توجَّبَ علينا أن نملأ عدة نماذج. بعد ذلك يأتي سكرتيرٌ ليسألني بأدب جمٍّ – وبالابتسامة اللطيفة التي اشتُهِرَ بها الجاويون – عن نوع المعلومات المطلوبة. وبعد ذلك يُحدِّدُ موعداً للاجتماع.
وبدون استثناء، كان الموعدُ يُضربُ بعد عدة أيام على الأقل. وحين يُعقَدُ الاجتماعُ أخيراً، كانوا يُسلِّمونني ملفاً فيه موادُّ معدةٌ سلفا. كان أصحابُ الصناعات يُعطونني خططا لخمس سنوات وعشر. وكان لدى المصرفيين جداولُ ورسومٌ بيانية. بينما كان المسؤولون الحكوميون يُعطونني قوائم لمشاريع في سبيلها إلى مغادرة لوحات الرسم لتصبح محركاتٍ للتنمية الاقتصادية. كلُّ ما جاء به أربابُ التجارة والحكومة، وكلُّ ما قالوه خلال المقابلات، كان يدلُّ على أنّ جاوة جاهزةٌ ربما لأعظم ازدهار شهده أيُّ اقتصاد أبدا. لا أحد على الإطلاق شكَّك في هذا المنطق أو أعطاني أية معلومات سلبية.
مع ذلك، حين كنتُ في سبيلي إلى باندُنغ، وجدتُني أتساءل عن كل هذه التجارب؛ كان ثمة شيءٌ مزعج جدا. خطر ببالي أنّ كلَّ ما كنتُ أعمله في إندونيسيا كان أقرب إلى اللعب منه إلى الحقيقة. كأننا كنا نلعب البوكر، حريصين على إخفاء أوراقنا. لم نستطع أن نثق ببعضنا بعضا أو نعتمد على صدق المعلومات التي نتبادلُها. غير أن هذه اللعبة كانت خطيرة بشكل قاتل، ونتيجتُها سوف تؤثر في الملايين من البشر لعقود قادمة.
[i] Theodore Friend, Indonesian Destinies (Cambridge, MA and London, The Belknap Press of Harvard University, 2003), p 5.
الفصل السابع
الحضارة على المحك
كان راسي سعيدا جدا بعودتي إلى باندُنغ. جاءني بوجهه المتألِّق وقال، “سآخذك إلى “دالانغ”، فنانِ عرائسِ الدمى الإندونيسية المشهور. في المدينة واحد مهم هذه الليلة.”
أخذني على دراجته ومضى بي عبر أجزاءَ من المدينة لم أعلم بوجودها من قبل، وعبر مناطقَ مكتظةًٍ بمنازل الكامبُنغ الجاويّة التي بدت شكلا فقيرا من المعابد الصغيرة المسقوفة بالقرميد. وقد غابت القصورُ الاستعمارية الهولندية الفخمة ومباني المكاتب التي كنت أتوقعها. بدا فقرُ الناس واضحا، غير أنّ الكِبْرََ كان من شيمهم؛ ملابسُهم رثة ولكنها نظيفة. كانوا يلبسون السارُنغ الزاهي، والقمصانَ الملونة، والقبعاتِ المصنوعة من القشِّ ذاتَ الحافة العريضة. وحيثما ذهبنا، كنا نُستقبَلُ بالابتسامات والضحك. وحين توقفنا، اندفع الأطفالُ يلمسونني ويتحسسون قماش سروالي الجينز. ثم غرزتْ بنتٌ صغيرةٌ زهرةً دفلى عَطِرَةً في شعري.
أوقفْنا الدراجةَ بالقرب من مسرح جانبيٍّ، حيثُ تجمّعَ عدة مئاتٍ من الناس، بعضُهم كان واقفا وبعضُهم الآخرُ جالساً على كراسيَّ محمولة. كان الليلُ صحواً جميلا. وبالرغم من كوننا في قلب الجزء القديم من باندُنغ، لم تكنْ الشوارعُ مُضاءة، فتلألأتْ فوق هاماتنا النجومُ. كان الهواء يعبقُ بأريج الحطب المحروق والفستق والقرنفل.
اختفى راسي في الزحام، ثم عاد سريعاً مصطحباً معه الكثيرين من الشباب الذين كنتُ قابلتُهم في المقهى. قدّموا لي شاياً ساخناً، وكعكاً صغير الحجم، وساتي، وهي قطعٌ صغيرةٌ جدا من اللحم مطبوخةٌ بزيت الفستق. لعلي ترددتُ قبل أن أقبل هذه الأخيرة، لأن إحدى الفتيات أشارت إلى نار ضئيلة وقالت ضاحكةً، “لحم طازج جدا. مطبوخ للتوّ.”
بعد ذلك بدأت الموسيقى – أصواتٌ ساحرةٌ من الغامالُنغ، الآلةِ التي تُذكِّرُ بصور أجراس المعابد.
قال لي راسي بصوتٍ خفيض، “يعزف الدالانغُ جميعَ أنواع الموسيقى بنفسه. كذلك يُحرِّك جميع الدمى ويتكلم بأصواتها بعدة لغات. سوف نترجمها لك.”
كان عرضاً رائعاً جمع الأساطير التقليدية إلى الأحداث الجارية. علمتُ لاحقاً أن الدالانغ كاهنٌ يقوم بعمله وهو في حالٍ من النشوة. كان يُحرِّك أكثرَ من مئة دميةٍ ويتكلّم عن كلٍّ منها بصوتٍ مختلف. لقد كانت تلك ليلةً لن أنساها، ليلةً أثَّرَتْ بي طوال حياتي.
بعد أنْ أتمّ الدالانغُ مُقتَطَفاً تقليدياً من النصوص القديمة لملحمة رامايانا، جاء بدميةٍ لرتشَرْد نِكسُن، كاملةً بأنفه الطويل المتميِّز وخدَّيه المتهدّلين، وقد أُلبِس الرئيسُ الأمريكيُّ لباسَ العم سام، بقبّعة بنجوم العلم الأمريكي وخطوطه. وكانت معه دميةٌ أخرى أُلبِست بذلةً من ثلاث قطع، تحمل بيدٍ جردلاً مرسوما عليه شكل الدولار، وباليد الطليقة كانت تلوِّحَُ بالعلم الأمريكي فوق رأس نِكسُن بطريقة عبدٍ يُهوِّي لسيده.
كانت خريطةٌ للشرق الأوسط والشرق الأقصى ظاهرةً خلف الاثنين، تتدلّى الدولُ المختلفةُ من خطافاتٍٍ عليها، كلٌّ منها حسب موقعها. تقدّم نِكسُن من الخريطة ورفع فيتنام من خطّافها وألقى بها في فمه، ثم صرخ شيئاً تُرجم لي بأنه يعني، “مُرّة! كريهة! لا نريد من هذه بعد الآن.” ثم رماها في الجردل، ومضى يفعل الشيء نفسه ببقية الدول.
غير أني عجبتُ أنّ اختياره التالي لم يتضمن دول الدومينو في جنوب شرق آسيا، بل دول الشرق الأوسط – فلسطين، الكويت، السعودية، العراق، سوريا، إيران. بعد ذلك التفتَ إلى باكستان وأفغانستان. كانت الدمية التي تمثل نِكسُن تصرخُ بمقولةٍ قبل أن ترمي الدولةَ في الجردل، وفي كلِّ مرة كانت كلماته شتائم للمسلمين: “مسلمون كلاب”، “وحوش محمد”، “شياطين مسلمون”.
كان الجمعُ يتهيّجُ ويزدادُ التوترُ في كل رمية إلى الجردل. كانوا موزَّعين بين نوبات الضحك والصدمة والغضب. أحسستُ أحيانا أنهم كانوا يستشعرون الإهانة من لغة صاحب الدمى. كذلك انتابني الخوفُ من كوني ملحوظاً في هذا الجمع، وأطولَ منهم، فخشيتُ أنْ يُوجِّهوا غضبهم صوبي. ثمّ قال نِكسُن شيئاً جعل جلدة رأسي تَخِزُني حين ترجمه لي راسي.
“أعطِ هذه للبنكِ الدوليِّ لنرى ما يمكنُه فعلُه لكي نكسبَ المالَ من إندونيسيا.” رفع نِكسُن إندونيسيا من على الخريطة وتحرَّكَ ليرميها في الجردل. لكنَّ دميةً أخرى قفزت من خلال الظلِّ في تلك اللحظة. كانت هذه الدميةُ تُمثل رجلاً إندونيسياً، يلبس قميصا من الباتيك، وسروالا من الكاكي، وعليها لافتةٌ واضحةٌ باسمه، قال لي راسي، “إنه سياسي من باندُنغ ذو شعبيةٍ كبيرة.”
طارت هذه الدميةُ بين نِكسُن وحامل الجردل وأمسكت بيده، صارخةً، “قف عندك! إندونيسيا سيدة نفسها.”
عندها انفجر الحشدُ بالتصفيق، بينما رفع رجلُ الجردل علمه، ورماه كالرمح صوب الإندونيسي، فترنّحَ ومات ميتةً فاجعة. صرخ حشدَُ المشاهدين بازدراء ونعيب، وهزوا قبضاتهم مستنكرين، بينما وقف نِكسُن ورجل الجردل ينظران إلينا. ثم انحنيا وغادرا المسرح.
قلتُ لراسي، “أظن أنّ عليّ أن أغادر.” فوضعَ يده حولي ليحميني، وقال، “ما عليك، ليس عندهم شيءٌ ضدك شخصيا.” لكنني لم أكنْ مُتأكِّدا.
بعد ذلك عدنا جميعا إلى المقهى. وأكد لي راسي وصحبُه أنهم لم يعلموا بتمثيلية نِكسُن والبنك الدولي مقدما. لكن أحدهم قال، “لا يمكنك أن تعرف ما تتوقعه من صاحب الدمى.”
تساءلتُ بصوتٍ عالٍ إن كانت وُضعتْ هذه الفقرة خصّيصاً على شرفي. فضحك أحدهم وقال إن الأنا عندي متضخمة، وأضاف وهو يُربِّتُ على ظهري مداعبا، “نموذج للأمريكيين!”
قال الجالسُ إلى جانبي، “الإندونيسيون يهتمون جدا بالسياسة. ألا يذهبُ الأمريكيون إلى عروض كهذه؟”
ثم سألتْ فتاة جميلةٌ تجلس أمامي عبر المائدة، وكانت تتخصص باللغة الإنكليزية في الجامعة، “لكنك تعمل للبنك الدولي؛ أليس كذلك؟
قلتُ لها إن عملي الحالي مع بنك التنمية الآسيوي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. فقالت، “أليست في الحقيقةً شيئاً واحدا؟” ثم سألتْ دون أنْ تنتظر جوابا، “أليس الوضعُ كما أظهرتْه المسرحية هذا المساء؟ ألا تنظرُ حكومتُكم لإندونيسيا ولغيرها من البلدان وكأننا حفنة من…” وإذ كانت تبحث عن الكلمة المناسبة، قال أحد أصدقائها، “حبّات العنب.”
“بالضبط. كأننا حفنة من حبّات العنب. يُمكنُك أن تلتقط وتختار. اترك إنكلترا. التهم الصين. ارم إندونيسيا.”
ثم أضافت فتاةٌ أخرى، “بعد أنْ تستولوا على نفطنا.”
حاولتُ الدفاعَ عن نفسي، فلم أستطعْ. أردتُ أن أفتخرَ بحقيقةِ أنني جئتُ إلى هذا الجزء من المدينةِ وبقيتُ لأشاهدَ العرض ضد الولايات المتحدة بكامله، وهو ما كان يمكنني تأويله بأنه تهجُّمٌ شخصي. أردتُهم أن يرَوا الجرأةَ فيما فعلت، وأن يعلموا أنني كنتُ الوحيدَ من بين أعضاء فريقي الذي اهتم بتعلم اللغة الإندونيسية، أو كانت له أية رغبةٍ في الاطلاع على ثقافتهم، وأنْ أشيرَ إلى أنني الأجنبيُّ الوحيد الذي يحضر هذا العمل. لكنني وجدتُ من الحكمة ألا أذكرَ شيئاً من هذا. بل حاولتُ، بدلا من ذلك، أنْ أعيد تركيز الحديث. سألتُهم لِمَ، في رأيهم، اختار الدالانغُ الدولَ الإسلاميةَ وحدَها، باستثناء فيتنام.
ضحكتْ لسؤالي الفتاةُ الجميلةُ التي تدرس اللغة الإنكليزية، وقالت، “لأن هذه هي الخطة.”
وقال آخر، “ليست فيتنام سوى عمل عابر؛ كما كانت هولندة بالنسبة إلى النازيين، عتبة عبور.”
واستمرت الفتاة قائلةً، “الهدفُ الحقيقيُّ هو العالمُ الإسلامي.”
لَمْ أستطع ألا أُجيبَ على هذا، فقلتُ مُحتجّاً، “من المؤكد أنكِ لا يمكنُ أن تصدقي أنّ الولايات المتحدة ضد الإسلام.”
قالت، “آه، لا؟ عليك أنْ تقرأ أحد مؤرخيكم، بريطانيٌّ اسمه توينبي. في الخمسينات تنبّأ بأن الحرب في القرن القادم لن تكون بين الشيوعيين والرأسماليين، بل بين المسيحيين والمسلمين.”
قلتُ مصدوما، “آرنُلد توينبي قال هذا؟”
“بلى. اقرأ كتابه الحضارة على المحك وكتابه العالم والغرب.”
سألتها، “لكنْ، لماذا يجب أنْ تكون مثلُ هذه العداوة بين المسلمين والمسيحيين؟”
تبادلوا النظرات فيما بينهم. لعلهم وجدوا من الصعب أنْ يُصدِّقوا أنني يُمكنُ أن أسأل مثل هذا السؤال الغبي.
أجابتني ببطء وكأنها تخاطبُ شخصاً قليلَ الذكاءِ أو ضعيفَ السمع، “الغرب – خاصةً زعيمتَه الولايات المتحدة – مصممة على السيطرة على العالم لتصبح أكبر إمبراطورية في التاريخ. وهي على وشك النجاح. يقف الاتحاد السوفييتي حاليا في طريقها، لكن السوفييت لن يَثبتُوا. استطاع توينبي أن يُدرك ذلك. فليس عندهم دين أو إيمان أو مادة ملموسة وراء معتقداتهم. وقد أثبت التاريخ أنّه لا بدّ من الإيمان – الروح، الإيمان بالقوة العليا. ونحن المسلمين نملك هذا الإيمان. نملكُه أكثر من أيٍّ غيرنا في العالم، حتى أكثر من المسيحيين. لذلك سوف ننتظر، وسوف نقوى.”
تدخّل أحد الشباب مؤيدا، وقال، “سنأخذ وقتنا، ثم نضرب كالأفعى.”
لم أُطقْ معها صبراً، فقلتُ “أيُّ تفكيرٍ مخيفٍ هذا؟ ما الذي نستطيعُ فعلَه لتغيير هذا الواقع؟”
عندئذٍ حدقت الفتاة التي تدرس اللغة الإنكليزية إلى عينيّ مباشرة، وقالت، “كفاكم جشعاً وأنانية. عليكم أن تُدركوا أنّ في العالم ما هو أهمُّ من منازلكم الكبيرة ومتاجركم المبهرجة. الناس يموتون من الجوع، وأنتم قلقون على النفط لسياراتكم. يموت الأطفال من العطش وأنتم تبحثون عن أحدث الأزياء. أمم مثلنا تغرق في الفقر، وشعبكم لا يسمع صراخنا طلبا للمساعدة. تسدُّون آذانكم عن أصوات من يُحاولون أن يقولوا لكم ذلك. تصِمُونهم بالتطرُّفِ والشيوعية. عليكم أن تفتحوا قلوبكم للفقراء والمسحوقين، بدل دفعهم أكثر إلى الفقر والعبودية. لم يبق الكثيرُ من الوقت. إن لم تتغيروا، هلكتم.”
بعد بضعة أيام، اغتيل السياسيُّ ذو الشعبية الكبرى في باندُنغ، ذلك الذي وقفت الدمية التي تُمثِّلُه في وجه نِكسُن وطعنها رجل الجردل. قتلة سائق ولاذ بالفرار. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:00 am | |
| الفصل الثامن
المسيح في هيئةٍ مختلفة
التصق في ذاكرتي ذلك الدالانغ، وكلماتُ الفتاة الجميلة التي تدرس اللغة الإنكليزية، وألقتْ بي تلك الليلةُ في باندُنغ إلى مستوى جديد من التفكير والشعور. وإذ لم أتجاهلْ ما يعنيه ما نفعلُه في إندونيسيا، تحكّمتْ العاطفةُ بردة فعلي، وعادة ما استطعتُ تهدئة مشاعري باللجوء إلى العقل وإلى مَثَلِ التاريخ وما تُمليه الضرورةُ الحيوية. برَّرْتُ وجودنا بأنه جزءٌ من الحالة البشرية، مُقنِعاً نفسي بأنّ آينر وشارلي وبقيتنا كنا ببساطةٍ نتصرّفُ كما يتصرف البشر دائما: العناية بأنفسنا وعيالنا.
بَيْدَ أن نقاشي مع هؤلاء الإندونيسيين الشباب أجبرني على رؤية جانبٍ آخرَ للموضوع. تبيّن لي من خلال أعينهم أن الممارسةَ الأنانية للسياسة الخارجية لا تخدم أو تحمي الأجيال القادمة في أي مكان. إنما ذلك قصرُ نظر، مَثَلُه مَثَلُ التقارير السنوية للشركات والمخططات الانتخابية للسياسيين الذين يصنعون تلك السياسة الخارجية.
وكما كان الأمر، تطلبت المعطياتُ التي كنتُ أحتاج إليها لتنبُّؤاتي الاقتصادية أن أزور جاكارتا بصورة متكررة. فاستفدتُ من وقتي وحيدا هناك في التأمُّل بهذه الأمور والكتابة عنها في دفتر يومي. كنتُ أتجوّلُ في شوارع تلك المدينة، أهبُ المال للشحاذين، وأحاول الحديث مع المجذومين والمومسات وأولاد الشوارع.
في الوقت نفسه، تأمّلتُ في طبيعة المساعدات الخارجية، ونظرتُ في الدور الصحيح الذي يمكن أن تقوم به الدولُ المتطورة للمساعدة في التقليل من الفقر والبؤس لدى الدول الأقل تطورا. وبدأت أتساءل متى تكونُ المساعداتُ الخارجيةُ صادقةً ومتى تكونُ جشعةً وخادمةً للذات فقط. حقا، لقد بدأتُ أسألُ ما إذا كانت مثلُ هذه المساعداتِ صادرةً عن حب الغير؛ وإنْ لم تكن كذلك، فهل يمكن تغييرها؟ كنت موقنا من أن بلادا كبلادي يجب أنْ تقوم بعمل حاسم لمساعدة المرضى والجياع في العالم. لكنني كنت على اليقين ذاته من أنّ من النادر أن يكون هذا – إن كان أصلا – هو الدافعَ الأولَ لتدخلنا.
ظللتُ أعود إلى سؤال رئيسيٍّ واحد: إذا كانت الغايةُ من المساعدات الخارجية غايةً إمبريالية، فهل هو خطأ إلى هذا الحد؟ وغالبا ما وجدتني أحسد أناسا مثل شارلي، ممن يؤمنون إيمانا قويا بنظامنا حتى أنهم يريدون فرضه على بقية العالم. وكنتُ أشك إن كانت الموارد المحدودة يمكن أنْ تتيح للعالم بأسره أن يحيى الحياة الثرية في الولايات المتحدة، بينما حتى في الولايات المتحدة نفسها هناك الملايينُ من مواطنيها الفقراء. أضف إلى ذلك أنه لم يكن واضحا بما يكفي ما إذا كانت الأممُ الأخرى تريد حقيقة أنْ تكون حياتُها كحياتنا. فإحصاءاتُنا حول العنف والاكتئاب والمخدرات والطلاق والجريمة تدلُّ على أن مجتمعَنا، وإن كان واحدا من أغنى المجتمعات في التاريخ، قد يكون من أقلها سعادة. فلماذا نريد من الآخرين تقليدنا؟
لعلّ كلودين كانت حذّرتني من كل هذا. ما عدت متأكدا مما كانت تحاول قوله لي. على أيِّ حال، دعونا من النقاش الفكري. لقد بات الآن واضحا بصورة مؤلمة أن أيام براءتي قد ولّت. وقد كتبتُ في دفتري اليومي ما يلي:
هل هناك في الولايات المتحدة من هو بريء؟ بالرغم من أن أولئك المتربعين فوق ذروة الهرم الاقتصادي يكسبون الدخل الأعلى، فالملايينُ منا يعتمدون في معيشتهم – إما مباشرةً أو غير مباشرة – على استغلال الدول الأقلِّ تطورا. ذلك أنّ الموارد والعمالة الرخيصة التي تُغذي جميع أعمالنا تقريبا تأتي من أماكن كإندونيسيا، وأقلُّ القليل منها يجد طريقه للعودة. كذلك تؤكد ديون المساعدات الخارجية أن أطفال اليوم وأحفادهم سيكونون رهائن. سيكون عليهم أنْ يسمحوا لشركاتنا بنهب مواردهم الطبيعية، وسيكون عليهم أنْ يتخلّوا عن التعليم، والصحة، والخدمات الاجتماعية الأخرى؛ كلُّ هذا لكي يسددوا ما عليهم من ديون لنا. أما حقيقة أن شركاتنا قد قبضت سلفاً معظم هذا المال لتبني محطات الكهرباء، والمطارات، والمناطق الصناعية، فليست ذات شأن في هذه المعادلة. فهل يُعتبَرُ براءةً عذرُ معظم الأمريكيين أنْ لا علم لهم بهذا؟ أن لا تعرف وأن تُضلَّلَ بسوء المعرفة عمدا ممكن – أما البراءة؟
بطبيعة الحال، كان عليّ أن أواجه الحقيقة أنني الآن واحد من أولئك الذين يوردون المعلومات المُضلِّلة بصورة فعالة.
كانت فكرةُ الحرب المقدسة مزعجةً لي، ولكنْ كلما تأمّلتُ فيها أكثر، كلما اقتنعتُ بإمكانيتها. بيد أن الأمر بدا لي أن قيام هذا الجهاد بين المسلمين والمسيحيين سيكون أقل إمكانية من قيامه بين الدول الأقلِّ تطورا وتلك المتطورة، وقد يكون المسلمون في المقدمة. كنا نحن في الدول المتطورة من استعمل الموارد؛ وكان من في الدول الأقل تطورا هم المزودين. لقد عاد النظامُ التجاريُّ الاستعماريُّ مرة أخرى مرتَّبا بحيثُُ يجعل سهلا على الدول القوية ذات الموارد الطبيعية المحدودة أنْ تستغلَّ الدولَ التي تملك الموارد ولا تملك القوة.
لم تكن معي نسخة من توينبي. لكنني أعرف ما يكفي من التاريخ لأفهم أنّ المورِّدين الذين يُستغَلُّون طويلا سوف يتمردون. كان يكفيني أن أعود إلى الثورة الأمريكية وتوم بين كنموذج. أذكر أنّ بريطانيا كانت تبرِّرُ ضرائبها بالادعاء بأنّ إنكلترا تُقدِّمُ المساعداتِ للمستعمراتِ على شكلِ حمايةٍ عسكريةٍ ضد الفرنسيين والهنود [الحمر]. أما المستعمَرون فكان تأويلُهم مختلفاً جدا.
أما ما قدَّمه توم بين لمواطنيه في كتابه الشهير، البديهة،* فقد مثّل الروح التي أشار لها أصدقائي الإندونيسيون الشباب – فكرةً، وإيماناً بعدالة قوةٍ عُليا، ودينَ حريةٍ ومساواة مضادّاً تماما للمَلَكية البريطانية ونظامها الطبقي النخبوي. وشبيهٌ بهذا ما قدّمه المسلمون: الإيمانُ بقوة عُليا واعتقادٌ بأنْ لا حقَّ للدول المتطورة أن تُخضِعَ بقية العالم وتستغلّه. فكمثل جنود الاستعمار، كان المسلمون يُهددون بالقتال لأجل حقوقهم، وكمثل البريطانيين في سبعينات القرن الثامن عشر، نصِفُ نحن هذه الأعمالَ بالإرهاب. يبدو أنّ التاريخ يُعيد نفسه.
تساءلتُ أيُّ عالَم يُمكنُ أنْ يكونه عالَمُنا لو أنّ الولاياتِ المتحدةَ وحلفاءها حوّلت جميع المال الذي أُنفق في الحروب الاستعمارية – كحرب فيتنام – إلى اجتثاث المجاعة في العالم أو إلى جعل التعليم والعناية الصحية الأساسية متاحةً لجميع الناس، بمن فيهم شعبُنا. عجبتُ كيف ستتأثر الأجيالُ القادمةُ لو أننا التزمنا بتخفيف مصادر البؤس وبحماية مصادر المياه، والغابات، والمناطق الطبيعية الأخرى التي تؤمّنُ الماء والهواء النظيفَيْن، وكذلك ما يُغذي أرواحنا وأجسادنا. لا أصدق أن آباءنا المؤسسين كانوا يتصورون الحق في الحياة، وفي الحرية، وفي طلب السعادة أنْ تكون حكراً على الأمريكيين وحدهم. فلماذا نطبِّقُ اليوم مخططاتٍ تُعزَِّزُ القيم الإمبريالية التي حاربوها؟
في ليلتي الأخيرةِ في إندونيسيا، أفقتُ من حلم وجلستُ في فراشي وأضأتُ الغرفة. انتابني شعورٌ أن في الغرفة أحداً معي. حدّقتُ من حولي إلى أثاث فندق الإنتركنتننتال المألوف لي، مطرّزات الباتيك، وإطارات دمى العرائس المعلقة على الحيطان. ثم عادني الحلم.
رأيتُ المسيحَ واقفاً أمامي، وقد بدا كالمسيح نفسه الذي كنتُ أكلمُه كلَّ ليلةٍ في صغري لأبوحَ له عن أفكاري بعد أداء صلاتي. غير أنّ المسيح أيام طفولتي كان أبيضَ الجلد أشقرَ الشعر، بينما كان هذا المسيح ذا شعرٍ أسودَ جعدٍ وبشرةٍ داكنة. انحنى ورفع شيئاً على عاتقه، توقعتُ أن يكون صليبا. لكني رأيتُ بدلا منه محور سيارة ملتصقا به العجل الذي كان ناتئاً فوق رأسه مُكوناً هالةً معدنية، وقد تقطّر الزيتُ منها كالدم على جبهته. استقام واقفاً وحدّق إلى عينيّ وقال، “إن كان عليّ أن آتي الآن، فسوف تراني مختلفا.” سألته لماذا، فقال، “لأن العالم تغيّر.”
علمتُ من الساعة أن ضوء النهار يكاد يظهر. وإذ كنت أعلم أنني لن أستطيع العودة إلى النوم، لبستُ ملابسي، وهبطتُ بالمصعد إلى الردهة الخالية، وتجولتُ في الحدائق حول بركة السباحة. كان القمرُ ساطعا؛ وقد امتلأ الهواءُ بعبير البساتين المنعش. جلستُ على كرسيٍّ وتساءلتُ عمّا أفعل هنا، ولماذا أخذتني صُدفُ حياتي إلى هذا السبيل، ولماذا كانت إندونيسيا بالذات. كنتُ أعلمُ أن حياتي قد تغيّرت، لكنني لم أعلم مدى تغيّرها.
***
في رحلة العودة إلى الوطن، اجتمعتُ بزوجتي، آن، في باريس، محاولا التوفيق بيننا. لكننا، حتى خلالَ هذه الإجازة الفرنسية، استمرَّ شجارُنا. وبالرغم من وجود الكثرة من اللحظات الخاصة والجميلة بيننا، أعتقد أننا كِلينا وجدنا أن تاريخنا الطويل من الغضب والاستياء كان عقبةً أكبرَ من أنْ نتخطّاها. إلى هذا، كان ثمة الكثير مما لم أكن قادرا على قوله لها. فالشخصُ الوحيدُ الذي بإمكاني إخبارُه بمثل هذه الأمور كانت كلودين، وكنتُ دائماً أفكر بها. هبطنا، آن وأنا، في مطار لوغَن في بوسطن، وأخذنا سيارة أجرة إلى شقتينا المنفصلتين في خليج باك.
الفصل التاسع
فرصة الحياة
كان امتحانُ إندونيسيا الحقيقيُّ ينتظرني في شركة مين. أولُ شيءٍ فعلته في الصباح أنْ ذهبتُ إلى مقر الشركة الرئيسي في مركز برودنشال. وإذ كنت أقف مع عشرات الموظفين الآخرين في المصعد، علمتُ أنّ ماك هول، المديرَ التنفيذيَّ الأعلى لشركة مين، وهو رجل مبهم جاز الثمانين سنة، قد رفّعَ آينر إلى منصب رئيس مكتب بورتلند، أُرِغُن، وبناءً عليه، أصبح مديري الرسمي برونو زََمْبُتِّي.
كان برونو يُلقَّبُ بالثعلب الفضي، بسبب لون شعره وقدرته الغريبة على مراوغة كلّ من تحداه، وكان أيضاً يشبه شكل كاري غرانت الوسيم. كان فصيح اللسان، يحمل شهادة في الهندسة والماجستير في إدارة الأعمال، ويفهم الاقتصاد الرياضي. وكان نائبا للرئيس مسؤولا عن قسم الطاقة الكهربائية في شركة مين وعن معظم مشاريعنا العالمية. وكان أيضاً الخيار الواضح لتبوُّء منصب رئيس الشركة حين تقاعد معلِّمُه جيك دوبَر الطاعن في السن. وكمثل معظم موظفي شركة مين، كنت أرهب برونو زََمْبُتِّي وأرتعبُ منه.
قبيل الغداء، استُدعيتُ إلى مكتب برونو. وبعد حديث ودّيٍّ عن إندونيسيا، قال شيئاً جعلني أقفز إلى حافة مقعدي.
“سوف أطردُ هوارد باركر من وظيفته. لا حاجة بنا إلى التفاصيل، فيما عدا القول إنه فقد الإحساس بالحقيقة.” ابتسم ابتسامةً لطيفة بشكل مُحبط بينما كان ينقر بإصبعه على حزمة من الورق على مكتبه. “ثمانية في المئة في السنة. هذا هو تنبُّؤه للأحمال. هل تُصدِّقُ ذلك؟ وفي بلد ذي إمكانيات كإندونيسيا!”
ثم تلاشت ابتسامتُه ونظر في عينيَّ بقوة وأضاف، “شارلي إلِنغْويرث قال لي إن تنبُّؤك الاقتصاديَّ مطابقٌ للهدف تماما، ويبررُ نموا في الحمل بين 17 و20 في المئة. أليس كذلك؟” فأكّدتُ له ذلك.
وقف ومدّ لي يده وقال، “تهانيّ. لقد رُفِّعتَ في هذه اللحظة.”
لعله كان عليّ أنْ أذهبَ للاحتفال في مطعم فخم مع بعض موظفي الشركة – أو حتى وحدي. إلا أنّ عقلي كان مشغولا بكلودين. كنت متشوقا لإخبارها بترقيتي وبجميع تجاربي في إندونيسيا. كانت حذّرتني ألا أهاتفها من الخارج، فلم أفعل. أما الآن فقد ارتعبتُ إذ اكتشفتُ أن هاتفها كان مفصولا، وبدون رقم جديد. فذهبتُ للبحث عنها.
كان زوجان شابان قد انتقلا إلى شقتها. كان الوقتُ وقتَ غداء، لكنْ أظنُّ أني أفقتهما من النوم. كان واضحاً أنهما انزعجا، وقد قالا إنهما لا يعلمان شيئا عن كلودين. ثم ذهبتُ إلى مكتب العقارات، متظاهراً بأنني ابنُ عمِّها. لكنّ ملفاتِهم لا تدل على أنهم سبق أن أجّروا عقارا لأحد بهذا الاسم؛ والعقدُ السابقُ كان لرجلٍ طلبَ أن لا يُعرَف اسمُه. وفي مركز برودنشال، زعم قسم الموظفين في شركة مين أن ليس عندهم قيد لها. لكنهم اعترفوا بوجود ملف لـ”المستشارين الخاصين”، لكنه غيرُ مسموح لي بالاطلاع عليه.
في وقت متأخر من بعد الظهر، كنت منهكا ومعصوراً عاطفيا. وفوق ذلك كله كنتُ أعاني من وعثاء الطيران الطويل. وإذ عُدتُ إلى شقتي الخالية، شعرتُ بوحشة وعزلة بصورةٍ يائسة. وقد بدت لي ترقيتي بلا معنى، بل أسوأ من ذلك كانت علامةً على قبولي بيعَ نفسي. ألقيتُ بنفسي في فراشي غارقاً في اليأس. لقد استعملتني كلودين، ثم رمتني. لكنني قرَّرْتُ أن لا أستسلم لمحنتي، فكتمتُ عواطفي، وتمددت على سريري مًحدِّقاً إلى الجدران العارية ربما لساعات.
أخيراً استطعتُ أن أستجمع شتاتَ نفسي. نهضتُ وتجرّعتُ زجاجةً من الجعة، ثمّ حطّمتُ الزجاجة الفارغة على إحدى الموائد. حدّقتُ خارج النافذة. وإذ نظرتُ إلى شارع بعيد، ظننتني أراها تمشي صوبي، فتوجهتُ إلى الباب، ثم عدتُ إلى النافذة لألقي نظرة أخرى. اقتربت المرأة. كانت جذابة، ومشيتُها تشبه مشية كلودين، لكنها لم تكن هي. غاص قلبي في جوفي وتغيّرت مشاعري من الغضب والاشمئزاز إلى الخوف.
لمعت صورة لكلودين أمامي وهي تُضرَبُ، ثم تقع مغتالةً في زخات من الرصاص. هززتُ رأسي، أخذت حبَّتَيْ فالْيُم، وشربتُ حتى غفوت.
في الصباح التالي، أيقظتني من غيبوبتي مهاتفةٌ من دائرة شؤون الموظفين في شركة مين. كان على الخط مديرُ الدائرة، بول مورمينو، الذي أكّد لي حاجتي إلى الراحة، لكنه ألحّ عليّ أن آتي بعد الظهر، قائلا، “عندي أخبار جيدة لك. أفضل ما يُمكنك به أن تلحق بنفسك.”
ذهبتُ، وعلمتُ أن برونو كان أكثر من صادق فيما قال لي. فلم أُرَفَّعْ إلى وظيفة هوارد حسبُ، بل مُنحتُ أيضاً لقب كبير الاقتصاديين وزيادةً على راتبي. سرّني الخبرُ قليلا.
لم أذهب إلى العمل بعد الظهر، بل تجوّلتُ بمحاذاة نهر تشارلز ومعي رُبعية جعة. حين جلستُ هناك أراقبُ القواربَ الشراعية وأعالجُ ما ألمّ برأسي من وعثاء الطيران وكحول الليلة الماضية معا، أقنعتُ نفسي أن كلودين قد أتمت مهمتها وانتقلت إلى أخرى. لقد أكّدتْ دائما على الحاجة إلى السرية. سوف تهاتفني هي. كان مورمينو محقا. ها قد تلاشت وعثاء الطيران – ومعها قلقي.
حاولتُ في الأسابيع التالية أن أضع تفكيري بكلودين جانباً. ركّزتُ على كتابة تقريري حول الاقتصاد الإندونيسي وعلى مراجعة تنبؤات هوارد للأحمال الكهربائية، وخرجت بنوع الدراسة التي يُحبُّ رؤسائي أنْ يرَوْها: نموٌّ في الحاجة إلى الكهرباء بمعدّل 19 في المئة في السنة لمدة اثني عشر عاما بعد إكمال النظام الجديد، يتناقص إلى 17 في المئة لثمانية أعوام إضافية، ثم يستقر على 15 في المئة للمدة الباقية من الخمسة والعشرين عاما المخطط لها.
قدّمتُ استنتاجاتي في اجتماعاتٍ رسميةٍ مع وكالات الإقراض الدولية، واستجوبني خبراؤهم بقسوة حول التفاصيل. عندئذٍ، تحوّلتْ عواطفي إلى نوع من الإصرار الشرس، لا يختلفُ عن العوامل التي كانت تدفعني إلى التفوق بدل التمرد أيامَ المدرسة الإعدادية. بالرغم من ذلك، كانت ذكرى كلودين تحوم بالقرب مني دائما. فعندما وقف اقتصادي شابٌّ وقحٌ يريد أن يصنع لنفسه اسما في بنك التنمية الآسيوي يجلدني بأسئلته طوال ما بعد الظهر، تذكّرتُ نصيحة كلودين حين جلسنا سويا في شقتها في شارع بيكُن قبل شهور طويلة. يومها قالت، “من ذا الذي يستطيعُ أن يرى لخمسة وعشرين عاما في المستقبل؟ تخمينُك يساوي تخمينَهم، والثقةُ بالنفس هي كلُّ شيء.”
أقنعتُ نفسي بأنني خبير، مُذكِّراً نفسي بأنني خبرتُ الحياة في البلاد النامية أكثر من الكثيرين من الرجال الذين يكبرُني بعضهم بضعف عمري، والذين يجلسون الآن ليحكموا على عملي. لقد عشتُ في الأمازون وسافرتُ إلى أجزاءَ من جاوة لا يريد زيارتها أحد غيري. أخذتُ بعض المساقاتِ المكثفةِ المصممةِ لتعليم المدراء التنفيذيين النقاطَ المهمةَ في الاقتصادِ الرياضيّ. وقلتُ لنفسي إنني كنت جزءاً من السلالة الجديدة من الصغار البارعين المتكيفين مع الإحصاءات وعبدة الاقتصادِ الرياضيِّ الذين أُعجب بهم روبرت مكنمارا، رئيسُ البنك الدولي، والرئيسُ السابقُ لشركة فورد للسيارات، ووزيرُ الدفاع في عهد جون كندي. هاهو ذا رجلٌ بنى سمعتَه على الأرقام، وعلى نظرية الاحتمالية، وعلى النماذج الرياضية، وعلى التبجح أيضا بالأنا المنتفخة على ما أخال.
حاولتُ أنْ أُقلِّدَ مكنمارا ورئيسي برونو، معا. تبنيتُ طرقاً للخطاب تقلد الأول، وأخذتُ أمشي بخيلاء كالثاني، وعلى جانبي تتأرجحُ حقيبتي الصغيرة. وإذ أنظرُ الآن إلى الخلف، أعجَبُ حقاً لوقاحتي. فالواقعُ أن خبرتي كانت محدودة جدا، ولكنّ ما افتقدتُه في تدريبي ومعرفتي عوّضتُه بجرأتي.
ولقد نجحت. ففي نهاية المطاف، مَهَرَِ فريقُ الخبراء تقريري بأختام موافقتهم.
في الأشهر التالية حضرتُ اجتماعاتٍٍ في كل من طهران، وكاراكاس، ومدينة غواتيمالا، ولندن، وفينا، وواشنطن العاصمة. التقيتُ بشخصياتٍ مشهورة، منها شاهُ إيران، والرؤساءُ السابقون لعدة دول، وروبرت مكنمارا نفسه. وكحال المدرسة الإعدادية، كان عالمي عالمَ رجال. وعجبتُ كيف أن لقبي الجديد وتقارير نجاحاتي الحديثة أمام وكالات الإقراض الدولية أثَّرت في موقف الناس الآخرين مني.
في البداية، ذهب اهتمامي كلُّه صوبَ رأسي. بدأت أفكر بنفسي كساحر يستطيع بتحريك عصاه فوق بلد ما أن يجعله يُضيء فجأة ويجعل صناعاته تتفتح كالأزهار. ثم زال عني الوهم. أخذت استجوب دوافعي ودوافعَ الناس الذين أعملُ معهم. فبدا لي أن لقبا مهما أو شهادة دكتوراه لا يفعلان إلا القليل لمساعدة شخص ما في فهم محنةِ مجذومٍ يعيش بالقرب من بالوعة مجارٍ في جاكارتا؛ وشككتُ في أن البراعة في اللعب بالإحصاءات تجعل المرء يكتشف المستقبل. وكلما ازددت معرفة بأولئك الذين يصنعون القرارات التي تُحدد شكل العالم، كلما أصبحت أكثر شكا في قدراتهم وأهدافهم. وحين أتطلع إلى الوجوه حول طاولات غرف الاجتماعات، كنتُ أبذلُ جهدا كبيراً لضبط غضبي.
بيد أن هذا المنظور تغير في النهاية. فقد عرفتُ لاحقاً أن معظم هؤلاء الرجال يؤمنون بأنهم يفعلون الشيء الصحيح، ومقتنعون، مثل شارلي، بأن الشيوعية والإرهاب من صنع الشيطان – وليسا رد الفعل المتوقع لقراراتٍ اتخذوها هم وأسلافهم – وأن عليهم واجبا تجاه بلدهم، وذريتهم، وربهم، أن يُحوّلوا العالم إلى الرأسمالية. وهم يتمسكون أيضاً بمبدأ البقاء للأصلح. فإن اتفق أنهم يتمتعون بالحظ الحسن أنهم وُلدوا في طبقة متميزة، بدل أن يولدوا في كوخ من كرتون، فقد رأوا في ذلك واجباً لتمرير هذا الإرث إلى ذريتهم.
كنتُ أتأرجح ما بين النظر إلى هؤلاء الناس كمتآمرين حقيقيين، وبين رؤيتهم ببساطة كعصبة متآخية، شديدة الترابط، مصممة على السيطرة على العالم. مع ذلك، بدأتُ بمرور الوقت أُشَبِّهُهُم بأصحاب المزارع في الجنوب قبل الحرب الأهلية. كان هؤلاء رجالا مرتبطين بعضهم ببعض ارتباطا فضفاضاً تجمع بينهم معتقداتٌ ومصالحُ مشتركة، ولم يكونوا مجموعة خاصةً تجتمع في مخابئ سرية ولها غايةٌ شريرةٌ مُحدَّدة. نشأ أصحابُ المزارع المستبدون وبين ظهرانيهم الخدم والعبيد، وتلقَّوْا الإيمان بأن من حقهم، بل من واجبهم، أن يرعوا هؤلاء “المتوحشين” وأن يُحولوهم إلى دين مالكيهم وطريقة حياتهم. حتى لو أن العبودية صدتهم فلسفيا، برَّروها، كما فعل طومس جِفِرسُن،* باعتبارها ضرورة، إذا انهارت أورثت فوضى اجتماعية. يبدو أنّ قادة حكم القلة المحدثين، وهو ما أطلقتُ عليه اسم سلطة الشركات، يُلائمون هذا القالب.
كذلك أخذتُ أتساءل من هو المستفيد من الحروب، ومن الإنتاج الكمي للسلاح، ومن بناء السدود على الأنهار ومن هدم البيئات والثقافات المحلية. أخذتُ أبحث عن المستفيد حين يموت مئات آلاف الناس من شح الغذاء وتلوث المياه ومن الأمراض الممكن علاجها. ثمّ بدأت أتبين ببطءٍ أنّ لا أحد في المدى البعيد. أما في المدى القصير، فإن أولئك المتربعين على قمة الهرم – رؤسائي وأنا – يبدو أنهم يستفيدون، ماديا على الأقل.
استثار هذا عدة أسئلة أخرى: لماذا يستمرُّ هذا الحال؟ لماذا يبقى زمنا طويلا؟ هل يكمنُ الجوابُ في القول المأثور، “القوة هي الحق”، وأن من هم في السلطة يُديمون هذا النظام؟
ليس كافٍياً، كما يبدو لي، القولُ إن القوة وحدها تسمح لهذا الحال أنْ يستمر. فبينما نجدُ تفسيرا كبيرا في افتراضُ أنّ القوة تصنعُ الحق، شعرتُ بأنه لا بد من وجود قوة مُخضعةٍ تعمل هنا. تذكّرتُ أستاذاً للاقتصاد في مدرسة الأعمال التي تخرجتُ منها، رجلا من شمال الهند، كان يُحاضرُ عن الموارد المحدودة، وعن حاجة الإنسان إلى مواصلة النمو، وعن مبدأ العمل العبودي. وحسب هذا الأستاذ، إن جميع الأنظمة الرأسمالية الناجحة ذاتُ تسلسلٍ هرميٍّ إداريٍّ صارم، يضم قلة متربعةً على قمة الهرم تسيطر على الأوامر النازلة على المرؤوسين، وجيشاً كبيراً من العمال في القاع يُمكن، بالمصطلحات الاقتصادية، تصنيفُهم كعبيد. وهكذا، أصبحتُ مقتنعاً بأننا نُشجِّعُ هذا النظام،َ لأن سلطة الشركات أقتنعنا بأن الله قد منحنا الحقّ في وضع قلة منا على القمة العليا لهذا الهرم الرأسمالي وأن نُصدِّر نظامنا للعالم بأسره.
لسنا، بطبيعة الحال، أول من فعل هذا. فقائمةُ من مارسوه تمتد عبر التاريخ إلى ممالك شمال أفريقية، والشرق الأوسط، وآسيا، وتصعد إلى بلاد فارس، واليونان، وروما، والصليبيين المسيحيين، وجميع بناة الإمبراطوريات من الأوربيين بعد ظهور كُلمبس. كان هذا التوجهُ الإمبرياليُّ وسوف يستمر في كونه سبب معظم الحروب، والتلوث، والمجاعة، وانقراض الأجناس، وقتل البشر. وقد مَكَسَ دائما وبصورة خطيرةٍ ضمائرَ مواطني هذه الإمبراطوريات، وأسهم في سوء الحال الاجتماعي منتهيا إلى وضعٍ أصبحتْ فيه أغنى الثقافات في التاريخ البشري تعاني من أعلى معدلات الانتحار، والمخدرات، والعنف.
تفكّرت بصورة واسعة في هذه الأسئلة، ولكني تجنبتُ النظر في طبيعة دوري أنا من كلّ هذا. حاولتُ أن أفكر بنفسي لا كقاتل اقتصادي، بل ككبير اقتصاديين. فبدوت شرعيا جدا، وإذا احتجتُ إلى أي توكيد، فبإمكاني أن أنظر إلى إيصالات رواتبي: كلها كانت من شركة مين، وهي شركة خاصة. لم أجن فلساً واحدا من وكالة الأمن القومي أو من أية وكالة حكومية. وهكذا اقتنعت. تقريبا.
ذات يوم بعد الظهر، استدعاني برونو إلى مكتبه. مشى خلف كرسيي وربّت على كتفي وقال بصوتٍ مُتخرخر، “قمتَ بعمل ممتاز. ولكي نريك امتنانا، سنعطيك فرصة العمر، شيئاً لا يحصلُ عليه إلا القلةُ من الرجال، حتى من هم في ضِعف سنك.” |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:01 am | |
| الفصل العاشر
رئيس بنما وبطلها
في ساعةٍ متأخرةٍ من إحدى ليالي نَيْسان 1972، وفي لُجّةِ مطرٍ استوائيٍّ غامر، هبطتُ في مطار توكومن الدولي في بنما. وكما كانت العادة في تلك الأيام، اشتركتُ بسيارة أجرةٍ مع بعض المدراء التنفيذيين. ولأني كنتُ أتكلمُ الإسبانية، جلستُ في المقعد الأمامي إلى جانب السائق. نظرتُ منشدهاً عبر زجاج السيارة الأمامي، فرأيتُ من خلال المطر وعلى أضواء السيارة صورةً على لوحة إعلانات لرجل وسيم، ذي حاجبين بارزين وعينين مُتّقِدتين. وكان جانبٌ من قبعته ذات الحافة العريضة معقوفاً إلى الأعلى بطريقة أنيقة. عرفته باعتباره بطل بنما الحديثة، عمر توريجُس.
كنت استعددتُ لهذه الرحلة بطريقتي المعهودة، بزيارة قسم المراجع في مكتبة بوسطن العامة. فعلمتُ أن أحد أسباب شعبية توريجُس كان دفاعَه الحازمَ عن حقِّ بنما في حكم ذاتها وفي مطالبتها بسيادتها على قناة بنما. كان مصمما على أن البلاد تحت قيادته يجب أنْ تتجنب الوقوعَ في شراك تاريخها المذل.
كانت بنما جزءاً من كولُمبيا حين قرَّرَ المهندسُ الفرنسي، فيردِنند دي لِسِبسْ، الذي أدار بناءَ قناة السويس، أن يبني قناةً عبر البرزخ الأمريكي الأوسط، لربط المحيطين الأطلسي والهادئ. وابتداءً من عام 1881، بذلَ الفرنسيون جهداً ضخماً واجه نكبة تلوَ أخرى. وأخيراً، في العام 1889، انتهى المشروع بكارثة مالية – لكنه أوحى بحلم لثيودور روزفلت. ففي السنين الأولى من القرن العشرين، طالبت الولايات المتحدة من كولُمبيا بأن توقع معاهدة تُسلِّمُ البرزخَ بموجبها إلى اتحاد مالي أمريكي شمالي. لكنها رفضت.
في العام 1903، أرسل الرئيس ثيودور روزفلت السفينة الحربية ناشفيل، ونزل منها إلى البر جنودٌ أمريكيون قتلوا قائدَاً شعبيّاً لقوة مسلحةٍ محليّة، وأعلنوا بنما دولة مستقلة. بعد ذلك عُيّنت حكومةٌ ألعوبةٌ، ووُقعت معاهدة القناة الأولى التي أُنشئت بموجبها منطقة أمريكية على طرفي الممر المائي القادم، وشرّعت التدخل العسكري الأمريكي، وأعطت واشنطن سيطرة عملية على هذه الدولة “المستقلة” الجديدة.
من المثير أن هذه المعاهدة وقعها وزير الخارجية الأمريكي هاي، والمهندس الفرنسي، فيليب بُناو-فاريلا، الذي كان جزءاً من الفريق الأصلي، ولكنها لم توقَّعْ من قبل بنميٍّ واحد. فذلكةُ القول إنّ بنما أُجبرت على الانفصال عن كولُمبيا لكي تخدم الولايات المتحدة بموجب صفقة بين أمريكي وفرنسي – وهي بداية نبوئية، بالنظر إلى الخلف.[i]
حُكمت بنما لأكثرَ من نصف قرن من قبل أقلية من الأسر الثرية ذات العلاقة القوية بواشنطن. كانوا حكاماً يمينيين مستبدين اتخذوا كل الإجراءات الضرورية لضمان دعم بلدهم للمصالح الأمريكية. وعلى طريقة معظم المستبدين المتحالفين مع واشنطن في أمريكا اللاتينية، كان حكامُ بنما يُؤَوِّلون المصالحَ الأمريكيةَ لتعني كبحَ أيةِ حركةٍ شعبيةٍ تفوحُ منها رائحة الاشتراكية. كذلك كانوا يدعمون وكالة الاستخبار المركزية ووكالة الأمن القومي في الأنشطة المضادة للشيوعية في جميع أرجاء نصف الكرة [الغربي الجنوبي]، و كانوا يساعدون الشركات الأمريكية الكبرى، مثل ستاندرد أويل التابعة لركفلر وشركة الفواكه المتحدة. ويبدو أن هذه الحكومات لم تكن تشعر بأن مصالح الولايات المتحدة يمكن تعزيزُها بتحسين حياة الناس الذين كانوا يعانون من الفقر المدقع أو يُستعبَدون عمليا في المزارع والشركات الكبيرة.
كانت الأسر الحاكمة في بنما تُجزَى على دعمها جزاءً حسنا؛ فقد تدخلت القوات العسكرية الأمريكية إلى جانبهم اثنتي عشْرةَ مرة بين إعلان استقلال بنما والعام 1968. غير أن مجرى تاريخ بنما تغيّر فجأة في ذلك العام في أثناء وجودي متطوعا في فرقة السلام في الإكوادور. فقد أطاح انقلابٌ بآرنُلفو آرياس، آخر حاكم في زمرة المستبدين، وظهر عمر توريجُُس رئيسا للدولة، بالرغم من أنه لم يُشارك بصورة فعالة في الانقلاب.[ii]
كان توريجُس يحظى باحترام كبير عند الطبقات الوسطى والدنيا في بنما. وقد نشأ هو نفسُه في المدينة الريفية، سانتياغو، حيث كان والداه يُعلِّمان في إحدى المدارس. وقد برز سريعا من خلال صفوف الحرس الوطني، الوحدة العسكرية الأولى في بنما، والمؤسسة التي اكتسبت تأييدا متزايدا بين الفقراء خلال ستينات القرن العشرين. وقد حظي توريجُس بسمعةٍ حسنةٍ لاستماعه إلى المحرومين. كان يمشي في شوارع مدنهم البسيطة، ويعقد الاجتماعات في أحياء الفقراء التي لم يكن يجرؤ السياسيون على دخولها، ويساعد العاطلين عن العمل على إيجاد وظائف لهم، وغالباً ما كان يتبرع بموارده المالية المحدودة للأسر المبتلاة بالأمراض أو الفواجع.[iii]
كان حبُّ توريجُس للحياة وتعاطفُه مع شعبة قد جازا حتى حدود بنما. فقد التزم بجعل بلده ملجأً للهاربين من الاضطهاد، وملاذاً للاجئين من كلا جانبي السياج السياسي، من المعارضين اليساريين للرئيس التشيلي، بِنوُشيه، إلى المغاوير اليمينيين المناوئين لكاسترو. وقد رأى فيه الكثرةُ من الناس داعيةً للسلام، وهو ما جلب له المديح من أرجاء نصف الكرة. كذلك كانت له سمعةٌ حسنة كقائدٍ التزم بحلِّ الخلافات بين مختَلَفِ الأجنحة التي كانت تمزِّقُ بلدانا أمريكية لاتينية كثيرة جدا: كهندوراس، وغواتِمالا، والسلفادور، ونٍكَراغوا، وكوبا، وكولُمبيا، وبيرو، والأرجنتين، وتشيلي، وبَرَغواي. أما بلده الذي يبلغُ تعدادُه مليوني نسمة، فقد كان مثالا يُحتَذى للإصلاح الاجتماعيِّ، ومُلهماً لقادة العالم، من المنظمين العمّاليين الذين خططوا لتفكيك الاتحاد السوفييتي إلى المقاتلين الإسلاميين من أمثال الليبي، مُعمّر القذافي.[iv]
في ليلتي الأولى في بنما، حين توقفتُ عند الإشارة الضوئية ونظرتُ عبر مسّاحات زجاج السيارة المصرصرة، هزّني هذا الرجل الذي رأيتُه يبتسم لي من على لوحة الإعلانات – بدا وسيماً، جذاباً، شجاعا. وكنتُ عرفتُ من الساعات التي قضيتُها في مكتبة بوسطن العامة أنه ملتزم بمعتقداته. فلأول مرة في تاريخها، لم تكن بنما ألعوبة بيد واشنطن أو غيرها، إذ لم يستسلم توريجُس قطُّ لإغراءات موسكو أو بكّين. وكان يؤمنُ بالإصلاح الاجتماعيِّ وبمساعدة من وُلِدوا في الفقر، ولكنه لم يُدافعْ عن الشيوعية. وعلى النقيض من كاسترو، كان توريجُس مصمما على نيل الحرية من الولايات المتحدة بدون التحالف مع أعدائها.
كنت وقَعْتُ على مقالة في مجلة غير معروفة على رفوف مكتبة بوسطن العامة تُشيدُ بتوريجُس كرجل سوف يُغيِّرُ تاريخ الأمريكيتين، مُبطلا اتجاها مُزمناُ بالنسبة إلى هيمنة الولايات المتحدة. كان الكاتب استهلّ مقالته بالاستشهاد بـ”بيان المصير”*– الوثيقة المعروفة لدى الكثرة من الأمريكيين في أربعينات القرن التاسع عشر، التي تقول إن غزو أمريكا الشمالية كان وحياً إلهيّاً؛ فالله، لا البشر، أمر بإبادةِ الهنود [الحمر]، وبتدمير الغابات، والجواميس، وبتجفيف المستنقعات، وتحويل الأنهار، وبتنمية اقتصاد يعتمد على الاستغلال المستمرِّ للعمّال والموارد.
جعلتني هذه المقالةُ أفكِّرُ بموقفِ بلدي من العالم. ذلك أن وثيقة مونرو، التي أعلنها الرئيس جيمس مونرو عام 1823، قد استُخدِمتْ للتقدم ببيان المصير خطوة إلى الأمام. ففي خمسينات وستينات القرن التاسع عشر، استُخدِمتْ للتأكيد على أن للولايات المتحدة حقوقاً خاصّةً في جميع أنحاء نصف الكرة [الجنوبي الغربي]، بما في ذلك الحقُّ في غزو أية دولةٍ في أمريكا الوسطى أو الجنوبية ترفض تأييد سياساتِ الولايات المتحدة. وقد استند تِدي روزفلت إلى وثيقة مونرو لتبرير تدخل الولاياتِ المتحدةِ في جمهورية الدومِنكان، وفنزويلا، وفي “تحرير” بنما من كولُمبيا. كذلك استند إليها صفٌّ من الرؤساء الأمريكيين – أهمهم تافْت، وولسُن، وفرانكلِن روزفلت – لتوسيع أنشطة واشنطن حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في كامل القارتين الأمريكيتين. أخيراً، في النصف الأخير من القرن العشرين، تذرّعت الولاياتُ المتحدةُ بالخطر الشيوعيِّ لتبرير توسيع هذه الفكرة لتشمل بلداناً حول العالم، منها فيتنام وإندونيسيا.[v]
يبدو الآن أن ثمة رجلاً يقف في طريق واشنطن. أعلم أنه ليس الأول – فقد سبقه قادة مثل كاسترو وألِندي. لكن توريجُس وحده مَنْ قام بذلك خارج مجال المعتقد الشيوعيِّ وبدون أن يدَّعي أن حركته ثورة. كان يقول ببساطة إنّ لبنما حقوقَها – في السيادة على شعبها، وأرضها، والممرِّ المائي الذي يقسمها – وإنّ هذه الحقوق في صحتها وملكيتها المقدسة كأية حقوق للولايات المتحدة.
كذلك اعترضَ توريجُس على وجود مدرسة الأمريكيتين وعلى مركز التدريب على الحرب الاستوائية التابع للقيادة الجنوبية للولايات المتحدة، وكلاهما موجودان في منطقة القناة. وكانت الولاياتُ المتحدةُ لسنواتٍ طويلةٍ تدعو المستبدين والرؤساءَ الأمريكيين اللاتينيين إلى إرسال أولادهم وقادتهم العسكريين إلى هاتَيْن المؤسستين – وهما الأكبرُ والأكثرُ تجهيزاً خارج أمريكا الشمالية. وهناك كانوا يتعلمون فنَّ الاستجواب والمهارات في العمليات السرية، بالإضافة إلى الفنون العسكرية التي سوف يستخدمونها لمحاربة الشيوعية وحماية ممتلكاتهم وممتلكات شركات النفط وغيرها من الشركات الخاصة. كذلك كانت لهم فرصُ إنشاء علاقاتٍ مع كبار العسكريين في الولايات المتحدة.
كانت هاتان المؤسستان مكروهتين في أمريكا اللاتينية – باستثناء القلة الثرية المنتفعة منهما. كانتا معروفتين بتدريب فرق الموت اليمينية والجلادين الذين يمارسون التعذيب والذين حوّلوا الكثرة من الدول إلى الحكم الشمولي. وقد أوضح توريجُس أنه لا يريد مراكز تدريب في بنما – وأنه يعتبرُ منطقةَ القناة ضمن حدود بلاده.[vi]
حين رأيتُ هذا الجنرالَ الوسيمَ على لوحة الإعلانات، وقرأت التعليق تحت صورته – “مثال عمر هو الحرية؛ ما من صاروخ يستطيع قتل المُثُل!” شعرتُ برجفةٍ تتمشى في مفاصلي. كان لديّ هاجس أن قصة بنما في القرن العشرين كانت أبعد من أن تنتهي، وأنّ في انتظار توريجُس وقتاً صعبا، بل ربما مفجعا.
كانت العاصفةُ الاستوائيةُ تضربُ زجاجَ السيارة بقوة حين تحوّلت الإشارة الضوئية إلى اللون الأخضر وأطلق السائقُ مزماره على السيارة أمامه. عندها تفكّرت بوضعي. كنتُ أُرسلتُ إلى بنما لإغلاق الصفقة حول الخطة التنموية الرئيسية الشاملة الأولى لشركة مين. وسوف تختلقُ هذه الخطةُ تبريراً للبنك الدولي، وبنك التنمية الأمريكي، ووكالة التنمية الدولية الأمريكية لاستثمار مليارات الدولارات في الطاقة، والنقل، والزراعة في هذه الدولة الصغيرة المهمة جدا. لقد كانت بالطبع ذريعةً ووسيلةً لجعل بنما مدينةً إلى الأبد، وإعادتها بالتالي إلى وضعها كدولة ألعوبة.
حين كانت السيارة تخترق طريقها في الليل، لمعت ببالي نوبةُ شعور بالذنب، لكنني أخمدتُها. فعلامَ أهتم؟ لقد بدأتُ في جاوة، حيث بعت روحي، والآن أستطيعُ أنْ أخلق فرصة عمري. أستطيع أن أغدو ثريا ومشهورا وقويا بضربة واحدة.
الفصل الحادي عشر
قراصنةٌ في منطقة القناة
في اليوم التالي، أرسلتْ الحكومةُ البنمية رجلا ليأخذني في جولة. كان اسمه فِدِل، وانجذبتُ له فورا. كان طويلا نحيفاً معتزاً ببلده. وكان جدُّه الأكبرُ قد حارب إلى جانب بوليفار للاستقلال عن إسبانيا. فقلتُ له إنني على علاقةِ قرابةٍ بتوم بين، فأفرحني بأنه قرأ البديهة بالإسبانية. كان يتكلم الإنكليزية، لكنه حين اكتشف معرفتي الجيدة بلغة بلده، استثارته العاطفة.
قال، “يعيشُ الكثيرون من شعبكم هنا، لكنهم لا يحفلون أبداً بتعلمها.”
أخذني فِدِل في جولة عبر قطاع ثريٍّ جدا من مدينته أسماه بنما الجديدة. وإذ مررنا بناطحات سحاب من الحديد والزجاج، قال إن في بنما بنوكاً عالمية أكثر من أي بلد إلى الجنوب من ريو غراندي. “غالباً ما نُسَمَّى سويسرا الأمريكيتين. فنحن لا نسأل عملاءنا إلا أقل الأسئلة.”
في وقتٍ متأخر من العصر، وقد أخذتْ الشمسُ تنحدر صوب المحيط الهادئ، تمشينا بالسيارة في شارع بمحاذاة الخليج، حيث كان صفٌّ طويلٌ من السفن راسيا. فسألتُ فِدِل إن كان في القناة مشكلة، فقال ضاحكاً، “إنها هكذا دائما. صفوفٌ منها تنتظر دورها. ونصف الحركة إما من اليابان أو إليها، أكثرَ حتى من الولايات المتحدة.”
وإذ اعترفتُ أنني أسمع ذلك للمرة الأولى، قال، “لا أستغرب. فالأمريكان الشماليون لا يعرفون كثيراً عن بقية العالم.”
ثم توقفنا عند حديقةٍ جميلةٍ تتسلق آثارَها القديمةَ نبتةُ المجنونة. كانت هناك لافتةٌ تعلن أن هذه كانت قلعةً بُنيتْ لتحمي المدينة من اعتداء القراصنة الإنكليز. كان في الحديقةِ أسرةٌ تستعد لنزهةٍ مسائية: أبٌ وأمٌّ وولدٌ وبنتٌ، ومعهم رجلٌ كبيرٌ افترضتُ أنه جدُّ الصغيرين. شعرتُ فجأةً بشوقٍ إلى راحة البال التي بدت تكتنف هذه الأسرة. وحين مررنا بهم، ابتسم الزوجان وحيّيانا بالإنكليزية. سألتُ إن كانوا سيّاحا، فضحكا، وجاء الرجل لنا.
قال بفخر، “أنا من الجيل الثالث في منطقة القناة. جاء جدِّي بعد ثلاث سنوات من إنشائها. كان يقود أحد البغال التي كانت تجرُّ السفن إلى أقفالها.” أشار إلى الرجل الكبير، وكان مشغولا في مساعدة الصغيرين في وضع مائدة النزهة. “كان أبي مهندساً وأنا اتبعتُ سيرته.”
عادت المرأةُ لمساعدة حميها وصغيريها، وخلفهم غاصت الشمس في الماء. كان منظراً شعريَّ الجمال، يُذكِّر رائيه بلوحات مونِت. سألتُ الرجل إن كان مواطنا أمريكياً، فنظر إليّ غير مصدِّقٍ. “طبعا. منطقة القناة أرضٌ أمريكية.” ثم جاء الولدُ راكضاً ليُخبر أباه أن العشاءَ جاهز.
“هل سيشكل ابنُك الجيل الرابع؟”
جمع الرجل يديه معاً على شكل دعاء ورفعهما إلى السماء، قائلا، “أدعو الله كلَّ يوم أن يحظى بهذه الفرصة. الحياةُ في منطقة القناة رائعة.” ثم أنزل يديه ونظر مباشرةً إلى فِدِل. “آمل أن نستطيع التمسك بها لخمسين سنة أخرى. هذا الطاغية توريجُس مشاغبٌ كبير، رجلٌ خطير.”
شعرتُ بإلحاح مفاجئ يعتريني، فقلتُ له بالإسبانية، “أديوس. أرجو لك ولأسرتك وقتا هنيئا هنا، وأن تتعلم الكثير عن ثقافة بنما.”
فنظر إليّ باشمئزاز وقال، “لا أتكلم لغتهم.” ثم استدار بطريقةٍ فظةٍ وذهب إلى أسرته في نزهتها.
اقترب فِدِل مني ووضع ذراعه حول كتفيّ شادّاً عليهما، وقال، “أشكرك!”
عدنا إلى المدينة، حيث ساقنا فِدِل إلى منطقةٍ وصفها بأنها فقيرة. قال، “ليست هذه أسوأ ما عندنا. لكنها عيّنة.”
كان على طرف الشارع أكواخٌ خشبيةٌ وخنادقُ مليئة بالماء الآسن، كأن تلك البيوتَ المتهافتةَ قواربُ مكسرةٌ في بالوعة. ملأت رائحةُ العفن والمجاري سيارتَنا التي كان يجري من حولها أطفال ببطون منتفخة. وحين خففنا سرعتنا، تجمهروا إلى جانبي، ينادونني “عمِّي”، ويستجدون المال. ذكّرني منظرهم بجاكارتا.
كانت الكتاباتُ والرسوماتُ تملأُ الجدران، منها الرسوم المعهودة للقلوب وأسماء العشاق مرقشةً عليها. لكنّ معظمَ الكتابات كانت شعاراتٍ تُعبِّرُ عن كره الولايات المتحدة: “عد إلى بلادك، يا غرينغو.” كفى تغوّطاً في قناتنا.” “العم سام سيد العبيد.” “قولوا لنِكسن: بنما ليست فيتنام.” أما التي جمّدت قلبي فتلك التي تقول، “موتُ الحرية طريقٌ إلى المسيح.” وبين كل هذا كانت هناك صور لعمر توريجُس.
قال فِدِل، “سنذهب الآن إلى الجانب الآخر. عندي أوراقٌ رسميةٌ وأنت مواطنٌ أمريكي، لذلك نستطيعُ الدخول.” ساقنا تحت سماء أرجوانية إلى منطقة القناة. وبالرغم من توقعي، فإنه لم يكن كافيا. لم أستطعْ أنْ أُصدِّقَ ثراء المكان – مبانٍ بيضاءُ ضخمة، مسطحاتٌ خضراءُ مسوّاة، بيوتٌ مترفةٌ، ملاعبُ غولف، مخازن، مسارح.
قال فِدِل، “الحقيقة أن كل ما هو هنا إنما هو ممتلكات أمريكية. جميع الأعمال التجارية – الأسواق الكبيرة، صالونات الحلاقة والتجميل، المطاعم، كلها – لا تسري عليها القوانين البنمية ولا الضرائب. توجد سبعةُ ملاعبِ غولف ذات 18 حفرة، مكاتبُ بريدٍ أمريكيةٌ منتشرةٌ بشكل مريح، محاكمُ ومدارسُ أمريكية. إنها حقا دولةٌ داخل دولة.”
“يا لها من إهانة!”
حدّق فِدِل إليّ، وكأنه يخبرني بسرعة، وقال موافقاً، “نعم، هذه كلمة جيدة في وصفها.” ثم أشار إلى المدينة من خلفه، “هنا يبلغ دخل الفرد أقل من ألف دولار في السنة، ومعدل البطالة 30 في المئة. أما في المدينة الفقيرة التي زرناها للتو، فلا أحد، طبعا، يصل دخله إلى ما يقرب من ألف دولار، ومن النادر أن يجد أحدُهم وظيفة.”
“وما العمل؟”
التفت ونظر إليَّ نظرةً بدت كأنها تتغيّرُ من الغضب إلى الحزن.
“ماذا نستطيعُ أن نعمل؟” ثم هز رأسه وقال مضيفاً، “لا أعلم. لكني سأقول ما يلي: توريجُس يحاول. قد يعني موته. ولكنه يحاول ما يستطيع. إنه رجل سوف يقاتل من أجل شعبه.”
حين عدنا خارج منطقة القناة، ابتسم فِدِل، وسأل، “أتحبُّ أنْ ترقص؟” وبدون أن ينتظر جوابي قال، “هيا نتناول بعض العشاء. وبعدها سأريك جانباً آخر من بنما.”
الفصل الثاني عشر
الجنود والمومسات
بعد شريحةِ لحمٍ شهيةٍ وجعةٍ باردة، غادرنا المطعم وذهبنا إلى شارع مُعتم. نصحني فِدِل ألا أمشي في هذه المنطقة مطلقا. “حين تأتي إلى هنا، خذ سيارة أجرة إلى الباب الأمامي.” وأشار قائلا، “هنا، خلف السياج منطقة القناة.”
استمرَّ في سياقة السيارة حتى وصلنا إلى قطعة خالية من الأرض مليئة بالسيارات، واصطفّ في بقعة خالية. جاء صوبَنا رجل مُسنٌّ يعرج، فربّتَ فِدِل على ظهره. ثم مرّر يده على طرف السيارة بمودة، وأعطاه قطعة نقدٍ قائلا، “اعتن بها. إنها عروسي.”
أخذنا ممرا للمشاة قصيراً خارج مرآب السيارات، وفجأة وجدنا أنفسنا في شارع مليء بأضواء النيون المتلألئة. جرى ولدان بالقرب منا يُصوِّبان عصاتين أحدهما على الآخر، ويُطلقان أصوات رجال يُطلقون البنادق. تعثّر أحدهما بساقي فِدِل، فلم يكد رأسُه يبلغ فخذ الرجل. تراجع الولد الصغير وقال بالإسبانية لاهثاً، “آسف، سيدي.”
وضع فِدِل يديه على كتفي الولد، وقال له، “لم تؤذني، يا رجل. لكنْ قل لي، على من كنتَ وصاحبُك تُطلقان النار؟”
عندها جاء الولد الثاني مسرعا، ووضع ذراعَه حول الأول ليحميه، وقال، “هذا أخي. نحن آسفان.”
ضحك فِدِل بلطف وقال، “لا بأس. لم يؤذني. لكنني سألته على من كنتما تطلقان النار. أعتقد أنني كنتُ ألعب اللعبة نفسها.”
نظر الولدان أحدهما إلى الآخر. ثم ابتسم الأكبر وقال، “على الجنرال الأمريكي في منطقة القناة. حاوَلَ أنْ يغتصبَ أمَّنا، وأنا أعيده إلى حيث جاء.”
استرق فِدِل نظرة إليّ. “من أين جاء؟”
“من الولايات المتحدة.”
“هل تعمل أمُّك هنا؟”
“هناك.” وأشار الولدان باعتزازٍ إلى أحد أضواء النيون في الشارع. “تعمل ساقية في الحانة.”
أعطاهما فِدِل قطعة نقود وقال، “هيا، اذهبا، ولكن انتبها، ابقيا في الأضواء.”
“طبعا، سيدي، شكرا.” وجريا بعيدا.
قال فِدِل وقد تابعنا سيرَنا، إن القانون يحظر على النساء البنميات أن يمارسن الدعارة. “يستطعن العمل في الحانات وممارسة الرقص؛ لكنهن لا يستطعن بيع أجسادهن. ذلك متروكٌ للمستوردات من الخارج.”
خطونا داخل الحانة، فصدمتنا أغنية أمريكية شعبية، وقد أخذتْ عيناي وأذناي لحظةً لتتكيف. كان يقف عند الباب جنديان أمريكيان غليظان، تدل الربطة على ذراع كل منهما أنهما من الشرطة العسكرية.
قادني فِدِل إلى داخل الحانة، فرأيتُ المسرح، وعليه ثلاثُ نساء يرقصن عارياتٍ تماما، فيما عدا رؤوسَهن. كانت إحداهن تلبس قبعة ملاح، والأخرى قبعة بيريه، والثالثة قبعة راعي بقر، كنّ يتضاحكن وهنّ يرقصن بأجسادهن المثيرة. وقد بدا أنهن كنَّ يلعبن لعبة مع بعضهن البعض، وكأنهنّ يرقصن في مباراة تنافسية. أما الموسيقى وطريقة رقصهن والمسرح، فتخالُ نفسَكَ في مرقص في بوسطن، فيما عدا كونهنّ عاريات.
أخذنا طريقنا عبر مجموعة من الشباب يتكلمون الإنكليزية. وبالرغم من أنهم كانوا يلبسون قمصانا بحرف الـ”تي”، وسراويل جينز، فقد دلت قَصّةُ شعورهم على أنهم جنودٌ من القاعدة العسكرية في منطقة القناة. ربّتَ فِدِل على كتف إحدى النادلات، فالتفتت مطلقةً صرخةً فَرِحةً وملقيةً بنفسها بين ذراعيه. شاهدتْ مجموعةُ الشباب ما حدث بانتباهٍ وتبادلوا فيما بينهم نظراتِ استنكار، فتساءلتُ إنْ كانوا يظنون أن “بيان المصير” يشمل هذه الفتاة البنمية. ثم قادتنا النادلة إلى زاوية، وجاءتنا من مكان ما بمائدة وكرسيين.
حين جلسنا، تبادل فِدِل التحيةَ بالإسبانيةِ مع رجلين على مائدة مجاورة، وكانا، على عكس الجنود، يلبسان قميصين قصيري الأكمام، وسروالين مكويين. ثم عادت النادلة بكأسين من جعة البالبو، فربّت فِدِل على ردفها حين استدارت، فنظرت إليه مبتسمة وألقت له بقبلة. أجَلْتُ نظري في المكان، فارتحتُ أنْ رأيتُ الشباب في الحانة لم يعودوا ينظرون إلينا، بل إلى الراقصات.
كان أغلبُ الروّاد جنودا يتكلمون الإنكليزية، ولكنْ كان هناك غيرُهم أيضاً، كالرجلين الجالسين إلى جانبنا، لكنّ من الواضح أنهم بنميون. وقد بدوا بوضوح لأن شعرهم لا يمكن أنْ يُقبَلَ في التفتيش، ولأنهم لم يكونوا يلبسون قمصانا بحرف الـ”تي” وسراويل الجينز. كان بعضُهم يجلس إلى الموائد، بينما اتكأ الآخرون على الجدران. وقد بدوا متنبهين جدا، كالكلاب التي تحرسُ قطعان الماشية.
كانت النساءُ يتجوّلنَ حول الموائد، ويجلسن في الأحضان، ويصرخن للنادلات، ويرقصن، ويلتوين، ويُغنِّين، ويأخذن أدوارهن على المسرح. وكنّ يلبسن تنوراتٍ ضيقةً، وقمصانا بحرف الـ”تي”، وسراويل جينز، وملابس ملتصقةً، وكعوباً عالية. كانت إحداهنّ تلبس رداءً فِكتورياً وقناعا، بينما لبست أخرى البكيني وحده. وكان واضحاً أن البقاء هنا للأجمل. ولقد دهشتُ من عدد هؤلاء الفتيات اللائي يأتين إلى بنما، وعجبتُ لليأس الذي قادهن إلى هذا.
صرختُ أسأل فِدِل فوق صوت الموسيقى، “كلُّهنّ من بلدان أخرى؟” فأومأ برأسه، وقال “ما عدا …” وأشار إلى النادلات. “إنهنّ بنميات.”
“من أي بلدان؟”
“هندوراس، السلفادور، غواتيمالا.”
“جيرانكم.”
“ليس كليا. كوستا ريكا وكولُمبيا أقربُ الجيران.”
جاءت النادلة التي قادتنا إلى هذه المائدة، وجلست على ركبة فِدِل، فتحسس ظهرها بلطف، وقال، “كلاريسا، أرجوكِ أنْ تُخبري صديقي الأمريكي الشمالي لِمَ تَرَكْنَ بلدانهن.” وأشار بإيماءة من رأسه إلى المسرح. كانت ثلاثُ فتيات جديدات يأخذن القبعات من الأخريات اللائي قفزن من على المسرح وأخذن يلبسن. انتقلت الموسيقي إلى إيقاع الصلصا، وحين بدأت الفتيات الجديدات في الرقص، أخذن يخلعن ملابسهن على إيقاع الموسيقى.
مدّت لي كلاريسا يدها وقالت، “يُسعدني أن أقابلك”. ثم قامت لتأخذ زجاجتينا الفارغتين، وقالت، “ردا على سؤال فِدِل، إنهنّ يأتين إلى هنا هرباً من الوحشية.” ثم قالتْ، “سأحضر زجاجتي بالبو أخريين.”
حين تركتنا كلاريسا قلتُ لفِدِل، “دعك من هذا. إنهن هنا وراء الدولارات الأمريكية.”
“صحيح. ولكنْ، لماذا يأتي هذا العدد الكبير من البلدان التي يحكمها المستبدون الفاشيون؟”
نظرتُ مرة أخرى إلى المسرح. كانت الفتيات الثلاث يقهقهن ويُلقين بقبعات الملاحين كالكرة. حدّقتُ إلى عيني فِدِل وقلت، “لا أظنك تمزح، أليس كذلك؟”
فأجاب جادّاً، “لا. ليتني كنت أمزح. معظم هؤلاء الفتيات فقدن أسرهن – آباءهن، إخوانهن، أزواجهن، أصدقاءهن. لقد كبروا مع التعذيب والموت. فالرقص والبغاء ليسا سيئين بالنسبة إليهن. يكسبن كثيرا من المال هنا، ثم يبدأن حياةً جديدة في مكانٍ ما؛ يبتعن دكاناً صغيرة، يفتحن مقهى …”
توقف فِدِل عن الكلام بسبب ضجة بالقرب من المشرب. رأيتُ نادلة تسدد ضربة بقبضتها إلى أحد الجنود، لكنه أمسك بيدها وأخذ يلوي رسغها، فصرخت وخرّت على ركبتيها. أما هو فضحك ونادى على صحبه، الذين ضحكوا جميعا. حاولتْ أن تضربه بيدها الطليقة، فلَواها أكثر، حتى غطى الألم قسمات وجهها.
بينما بقي جنديّا الشرطة العسكرية واقفَيْن عند الباب يراقبان بهدوء، قفز فِدِل صوب المشرب. لكنّ أحد الرجال على المائدة المجاورة لنا مدّ يده ليوقفه قائلا، “اهدأ يا أخي. إنريك سيضبط الأمر.”
على الفور، ظهر من الظل رجلٌ بنمي، طويل نحيف، وتحرّك كالقط منقضّاً على الجندي. طوَّقَ بإحدى يديه حنجرة الرجل وبالأخرى رشقه بكأس ماء، بينما سحبت النادلة نفسها. كان الكثرة من البنميين الواقفين عند الجدران قد شكلوا طوق حماية حول الحارس الطويل. رفع الحارسُ الجنديَّ ودفعه على المشرب وقال شيئا لم أستطع سماعه. ثم تكلم ببطء باللغة الإنكليزية رافعا صوته بحيث يسمعه كلُّ من في الغرفة الساكنة الضاجة بالموسيقى.
“اسمعوا، أنتم يا شباب. لا يُسمحُ لكم بالاقتراب من النادلات. أما الأخريات، فلا تلمسوهن قبل أن تدفعوا لهن.”
أخيراً تحرك جنديا الشرطة العسكرية، واقتربا من حشد البنميين، وقالا، ” إنريك، هذا يكفي.”
أنزل الحارسُ الجنديَّ إلى الأرض وضغط على رقبته للمرة الأخيرة، مما جعله يصيح متألما، وقال، “هل فهمت؟” وإذ صدرت من الجندي أنّة ضعيفة، قال الحارس، “تماما.” ثم دفع بالجندي إلى الشرطيين العسكريين وقال، “أخرجوه من هنا.”
[1] لوبيس إيرنانديس ميغيل آنخيل (2004). “لقاءات في طرقات آبيا يالا” (الطبعة الاولى). كيتو، الاكوادور. منشورات آبيا يالا. ص 4. تمت استشارة الكتاب يوم 17 اكتوبر 2010.
[2] بتدبير من الثورة المضادة بزعامة الامبريالية والاوليغارشية وفلول الدكتاتورية العسكرية، وقع انقلاب برلماني ضد الرئيس اليساري الدستوري فيرناندو لوغو Fernando Lugo واخراجه قسرا من القصر والسلطة يوم 23 يونيو 2012.
[3] : في 26 يوليو 1953 انطلقت شرارة الثورة المسلحة بقيادة فيديل كاسترو FIDEL CASTROلكنها لم تنتصر وسجن قادتها ايضا، وقضوا سنتين في السجن واعتكفوا على تطوير انفسهم نظريا وبرنامجيا ونضاليا وبعد خروجهم اضطرتهم ملاحقة الدكتاتورية لهم الى الهجرة الى المكسيك، ومنها عادوا مسلحين ووصلوا الى السلطة في 1 يناير 1959. 4 فبراير 1992الفنزويلي ياتي بمثابة الهجوم على ثكنة المونكادا الكوبية)
[4] اعتماد الدولار الامريكي في السوق الداخلية والخارجية للبلاد والغاء العملة الوطنية وفي ذلك انتقاص من سيادة الدولة وارتهانها لعملة دولة اخرى، تتقاذها امواج وعواصف تقلبات الوضع الدولي، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
[5] الرئيس لوسيو غوتييرّيس LUCIO GUTIERREZهرب من الباب الخلفي لمطبخ القصر الرئاسي وصورته عدسات التلفزة وبثته مباشرة على الهواء، هرب امام الجموع الشعبية التي احاطت بالقصر مطالبة باستقالته الفورية نظرا لخيانته للتعهدات والوعود الانتخابية التي اوصلته الى الرئاسة.
[6] كورّييه تخرج من جامعة امريكية وكان وزيرا للاقتصاد في الحكومة الماضية وكان شديد الانتقاد دائما لليبيرالية الجديدة وتطبيقاتها في القارة. يوم فوزه بالانتخابات الرئاسية، عادت والدته من امريكا الى الاكوادور لتهنئته. وكانت قد بدأت الحملة الامريكية والرجعية للتشهير به على انه شيوعي (في امريكا اللاتينية لم تعد تنطلي على احد فزاعة الشيوعية) وامام البث التلفزيوني المباشر ردت والدته على تلك الحملة المغرضة بالقول ” اذا كان الدفاع عن الفقراء والشعب يعني اننا شيوعيون فاننا كذلك”.
[7] نظرية اللاهوت التحريرية: هي عبارة عن انتفاضة داخل الكنيسة التقليدية التي تبارك وتخدم الطبقات الاوليغارشية والدكتاتوريات التي كانت تثقل كاهل القارة. اهم رموزها: ليوناردو بوف وفريه بيتو البرازيليين وكذلك مطران سان سلفادور، اوسكار روميرو الذي اغتالته فرق الموت في بداية الثمانينات اثناء الصلاة في كنيسة الفقراء. الفاتيكان لا يعترف بهذه النظرية الجهادية التي تناضل ضد راس المال وطغيان ممثليه وتقف الى جانب الفقراء والمحرومين والطبقات الاجتماعية المستضعفة.
[8] ما سبق بخصوص الاكوادور، كانت قد نشرته مجلة كنعان العدد 1076 من ضمن مقال للكاتب بعنوان “امريكا اللاتينية: نهوض قومي تقدمي بافق ثوري اممي” بتاريخ 25 فبراير 2007. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:03 am | |
| الفصل الثالث عشرأحاديث مع الجنرالكانت الدعوةُ غيرَ متوقَّعةٍ إطلاقا. فذات صباح في أثناء الزيارة نفسها عام 1972، كنتُ جالساً في مكتبٍ أعطتني إياه مؤسسةُ الموارد المائية والكهربائية، وهي شركة الكهرباء التي تملكُها الحكومة البنمية. كنتُ أتأمّلُ بعضَ الإحصاءات حين قرع رجلٌ بلطفٍ حافة بابي المفتوح. دعوتُه للدخول، مسرورا للعذر الذي جعلني أُبعِدُ انتباهي عن الأرقام. قدّم نفسه بأنه سائقُ الجنرال وقال إنه جاء ليأخذني إلى أحد منازل الجنرال.بعد ساعة، كنت أجلسُ إلى طاولةٍ مع الجنرال عمر توريجُس. كان يلبس بشكل عَرَضِيٍّ وبطريقة بنمية أصيلة: سروالاً كاكيّاً وقميصا قصير الأكمام ذا أزرار أمامية ولون أزرق فاتح وتطريز دقيق أخضر. كان قويَّ البنية، طويلا، وسيما. وقد بدا لي مرتخيا بصورةٍ مدهشة لرجل في مسؤولياته. كانت خصلةٌ من شعرٍ فاحمٍ ساقطةً على جبينه البارز.سألني عن رحلاتي الحديثة إلى إندونيسيا وغواتيمالا وإيران، فقد كان مفتوناً بهذه البلدان الثلاثة، ولكنه بدا مندهشاً خصوصاً من ملك إيران، الشاه محمد رضى بهلوي. فقد استلم الشاهُ السلطةَ عام 1941، بعد أن أطاح البريطانيون والسوفييت بأبيه، متهمين إياه بالتعاون مع هتلر.[i]سأل توريجُس، “هل تتخيّل أن تكون جزءاً من مؤامرة للإطاحة بوالدك؟”كان رئيسُ دولة بنما مُلمّاً بتاريخ ذلك البلد النائي. وقد تحدثنا عن كيفية سحبِ البساط من تحت أرجل الشاه عام 1951، وكيف أجبره رئيسُ وزرائه على الخروج إلى المنفى. كان توريجُس يعلم، كحال معظم الناس، أن وكالة الاستخبار المركزية هي من وصم رئيس الوزراء بالشيوعية وأنها من تدخّل لإعادة الشاه إلى السلطة. بيد أنه لم يكن يعرف – أو أنه على الأقلِّ لم يذكر – ما أخبرتني إياه كلودين عن الألاعيب البارعة التي مارسها كيرمت روزفلت وحقيقةِ أنّها كانت البدايةَ لعصرٍ جديدٍ من الإمبريالية، والشرارةَ التي أوقدت حريق الإمبراطورية العالمية.قال توريجُس، مُكملاً حديثه، “بعد إعادة الشاه، دشّن سلسلةً من البرامج الثورية الهادفة إلى تنمية القطاع الصناعي وإدخال إيران في العصر الحديث.”سألتُه عن سبب معرفته هذا القدرَ عن إيران، فأجاب، “قلتُ إنني لا أحترم سياسة الشاه لقبوله بأن يُطيح بأبيه ويُصبح ألعوبةً بيد وكالة الاستخبار المركزية، ولكنْ، يبدو لي أنه يفعل حسنا لبلده. وربما أستطيع أنْ أتعلم شيئاً منه، هذا إنْ بقي في الحكم.”“أتشكُّ في بقائه؟”“له أعداءُ أقوياء.”“وبعضُ أفضل الحراس الشخصيين في العالم.”عندها رمقني توريجُس بنظرةٍ ساخرة، وقال، ” للسافاك، شرطتِه السرية، سمعةٌ بأنها عصبةٌ من سفاحين لا رحمة في قلوبهم. وهذا لا يجلبُ الكثرة من الأصدقاء. أظنه لن يُعمَّرَ طويلا.” ثم توقف قليلا قبل أن يقول، مديرا عينيه، “حراسٌ شخصيون؟ عندي بعضٌ منهم.” ثم أشار إلى الباب وقال، “أتظنهم سيحمون حياتي إنْ قرّرَ بلدُكم التخلص مني؟”سألته إنْ كان حقا يعتقدُ بإمكانيةِ ذلك.فرفع حاجبيه بطريقةٍ جعلتني أشعر بالغباء لسؤالي هذا. “عندنا القناة. وهذه أكبر بكثير من آرْبِنْز والفواكه المتحدة.”كنتُ قرأتُ عن غواتِمالا، ففهمتُ ما يعنيه توريجُس. ذلك أنّ شركة الفواكه المتحدة كانت المعادلَ السياسيَّ في تلك البلاد لقناة بنما. وقد نمت هذه الشركة، التي أُسستْ في أواخر القرن التاسع عشر، لتغدو إحدى أكثر القوى سلطةً في أمريكا الوسطى. في خمسينات القرن العشرين، انتُخِبَ المرشحُ الإصلاحيُّ، جاكوبو آرْبِنْز، رئيساً لغواتِمالا في انتخابات اعتُبِرَت في جميع أرجاء نصف الكرة نموذجاً لعملية الانتخابات. وفي ذلك الوقت، كان أقلُّ من ثلاثةٍ في المئة من مواطني غواتِمالا يملكون 70 في المئة من الأراضي. وإذ كان آرْبِنْز تعهّد أنْ يُساعد الفقراء في الخروج من المجاعة، طبّق بعد انتخابه برنامجا إصلاحياً شاملا حول ملكية الأراضي.قال توريجُس، “لقد صفّقَ الفقراءُ والطبقاتُ الوسطى في كلِّ أمريكا اللاتينية لآرْبِنْز، وكان، بالنسبة إليّ، أحد أبطالي. لكننا أيضاً كتمنا أنفاسنا تحسُّبا. فقد كنا نعلم أن الفواكه المتحدة كانت ضدّ هذه الإجراءات، لكونها إحدى أكبر ملاك الأراضي في غواتِمالا وأكثرهم ظلما. كذلك كانت تملك مزارع ضخمةً في كولُمبيا وكوستا ريكا وجامايكا ونيكاراغوا وسانتو دومِنغو وهنا في بنما. لذلك لم يكن في وسعها أنْ تترك آرْبِنْز يوحي لبقيتنا بالأفكار.”كنتُ أعرف الباقي: فقد قامت الفواكه المتحدة بحملة علاقاتٍ عامةٍ ضخمة في الولايات المتحدة هدفها إقناعُ الرأي العام والكُنغرس بأن آرْبِنْز كان جزءاً من مؤامرةٍ روسيةٍ، وأنّ غواتمالا تدور في فلك الاتحاد السوفييتي. وفي عام 1954، كانت وكالةُ الاستخبار المركزية وراء انقلابٍ عسكري. وقد قام الطيارون الأمريكيون بقصف مدينة غواتمالا، وأطيح بآرْبِنْز المنتخَب ديمقراطيا، وحلّ محلّه العقيد كارلُس كَاستِلُّو آرْمَس، المستبد اليمينيٌّ الفظ.وهكذا كانت الحكومةُ الجديدةُ مدينةً في كلِّ شيء لشركة الفواكه المتحدة. وفي سبيل تقديم الشكر لها، ألغت عمليةَ إصلاح ملكية الأراضي، والضرائبَ على الفوائد وعلى الأرباح التي يجنيها المستثمرون الأجانب، كما ألغت سريةَ الانتخابات، وسجنت الآلاف من منتقديها. وكلُّ من تجرأ على الكلام ضدَّ كاستِلّو قُدِّم للمحاكمة. أما المؤرخون، فقد عزَوا العنف والإرهاب الذي اجتاح غواتمالا لمعظم ما تبقى من القرن إلى الحلف غير السري بين الفواكه المتحدة ووكالة الاستخبار المركزية والجيش الغواتيمالي تحت قيادة ذلك العقيد المستبد.[ii]أضاف توريجُس قائلا، “لقد اغتيل آرْبِنْز اغتيالا سياسياً وشخصيا.” ثم قطّب حاجبيه وسكت لبرهةٍ قبل أنْ يقول، “كيف يقبل شعبُكم هذا العبثَ من وكالة الاستخبار المركزية؟ أنا لن أترك بسهولة، فالجيش هنا أهلي، ولن يُفلح الاغتيالُ السياسي.” قالها وابتسم. “على وكالة الاستخبار المركزية نفسها أنْ تقتلني.”صمتنا لبضع لحظات، مستغرقاً كلٌّ منا في أفكاره. ثم بدأ توريجُس في الكلام بصوتٍ خفيضٍ وقد انحنى إلى الأمام، “والآن، أتصارعُ مع بِكتِل.”أذهلني كلامُه، لأن بِكتِل أقوى شركة هندسية في العالم، وكثيرةُ التعاون في المشاريع مع شركة مين. أما بالنسبة إلى خطة بنما الرئيسية، فكنتُ أفترضُ أنها إحدى منافسينا الأساسيين.سألته، “ماذا تقصد؟”فقال، “كنا نُفكِّرُ في بناء قناةٍ جديدة على مستوى البحر بدون محابس للتعامل مع سفنٍ أكبر. وقد يكون اليابانيون مهتمين في تمويلها.”“هم أكبر زبائن القناة.”“بالضبط. وإن قاموا هم بالتمويل، فهم من سيقومون بالبناء.”خطر ببالي القول، “عندئذٍ ستجد بِكتِل نفسَها في العراء.”“ستكونُ هذه أكبرَ عملية بناء في التاريخ الحديث.” قالها توريجُس ثم صمت قليلا قبل أن يقول، “وبِكتِل مليئة بأصدقاء نِكسن وفورد وبوش.” (كان بوش، باعتباره سفير الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة، وفورد، باعتباره رئيس الأقلية في المجلس ورئيس المؤتمر الوطني الجمهوري، معروفَيْن لتوريجُس كرجلين مسيطرين على أغلبية من أصوات الجمهوريين.) “علمتُ أنّ آل بِكتِل يُمسكون بخيوط الحزب الجمهوري.”أزعجتني جدا هذه المحادثةُ لأنني كنتُ أحدَ العاملين على إدامةِ هذا النظام الذي يحتقرُه توريجُس إلى هذا الحد، وكنتُ على يقين من أنه يعلم ذلك. أما وظيفتي في إقناعه بقبول قروض دولية مقابل استخدام شركات هندسية وإنشائية أمريكية بدت تصطدمُ بحائط ضخم. لذلك قرّرتُ أن أواجهه بصراحة.سألته، “سيدي، لِمَ دعوتني إلى هنا؟”فنظر إلى ساعته وقال، “نعم، قد حان الوقت لبحث عملنا سويا. بنما تحتاجُ إلى مساعدتك. أنا أحتاج إلى مساعدتك.”ذُهلتُ، فقلتُ، “مساعدتي؟ ما الذي أستطيعُ فعله لك؟”“سوف نستردُّ القناة. لكنّ هذا ليس كافيا.” ثم استرخى في كرسيِّه، وأضاف، “يجب أيضاً أنْ نكون نموذجا. علينا أنْ نُظهرَ أننا نهتم بفقرائنا ونشرحَ بما لا يحتمل الشكَّ أنّ تصميمنا على الفوز باستقلالنا ليس مفروضا علينا من قِبَل روسيا أو الصين أو كوبا. يجب أنْ نُثبتَ للعالم أن بنما بلد معقول، وأننا لا نقف ضد الولايات المتحدة، بل مع حقوق الفقراء.”ثمّ وضع رجلا فوق الأخرى، وقال، “ولكي نفعل هذا، علينا أن نبني قاعدةً اقتصاديةً لا مثيلََ لها في نصف الكرة هذا. الكهرباء، نعم – ولكنها الكهرباء التي تصل إلى الأفقر من شعبنا والمدعومةُ من الحكومة. وهذا ينطبق على المواصلات والاتصالات، وخاصة على الزراعة. ولكي نفعل هذا، لا بدّ من المال – مالكم، مال البنك الدولي وبنك التنمية الأمريكي.”مرة أخرى انحنى إلى الأمام، ونظر في عينيّ. “أعلم أن شركتكم تريد المزيد من العمل، وعادة ما تناله بنفخ حجم المشاريع – طرق أوسع، محطات طاقة أكبر، موانئ أعمق. لكن الأمر مختلف هذه المرة. أعطني ما هو الأفضل لشعبي، وسوف أعطيك كل ما تريد من عمل.”كان ما عرضه غيرَ متوقع إطلاقا، وقد صدمني واستثارني معا. لقد كان تحديّاً لكلِّ ما تعلّمتُه في شركة مين. فمن المؤكد أنه كان يعرفُ أنّ لعبةَ المساعدات الخارجية ليست سوى خدعة – وما كان له إلا أنْ يعرف. فقد وُجِدتْ لجعله هو غنيا ولإيقاع بلده في الديون. إنها موجودة لكي تُمسكَ الولاياتُ المتحدةُ وسلطةُ الشركات بعنقَ بنما إلى الأبد. إنها موجودة لكي تُبقي أمريكا اللاتينية تحت وطأة “إعلان المصير” وخادمةً أبديةً لواشنطن ولوول ستريت. كنتُ متأكِّدا من أنه يعلم أنّ هذا النظام مبنيٌّ على افتراض أنّ لكل رجال السلطة قابليةً للفساد، وأنّ قراره ألا يستخدمها لمنفعته الشخصية سوف يُعتبَرُ تهديداً، أو شكلا جديدا من حجارة الدومينو التي قد تبدأ سلسلةً من ردة الفعل تُسقط النظام في نهاية المطاف.نظرتُ عبر مائدة القهوة إلى ذلك الرجل الذي كان يفهمُ قطعاً أنه بسبب القناة كان يتمتَّعُ بسلطة فريدة وخاصة جدا، وأنها وضعته في موضع واضح الخطورة، وهو ما يقتضي انتباهه. لقد جعل من نفسه قائدا بين قادة الدول الأقل نموا. فإن صمّم، كبطله آرْبِنْز، على أخذ موقفٍ، فالعالم كلُّه سوف يشهد. كيف ستكون ردة فعل النظام؟ وتحديدا كيف ستكون ردة فعل الولايات المتحدة؟ لقد امتلأ تاريخ أمريكا اللاتينية بالأبطال القتلى.كذلك عرفتُ أنني أنظر إلى رجل تحدَّى جميعَ المبررات التي ابتدعتُها لتحقيق عملي. وإذا كان بحكم المؤكَّدِ أن لهذا الرجل نصيباً من الهناتِ الشخصية، إلا أنه لم يكن قرصاناً، ولا هنري مورغَن أو فرانسِس دريك* – أولئك المغامرَيْن الوقحَيْن اللذين كانا يستخدمان رسائل تفويض من الملوك الإنكليز لإلباس قرصنتهم لبوس الشرعية. لم تكن الصورة على لوحة الإعلانات خُدعتَكَ السياسية النموذجية. “مثال عمر هو الحرية؛ ما من صاروخ يستطيع قتل المُثُل!” ألم يكتب توم بين شيئاً كهذا؟بالرغم من ذلك عجبت. لعلّ المٌثُلَ لا تموت؛ لكنْ ما أمرُ الرجال الذين يقفون من خلفها، مثل تشي وآرْبِنْز وألِنْدي؟ كان الأخير هو الوحيد الذي ما زال حيا، ولكن حتى متى؟ وهناك سؤال آخر: كيف ستكون ردة فعلي إذا أصبح توريجُس في عداد الشهداء؟حين تركتُه، فهمنا كلانا أن شركة مين سوف تُمنَحُ عقدَ الخطة الرئيسية، وأن علينا أنْ نلتزم بدعوة توريجُس.* السير هنري مورغن (ت. 1688) والسير فرانسس دريك (ت. 1596) كانا من أولئك القراصنة الذين كانت الحكومات الأوربية تطلق يدهم لمهاجمة سفن العدو ونهبها، من غير أن تكون لهم علاقة رسمية بالأسطول الحربي التابع للدولة المعنية. كان هذان القرصانان يحملان رسائل تفويض من القصر الملكي الإنكليزي، يستخدمانها لشرعنة قرصنتهم. وقد اشتهر الأول لأعماله في البحر الكاريبي ولخطورته الكبرى كقرصان يعمل في مناطق أمريكا الوسطى التي كانت تحت السيطرة الإسبانية. أما الثاني، الذي أنعمت عليه الملكة إليزابث الأولى بالفروسية (لقب سير)، فكان قرصانا وسياسيا مشهورا أيضاً، وكان نائب قائد الأسطول الحربي الإنكليزي ضد الأسطول الإسباني عام 1588، مسؤولا أمام قائد الأسطول والملكة فقط. [المترجم][i] William Shawcross, The Shah’s Last Ride: The Fate of an Ally (New York: Simon & Schuster, 1988); Stephen Kinzer, All the Shah’s Men: An American Coup and the roots of Middle East Terror (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons, Inc., 2003), p. 45.[ii] كُتب الكثير عن آربنز وشركة الفواكه وعن تاريخ غواتمالا العنيف. راجع مثلا كتاب أستاذي للعلوم السياسية في جامعة بوسطن:Howard Zinn, A People’s History of the United States (New York: Harper and Row, 1980); Diane K. Stanley, For the Record: The United Fruit Company’s Sixty-Six Years in Guatemala (Guatemala City: Centro Impressor Piedra Santa, 1994). For quick references: “The Banana Republic: The United Fruit Company,”http://www.mayaparadise.com/ufc1e.html; “CIA Involved in Guatemala Coup, 1954,”http://www.english.upenn.edu/~afilre...guatemala.html. For more on the Bush family’s involvement: “Zapata Petroleum Corp.,” Fortune, April 1958, p 248. الفصل الرابع عشر *............. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:07 am | |
| الفصل الخامس عشرالعربية السعوديةمسألة غسيل الأموالعام 1974، أراني دبلوُماسيٌّ سعوديٌّ صوراً للرياض، عاصمة بلاده؛ وكان من ضمن هذه الصور قطيعٌ من الماعز يُنقِّبُ بين أكوام القمامة خارج مبنىً حكومي. وحين سألته عنها، صدمني جوابه. فقد قال لي إنها الوسيلةُ الرئيسيّةُ في المدينة للتخلص من القمامة. وأضاف قائلا، “نتركها للحيوانات لأنه ما من سعوديٍّ يحترمُ نفسه يُمكنُ أنْ يجمعَ القمامة.”ماعز! وفي عاصمة أعظم مملكة نفط في العالم. شيءٌ لا يُصدَّق.في الوقتِ ذاتِه، كنتُ ضمنَ مجموعةٍ من المستشارين الذين بدأوا للتوّ محاولةَ إيجاد حلٍّ لأزمة النفط. وقد قادتني صورةُ الماعز هذه إلى فهم كيف يُمكنُ هذا الحلّ أن يكون، خاصّةً بالنظر إلى شكل تطوُّر هذا البلد خلال القرون الثلاثةِ المنصرمة.كان تاريخُ العربية السعودية مليئاً بالعنف والتعصُّب الديني. وفي القرن الثامن عشر تحالف محمّد بن سعود، وهو قائدٌ حربيٌّ محليٌّ، مع أصوليين ينتمون للمذهب الوهابي السلفي، فكان حلفُهما قويا. وفي أثناء السنينَ المئةِ التالية أخضع آل سعود وحلفاؤهم الوهابيون معظمَ شبة الجزيرة العربية، بما في ذلك أقدسُ الديار الإسلامية، مكة والمدينة المنوّرة.لقد عكسَ المجتمعُ السعوديُّ مُثُلَ مؤسسيه المتزمِّتةَ، حيث فُرِضَ تأويلٌ صارمٌ للمعتقدات القرآنية، كما فَرَضَتْ الشرطةُ الدينيةُ الالتزام بالصلاةِ خمس مراتٍِ في اليوم، وأُجبرت النساءُ على تغطية أنفسهن من الرأس إلى أخمص القدمين. أما عقوبة المجرمين، فكانت قاسيةً، وكان الإعدامُ والرجمُ أمام الناس أمرين عاديين. وفي أول زيارة لي إلى الرياض، أدهشني السائقُ حين أخبرني أنّ باستطاعتي أنْ أتركَ آلة التصوير، وحقيبتي الشخصية، وحتى محفظة نقودي، في مكان ظاهر داخل السيارة، التي برّكناها بالقرب من السوق المفتوح بدون إقفالها. قال: “لا أحدَ يُمكنُ أنْ يسرقها، فاللصوصُ تُقطَعُ أيديهم.”ثم سألني السائقُ إن كنتُ أودُّ أنْ أزورَ ما أسماه ساحةَ الإعدام لرؤيةِ عمليةِ قطع الرؤوس. إن التزام الوهابية بما نعتبره تزمتاً متطرِّفاً قد جعل الشوارع أمينة من اللصوص – واقتضى أقسى أشكال العقوبات الجسدية للمخلين بالقانون. [أما ما يتعلق بدعوة الرجل]، فقد رفضتُ قبولها.كان لنظرة السعودية للدين كعنصر مهمٍّ من عناصر السياسة والاقتصاد أثرٌ على حظر النفط الذي هزّ العالمَ الغربي. ففي السادس من تشرين الأول 1973 (يوم كِبور، أقدس الأعياد اليهودية) شنت مصرُ وسوريةُ هجوماً مشتركاً على إسرائيل. فكانت بدايةَ حربِ تشرين – الحربِ العربيةِ-الإسرائيليةِ الرابعةِ والأكثرِ دماراً والتي كان لها أكبرُ الأثر على العالم. وقد ضغط رئيس مصر، [أنور] السادات، على الملك فيصل، ملك السعودية، للردِّ على اشتراك الولايات المتحدة مع إسرائيل باستخدام ما أسماه السادات “سلاح النفط”. وفي السادس عشر من تشرين الأول، أعلنت إيرانُ وخمسُ دول عربية خليجية، منها السعودية، زيادةً في أسعار النفط المعلنة تبلغُ 70 في المئة.في اجتماعهم في مدينة الكويت، بحث وزراءُ النفط العرب إجراءاتٍ إضافية. وإذ كان الوزيرُ العراقيُّ مؤيداً بشدةٍ لاستهداف الولايات المتحدة، دعا الوزراءَ الآخرين إلى تأميم المصالح الأمريكية في العالم العربي، وإلى فرض حظر كامل على تصدير النفط إلى الولايات المتحدة وإلى جميع الدول الأخرى المؤيدة لإسرائيل. كما دعا إلى سحب الأموال العربية من البنوك الأمريكية، مُشيراً إلى ضخامة الحسابات العربية في البنوك وإلى أنّ هذا العملَ يُمكنُ أن يُحدِثَ رعباً يُشبه رعب عام 1929.كان وزراءُ عربٌ آخرون مترددين في قبول مثل هذه الخطة المتطرِّفة، لكنهم في 17 تشرينَ الأول قرروا المضيَّ في حظر محدودٍ، يبدأ بخفضٍ في الإنتاجِ مقدارُه 5 في المئة ثم بخفض آخر مثلِه كلّ شهر حتى تتحقَّقَ أهدافُهم السياسية. وقد اتفقوا على وجوبِ معاقبة الولايات المتحدة لموقفها الداعم لإسرائيل؛ لذلك يجبُ فرضُ أقسى حظر عليها. وقد صرحت عدة دول ممن أمّتْ الاجتماعَ أنها ستطبِّقُ تخفيضاً مقدارُه 10 في المئة، لا 5 في المئة.في التاسع والعشرين من تشرينَ الأول طلب الرئيس نِكسن 2.2 مليار دولار مساعدةً لإسرائيل. وفي اليوم التالي فرضت السعوديةُ والدولُ العربية الأخرى المنتجةُ للنفط حظراً تاماً على شحنات النفط إلى الولايات المتحدة.[i]انتهى الحظر في 18 آذار 1974، بعد فرضه بفترة قصيرةٍ كان لها أثر كبير. فقد قفز سعرُ بيع النفط السعودي من 1.39 دولار للبرميل في مطلع كانون الثاني 1970، إلى 8.32 دولار في مطلع كانون الثاني 1974.[ii] ولن ينسى السياسيون والمخططون المستقبَليون الدروسَ المستفادةَ من هذه الفترة الممتدة من بدايات سبعينات القرن العشرين إلى منتصفها. أما في المدى البعيد، فقد عملت صدمةُ هذه الأشهر القليلة على تقوية سلطة الشركات، التي ترابطت أعمدتُها الثلاثةُ – الشركات الكبرى، والبنوك العالمية، والحكومة – كما لم تترابط من قبل قط. وكان لهذه الرابطة أن تُعمَّرَ طويلا.كذلك نتج عن هذا الحظر موقفٌ مهمٌّ وتغييراتٌ في السياسات. فقد اقتنع وول ستريت [مركزُ المال الأمريكي] وواشنطن أن مثل هذا الحظر لن يُقبَل تكرارُه أبدا. فإذا كانت الأولويةُ الأولى مُوجَّهةً دائما لحمايةِ تزوُّدِنا بالنفط، فقد باتت بعد عام 1973 هاجساً لنا. وقد رفع الحظرُ من شأن السعودية كلاعبٍ في السياسة العالمية وأجبر واشنطن على الاعتراف بالأهمية الإستراتيجية للمملكة على اقتصادنا. كذلك شجَّعَ قادةَ سلطةِ الشركات في الولايات المتحدة على البحث الحثيث عن وسائل لإعادة ضخِّ دولارات النفط في الولايات المتحدة، وعلى التفكُّر في حقيقة أن الحكومة السعودية لا تملكُ الأطر الإدارية والمؤسسية للإدارة السوية لثروتها المفاجئة.أما ما يتعلّقُ بالسعودية، فإنّ الدخل الإضافيَّ من النفط الناتجَ عن الارتفاع الهائل في الأسعار كان ذا خيرٍ متفاوت. فقد ملأ خزائن الدولة بمليارات الدولارات؛ لكنه عمل على تقويض بعض المعتقدات الدينية الوهابية المتزمتة. فقد أخذ الأغنياء السعوديون يُسافرون حول العالم، ويذهبون إلى المدارس والجامعات في أوربا والولايات المتحدة، ويبتاعون سياراتٍ مرفهةً ويفرشون منازلهم بفرش ذي طابع غربي. وقد استُبدِلت المعتقداتُ الدينية المحافظةُ بشكل جديد من المادية – وهذه الماديةُ هي التي جاءت بحلٍّ للمخاوف المتعلقة بمستقبل أزمة النفط.بعد انتهاء الحظر فورا، بدأت واشنطن تتفاوض مع السعوديين، عارضةً عليهم مساعدة فنية، وأسلحة وتدريبا، وفرصةً لرفع دولتهم إلى مستوى القرن العشرين؛ كلُّ ذلك مقابل المال النفطي، ومقابل ضماناتٍ بأنْ لن يتكرر الحظرُ على النفط أبدا، وهذا هو الأهم. وقد نتج عن المفاوضات إنشاءُ منظمةٍ في غاية الغرابة، هي اللجنة الأمريكية السعودية الاقتصادية المشتركة (جيكور)، التي انطوتْ على فكرةٍ مبتكرةٍ هي عكس برامج المساعدات الأجنبية التقليدية: ذلك أنها اعتمدت على المال السعودي لتشغيل الشركات الأمريكية في بناء السعودية.بالرغم من أنّ المسؤولية الإدارية والمالية عموماً كانت مناطةً بدائرة الخزينة الأمريكية، فقد حظيت هذه اللجنة باستقلالية واسعة. وكان في نهاية المُطاف أنْ خُطط لها بإنفاق مليارات الدولارات خلال أكثرَ من خمسة وعشرين عاماً؛ وكانت عملياً خارج مراقبةٍ الكنغرس، الذي لم تكن له سلطة على الموضوع بالرغم من دور الخزينة. بعد دراسة جيكور بصورة واسعة، استنتج كلٌّ من ديفد هولدن ورتشرد جونز بأنها “كانت أوسع اتفاقية من نوعها عُقدت بين الولايات المتحدة ودولة نامية. وكان لها إمكانيةُ تجذُّر الولايات المتحدة عميقا في أرض السعودية، مُعززة فكرة الاعتماد المتبادل.”[iii]في مرحلة مبكرة، طلبت دائرة الخزينة من شركة مين العمل معها استشاريا. وقد استدعيتُ وأُبلغتُ أن مهمتي ستكون حساسة، وأن كلَّ ما سأعمله وأعلمه يجب أنْ يُحاطَ بالسرية التامة. وقد بدت لي من علٍ أنها كانت عملية خفية. وقد جُعِلتُ أعتقدُ يومها أنّ شركة مين كانت المستشارة الرئيسية في تلك العملية؛ ثم تبيّن لي أننا كنا إحدى عدة شركات استشارية طُلب منها إبداء خبراتها.لما كان كلُّ شيءٍ في غاية السرية، فإنني لم أطلعْ على محادثات الخزينة مع المستشارين الآخرين، لذلك لا أستطيع التأكد من أهمية دوري في هذه الصفقة التي أوجدتْ سابقة. لكنني أعلم أنّ تلك الترتيبات قد وَضَعَتْ معاييرَ جديدةً للقتلة الاقتصاديين وبدائل مبتكرةً للوسائل التقليدية في دفع مصالح الإمبراطورية. كذلك أعلم أنّ معظم المشاهد المنبثقة من دراساتي قد طُبِّقت في النهاية، وأن شركة مين كوفئت بأحد العقود الأولى الرئيسية – والمربحة جدا – في السعودية، وأنني استلمت في تلك السنة مكافأة كبيرة.كانت مهمتي أن أضع توقعاتٍ لما قد يحدث في السعودية إذا استُثمِرت كمياتٌ هائلةٌ من المال في بنيتها التحتية، وأن أرسم سبلَ إنفاق ذلك المال. وباختصار، طُلِبَ مني أنْ آتي بما أستطيع من إبداع لتبرير ضخ مئات ملايين الدولارات في الاقتصاد السعودي، بحيث تُشرَكُ شركاتُ الهندسة والبناء الأمريكية. وإذ طُلِبَ مني القيامُ بهذا العمل وحدي دون موظفي دائرتي، فقد عُزِلتُ في غرفة اجتماعات صغيرة على بعد عدة طبقات فوق الطبقة التي كانت تقع فيها دائرتي، وأُخطرتُ بأنّ مهمتي كانت تتعلّقُ بالأمن القومي، وأنها تنطوي على إمكانيةِ ربح كبير لشركة مين.أُدركُ، بالطبع، أنّ الغاية الأولية هنا لم تكنْ ما اعتدنا عليه – أي إثقالَ كاهلِ الدولةِ بالديون التي لن تستطيعَ سدادََها – بل إيجادُ وسائل تضمنُ عودةَ حصةٍ كبيرةٍ من مال النفط إلى الولايات المتحدة. وفي هذه العملية، سوف تُجرُّ السعودية إلى حيثُ يُصبحُ اقتصادُها متشابكاً بصورة كبيرةٍ باقتصادنا ومُعتمدا عليه، ومن المفترض أنْ يغدو أكثر تبنياً للشكل الغربيِّ، ولهذا أكثرَ تعاطفاً وتكاملاً مع نظامنا.ما إنْ بدأتُ، حتى تبيّن لي أن الماعز الذي كان يتجوّلُ في شوارع الرياض بات المفتاح الرمز؛ وكان مصدر اشمئزاز لأثرياء السعودية الذين يجوبون مرافق العالم المرفهة. كان هذا الماعز يدعونا إلى استبداله بشيءٍ جديرٍ بهذه المملكة الصحراوية المتطلعة إلى ولوج العالم الحديث. كذلك علمتُ أن اقتصاديي أوبك كانوا يؤكدون على حاجة الدول الغنية بالنفط إلى تحويل نفطها إلى منتجاتٍ ذات قيمة مضافة، وكانوا يحثون هذه الدول، بدل الاكتفاء بتصدير النفط الخام، على إنشاء صناعاتٍ لاستعمال النفط في إنتاج منتجات مستخرجةٍ منه يُمكن بيعُها في العالم بسعر أعلى من سعر النفط الخام نفسه.هذا الإدراكُ المزدوج فتح الباب لمخطط شعرتُ يقيناً أنه مربح للجميع. كان الماعز، بطبيعة الحال، محض نقطة عبور. فقد كان ممكناً أنْ تُستغلَّ عائداتُ النفط في استخدام الشركات الأمريكية لإحلال أحدث نظام في العالم لجمع القمامة والتخلص منها محِلّ هذا الماعز، ويستطيع السعوديون أنْ يفخروا بهذه التقانة العالية جدا.أخذتُ أفكِّرُ بالماعز باعتباره أحد طرفيْ معادلة يُمكنُ تطبيقُها على معظم القطاعات الاقتصادية في المملكة، معادلةٍ تُمثِّلُ النجاح في عيون الأسرة الملكية ودائرة الخزينة الأمريكية ورؤسائي في شركة مين. ووفقَ هذه المعادلة، يُمكنُ تكريس المال لإيجاد قطاع صناعي يُركِّزُ على تحويل النفط الخام إلى منتجات مُصنَّعة للتصدير. عندها سوف تظهر في الصحراء مُجمَّعاتٌ كيماوية-نفطية، تنتشرُ من حولها مناطقُ صناعيةٌ ضخمة. وبطبيعة الحال، سوف تقتضي مثلُ هذه الخطة بناءَ مولداتٍ كهربائيةٍ تبلغُ طاقتُها الآلاف من وحدات الطاقة الكهربائية، وبناءَ خطوط إرسال وتوزيع، وطرق سريعة، وخطوط أنابيب، وشبكات اتصال، وأنظمة نقل تضم مطاراتٍ حديثةً، وموانئ محسنةً، ومنظومة أعمال الخدمات، والبنية التحتية الضرورية لإدامةِ دوران أسنان العجلة.كانت توقعاتُنا جميعاً لأن تُصبح هذه الخطةُ نموذجاً لبقية العالم عالية. سوف يتغنى بمديحنا السعوديون الذين يُسافرون حول العالم، وسيدعون زعماء دول كثيرة لزيارة السعودية ومشاهدة المعجزات التي حققناها. وسوف يتصل بنا هؤلاء الزعماءُ لمساعدتهم في ابتداع خطط شبيهةٍ لبلدانهم. وللحصول على التمويل سوف يلجأون– خاصةً الدول غير الأعضاء في أوبك – إلى البنك الدولي أو إلى طرق أخرى للاستدانة. وهكذا تُقدَّمُ خدمةٌ جيدةٌ للإمبراطوريةُ العالمية.حين كنتُ أقلِّب تلك الأفكار في ذهني، كنتُ أفكّرُ بالماعز وبكلمات السائق التي أوقعت صدىً في أذنيّ، “ما من سعوديٍّ يحترمُ نفسه يُمكنُ أنْ يجمعَ القمامة.” سمعتُ هذه العبارة المكررة في مواقف مختلفة. فقد كان واضحاً أن لا نيةَ لدى السعوديين في جعل أحد منهم يعمل في هذه الأعمال الوضيعة، سواء كعمال في المرافق الصناعية أو في المشاريع الإنشائية. وفي الأصل، لم يكن منهم سوى القلة القليلة. أضف إلى ذلك أنّ الأسرة المالكة السعودية التزمت بأنْ تُقدِّمًَ لمواطنيها مستوىً من التعليم وأسلوب الحياة لا يتناسبان مع هذه الأعمال اليدوية. قد يُديرُ السعوديون غيرَهم، لكنهم لا رغبة ولا حافز لديهم ليصبحوا عمال مصانع أو بناء. لذلك سيكون ضروريا استيرادُ قوة عاملة من بلدان أخرى – بلدان يكون العمل فيها رخيصاً والناسُ في حاجةٍ إلى العمل. ويجب، ما أمكن الأمرُ، أن يأتي العمال من دول أخرى مشرقية أو إسلامية، كمصر وفلسطين والباكستان واليمن.خلقت هذه الإمكانيةُ حيلةً جديدةً عظيمةً لفرص التنمية. ذلك أنْ لا بد من بناء مجمعات إسكانية ضخمة لهؤلاء العمال، بالإضافة إلى الأسواق، والمستشفيات، وخدمات الشرطة والمطافئ، ووحدات تنقية المياه والمجاري، وشبكات الكهرباء والاتصالات والمواصلات – والواقع أن النتيجة النهائية ستكون إنشاء مدن حديثةٍ كانت الصحراءُ ذاتَ يوم مكانها. هنا أيضا تبدّت فرصةٌ لاستكشاف التقانات الناشئة، مثل محطات التحلية، وأنظمة الموجات بالغة القصر، ومجمعات العناية الصحية، والتقانات الحاسوبية.كانت السعودية حُلُماً مُحقَّقاً للمخططين، وخيالا متجسّداً لكلِّ من كانت له علاقة بأعمال الهندسة والبناء. لقد قدّمتْ فرصةً اقتصادية لا مثيل لها في التاريخ: بلداً متخلِّفاً ذا موارد ماليةٍ غير محدودة عمليا، ورغبةٍ في دخول العصر الحديث سريعاً جدا وبطريقة هائلة.عليَّ أنْ أعترفَ بأنني استمتعتُ كثيراً بهذه المهمة. لم أجدْ معطياتٍ صلبةً في السعودية، أو في مكتبة بوسطن العامة، أو في أي مكان آخرَ تبرر استخدام النماذج الاقتصادية الرياضية في هذا السياق. والحقيقة أن حجم المهمة – تحويل دولة بكاملها تحويلا تاماً وفوريا على نطاق لم يُشاهد من قبل قط – كانت تعني أنه حتى لو وُجدت المعطياتُ التاريخيةُ، فلن تكون مفيدة.كذلك لم يتوقع أحدٌ هذا النوع من التحليل الكمي، ليس في هذه المرحلة على الأقل. كلّ ما فعلته أنني أقحمتُ خيالي على العمل وكتبتُ تقاريرَ صوّرت للمملكة مستقبلاً مجيدا. كانت لديَّ أرقامٌ تقديرية أستخدمها لتقدير أشياء كالكلفة التقريبية لإنتاج ميغاوط واحد من الكهرباء، أو ميل واحد من الطرق، أو ما يكفي عاملا واحدا من الماء والمجاري والسكن والطعام والخدمات العامة. ولم يكن مطلوباً مني أنْ أحدد هذه التقديرات أو أن أضع استنتاجاتٍ نهائية. كانت مهمتي ببساطة أن أشرح سلسلة من الخطط (أو “التصورات”، إذا أردنا الدقة) لما قد يكون ممكنا، وأن أتوصل إلى تقديرات فضفاضةٍ للكلف المرتبطة بها.كنتُ دائما أضع في ذهني الهدفين الحقيقيين: رفع ما تقبضُه الشركات الأمريكية إلى الحد الأعلى وجعل السعودية تعتمد أكثر فأكثر على الولايات المتحدة. ولم آخذ وقتاً طويلا لأتبيّن مدى توافق هذين الهدفين؛ إذ أنّ معظم المشاريع المدروسة حديثا سوف تتطلب تعديلا وخدمة، وهي على درجة عالية من التقانة بحيث تضمن للشركات التي خططتها أصلا صيانتها وتحديثها. وواقعُ الأمر أنني في تقدمي في عملي بدأتُ أضع قائمتين اثنتين لكلٍّ من المشاريع التي تصوّرتُها: قائمة بأنواع عقود التصميم والبناء التي نتوقعها، وأخرى باتفاقيات الخدمة والإدارة طويلتي الأمد. وبهذا سوف تُحقِّقُ ربحاً عاليا لعقود من الزمن شركات مين، وبكتل، وبراون وروت، وهلِبيرتُن، وستون ووبستر، والكثرةُ من المهندسين والمقاولين الأمريكيين.هناك حيلة أخرى أبعد من الاقتصاد المحض تجعل السعودية معتمدةً علينا ولو بطريقة مختلفة جدا. فتحديثُ هذه المملكة الغنية بالنفط سوف يُسبب ردود فعل معادية. من ذلك غضبُ المسلمين المحافظين، وشعورُ إسرائيل والدول المجاورة الأخرى بالتهديد. لذلك، من المحتمل أن يُفرخَ النموُّ الاقتصاديُّ لدى هذه الدولة نموَّ صناعةٍ أخرى: ألا وهي حماية شبه الجزيرة العربية. ويُمكن الشركاتِ الخاصةَ المتخصصةَ في هذا الشأن، والصناعةَ العسكريةَ والدفاعيةَ الأمريكيةَ أن تتوقع عقوداً سخية – ومرة أخرى، اتفاقيات الخدمة والإدارة طويلتي الأمد. وسوف يتطلّبُ وجودُها مرحلةً أخرى من المشاريع الهندسية والإنشائية، من ضمنها المطاراتُ، ومواقعُ الصواريخ، وقواعدُ العاملين، وجميعُ البنى التحتية ذات العلاقة.أرسلتُ تقاريري في مظاريف مشموعة عبر بريد المكتب مُعنونةً إلى “مدير المشاريع، دائرة الخزينة”. وكنت أحيانا ألتقي بأعضاء آخرين من فريقنا – نوابٍ لرئيس شركة مين ورؤسائي. وإذ لم يكن لدينا اسم رسميٌّ لهذا المشروع، لأنه لم يزل في طور البحث والتطوير ولم يكن بعدُ جزءاً من جيكور، كنا نشير إليه – همساً – باسم “ساما”. وكان هذا الاسم ظاهريا يعني مسألة غسيل المال السعودي، ولكنه كان أيضا لعبا بالألفاظ، لأن المصرف المركزي في المملكة يحمل الاسم المختصر ذاته [باللغة الإنكليزية].كان ينضمُّ لنا أحيانا مندوبٌ عن الخزينة. وكنتُ في الاجتماع أسأل أسئلة قليلة، وبصورةٍ رئيسية، أصف عملي، وأجيبُ على تعليقاتهم، وأوافق على محاولة فعل ما يُطلبُ مني. كان نوابُ الرئيس ومندوبُ الخزينة يُعجَبون بصورةٍ خاصةٍ بأفكاري حول اتفاقيات الخدمة والإدارة طويلتي الأمد. وقد دفع هذا أحدَ نواب الرئيس إلى مقولةٍ كثيراً ما ردّدناها بعد ذلك في الإشارة إلى المملكة بأنها “البقرة التي يُمكنُنا حلبُها حتى تطلع الشمسُ على تقاعدنا.” أما بالنسبة إليّ، فكان هذا القول يستحضر في بالي الماعزَ لا البقر.تبيّن لي من خلال هذه الاجتماعات أنّ عدة منافسين لنا كانت لهم مهمات شبيهة، وأننا جميعاً نتوقع في نهاية المطاف أنْ نُكافأ بعقود مربحة نتيجةً لجهودنا. افترضتُ أن شركة مين والشركات الأخرى كانت تعدّ الفاتورة لهذا العمل الأولي، آخذة مخاطرة قصيرة لدخول الحلبة. وقد عزّز هذا الافتراضَ حقيقةُ أنّ الرقم الذي وضعتُه مقابل وقتي في الجدول الزمني الشخصي الذي نملأه يوميا بدا أنه حساب نفقات عامة وإدارية. كانت مثل هذه الوسيلة نموذجا لمرحلة البحث والتطوير وإعداد العرض في معظم المشاريع. ومن المؤكد أنّ الاستثمارِ الابتدائيَّ في هذه الحالة قد جاز العُرفَ كثيراً، لكن نواب الرئيس بدوا واثقين جدا من المردود.بالرغم من علمنا بأن منافسينا كانوا أيضاً داخلين معنا، فقد افترضنا كلنا أن ثمة من العمل ما يكفي الجميع. لقد مضى عليّ في هذا العمل حينٌ من الزمن يكفي للاعتقاد بأنّ المكافآتِ الممنوحةَ تعكسُ مستوى قبول الخزينة للعمل الذي قمنا به، وأن أولئك المستشارين الذين قدّموا الدراساتِ التي تُطبَّقُ أخيراً سوف يُحظَون بأفضل العقود. وقد اعتبرتُ الأمرَ تحدياً شخصياً لابتداع مشاهد يُمكنُ وصولها إلى مرحلة التصميم والبناء. سبق أنْ أخذ نجمي يعلو بسرعةٍ في شركة مين؛ وكوني لاعباً مهما في “ساما” سوف يضمن تسارعَه إن نحن نجحنا.كذلك ناقشنا بصراحةٍ في اجتماعاتنا إمكانية أن تُفرخَ “ساما” وعملية “جيكور” برمتها سوابق جديدة. فقد كانت تُمثِّلُ وسيلةً مبتكرةً لاختلاق عمل مربح في بلاد لا تحتاج إلى طلب قروض من البنوك العالمية. وعلى الفور خطرت بالبال كلٌّ من إيران والعراق كمَثَلَيْن إضافيين لهذه البلدان. أضف إلى ذلك أننا، جرياً على الطبيعة الإنسانية، شعرنا أن قادة مثل هذه الدول يُمكن حفزُهم لمحاولة تقليد السعودية. ولم يكن لدينا إلا القليلُ من الشك في أنّ حظر النفط عام 1973 – الذي بدا على ذلك السوء في بادئ الأمر – يُمكنُ أنْ ينتهي بمنح الكثير لأعمال الهندسة والبناء مما لم يكن متوقعا، وأنْ يُساعدَ على تمهيد الطريق للإمبراطورية العالمية.عملتُ على تلك المرحلة الحالمةِ زهاء ثمانية أشهر – لكني لم أتجاوز عدة أيام مضغوطةٍ مرةً واحدة – معزولا في غرفتي الخاصة أو في شقتي المطلة على “بوسطن كُمُن”. كان للموظفين التابعين لي واجباتٌ أخرى، وقد اعتنوا بأنفسهم جيداً، وإنْ كنتُ أتفقدهم بانتظام. ثم انحدر مستوى السرية حول عملنا بمرور الوقت، وأصبحت الكثرةُ من الناس على علم بأنّ شيئاً كبيرا ذا علاقة بالسعودية يجري إعداده. فازدادت الإثارة، وتطايرت الشائعات. كذلك غدا نوابُ الرئيس وممثلو الخزينة أكثر انفتاحا – أعتقد أن جزءاً من ذلك أنهم أنفسهم أصبحوا على علم خاصٍّ بمعلومات إضافية حين ظهر بعضُ التفاصيل حول هذا المخطط البارع.بهذه الخطة، أرادت واشنطن من السعودية أن تضمنَ دوامَ تدفقِ النفطِ واستقرارِ الأسعارِ حولَ مستوياتٍ يُمكنُ أنْ تتذبذب، ولكنها تبقى مقبولة للولايات المتحدة وحلفائها. فإذا هددتْ بإقامة الحظر دولٌ كإيران، والعراق، وإندونيسيا، وفنزويلا، سدّت السعوديةُ النقصَ بما تملكُه من كميات ضخمة من النفط؛ وببساطة، إن معرفةَ الدول الأخرى بما يُمكنُ السعوديةَ عملُه سوف يُثنيها على المدى البعيد حتى عن التفكير بالحظر. مقابلَ هذا الضمان، تُقدِّمُ الولاياتُ المتحدةُ لآل سعود عرضا مغريا: التزاما بتقديم دعم سياسيٍّ وأمنيٍّ – إن لزم الأمرُ. وفي هذا توكيدٌ على استمرار وجودهم كحكام لبلدهم.كان هذا عرضا لم يستطعْ آلُ سعودٍ رفضَه، بالنظر إلى موقعهم الجغرافيّ، وافتقارهم إلى القوة العسكرية، وضعفهم العام أمام جيرانهم، كإيرانَ، وسوريةَ، والعراقِ، وإسرائيل. لذلك من الطبيعيِّ أن تستخدمَ واشنطن تميُّزَها في فرضٍ شرطٍ آخرَ حساس، شرطٍ أعاد تحديد دور القتلة الاقتصاديين في العالم، ومثَّلَ نموذجاً حاولنا لاحقاً تطبيقه في دول أخرى، أهمُّها العراق. وبالنظر إلى الخلف، أجدُ أحياناً صعوبةً في فهم قبول السعوديةِ لهذا الشرط. ومن المؤكَّدِ أن بقيةَ العالم العربيّ، وأوبك، والدولَ الإسلامية الأخرى أُصيبتْ بالفزع حين اكتشفت بنود الصفقة والكيفية التي أذعنَ فيها البيتُ الملكيُّ لمطالب واشنطن.كان الشرطُ أنْ تشتري السعوديةُ بمال نفطها سنداتٍ ماليةً تُصدِرها حكومة الولايات المتحدة؛ وبالمقابل تُنفقُ دائرةُ الخزينةِ الأمريكية فوائدَ هذه السندات بطرق تجعل السعوديةَ قادرةً على الخروج من مجتمعها المتخلِّف إلى العالم الصناعيّ الحديث. بتعبير آخر، سوف تُُستعملُ الفائدةُ المتحققةُ من مليارات الدولارات المكتسبة من نفط المملكة لكي تُدفَعَ للشركات الأمريكية لتحقيق الرؤية التي قمتُ أنا (وبعض منافسينا، كما أفترض) بوضعها لتحويل السعودية إلى قوة صناعية حديثة. وبهذا تستخدمنا دائرة الخزينة التابعة لدولتنا على حساب السعودية لبناء مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ، بل مدنٍ كاملةٍ في أرجاء شبه الجزيرة العربية.بالرغم من أن السعوديين احتفظوا بحقهم في اقتراح ما يتعلّقُ بالطبيعة العامة لهذه المشاريع، فالحقيقةُ أنّ مجموعةً مصطفاةً من الأجانب (أو الكفّار، كما يراهم المسلمون) هم من كانوا يُقرِّرون المظهر المستقبليّ والبنية الاقتصادية في شبه الجزيرة العربية. وهذا ما حدث في مملكةٍ أُسِّست على المبادئ الوهابية المحافظة وتُحكَمُ وفقاً لتلك المبادئ منذ قرون. وإذ بدا الأمرُ خروجا عن التقاليد بالنسبة إليهم، إلا أنّني أظنُّ أن الأسرة السعودية شعرت بندرة البدائل في ظل الظروف السائدة، وبسبب الضغوط السياسية والعسكرية التي ما من شكٍّ في أنّ واشنطن مارستها.لقد بدت، من منظورنا، إمكانيةُ تحقيق أرباح ضخمة غيرَ محدودة. كانت صفقةً مغريةً، تَعِدُ بسابقة مذهلة. ولكي تزداد حلاوتُها، لم تكن ثمة ضرورة للحصولُ على موافقة من الكنغرس – وهي موافقةٌ تمقتُها الشركات، خصوصاً الشركات الخاصة مثل بكتل ومين، التي تُفضِّلُ أن لا تفتح دفاترها أو تشيَ بأسرارها لأحد. طومس لِبمَن، الباحث المساعد في معهد الشرق الأوسط والصحفي السابق، لخّصَ ببلاغةٍ النقاط البارزة في هذه الصفقة:“يدفع السعوديون، الغارقون في المال، مئات ملايين الدولارات لدائرة الخزينة، فتحتفظ بالمال إلى حين تحتاجُ إلى أن تدفعه للباعة والموظفين. ويضمنُ هذا النظامُ أن يعودَ المالُ السعوديُّ إلى الاقتصاد الأمريكي … كذلك يضمنُ لمديري اللجنة تقرير أية مشاريع يرونها هم والسعوديون مفيدة بدون الحاجة إلى تبريرها أمام الكنغرس.”[iv]لقد استغرق وضعُ الخطوط العريضة لهذا المشروع التاريخيّ وقتاً أقلَّ مما يتخيّلُه أحد. إلا أنه كان علينا بعد ذلك أن نجد السبيل إلى تنفيذه. ولكي تتحرّك العملية، أُرسِلَ إلى السعودية أحدُ الذين يتبوأون أعلى منصب في الحكومة في مهمةٍ سريةٍ للغاية. لم أكن أعلم من هو على وجه اليقين، ولكنني أعتقد أن ذلك المبعوثَ كان هنري كسنجر.كائنا من كان ذلك المبعوث، لقد كانت مهمتُه أنْ يُذكِّرَ الأسرة الملكية بما حدث للجارة إيران حين حاول مُصدّق أن يتخلّص من المصالح النفطية البريطانية. بعد ذلك كان عليه أن يشرح خطةً أكثر إغراءً لهم من أنْ يرفضوها، أي أن يقول للسعوديين إن خياراتهم قليلة. لا أشكُّ في أنهم أُعطُوا الانطباع الواضح بأنّ عليهم أنْ يقبلوا عرضنا، فيكسبوا ضماناتنا بدعمهم وحمايتهم كحكام، أو أنْ يرفضوا – فيذهبوا مذهبَ مصدّق. وحين عاد المبعوثُ إلى واشنطن، حمل معه رسالةً بأن السعوديين يؤثرون الطاعة.كانت هناك عقبة واحدة بسيطة، أنّ علينا أن نُقنعَ اللاعبين الرئيسيين في الحكومة السعودية. وقد أُعلمنا أن هذه مسألة عائلية. لم تكن السعودية دولة ديمقراطية، إلا أنه لا بد من الإجماع داخل الأسرة الحاكمة.عام 1975، أنيط بي التعاملُ مع واحد من هؤلاء اللاعبين الرئيسيين. كنتُ دائما أظنه الأمير “واو”، بالرغم من أنني لم أعلم قط أنه كان حقيقة وليَّ العهد. كانت مهمتي أن أقنعه بأن عملية غسيل المال السعودي سوف تفيد بلاده وتفيده شخصيا.لم يكن الأمر بالسهولة التي بدت عليها. فقد أعلن الأمير “واو” بأنه وهابيٌّ ملتزم وأنه لا يودُّ أنْ يرى بلاده تتبع الخطى التجارية الغربية. كذلك زعم بأنه يُدرك الطبيعة الخبيثة فيما نعرض؛ وقال إنّنا نطمحُ إلى الأهداف ذاتها التي كان يطمحُ إليها الفرنجةُ الصليبيون قبل ألف حول: نصرنة العالم العربي. ولقد كان مُحقاً في ذلك إلى حدٍّ ما. ففي رأيي، إن الفرق بيننا وبين الصليبيين كان في الدرجة. ذلك أنّ كاثوليكيي القرون الوسطى في أوربا كانوا يزعمون أنهم يريدون تخليص المسلمين من العذاب؛ أما نحن فنزعمُ أننا نريد مساعدة السعوديين في التحول إلى الحداثة. وفي الحقيقة، أعتقد أن الصليبيين، مثل سلطة الشركات، كانوا في الأساس يريدون توسيع إمبراطوريتهم.بعيدا عن الإيمان الديني، كان لدى الأمير “واو” ضعفٌ واحد – الشقراوات الجميلات. يبدو من المضحك نوعاً ما أن نذكر ما أصبح اليوم أمراً شائعا وغير عادل؛ ويجب عليّ أن أذكر أن الأمير “واو” كان الرجلَ الوحيد بين الكثرة من السعوديين الذين عرفتهم ممن كانت لهم هذه النزعة، أو أنه الوحيد الذي سمح لي بالاطلاع عليها. إلا أنها أدّت دوراً في ترتيب هذه الصفقة التاريخية، وهي أيضا تكشف المدى الذي ذهبتُ إليه لإتمام مهمتي.[1] نورالدين عواد، ” الثورة الكوبية على المحك” كنعان الالكترونية العدد 2441، بتاريخ 24 ديسمبر 2010.[2] العهد التشريعي مدته خمسة اعوام، ومنذ ترسيخ ماسسة السلطة الشعبية في كوبا عام 1976 تجرى انتخابات البلديات كل سنتين ونصف، اما الانتخابات العامة للمحافظات وللوطن فتجرى كل خمسة اعوام.[3] وهو صاحب المقولة الخالدة “الحقوق لا تشحذ، بل بحد السيف تنتزع”، وكانت نظرته ثاقبة ازاء الخطر الامريكي المحدق بالجزيرة الى حدّ انه، بعد ان عرض عليه المستعمرون اتفاق الزانخونZANJONالاستسلامي عام 1878(نوع من اتفاق اوسلو الفلسطيني) ولم يقبله بل رفضه باعلان استئناف الكفاح المسلح قال ” الطريقة الوحيدة التي يمكن ان اقف فيها الى جانب الاسبانيين [المستعمرين] ان يحاربوا الامريكيين]”، ولاحقا عندما تم وقف العمليات المسلحة، فضّل المهجر (جامايكا) على الخيانة، ثم عاد وقاتل واستشهد.[4] اختيار يوم 24 فبراير 2013 لهذه الخطوة بالغة الاهمية بالنسبة لمصير الثورة والوطن، يكتسب رمزيته التاريخية مما حدث بنفس التاريخ من عام 1895، عندما تم استئناف الكفاح الكوبي المسلح من اجل الاستقلال عن الاستعمار الاسباني، من خلال اندماج المقاتلين المتمرسين القدامى في حرب التحرير الاولى 1868 ـ 1878، مع “الصنوبر الجديد” اي المقاتلين الجدد، تحت قيادة الحزب الثوري الكوبي، بزعامة خوسيه مارتي، وهو في راي فيديل كاسترو “انسان ثوري بوليفري ومعاد للامبريالية الامريكية ” . كان الكوبيون يحاربون باستعمال سلاح اساسي وهو “السيف المامبي” اي سيف المحاربين من اجل الاستقلال والحرية.[5] للمزيد من المعطيات يمكن الرجوع الى كنعان الالكترونية العدد 2551 بتاريخ 25 نيسان (ابريل) 2011.[6] هذه العبارة تعود الى الزميل الفنزويلي والتر مارتينيسWALTER MARTINEZ، مُعدّ ومُقدِّم برنامج “دوسييه” DOSIERفي تلفزيون الجنوب TELESUR .[i] لقراءة المزيد عن الأحداث التي أدت إلى حظر النفط عام 1973 وعن أثر هذا الحظر، راجع:Thomas W. Lippman, Inside the Mirage: America’s Fragile Partnership with Saudi Arabia (Boulder, CO: Westview Press, 2004); Daniel Yergin, The Prize:The Epic Quest for Oil, Money & Power (New York: Free Press, 1993); Stephen Schneider, The Oil Price Revolution (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1983); Ian Seymour, OPEC: Instrument of Change (London: McMillan, 1980). [ii] Lippman, ibid, p 160. [iii] David Holden and Richard Johns, The House of Saud: The Rise and Rule of the Most Powerful Dynasty in the Arab World (New York: Holt Rinehart and Winston, 1981), p 359. [iv] Lippman, ibid, p 167. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:08 am | |
| الفصل السادس عشر العمل قوّادا وتمويل أسامة بن لادن منذ البداية، أخبرني الأمير “واو” أنه حين يأتي لزيارتي في بوسطن يودُّ أنْ تُرافقه امرأةٌ جذابة، ويتوقّعُ منها أنْ تقوم بأكثر من مجرد مرافقته. لكنه قطعاً لا يريد مومساً محترفة، بل امرأةً قد يلتقي بها هو أو أيٌّ من أفراد أسرته في الشارع أو في حفلة شراب. ولما كانت اجتماعاتي بالأمير “واو” سرية، فقد كانت الاستجابةُ لرغباته أسهلَ. كانت “سالي” امرأةً جميلةً شقراءَ ذاتَ عينين زرقاوين، وتعيشُ في منطقة بوسطن. وكان زوجُها، وهو طيارٌ في الخطوط الجوية المتحدة (يُنايتد)، يُسافرُ كثيرا، بحكم عمله أو بغير ذلك، ولا يبذل جهدا كبيراً في إخفاء عدم إخلاصه لها. أما سالي، فقد اتخذتْ موقفاً فروسياً من نشاطات زوجها. ذلك أنها كانت تُقدِّرُ حجمَ راتبه، والشقةَ المترفةَ التي يسكنانها، والفوائدَ التي كانت زوجةُ طيار تستمتعُ بها في تلك الأيام. وكانت قبل ذلك بعقد من الزمن تعيشُ حياة الصعلكة، ومعتادة على ممارسة الجنس بدون التزام. وقد وجدتْ مسألة وجود موردٍ سريٍّ للمال فكرةً جذابة. لذلك وافقت على أن تُجرِّبَ العلاقة مع الأمير “واو”، بشرط واحد: أصرّتْ على أنّ مستقبل علاقتهما ستعتمد كلياً على تصرّفه وعلى موقفه منها. ولحسن حظي، سكنَ كلٌّ منهما إلى الآخر. لكنّ هذه العلاقةَ بين الأمير “واو” وسالي، وهي جزءٌ من مسألة غسيل المال السعودي، قد خلقت لي مجموعةً من المشاكل. كانت شركة مين تُحرِّم على شركائها القيام بشيءٍ غير شرعي. وكنتُ، من الوجهة القانونية، أُسهِّلُ ممارسةَ الجنس – أُقوِّد – وهو عمل غير مشروع في [ولاية] ماساشوستس. لذلك كانت المشكلةُ الرئيسيةُ في كيف نُغطي خدمات سالي. ولحسن الحظ، كانت الدائرةُ المالية قد منحتني حريةً واسعةً في مصروفي. وإذ كنت كريماً في دفع الإكرامية، استطعتُ إقناع النوادل في بعض مطاعم بوسطن الفخمة بأن يُعطوني وصولاتٍ فارغة. كان ذلك أيام كان البشرُ لا الحواسيبُ من يملأ الوصولات. مع مرور الوقت، أصبح الأمير “واو” أكثر صراحة؛ وفي نهاية الأمر طلب مني أن أهيِّئَ لسالي أن تذهب معه لتعيش في كوخه الخاص في السعودية. لم يكن ذلك طلباً غريباً في تلك الأيام؛ فقد كانت هناك تجارةٌ نشطةٌ بالصبايا بين البلدان الأوربية والمشرق. كان هؤلاء النساء يُمنحْنَ عقوداً لمدة من الزمن، وحين ينتهي العقد يَعُدن إلى بلادهنّ بحساب مصرفيٍّ وفير جدا. وفيما يلي ما أجمله حول الموضوع روبرت بير، وهو ضابط أحوال له خبرة عشرين سنة في مديرية العمليات في وكالة الاستخبار المركزية، ومتخصص بشؤون الشرق الأوسط: “في السنين المبكرة من سبعينات القرن العشرين، حين أخذ مالُ النفط يتدفق، بدأ النشطاءُ اللبنانيون يُهرِّبون المومسات إلى المملكة للأمراء…. ولما لم يكن أحد من الأسرة الحاكمة على درايةٍ بموازنة دفتر الشكات، أثرى اللبنانيون بشكل خرافي.”[i] كنتُ على علم بهذا الوضع، بل كنت أعرف أناساً يستطيعون ترتيب مثل هذه العقود. إلا أنّ عقبتين رئيسيتين بالنسبة إليّ كانتا هناك: سالي والدفع. كنتُ واثقاً من أنّ سالي لن تترك بوسطن لتعيش في منزل صحراويٍّ في الشرق الأوسط. وكان واضحاً أيضاً أنه ما من عددٍ من الوصولات الخالية يُمكن أن تُغطي هذا المصروف. حلّ الأميرُ “واو” المشكلة الأخيرة بأنْ أكّدَ لي أنه سوف يدفع مكافآت عشيقته بنفسه؛ وما عليّ سوى القيام بالترتيبات. كذلك أراحني حين أكّدَ أيضاً أنْ ليس ضروريا أن تكون “سالي السعودية” هي نفسها المرأة التي رافقته في الولايات المتحدة. لذلك هاتفتُ عددا من أصدقائي ممن يعرفون بعض اللبنانيين في لندن وأمستردام، وخلال أسبوعين كانت “سالي” البديلةُ تُوقِّع العقد. كان الأميرُ “واو” شخصيةً مُعقَّدة. صحيحٌ أنّ سالي استطاعت إرضاء رغبته الجسدية، وأنّ قدرتي على مساعدته في هذا أكسبتني ثقته، إلا أنّ الأمر لم يُقنعه قطُّ بأنّ “ساما” كانت مخططاً يُمكن قبولُه لبلاده. فكان عليَّ أن أعملَ بجِدٍّ لكسب قضيتي. لذلك أنفقتُ ساعاتٍ طوالاً أُريه الإحصاءاتِ وأُساعدُه في تحليل الدراساتِ التي قمنا بها للدول الأخرى، بما فيها النماذجُ الاقتصادية الرياضية التي أنجزتُها للكويت حين كنتُ أتدرّبُ مع كلودين في تلك الأشهر القليلة قبل توجهي إلى إندونيسيا. لكنّ موقفه أخيراً لان. لا أعرف تفاصيلَ ما جرى بين زملائي من القتلة الاقتصاديين وبين الآخرين من اللاعبين السعوديين المهمين. كلُّ ما أعرفُه هو أنّ الأسرة الحاكمة وافقت على الرزمة بكاملها. وقد كوفئتْ شركة مين على الجزء الذي قامت به بمنحها أحد العقود الأولى المربحة جدا بإدارة دائرة الخزينة الأمريكية. وقد انتُدِبْنا للقيام بمسح شاملٍ للنظام الكهربائي الفوضوي القديم، ولتصميم نظام جديد على المعايير المعمول بها في الولايات المتحدة. وكالعادة، كانت مهمتي أنْ أُرسلَ الفريق الأول لوضع التنبؤات للاقتصاد وللأحمال الكهربائية في كل منطقةٍ في البلاد. كان ثلاثةُ رجالٍ من موظفي مكتبي – وكلُّهم ذوو خبرةٍ في المشاريع الدولية – يتأهبون للمغادرة إلى الرياض حين جاءنا إشعارٌ من الدائرة القانونية أنّ علينا، حسب شروط العقد، أن يكون لنا مكتبٌ في الرياض مجهّزٌ تماماً وعاملٌ بطاقة كاملة خلال الأسابيع القليلة القادمة. ويبدو أنّنا سهونا عن هذا البند لأكثر من شهر. كذلك اشترطتْ اتفاقيتنا مع دائرة الخزينة أنّ جميع المعدات يجب أنْ تكون مصنوعةً إما في الولايات المتحدة أو في السعودية. ولما كانت السعودية خالية من المصانع التي تنتج مثل تلك المعدات، فلا بد من إرسال كل شيء من الولايات المتحدة. ولكي ينتابنا الغمُّ، اكتشفنا أنّ هناك صفاً طويلا من سفن الشحن تنتظر دورها إلى موانئ شبه الجزيرة العربية. وقد يستغرق الأمر أشهراً طويلة لوصول الشحنة إلى المملكة. كادت شركةُ مين تخسر ذلك العقدَ القيِّمَ بسبب أثاث غرفتَيْ مكتب. فلجأنا إلى ساعاتٍ من القدح الفكري في مؤتمر حضره جميع الشركاء المعنيين. وكان الحلُّ الذي اتفقنا عليه أن نستأجر طائرة بُوِنْغ 747 نملأُها بالتجهيزات من مخازن منطقة بوسطن ونرسلُها في رحلة عارضةً إلى السعودية. أذكر أنني فكَّرتُ أنّ من المناسب لو نستأجرُ الطائرة من الخطوط الجوية المتحدة (يُنايتِد)، وأن يقودَها ذلك الطيارُ الذي قامت زوجتُه بدور حساس في استئناس آل سعود. *** في ليلة وضحاها، عمليا، غيّرتْ الصفقةُ ما بين الولايات المتحدة والسعودية شكل تلك المملكة. فقد حلَّ محِلَّ الماعز مئتا شاحنة لضغط القمامة، أمريكية، صفراء وضاءة، قامت بتزويدها بموجب عقد قيمته 200 مليون دولار شركة إدارة الفضلات.*[ii] وبالطريقة عينها، حُدِّثَ كلُّ قطاع في الاقتصاد السعودي، من الزراعة والطاقة إلى التعليم والاتصالات. وكما قال طومس لِبمَن عام 2003: “لقد أعاد الأمريكيون تشكيل منظر واسع كئيبٍ من خيم البدو وأكواخ الفلاحين الطينية، إلى حدِّ وجود مقاهي ستاربَكس في زاوية الشارع وممراتٍ خاصة بالكراسي المتحركة في العمارات العامة الجديدة. والسعودية اليوم دولةٌ ذاتُ طرقٍ سريعةٍ، وحواسيبَ، وأسواقٍ مسقوفةٍ مكيفةِ الهواءِ مملوءةٍ بالدكاكين الجميلةِ الموجودةِ في الضواحي الأمريكية المنعمة، وفنادقَ ممتازةٍ، ومطاعمِ أطعمةٍ سريعة، وتلفزةٍ فضائيةٍ، ومستشفياتٍ حديثةٍ، وأبراجِ مكاتبَ عاليةٍ، وحدائقِ ملاهٍ فيها ركوباتٌ حلزونية.”[iii] لقد أوجدتْ الخططُ التي وضعناها عام 1974 معياراً لمفاوضاتنا مع الدول الغنية بالنفط. وبطريقةٍ ما، كانت ساما/جيكور المهبط التالي بعد ذلك الذي أسسه كيرمِت روزفِلت في إيران. وقد جلبتْ مستوىً إبداعيّاً من البراعة إلى مستودع السلاح السياسي-الاقتصادي يستخدمه جيل جديد من الجنود في خدمةِ الإمبراطورية العالمية. كذلك أوجدتْ مسألةُ غسيل المال السعودي واللجنةُ المشتركةُ سوابقَ جديدةً في القانون الدولي. كان هذا واضحاً في قضية عيدي أمين. فحين نُفي هذا المستبدُّ اليوغنديُّ سيئُ الصيت عام 1979، مُنِح حقَّ اللجوء في السعودية. وبالرغم من أنه كان يُعتَبَرُ طاغيةً مجرما، مسؤولا عن موتِ ما بين مئة ألفٍ وثلاثمئة ألفٍ من الناس، فقد قضى تقاعده في حياةٍ مرفهةٍ تماما، بسياراتٍ وخدم منزليٍّ قدّمها له آلُ سعود. وإذ اعترضت الولاياتُ المتحدة بهدوءٍ، إلا أنها رفضت أنْ تمارس ضغطاً حول المسألة خوفاً من تخريب ترتيباتها مع السعودية. وقد أمضى عيدي أمين أعوامه الأخيرةَ يصطادُ السمك ويتمشى على الشاطئ. وفي العام 2003، مات في جدة بالفشل الكلوي عن ثمانين عاما.[iv] كان الأكثرَ براعةً، والأشدَّ تخريباً في نهاية المطاف، الدورُ الذي سُمح للسعودية بالقيام به في تمويل الإرهاب الدولي. لم تُخفِ الولاياتُ المتحدةُ رغبتها في أن يٌموِّلَ آلُ سعود أسامةَ بنَ لادن في الحرب الأفغانية ضدَّ الاتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن العشرين. وقد أسهمت الرياض وواشنطن معا بما يقدّرُ بـ3.5 مليار دولار للمجاهدين.[v] غير أن مشاركة الولايات المتحدة والسعودية ذهبت أبعد بكثير من هذا. في العام 2003، أجرتْ صحيفةُ يو إس نيوز آند وورلد ريبورت دراسةً جامعةً بعنوان “العلاقة السعودية”. وقد راجعت المجلةُ آلاف الصفحات من سجلات المحاكم، والتقارير الاستخبارية الأمريكية والأجنبية، وغيرها من الوثائق، وقابلت عشرات المسؤولين الحكوميين وخبراء الإرهاب والشرق الأوسط. وفيما يلي بعض نتائج أبحاثها: “كان الدليلُ بحيثُ لا يقبل الجدل: بطريقة ما، أصبحت السعودية، وهي حليفةُ أمريكا لزمن طويل، وأكبرُ منتج للنفط في العالم، “مركز” تمويل الإرهاب، حسب تعبير مسؤول كبير في الخزينة…. ابتداءً من السنين الأخيرة من ثمانينات القرن العشرين – بعد صدمتَيْ الثورة الإيرانية والحرب السوفييتية في أفغانستان – أصبحت اللجانُ الخيريةُ السعوديةُ شبهُ الرسمية المصدرَ الماليَّ الأولَ لحركات الجهاد التي كانت تنمو بسرعة. كان المالُ يُستخدَمُ في حوالي 20 دولةً لتشغيل معسكرات تدريبٍ شبه عسكرية، ولشراء السلاح وتجنيد الأعضاء الجدد…. كان السخاءُ السعوديُّ يُشجِّعُ المسؤولين الأمريكيين على غضِّ الطرف، كما يقول بعضُ قدامى ضباط الاستخبار. وقد أُنفقتْ ملياراتُ الدولارات على شكل عقودٍ، وهباتٍ، ورواتبَ دُفعت لطيفٍ عريضٍ من المسؤولين الأمريكيين السابقين الذين تعاملوا مع السعوديين: من سفراء، ومدراء محطاتٍ تابعة لوكالة الاستخبار المركزية، بل حتى لأعضاء في مجلس الوزراء…. وقد التَقَطَتْ عملياتُ التصنُّت الإلكترونيةُ تورُّطَ أعضاء في الأسرة الحاكمة لا يدعمون القاعدة وحدها، بل مجموعاتٍ إرهابيةً أخرى أيضا.”[vi] بعد الاعتداء على مركز التجارة العالمي والبنتاغون في [أيلول] 2001، ظهر دليلٌ أكبر على العلاقة الخفية بين واشنطن والرياض. وفي تشرين الأول 2003، في تقرير في العمق بعنوان، “إنقاذ السعوديين”، كشفت مجلة فانِتي فير معلوماتٍ لم تُنشر على الملأ من قبل. ولم أُفاجأ أنا بالقصة التي ظهرت عن العلاقة ما بين آل بوش، وآل سعود، وآل ابن لادن. فقد كنتُ أعلمُ أنّ تلك العلاقاتِ تعود على الأقل إلى زمن “مسألة غسيل المال السعودي”، التي بدأت عام 1974، وإلى أيام جورج بوش [الأب] كسفير في الأمم المتحدة (1971-1973)، ثم كمدير لوكالة الاستخبار المركزية (1976- 1977). والذي فاجأني هو أنّ الحقيقة وصلت أخيراً إلى الصحافة. كان ما استنتجته فانِتي فير ما يلي: “لآل بوش وآل سعود، أقوى أسرتين حاكمتين في العالم، روابطُ شخصيةٌ وتجاريةٌ وسياسيةٌ حميمةٌ لأكثرَ من 20 عاما…. ففي القطاع الخاصِّ، دعم السعوديون هاركن للطاقة، وهي شركة يُساهمُ فيها جورج و. بوش [الابن]. أما الرئيس السابق جورج هـ. و. بوش [الأب]، وحليفُه منذ زمن، وزير الخارجية السابق جيمس بيكر، فقد سبقا السعوديين في التبرع لمجموعة كارليل، التي يُعتقَد أنها أكبر شركة مالية خاصة في العالم. واليوم، لا يزال الرئيس السابق بوش [الأب] يعمل بمنصب كبير المستشارين لهذه الشركة…. قبل [أحداث] التاسع من أيلول، أُخرجَ على وجه السرعة من الولايات المتحدة بعضُ الأثرياء السعوديين على طائرات نفاثةٍ خاصة، وكان منهم أعضاء في أسرة ابن لادن. ليس هناك من يعترف بالسماح للرحلات ولم يُسألُ المسافرون شيئا. فهل ساعدت في ذلك العلاقةُ الطويلةُ لآل بوش مع السعوديين؟”[vii] |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:08 am | |
| الجزء الثالث1975-1981الفصل السابع عشرالمفاوضات حول قناة بنماوغْراهَم غْرينأوجدتْ السعوديةُ مِهَنا كثيرة، أما مهنتي فكانت ماضية قُدُما. لكنّ المؤكَّد أنّ نجاحاتي في تلك المملكة الصحراوية قد فتحت لي أبواباً جديدة. وما إنْ حلّ عام 1977، حتى كنتُ بنيتُ لي إمبراطوريةً صغيرةً تضمُّ من الموظفين حوالي عشرين مهنيا مقرُّهم الرئيسيُّ في مكتبنا في بوسطن، ومجموعةً من المستشارين من الدوائر والمكاتب الأخرى في شركة مين، منتشرين حولَ العالم، كما أصبحتُ أصغر شريك في تاريخ الشركة البالغ مئة سنة. وبالإضافة إلى لقبي ككبير الاقتصاديين، لٌُقِّبْتُ بمدير الاقتصاد والتخطيط الإقليمي. وكنتُ أُحاضرُ في هارفرد وأماكن أخرى، وكانت الجرائدُ تطلبُ مني مقالاتٍ حول الأحداث الراهنة.[i] كذلك كنتُ أملك يختاً شراعياً راسياً في ميناء بوسطن إلى جانب السفينة الحربية التاريخية “كُنْستِتْيوشن”، الملقّبة باسم “أُولد آيرُنْسايْد”، والمشهورة في إخضاعها القراصنةَ البربر بعد الحرب الثورية بمدة قصيرة. كنتُ قبل بلوغي الأربعين أقبضُ راتباً ممتازاً وأملكُ ثروةً واعدةً بوضعي في عداد الندرة من أصحاب الملايين. صحيحٌ أنّ زواجي تداعى؛ لكني كنتُ أقضي وقتي مع نساء جميلات ساحرات في قارات عدة.جاء برونو بفكرةٍ لمحاولةٍ مبتكرةٍ في التنبّؤ: نموذجٍ اقتصاديٍّ رياضيٍّ معتمدٍ على كتابات رياضيٍّ روسي ظهر عند انعطاف القرن. ويتضمنُ النموذجُ تخصيصَ احتمالاتٍ ذاتيةٍ للتوقعات بأنّ بعضَ قطاعاتٍ محددةٍ من اقتصادٍ ما سوف تنمو. وقد استطعتُ أنْ أرى أن هذا يُمكنُ أن يكون أداةً مثاليةً لتبرير معدّلات الزيادة المنفوخة التي كنا نحبُّ أن نعرضها للحصول على قروض كبيرة. وقد سألني برونو أن أفكِّر فيما يُمكنني فعلُه بهذه الفكرة.جئتُ إلى دائرتي برياضيٍّ شابٍّ من معهد مساشوستس للتقانة (إم.آي.تي)، هو الدكتور ناديبورام بْراساد، ووضعتُ تحت يده ميزانية. فقام، خلال ستة أشهر، بتطوير طريقة ماركوف للنماذج الاقتصادية الرياضية. ثم وضعنا معا سلسلة من الأبحاث الفنية التي عرضت ماركوف كطريقة ثورية للتنبؤ بأثر الاستثمار في البنية التحتية على النمو الاقتصادي.كان لنا ما أردنا تماما: أداةٌ “تُثبتُ” علمياً أننا نُسدي خيراً إلى الدول بمساعدتها في طلب القروض التي لن تستطيع سدادها. أضفْ إلى ذلك أنه ما من أحد سوى اقتصاديٍّ رياضيٍّ ماهر يملك الوقت والمال يُمكنه فهمُ خفايا ماركوف المعقدة، أو مساءلةُ استنتاجاتها. وقد نُشرت أوراق البحث من قِبَلِ عدة منظمات محترمة، وقمنا بعرضها رسميا في مؤتمراتٍ وجامعاتٍ في عدد من الدول. فغدت الأوراقُ مشهورةً في نطاق المهنة كلِّها – ونحن معها.[ii]التزمنا، عمر توريجُس وأنا، بكتمان اتفاقنا السري. تأكّدتُ من أنْ تكونَ دراساتُنا صادقة ومن أنّ توصياتنا تأخذ الفقراءَ بعين الاعتبار. وبالرغم من أنني كنتُ أسمع بعض الهمهمات من أنّ تنبؤاتنا في بنما لم تكن ملتزمةً بالمعايير المنفوخة المعتادة، بل كانت تشي بالاشتراكية، فالحقيقةُ أنّ شركة مين بقيت تكسب العقود من حكومة توريجُس. وقد تضمنت هذه العقودُ العقد الأول – تقديم خطط رئيسية مبتكرة تشمل الزراعة وقطاعات البنية التحتية الأكثر تقليدياً. كذلك كنتُ أراقبُ من بعيد حين بدأ توريجُس وجيمي كارتر يتفاوضان حول معاهدة القناة.أثارتْ مفاوضاتُ القناة اهتماما كبيرا وعواطف جياشةً حول العالم. فقد كان الناس في كل مكان ينتظرون ليروا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستفعل ما يعتقد سوادُ الناس في العالم أنه الحق – أي السماح للبنميين بالسيطرة – أو أنها بدل ذلك سوف تُعيد وضعَ “بيان المصير” بصيغةٍ عالمية، وهو الذي هزّه تهافتنا في الفيتنام. وقد بدا للكثرة من الناس أن رجلا معقولا وذا رحمةٍ قد انتُخِب لرئاسة الولايات المتحدة في الوقت المناسب تماما. بيد أن معاقلََ المحافظين في واشنطن ومنابرَ اليمين الديني كانت تصرخُ شاجبة. كيف لنا أن نتخلّى عن هذا الحصن الدفاعي الوطني، عن هذا الرمز الإبداعي الأمريكي، عن هذا الشريط المائي الذي يربط ثروات أمريكا الجنوبية بنزوات المصالح التجارية الأمريكية؟في أثناء رحلاتي إلى بنما، كنت معتادا على النزول في فندق كنتننتال. لكنني في زيارتي الخامسة انتقلتُ إلى فندق بنما عبر الشارع بسبب أعمال التجديد في الكنتننتال والضجيج الذي يُحدثُه البناء. وقد انزعجتُ من ذلك التغيير في البداية – لأن الكنتننتال كان بيتي بعيدا عن بيتي. أما الآن فقد بدأتْ تأسرني الردهةُ الفسيحةُ حيث أجلس، بكراسيِّها من الخيرزان ومراوحها الخشبية المعلقة في السقف. وقد تخيلت فيها المشهدَ المُصوّرَ في فِلم الدار البيضاء، وتراءى لي أنّ هَمْفْري بوغَرْت سيدخل الردهة في أية لحظة. وضعتُ جانباً نسخة صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس حيث انتهيتُ للتو من قراءة مقال كتبه غْراهَم غْرين حول بنما، وحدّقت إلى تلك المراوح أتذكّر إحدى الأمسيات قبلَ سنتين تقريبا.عام 1975، إذ كان عمر تورجُس يتكلمُ إلى مجموعة من البنميين ذوي النفوذ، قال متنبئاً، “فورد رئيسٌ ضعيفٌ، ولن يُعادَ انتخابُه.” كنتُ يومئذٍ من الأجانب القلة الذين دُعوا إلى ذلك النادي الأنيق ذي المراوح المعلقة في السقف. واستأنف قائلاً، “وهذا هو السبب الذي جعلني أقرِّرُ الإسراعَ في قضية القناة هذه. فقد آن الأوانُ للبدء في معركةٍ سياسيةٍ شاملةٍ لاستردادها.”كان خطابُه موحياً لي. فعدتُ إلى غرفتي في الفندق وكتبتُ رسالة أرسلتُها لاحقاً إلى صحيفة بوسطُنْ غْلوب. وحين عُدتُ إلى بوسطن، هاتفني أحدُ المحررين على مكتبي طالباً أنْ أكتب مقالا عموديا. وفي العدد الصادر في 19 أيلول 1975 من تلك الصحيفة، ظهر مقالي “ليس للاستعمار مكانٌ في بنما عام 1975″، مستنفداً حوالي نصف الصفحة المقابلة لمقال المحرر.ذكر المقالُ ثلاثةَ أسبابٍ محددةٍ لنقلِ مسؤوليةِ القناةِ إلى بنما. أوَّلُها أنّ “الوضعَ الحاليَّ غيرُ عادل – وهو سببٌ مهمٌّ لأي قرار.” وثانيها أنّ “المعاهدة الحالية تخلقُ مخاطر أمنيةً أسوأ بكثير مما لو نُقلت السيطرة إلى البنميين.” وقد استندتُ كمرجع إلى دراسةٍ وضَعَتْها “مفوضيةُ القناة البحرية”،* التي توصلتْ إلى نتيجةٍ مفادها أنّ “الحركة يمكن إيقافها لسنتين بقنبلة مزروعةٍ – على نحو يُمكن تصوره من قبل رجل واحد – في جانب سدِّ غاتُن”. وهي نقطةٌ أكد عليها الجنرال توريجُس في خطاب أمام الجمهور. وثالثُها أنّ “الوضع الحالي يخلق مشاكل خطيرةً للعلاقات ما بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية، وهي علاقات مأزومة أصلا.” وخلصتُ إلى ما يلي:“إنّ أفضلَ وسيلةٍ لضمان عمل القناةِ باستمرارٍ وكفاءةٍ مساعدةُ البنميين في السيطرة عليها وتحمُّل مسؤوليتها. فإن قمنا بهذا، نكن فخورين بأننا ابتدأنا عملا يؤكد التزامنا بقضية تقرير المصير التي عاهدنا أنفسنا عليها قبل 200 عام. …كان الاستعمارُ أمرا دارجا عند انعطاف القرن (بداية القرن العشرين) كما كان عام 1775. ولعل إقرار مثل هذه المعاهدة يُمكنُ فهمُه في سياق تلك الأزمان. أما اليوم فلا مبرر لها، ولا مكان للاستعمار عام 1975. وإذ نحتفلُ بمئويتنا الثانية، يجب أن نُدرك هذا الأمر ونتصرف بموجبه.”[iii]كانت كتابةُ ذلك المقال خطوةً جريئة من جانبي، خاصّةً أنني قُبلتُ شريكاً في شركة مين، حيث يُتَوَقَّعُ من الشركاء أنْ يتجنبوا الصحافة، وبالتأكيد أن يمتنعوا عن نشر مقالات سياسية ناقدة في صفحات تحرير أكثر الجرائد احتراماً في نيو إنكلاند. وقد استلمتُ من خلال البريد المكتبي كمّاً هائلاً من الملاحظات البذيئة المشبوكة إلى نسخٍ من المقال، معظمها بلا توقيع. بيد أني كنتُ واثقاً من أنني تعرّفتُ على خطِّ أحدهم، هو شارلي إلِنغْويرث، مديرُ أول مشروعٍ لي في شركة مين، الذي مضى عليه أكثرُ من عشر سنواتٍ (مقارنةً بأقلَّ من خمسٍ لي) ولم يُصبحْ بعدُ شريكا. كان على ورقة الملاحظة صورة جمجمةٍ وحشيةٍ وعظمتين متصالبتين، وكانت رسالتُها بسيطة: “أحقّاً أنّ هذا الشيوعيَّ شريكٌ في شركتنا؟”استدعاني برونو إلى مكتبه وقال، “لسوف تتلقي سيلاً من الاستهجان على هذا، فشركة مين محافظة إلى حدِّ كبير. لكنني أعتقد أنك بارع. توريجُس سيُحبُّها؛ وآملُ أنْ ترسل له نسخة منها. عظيم. أما هؤلاء المهرِّجون هنا في هذا المكتب، الذين يظنُّون توريجُس اشتراكيا، فلن يهتموا بالأمر ما دام العمل جاريا في مجراه.”كان برونو محقّاً – كالعادة. كان الزمنُ عام 1977، وقد احتلّ كارتر البيت الأبيض، والمفاوضاتُ الجديةُ حول القناة جارية. وكان الكثرةُ من منافسي شركة مين قد التزموا الجانبَ الخاطئ فاُخرجوا من بنما، بينما تضاعفت أعمالنا. كنتُ جالساً في ردهة فندق بنما، وقد انتهيتُ للتوِّ من قراءة مقال كتبه غْراهَم غْرين في صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس.كان المقالُ، “الدولةُ ذاتُ الحدودِ الخمسة”، قطعةً جريئةً تضمنتْ نقاشاً للفساد بين كبار الضباط في الحرس الوطني في بنما. وقد أشار الكاتبُ إلى أنّ الجنرال نفسه اعترف بمنحه الكثيرين من أركانه مزايا خاصّةً، كالمساكن الفخمة، لأنه “إنْ لم أدفعْ لهم أنا، فستقوم بذلك وكالة الاستخبار المركزية.” والإشارة واضحة في أنّ الاستخبارات الأمريكية كانت مصممةً على تقويض رغبات الرئيس كارتر، ومستعدةً، إنْ تطلّب الأمر، لرشوةِ القادة العسكريين البنميين لكي يُخرِّبوا مفاوضات المعاهدة.[iv] لم أستطع أن أصرف عن بالي ما إذا كانت الواوياتُ قد بدأت فعلاً تُحاصر توريجُس.كنتُ رأيتُ صورةً في صفحة “الناس” في مجلة تايم أو مجلة نيوزويك لتوريجُس وغْرين جالسَيْن معا. وقد أشار التعليقُ إلى أنّ الكاتب كان ضيفاً خاصّاً وبات صديقا. تساءلتُ عن شعور الجنرال تجاه هذا الروائيِّ، الذي يبدو أنه يثق به، وقد كتب مثل هذا الانتقاد.أثار مقالُ غْراهَم غْرين تساؤلا آخر ذا علاقةٍ بذلك اليوم من سنة 1972 حين جلستُ إلى طاولة القهوة مع توريجُس. في ذلك الوقتُ، افترضتُ أن توريجُس كان مدركاً أنّ الغايةَ من لعبة المساعدات الخارجية أنْ تجعله ثرياً بينما تَغُلُّ بالدَّيْن بلادَه. كنتُ واثقاً من أنّ العملية تستند إلى افتراض أنّ لدى رجال السلطة قابليةً للإفساد، وأن قراره ألا يبحثَ عن منفعة شخصيةٍ – بل أن يستخدم المساعدة الخارجية لنفع شعبه – سوف يُعتبرُ تهديداً قد يؤدي في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالنظام برمته. كان العالمُ يُراقبُ هذا الرجل؛ فقد كانت لتصرفاته عواقبُ جازت بنما بعيدا، ولهذا لن يُستَخَفَّ به.تساءلتُ كيف يكون ردُّ فعل سلطة الشركات إذا ساعدت القروضُ الممنوحة لبنما الفقراءَ ولم تُسهمَْ في تراكم الديون المستحيلة. والآن أتساءل إن كان توريجُس ندم على الصفقة التي اتفقنا عليها هو وأنا في ذلك اليوم – ولم أكن متأكداً من شعوري أنا تجاه تلك الصفقات. فقد تراجعتُ عن دوري كقاتل اقتصادي، ولعبتُ لعبتَه هو لا لعبتي أنا، متقبِّلا إصراره على الأمانة مقابل الحصول على مزيدٍ من العقود. كان هذا، من وجهة نظرٍ اقتصاديةٍ محضة، قراراً تجارياً حكيماً لشركة مين. بالرغم من هذا، فإنه لم يكنْ متماهياً مع ما غرسته كلودين في نفسي، إذ لم يكن يُسهمُ في تقدم الإمبراطورية العالمية. فهل أُطلِقَ العِنانُ الآن لبنات آوى؟تذكّرتُ أنه عنّ ببالي حين غادرتُ منزل توريجُس في ذلك اليوم بأن تاريخ أمريكا اللاتينية مليءٌ بالأبطال القتلى. فالنظامُ القائمُ على إفساد الشخصيات العامة لا يرأفُ بالشخصيات التي ترفض الفساد.ظننتُ أن عينيَّ تخادعانني حين مرّ شخصٌ مألوفُ الوجه يمشى بطيئاً في الردهة. فللوهلة الأولى تشوّش ذهني إذ خِلتُه هَمْفْري بوغَرْت. لكنّ بوغَرْت قضى نحبه منذ زمن بعيد. ثم عرفتُ الرجل الذي مرّ بي على مهل. إنه أحد أركان الأدب الإنكليزي الحديث، مؤلف السلطة والمجد، الممثلون الهزليون، رجلنا في هافانا،* بالإضافة إلى ذلك المقال الذي وضعته إلى جانبي على المائدة. إنه غْراهَم غْرين، وقد تردد قليلا ناظرا حوله، ثم مضى قُدُماً نحو المقهى.انتابني دافعٌ أن أناديه أو أن ألحق به؛ لكنني لم أفعل. فقد شعرتُ بصوتٍ في داخلي يقول إنه في حاجةٍ إلى أن يصفو لنفسه، وبصوتٍ آخر يقول إنه سيُشيحُ بوجهه عني. حملتُ صحيفة نيويوركرِفيو أُف بُكس وفوجئتُ بعد لحظةٍ أنْ وجدتُني أقفُ في مدخل المقهى.كنتُ قد تناولتُ فطوري في ساعةٍ مبكرةٍ من ذلك الصباح، فنظر لي كبير النوادل نظرة مستغربة. أجلتُ بصري ورأيتُ غْراهَم غْرين يجلسُ وحده إلى مائدة بالقرب من الحائط.أشرتُ إلى المائدة المجاورة له، وقلتُ للنادل، “هناك، أودُّ أنْ أتناول فطوراً ثانياً هناك.” كنتُ دائما كريماً في دفع الإكراميات، فابتسم لي النادل وقادني إلى تلك المائدة.كان الروائيُّ مستغرقاً في قراءة جريدته، أما أنا فطلبتُ قهوةً وهلاليةً بالعسل. كنتُ أودُّ أنْ أكتشف أفكار غْرين عن بنما، وعن توريجُس، وعن مسألة القناة، لكنني لم أجد وسيلةً للبدء في مثل هذه المحادثة. ثم رفع نظره ليرتشف رشفةً من كأسه، فبادرتُه بالقول، “أرجو المعذرة.”حملق بي – أو هكذا بدا لي. وقال، “نعم؟”“أكره أن أتطفّل. أظنُّك غْراهَم غْرين، ألست هو؟”“بلى، أنا هو حقا.” وابتسم بحرارة مضيفاً، “معظمُ الناس في بنما لا يُميِّزونني.”واسترسلتُ في القول إنه الروائيُّ المفضّلُ عندي، ثم أجملتُ له تاريخ حياتي، بما في ذلك عملي مع شركة مين واجتماعاتي بتوريجُس. فسألني إنْ كنتُ المستشار الذي كتب مقالا عن خروج الولايات المتحدة من بنما. “في بوسطن غلوب، إنْ لم تخنّي الذاكرة.”شعرتُ بالإطراء.فقال، “جريءٌ منك ما فعلتَ، خاصّةً بالنظر إلى منصبك. لمَ لا تجلس معي؟”انتقلتُ إلى مائدته وجلستُ معه زهاءَ ساعة ونصف الساعة. فتبيّن لي من دردشتنا سويّاً مدى قربه من توريجُس، إذ أحياناً ما كان يتكلّمُ عن الجنرال كأبٍ عن ولده.قال، “دعاني الجنرالُ إلى كتابة كتابٍ عن بلده، وهذا بالضبط ما أفعل. لن يكون قصّاً خياليا – سيكون خارج نطاق ما أكتب في العادة.”سألتُه عن سبب كتابته الرواية بدل الكتابة الواقعية، فقال، “الرواية الخيالية أسلم. فمعظم موضوعاتي مثيرةٌ للجدل. فيتنام. هاييتي. الثورة المكسيكية. والكثرةُ من الناشرين يخشَوْنَ نشرَ الكتابة الواقعية حول هذه الأمور.” ثم أشار إلى صحيفة نيويورك رِفيو أُف بُكس حيث كانت ملقاةً على المائدة التي أخليت، وقال، “مثلُ هذه الكلماتِ يُمكنُ أنْ تُخرِّبَ كثيراً.” ثم ابتسم وأضاف، “أنا أيضاً أُحبُّ كتابةَ القصّ الخياليّ، فهي تمنحني حرية أوسع بكثير.” ثم نظر لي بتأمُّل، وأضاف، “المهمُّ أنْ تكتبَ عن أشياء مهمّة، مثل مقالك عن القناة في بوسطن غلوب.”كان إعجابُه بتوريجُس واضحاً. وقد بدا أنّ باستطاعة رئيس دولة بنما أنْ يُثير إعجابَ روائيٍّ بقدر ما يُثير إعجاب الفقراء والمحرومين. وكان واضحاً أيضاً خوفُ غْرين على حياة صديقه.قال، “إنه لمسعىً ضخمٌ أنْ تُنافسَ ذلك العملاق في الشمال.” وهزّ رأسَه آسفاً، ثم قال، “أخافُ على سلامته.”وإذ أزف وقتُ مغادرته، وقف ببطءٍ وصافحني قائلا، “عليّ أن ألحقَ بالطائرة إلى فرنسا.” ثم حدّق إلى عينيّ وقال، “لمَ لا تكتبُ كتابا؟” وأومأ لي إيماءةً مُشجّعة قائلاً، “إنه في نفسك. ولكنْ تذكّرْ أنْ تجعله عن أشياء مهمة.” ثم استدار ومضى في سبيله، لكنه وقف وعاد بضع خطواتٍ إلى المطعم، وقال، “لا تقلق. سوف ينتصرُ الجنرال. سوف يستعيدُ القناة.”بلى، لقد استعادها توريجُس. ففي ذلك العام، 1977، نجح في تفاوضه حول معاهدةٍ جديدة مع الرئيس كارتر انتقلت بموجبها منطقةُ القناة والقناةُ ذاتُها إلى السيادة البنمية. وكان على البيت الأبيض أنْ يُقنع الكنغرس بالتصديق عليها، مما أثار معركة طويلةً شاقّة. وفي نهاية الأمر فاز التصديق على المعاهدة بصوتٍ واحدٍ أحد. غير أن المحافظين أقسموا على الانتقام.حين ظهر كتاب غْراهَم غْرين، الوصول إلى معرفة الجنرال،* بعد عدة سنوات، كان الإهداءُ “إلى أصدقاء صديقي، عمر توريجُس، في نيكاراغوا والسلفادور وبنما.”[v][1] منذ مظاهرات إسقاط حلف يغداد 1954 كان أوسع معتقل هو أل إتش 4 الذي اسسه الاستعمار البريطاني، ثم جاءت حملة 1965.* Interoceanic Canal Commission* The Power and the Glory, The Comedians, Our Man in Havana.* Getting to Know the General[i] راجع على سبيل الامثال:John M. Perkins, “Colonialism in Panama Has No Place in 1975,” Boston Evening Globe, Op-Ed page, September 19, 1975; John M. Perkins, “US-Brazil Pact Upsets Ecuador,” The Boston Globe, Op-Ed page, May 10, 1976.[ii] للاطلاع على أـمثلة حول الأوراق التي كتبها جون بيركنز في مجلات تقنية، راجع:John M. Perkins et al, “A Markov Process Applied to Forecasting, Part I-Economic Development” and “A Markov Process Applied to Forecasting, Part II-The Demand for Electricity,” The Institute of Electrical and Electronics Engineers, Conference Papers C 73 475-1 (July 1973) and C 74 146-7 (January 1974), respectively; John M. Perkins and Nadipuram R. Prasad, “A Model for Describing Direct and Indirect Interrelationships Between the Economy and the Environment,” Consulting Engineer, April 1973; Edwin Vennard, John M. Perkins, and Robert C. Ender, “Electric Demand from Interconnected Systems,” TAPPI Journal (Technical Association of the Pulp and Paper Industry), 28th Conference Edition, 1974; John M. Perkins et al., “Iranian Steel: Implications for the Economy and the Demand for Electricity” and “Markov Method Applied to Planning,” presented at the Forth Iranian Conference on Engineering, Pahlavi University, Shiraz, Iran, May 12-16, 1974; and Economic Theories and Applications: A Collection of Technical Papers, with a foreword by John M. Perkins (Boston: Chas. T. Main, Inc. 1975) [iii] John M. Perkins, “Colonialism in Panama Has No Place in 1975,” Boston Evening Globe, Op-Ed page, September 19, 1975. [iv] Graham Green, Getting to Know the General (New York, Pocket Books, 1984), pp 89-90 [v] Green, ibid. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:09 am | |
| الفصل الثامن عشر
شاهنشاه إيران
كثيراً ما كنتُ أزورُ إيران ما بين الأعوام 1975 و1978. وأحيانا كنتُ أتنقّل بين أمريكا اللاتينية وإندونيسيا وطهران. أما الشاهنشاه (أي ملك الملوك، حسب لقبه الرسمي) فقد كان ذا وضعٍ مختلفٍ تماماً عما هو حالُ البلدان التي عملنا فيها.
كانت إيرانُ غنيةً بالنفط؛ وكحال السعودية، لم تكن في حاجةٍ إلى الاقتراض لتمويل قائمة مشاريعها الطموح. بيد أنّها تختلفُ اختلافاً بيِّناً عن السعودية في أنّ سكانها العديدين ليسوا عربا، وإن كانوا مسلمين مشرقيين. أضفْ إلى ذلك أنّ لتلك الدولة تاريخاً من الاضطراب السياسي – أكان داخلياً أم في علاقاتها بجيرانها. بناءً على ذلك اتخذنا إزاءها مدخلا مختلفا: تضافرت جهود واشنطن ومجموعةِ الأعمال على جعل الشاه رمزاً للتقدم.
قمنا بجهد هائل لنُريَ العالم ما يستطيعُ إنجازَه صديقٌ قويٌّ وديمقراطيٌّ للشركات والمصالح السياسية الأمريكية. وبغضِّ النظر عن لقبه الذي يشي بالبعدِ عن الديمقراطية، وعن الحقيقة الأقلِّ وضوحاً في الانقلاب الذي رتبته وكالة الاستخبار المركزية على رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطيا، فإن واشنطن وشركاءها الأوربيين كانوا مصممين على تقديم حكومة الشاه كبديلة لحكومات العراق، وليبيا، والصين، وكوريا، وغيرها، حيث يطفو على السطح تيارٌ داخليٌّ قويٌّ مضادٌّ للأمركة.
كان الشاهُ في الظاهر صديقاً تقدميا للمحرومين. ففي عام 1962، أمرَ بتجزئة ملكيات عقارية كبيرة خاصّةٍ ومنحِها للفلاحين. وفي السنة التالية قام بتدشين ثورته البيضاء التي كانت تنطوي على برنامجٍٍ واسع للإصلاح الاجتماعي الاقتصادي. وخلال سبعينات القرن العشرين، نمت قوة أوبك وأصبح الشاهُ قائدا عالمياً ذا تأثير متزايد. وفي الوقت نفسه، طوّرت إيرانُ إحدى أقوى القوات العسكرية في العالم الإسلامي والشرق الأوسط.[i]
كانت شركة مين مشترِكةً في مشاريعَ تغطي معظمَ أرجاء البلاد، من مناطق السياحة في بحر قزوينَ في الشمال، إلى المنشآت العسكرية السرية المطلة على مضيق هرمز في الجنوب. ومرةً أخرى، كان عملنا يركز على التنبؤ بالإمكانيات التنموية الإقليمية، ومن ثم على تصميم أنظمة التوليد الكهربائي والإرسال والتوزيع التي تزوِّد الطاقة المهمة المطلوبة لدعم النمو الصناعي والتجاري الذي من شأنه أنْ يُحقق هذه التنبؤات.
بين وقت وآخر، قمتُ بزيارة معظم مناطق إيران، مُتتَبِّعاً خطَّ القوافل القديم عبر الجبال الصحراوية، من كِرمان إلى بندر عباس، وتجوّلتُ في آثار بِرِسبولِس، المكان الأسطوري للملوك الأقدمين وإحدى عجائب العالم القديم. وقمتُ بالسياحة في معظم المواقع الجميلة في البلاد: شيراز، وأصفهان، ومدينة الخِيام الرائعة بالقرب من بِرِسبولِس، حيث تُوِّجَ الشاة. وبهذا عشقتُ تلك البلادَ وخليطَ أهلها عشقاً خالصاً.
ظاهرياً، كانت إيرانُ تبدو نموذجاً للتعاون المسيحي-الإسلامي. غير أني علمتُ أن المظاهر الهادئة قد تُخفي حقدا دفينا.
ذات مساءٍ عامَ 1977، عدتُ متأخراً إلى غرفتي في الفندق لأجد قُصاصة ورق مدسوسةً تحت الباب. فصُدمتُ إذ اكتشفتُ أنها موقَّعةً من قِبَلِ رجل اسمُه يامين. لم ألتق به من قبل، ولكنه كان قد وُصِفَ لي في إيجازٍ حكوميٍّ بأنه أصوليٌّ مشهورٌ ومُخرِّبٌ كبير. وفي القصاصة المكتوبة بلغة إنكليزية جميلة، كان يدعوني للاجتماع به في مطعم مُعيّن. غير أنه وضعَ تحذيراً: ألا أجيء إلا إنْ كنتُ مهتما في استكشاف جانبٍ من إيرانَ لم يره قطُّ معظمُ من هم “في منصبي”. تساءلتُ ما إذا كان يامين يعرف طبيعةَ منصبي الحقيقية، وتبيّن لي أنني مقدمٌ على مخاطرة كبيرة. بيدَ أني لم أستطع مقاومة الإغراء لمقابلة هذه الشخصية الغامضة.
أنزلتني سيارةُ الأجرة أمام بوابةٍ صغيرةٍ جداً في حائط عال – عالٍ إلى درجة أنني لم أستطع أنْ أرى العمارة المنتصبة خلفه. استقبلتني امرأةٌ إيرانيةٌ جميلةٌ وقادتني عبر ممرٍّ مضاءٍ بمصابيحِ زيتٍ مزخرفةٍ متدلِّيَةٍ من سقفٍ منخفض. في نهاية الممرِّ دخلنا غرفةً كانت متألِّقةً كأنها جوفُ قطعةٍ من الماس بهرت عيني بإشعاعها. وحين تكيّفتْ عيني مع الجوّ، رأيتُ الجدران مرصعةً بالصدف وأحجارٍ شبه كريمة. كان المطعمُ مُضاءً بشمعتين طويلتين ناتئتين من شمعدانين من البرنز منحوتين بدقة بالغة.
تقدم مني رجلٌ طويلٌ ذو شعر أسودَ، يلبسُ بذلةً كُحلية اللون، وصافحني، مُعرِّفاً نفسه بأنه يامين، وتكلّم بلهجةٍ تنمُّ على أنه إيرانيٌّ تعلم في مدرسة ذات نظام بريطانيّ. وقد هالني أنه لم يبدُ لي أصوليا مُخرِّبا. ثم وجّهني صوب مختلىً خاصٍّ، بعد أنْ مررنا بعدة موائد يتناولُ عليها بعضُ الأزواج طعامَهم بهدوء، وأكد لي أننا نستطيع أنْ نتكلم هناك بسرية تامة. أخذتُ انطباعا واضحاً أن هذا المطعم يُهيّئُ للمواعيد السرية؛ ولعلَّ موعدنا في تلك الليلة كان الوحيد غير الغرامي.
كان يامين ودودا جدا. ومن حديثنا معا، بدا واضحاً أنه يظنني مجرد مستشار اقتصاديٍّ، لا رجلاً ذا دوافع خفية. وقد شرح لي أنه اصطفاني لعلمه أنني كنت متطوعا في فرقة السلام، وأنني كنتُ أغتنم كل فرصةٍ ممكنة لمعرفة بلاده وللاختلاط بأهلها.
قال لي، “مقارنةً بمعظم من هم في مهنتك، أنت صغيرٌ جدا ولديك اهتمامٌ حقيقيٌّ بتاريخنا ومشاكلنا الحاضرة. إنك تمثل أملنا.”
شعرتُ بالارتياح بسبب هذا الأمر، والجوِّ الذي نحن فيه، وهيئةِ يامين، ووجودِ كثيرين غيرنا في المطعم. وكنتُ معتاداً على أناس يمنحونني صداقتَهم، مثل راسي في جاوة، وفِدِل في بنما، متقبِّلا ذلك باعتباره إطراءً وفرصة. كنتُ أعلمُ أنني، بسبب وقوعي في هوى الأماكن التي زرتُها، أختلفُ عن الأمريكيين الآخرين. وقد وجدتُ أن الناس يألفونك بسرعة إذا فتحتَ لثقافتهم عينيكَ وأذنيكَ وقلبَك.
سألني يامينُ إنْ كنتُ أعلم عن مشروع “الصحراء المُزهرة”،[ii] قائلا، “يعتقد الشاهُ أن صحارينا كانت يوما سهولا خصبةً وغاباتٍ خضراء. هذا، على الأقل، ما يزعمُه. في أثناء حكم الإسكندر الأكبر، حسب هذه القصة، كانت الجيوش الجرارةُ تزحف عبر هذه الأراضي، وتسوقُ معها الملايينَ من الأغنام. وقد التهمتْ هذه الحيواناتُ العشبَ برمته وكلَّ ما عداه من خضرة، فسبَّبَ اختفاءُ هذه النباتات جفافاً. وفي نهاية المطاف تحوّلت المنطقة بكاملها إلى صحراء. والآن، كلُّ ما علينا فعلُه، أو هكذا يقول الشاه، أنْ نزرع الملايين من الأشجار. بعد ذلك سوف تعود الأمطار سريعاً وتُزهرُ الصحراء مرةً أخرى. وفي هذه العملية، طبعاً، علينا أنْ ننفق ملايين الدولارات.” ثم ابتسم بلطفٍ وأضاف، “وسوف تجني أمثالُ شركتك أرباحاً طائلة.”
قلت، “أفهم أنك لا تؤمنُ بهذه النظرية.”
“الصحراءُ رمز. وتخضيرُها أبعدُ مدىً من الزراعة.”
كان عددٌ من النوادل يأتوننا بصَوانٍ من الطعام الإيراني مُقدَّماً بطريقةٍ جميلة. استأذن مني يامين، ثمّ أخذَ ينتقي تشكيلةً من مختلف الصواني قبل أنْ يعود إلى حديثنا.
“عندي سؤالٌ لك، يا سيد بيركنز، إن جاز لي أن أكون صريحا. ما الذي دمّر ثقافة أهل بلادكم الأصليين، أعني الهنود [الحمر]؟”
أجبته باعتقادي أنّ ثمة عوامل كثيرة، منها الطمعُ وتفوُّقُ السلاح.
“نعم، كلُّ هذا صحيح. ولكنْ، أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر، ألم يؤدِّ ذلك إلى تدمير البيئة؟” ومضى يُفسِّرُ أنه ما أنْ تُدمَّرَ الغاباتُ والحيواناتُ، كالجواميس، وينتقلَ الناسُ إلى المحمياتٍ، فلا مناصَ لأسس الثقافاتِ من الانهيار.”
“ألا ترى؟ إنّ الحالَ هو ذاتُه هنا. فالصحراءُ بيئتنا، ومشروعُ “الصحراء المُزهرة” يُهدِّدُ نسيجَنا [الاجتماعيَّ] كلَّه في الصميم. فكيف لنا أنْ نسمح به؟”
أخبرتُه أنني فهمتُ أنّ فكرةَ المشروع كلَّها جاءت من الشعب. فأجاب بضحكة ساخرة وقال إن الفكرة زُرِعت في ذهن الشاه من قِبَلِ حكومة الولايات المتحدة، وما الشاهُ إلا أُلعوبةٌ في يد تلك الحكومة.
ثم قال، “لا يقبلُ إيرانيٌّ أصيلٌ مثلَ هذا أبدا.” ثم شرع في حديثٍ مُطوّلٍ عن العلاقة ما بين أهله – البدو – والصحراء. وشدّد على حقيقة أنّ الكثرةَ من الإيرانيين يقضون عُطلهم في الصحراء، حيثُ يبتنون خياماً كبيرة تسعُ الأسرةَ جميعها، ويقضون فيها أسبوعاً أو أكثر.
“نحن – أعني شعبنا – جزءٌ من الصحراء. والشعبُ الذي يزعمُ الشاهُ حُكمَه بيده الحديدية ليس من الصحراء، حسب، بل نحن الصحراء بعينها.”
بعد ذلك قصَّ عليَّ قصصاً عن خبرته الشخصية في الصحراء. وحين انتهت أمسيتُنا، مشى معي إلى ذلك الباب الصغير في الحائط الكبير، حيث كانت سيارةُ الأجرةِ تنتظرني في الشارع. صافحني يامين وأبدى تقديره للوقت الذي قضيتُه معه، ذاكراً مرةً أخرى صغرَ سني وانفتاحي، وحقيقةَ أنّ تبوئي مثلَ هذا المنصبِ قد أعطاه أملاً للمستقبل.
قال، ولا يزالُ يُمسكُ يدي بيده، “أنا سعيدٌ جداً لقضاء هذا الوقتِ مع رجلٍ مثلك. أودُّ أن أطلبَ منك معروفاً آخر. لا أطلبُه استخفافا، بل لعلمي، بعد الوقت الذي قضيناه معا هذا المساء، أنه سيكون ذا معنىً لك. سوف تغنم كثيرا منه.”
“ما الذي أستطيعُ فعله لك؟”
“أودُّ أنْ أُقدِّمَكَ لصديق عزيز عليّ، رجلٍ يستطيعُ أنْ يُخبرَك الكثيرَ عن الشاهنشاه الذي يحكمنا. قد يُشكِّلُ ذلك صدمةً لك، لكنني أؤكد لك أنّ الاجتماع به يستحقُّ وقتَك.”
[i] William Shawcross, The Shah’s Last Ride: The Fate of an Ally (New York: Simon and Schuster, 1988). For more about the Shah’s rise to power, see H.D.S. Greenway, “The Iran Conspiracy,” New York Review of Books, September 23, 2003; Stephen Kinzer, All the Shah’s Men: An American Coup and the Roots of Middle East Terror (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons, Inc., 2003)
[ii] لقراءة المزيد حول يامين، ومشروع الصحراء المزهرة، وإيران، راجع:
John Perkins, Shapeshifting (Rocheter, VT: Destiny Books, 1997)
الفصل التاسع عشر
اعترافاتُ رجل تعرّضَ للتعذيب
بعد عدة أيام، أخذني يامينُ خارج طهران، عبر بلدةٍ غبراءَ ذاتِ أكواخ فقيرة، وطريق قديمة للجِمال أفضتْ بنا إلى الصحراء. كانت الشمسُ تغربُ خلف البلدة حين أوقف سيارته عند بعض أكواخ من اللَّبن والطين، تحفُّها أشجار النخيل.
قال يامينُ، “هذه واحةٌ قديمةٌ جدا، يعود تاريخُها إلى قرونٍ قبل ماركو بولو.” ثم تقدّم صوبَ أحد الأكواخ، واستأنف قوله، “الرجلُ في الداخل يحمل الدكتوراه من إحدى أهمِّ جامعاتكم. ولأسبابٍ سوف تتضحُ لك قريباً يجبُ أنْ أكتمَ عنك اسمَه. تستطيعُ أن تسميه (دُك).”
قرع البابَ الخشبيَّ، فجاءه ردٌّ مخنوق. دفع يامينُ البابَ وقادني إلى الداخل. كانت الحجرةُ من غير نوافذَ ومضاءةً بسراج زيتيٍّ موضوع على طاولةٍ قصيرةٍ في إحدى الزوايا. حين تكيّفتْ عيناي مع الجوِّ، رأيتُ أنّ الأرضيةَ الترابيةَ مغطّاةٌ بسجادٍ عجميّ. ثم أخذتْ تظهرُ في العتمة هيئةُ رجل يجلسُ أمام السراج بطريقةٍ أخفتْ معالمه. استطعتُ أن أرى أنه ملفوفٌ ببعض البطانياتٍ، ويلبسُ شيئاً حول رأسه، ويجلسُ في كرسيٍّ متحرِّكٍ كان، هو والطاولة، كلَّ ما في الغرفةِ من أثاث. أشار لي يامينُ أنْ أجلسَ على السجادة، ومضى يحتضنُ الرجلَ بلطف، ويهمسُ بعض كلماتٍ في أذنه. ثم عاد ليجلس إلى جانبي.
قالَ يامين، “أخبرتُك، سيِّدي، عن السيد بيركنز. نحن كلانا نتشرفُ بأخذِ هذه الفرصةِ لزيارتك.”
“أهلا بك، يا سيد بيركنز.” كان الصوتُ خفيضاً خشناً، ولا يكادُ المرءُ يتبيّنُ فيه أية لهجة.” وجدتُني أنحني إلى الأمام في الفراغ الضيِّقِ بيننا حين قال، “ترى أمامك رجلا مُحطَّما. لم أكنْ هكذا من قبل. كنتُ ذاتَ يومٍ مثلك قويا. كنتُ مستشاراً للشاه، قريباً منه، وموضعَ ثقته.” ثم سكتَ طويلا قبل أن يقول، “شاهنشاه، ملك الملوك.” كانت نبرتُه، على ما ظننتُ، أكثرَ حزنا منها غضبا.
“أنا، شخصياً، عرفتُ الكثيرين من قادة العالم. آيزِنهَوَر، نِكْسُنْ، ديغول. كانوا يثقون بي للمساعدة في قيادة هذه البلاد إلى المعسكر الرأسمالي. وكان الشاهُ أيضاً يثقُ بي.” ثمّ أخرج صوتاً كأنه سعال، لكني اعتقدتُ أنه صوتُ ضحكة. “كنتُ من جانبي أثقُ بالشاه. صدّقتُ كلامَه الخطابي. كنتُ واثقاً من أنّ إيرانَ ستقودُ العالمَ الإسلاميَّ إلى عصر جديد وأنّ بلاد فارسَ ستفي بوعدها. بدا ذلك مصيرنا – مصيرَ الشاه، مصيري، مصيرَنا كلِّنا، نحن الذين كنا نحمل الرسالة التي ظننا أننا وُلدنا للوفاء بها.”
تحركتْ كتلةُ السجاد إذ انعطف الكرسيُّ المتحرِّكُ قليلا، مُصدراً صوتَ أزيز، فاستطعتُ أن أرى الشكل الجانبيَّ لوجه ذلك الرجل ولحيتَه الكثة. ثم ارتعدتُ كاتما لهاث الدهشة – لم يكنْ للرجل أنف.
“ليس بالمنظر الجميل. أهذا ما تقولُه، يا سيد بيركنز؟ مؤسف جداً ألا تراه في الضوء الساطع. إنه حقاً مُنفِّر.” مرة أخرى كان هناك صوتُ ضحكة مخنوقة. “لكنني متأكِّدٌ من أنك تقدِّرُ أنّ عليّ ألا أبوحَ باسمي. من المؤكَّد أنك تستطيعُ أن تعرف من أنا إنْ أنتَ حاولت، بالرغم من أنك قد تكتشفُ أنني ميت. فأنا، رسميا، غير موجود. لكنني واثقٌ منْ أنك لن تحاول. فالأفضلُ لك ولأسرتك ألا تعرفَ مَن أنا، لأنّ ذراعَ الشاه والسافاك طويلة.”
أزّ الكرسيُّ وعاد إلى موضعه الأول، فشعرتُ بارتياح، وكأنّ عدمَ رؤيةِ جانبِ الرجل يمحو بطريقةٍ ما ذلك العنفَ الذي مورس عليه. في ذلك الوقت، لم أكن أعلمُ بهذه العادة في الثقافات الإسلامية. فمن يجلبْ الخزيَ والعارَ للمجتمع أو لقادته، يُجدعْ أنفُه تعزيرا. فبهذه الطريقة يحملُ المتهمُ وصمةً مدى حياته – وهو ما أفشاهُ وجهُ هذا الرجل بوضوح.
“أنا مُتأكِّدٌ، يا سيّد بيركنز، من أنك تتساءلُ لماذا دعوناك إلى هنا.” وبدون انتظار جوابي، استأنف الرجل المُقعَدُ قائلا، “هذا الرجلُ الذي يُسمي نفسَه ملكَ الملوكِ إنما هو حقيقةً من فعل الشيطان. أُقصيَ أبوه عن العرش من قِبَلِ وكالة الاستخبار المركزية – وللأسف الشديد – بمساعدتي، لأنه اتُهم بالتعاون مع النازيين. بعد ذلك كانت نكبةُ مُصدَّق. والشاهُ اليوم في طريقه إلى بذِّ هتلر في ميدان الشر. وهو يفعل ذلك بمعرفة تامّةٍ ودعم من لدنْ حكومتكم.”
سألتُ، “لماذا؟”
“لسببٍ بسيط. إنه حليفكم الحقيقيُّ الوحيدُ في الشرق الأوسط؛ والعالمُ الصناعيُّ يدور حول محور النفط، أي الشرق الأوسط. آه، عندكم إسرائيلُ، طبعا. لكنها في الواقع عالةٌ عليكم، وليست ذخرا. كذلك ليس فيها نفط. وعلى سياسييكم أن يتزلفوا للصوتَ اليهوديَّ، أن يستعينوا بأموالهم لتمويل حملاتهم [الانتخابية]. لذلك، أخشى أنْ تكونوا متورطين بإسرائيل. أما إيرانَ فهي المفتاح. شركاتُكم النفطية – وهي أقوى من اليهود – تحتاجُ إلينا. أنتم تحتاجون إلى شاهنا – أو لعلكم تظنون ذلك، تماما كما حسبتم أنكم في حاجةٍ إلى القادة الفاسدين في فيتنامَ الجنوبية.”
“هل تقترحُ أمراً آخر؟ أتعادلُ إيرانُ فيتنام؟”
“قد تكونَ أسوأ بكثير. أعني أنّ الشاهَ لن يُعمَّرَ طويلا. فالعالمُ الإسلاميُّ يمقتُه. ليس العرب وحدهم، بل المسلمون في كلِّ مكان – إندونيسيا، الولايات المتحدة، ولكنْ، وبصورة خاصّةٍ هنا تحديدا، شعبه الفارسي.”صدر صوتٌ قويّ، فتبيّن لي أنه من ضربه جانب الكرسيّ. “إنه لشرِّير! نحن الفُرسَ نكرهُه.” ثم ساد صمتٌ لم أسمع فيه سوى نَفَسِهِ الثقيل، وكأنما أنهكه الإجهاد.
قال يامين وهو يُحدِّثني بصوتٍ خفيض هادئ، “إن (دُك) قريب من علماء الدين. هناك تيارٌ خفيٌّ قويٌّ يسري بين الأجنحة الدينية هنا، وهو يعمُّ معظم بلادنا، باستثناء حفنة من الناس تنتمي للطبقات التجارية التي تنتفع من رأسمالية الشاه.”
فقلتُ له، “لا أشكُّ في ما قلت. لكنّ عليّ القولَ إنني خلال أربع زياراتٍ لي هنا لم أرَ شيئاً من هذا. فكلُّ من تحدّثتُ معه بدا لي مُحبّاً للشاه، ومُُقدِّراً للقفزة الاقتصادية.”
أجابني يامين، “لكنك لا تتكلمُ الفارسية. لا تسمعُ إلا ما يقولُه أولئك المنتفعون. إنّ من يتعلمون في الولايات المتحدة أو في إنكلترا، ينتهي بهم الأمر ليعملوا في خدمة الشاه. أما (دُك) فهو استثناء – الآن.”
سكت قليلا، ليتفكّرَ، على ما يبدو، بكلماته التالية. “وصحافتكم، أيضاً، على المنوال ذاته. تتكلم مع القلة الذين هم جماعته وبطانته. صحافتُكم في معظمها، بطبيعة الحال، محكومةٌ أيضاً للنفط. لذلك يسمعون ما يودون سماعه ويكتبون ما يودُّ المعلنون قراءته.”
“لماذا نُسمعُكَ كلّ هذا، يا سيد بيركنز؟” كان صوتُ (دُك) أشدّ خشونةً عنه من ذي قبل، وكأنّ ما بذل في كلامه من عواطفَ وجهدٍ استنزفَ الطاقةَ الضئيلةَ التي لملمها الرجلُ لهذا الاجتماع. “لأننا نريد أنْ نُقنعك بأنْ تحثَّ شركتكَ على الابتعاد عن بلادنا. نريد أنْ نُحذِّركَ بأنّ ظنكم أنكم ستكسبون مالا وفيراً هنا إنما هو محضُ وهم. فهذه الحكومة لن تدوم.” مرة أخرى سمعتُ صوتَ يده تلطم الكرسيّ. “وحين تذهبُ، فالحكومة التي تحلُّ محلها لن تتعاطف معكم ولا مع أمثالكم.”
“تعني أننا لن نقبضَ مستحقاتِنا؟”
ألمّت بـ(دُك) نوبةٌ من السعال، فذهب إليه يامينُ ودلّك له ظهره. حتى إذا ذهبَ عنه السعال، قال له يامينُ شيئاً بالفارسيةِ ثم عاد إلى مجلسه.
قال يامينُ لي، “يجبُ أن نُنهي هذا الحديث. جواباً على سؤالك: بلى، لن تقبضوا مستحقاتكم. سوف تُنفِّذون العملَ كله، وحين يحلُّ موعد استلام أتعابكم، يكونُ الشاهُ قد ولّى.”
في طريق عودتنا، سألتُ يامينَ لماذا يريدُ هو و(دُك) أن يقيا شركةَ مين من النكبة المالية التي يتوقعان.
“سنَسعَدُ أن نرى شركتكم وقد أفلست. لكننا نفضِّلُ لو نراكم تُغادرون إيران. فمغادرةُ شركةٍ واحدةٍ كشركتكم يُمكنُ أن تكونَ الخطوةَ الأولى لهذا الاتجاه. هذا ما نأمله. كما ترى، نحنُ لا نريد حمّام دم هنا. ولكنّ على الشاه أنْ يولّي عنا، وسوف نفعل ما بوسعنا لتيسير الأمر. لذلك ندعو الله تعالى أنك ستُقنع السيد زَمْبُتِّي على المغادرة ما دام هناك مُتَّسعٌ من وقت.”
“لماذا أنا؟”
“حين تكلّمنا عن مشروع الصحراء المُزهرة في عَشائنا معا، تبيَّنَ لي أنك منفتحٌ على الحقيقة. كذلك تبيَّنَ لي أنّ معلوماتنا عنك صحيحة – أنتَ رجلٌ بين عالَمين، رجلٌ يقفُ في الوسط.”
كلامُه جعلني أعجبُ ما الذي عرفه عني. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:11 am | |
| الفصل العشرونسقوط ملكذات مساءٍ من عام 1979، بينما كنتُ أجلس وحدي في الحانة الفخمة المتصلة بردهة فندق إنتركُنتننتَل في طهران، شعرتُ بمن يُربِّتُ على كتفي. التفتُّ، فرأيتُ رجلا إيرانيا قويّ البنيةِ يرتدي بذلة رجال الأعمال.“جون بيركنز! ألا تذكُرني؟”كان لاعبُ كرة القدم سابقا قد ازداد وزناً، لكنّ صوتَه لا يخفى. إنه فرهد، صديقي القديم في مِدِلْبِري، الذي لم أره منذ نيِّفٍ وعشر سنين. احتضنا بعضنا بعضا وجلسنا سويا. وسرعان ما تبيّن لي بوضوح أنه كان يعرف كلّ شيءٍ عني وعن عملي. وكان واضحاً أيضاً أنه لم يُردْ أنْ يُطلعني كثيراً على طبيعةِ عمله.حين طلبنا الكأس الثاني من الجعة، قال لي، “فلندخلْ في الموضوع. أنا مسافرٌ غدا إلى روما، حيث يعيش والداي. معي لك تذكرةٌ على الرحلة ذاتها. الأمورُ هنا تنهار. عليك أنْ تُغادر البلد.” ثم سلّمني تذكرة سفر بالطائرة.لم أشكّ في ما قال للحظة واحدة.في روما، أخذنا عشاءنا مع والدَيْ فرهد. عبّرَ والدُه، ذلك الجنرالُ الإيرانيُّ المتقاعدُ الذي خطا ذات يوم ليتلقى بنفسه رصاصةً أُطلقتْ على الشاه لاغتياله، عن خيبةِ أملِه برئيسه السابق. قال إن الشاهَ، في السنوات القليلة الماضية، أظهر لونَه الحقيقيّ غطرسةً وجشعا. وحول البغضاء التي تجتاحُ الشرقَ الأوسط، لام الجنرالُ سياسةَ الولايات المتحدة – خاصةً في دعمها إسرائيل، والقادةَ الفاسدين، والحكوماتِ المستبدة. كذلك تنبّأ أن يسقط الشاه خلال أشهر معدودات.قال، “أتعلم أنكم بذرتم بذور هذا العصيان في بداية الخمسينات حين قلبتم حكومةَ مُصدَّق؟ ظننتم يومها – كما ظننتُ أنا أيضاً – أنّ ذلك براعةٌ منكم. واليوم، هاهي ذي تعود لتُلاحقكم – وتُلاحقنا.”[i]ذُهلتُ لما قال. فقد سمعتُ شيئاً شبيها من يامين و(دُك). أما أن يخرجُ الكلامُ من هذا الرجل، فأمرٌ ذو أهميةٍ خاصة. في هذا الوقت، كان الجميعُ على علم بوجود حركةٍ سريّةٍ إسلاميةٍ أصولية. بيد أننا أقنعنا أنفسَنا أنّ الشاه كان يتمتّعُ بشعبيةٍ طاغيةٍ بين الأغلبية من شعبه، ولهذا كان منيعاً سياسيا. أما الجنرالُ فكان متمسِّكاً برأيه.قال بِوَقار، “تذكَّرْ كلماتي؛ سقوطُ الشاه سيكونُ البداية. إنه مراجعةٌ لمسيرةِ العالم الإسلامي. غضبُنا يغلي تحت الرمال منذ زمنٍ طويل. وقريباً سوف ينفجر.”في أثناء العَشاءِ سمعتُ الكثير عن آية الله روح الله الخميني. وقد أوضح فرهد وأبوه أنهما لا يؤيدان شيعيتَه المتعصّبة، ولكنّ من الواضح أنهما كانا مُعجَبَيْنِ بهجومِه على الشاه. قالا لي إن عالِمََ الدين هذا، الذي يحملُ اسم “روح الله”، وُلد عام 1902 في قريةٍ بالقرب من طهران لأسرة من علماء الشيعة الملتزمين.تعمّد الخمينيُّ ألا يُقحمَ نفسَه في الصراع ما بين مُصدَّق والشاه في أوائل خمسينات القرن العشرين. لكنه كان مناوئاً للشاه بشكل فعال في الستينات، منتقدا هذا الحاكم بعنادٍ نُفي بسببه إلى تركيا، ثم إلى النجف، المدينة المقدّسة لدى الشيعة في العراق، حيث أصبح قائدَ المعارضةِ المعترفَ به. ومن هناك كان يُرسل الكتبَ، والمقالاتِ، والرسائلَ المسجلةَ على أشرطةٍ صوتية، يحثُّ فيها الإيرانيين على الانتفاض لطرد الشاه وإقامة دولة دينية.بعد يومين من عَشائي مع فرهد وأبويه، جاءت الأنباءُ من إيرانَ بوقوع تفجيراتٍ وأعمال شغب. لقد بدأ آيةُ الله الخمينيُّ وعلماءُ الدين هجومَهم الذي أدى فيما بعدُ بوقتٍ قصيرٍ إلى استلامهم السلطة. بعد ذلك تسارعت الأحداثُ. فقد انفجر الغضبُ الذي وصفه والد فرهد على شكل انتفاضة إسلامية عنيفة، هرب على إثرها الشاهُ إلى مصر في كانون الثاني 1979، وحين شُخِّص بالسرطان ذهبَ إلى مستشفى في نيويورك.طالبَ أتباعُ آيةِ الله الخمينيِّ بعودته. وفي تشرين الثاني 1979، استولت جماهيرُ إسلاميةٌ عنيفةٌ على سفارة الولايات المتحدة في طهرانَ وألقت القبض على اثنين وخمسين أمريكيا أُخِذوا رهائن لمدة دامت 444 يوما.[ii] حاول الرئيسُ كارتر أن يُفاوضَ على إطلاق سراح الرهائن. وحين فشل، أذِنَ لحملة إنقاذٍ عسكرية خرجتْ إلى مهمتها في نيسان 1980. فتمخضت عن مصيبةٍ، وكانت في ما بعدُ المطرقةَ التي أنفذت المسمارَ الأخير في نعش رئاسة كارتر.ضغطتْ مجموعاتٌ تجاريةٌ وسياسيةٌ أمريكيةٌ ضغطاً هائلاً أجبر الشاه المصابَ بالسرطان على مغادرة الولاياتِ المتحدة. ومنذ مغادرته طهران، كان يواجه وقتاً عصيباً وهو يبحثُ عن ملاذ؛ فلقد تخلّى عنه أصدقاؤه القدامى جميعا. بيد أنّ الجنرال توريجُس أبدى تعاطفه المعهود وعرض على الشاه اللجوءَ إلى بنما، بالرغم من كرهه الشخصيِّ لسياساته. وصل الشاهُ واستلم ملاذه في المنتجع ذاته حيث جرت المفاوضاتُ حديثاً حول معاهدة قناة بنما الجديدة.طالب علماءُ الدين بعودة الشاه مقابلَ الإفراج عن رهائن السفارة. فاتَّهَم معارضو معاهدة القناة في واشنطن الجنرالَ توريجُس بالفساد والتواطؤ مع الشاه، وبتعريض أرواح المواطنين الأمريكيين للخطر. كذلك طالبوا بردّ الشاه إلى آية الله الخميني. ومن السخرية أنّ الكثرةَ من هؤلاء الناس أنفسهم، حتى ما قبل بضعة أسابيع، كانوا أشدَّ الناس دعماً للشاه. وفي نهاية المُطاف، عاد إلى مصر ملكُ الملوك الذي كان يوماً من المتكبِّرين ليقضيَ فيها نحبَه بالسرطان.لقد تحققتْ نبوءة (دُك). فقد خسرتْ شركةُ مين ملايين الدولارات في إيران، كما خسر مثلها الكثرةُ من منافسينا. وخسر كارتر انتخابَه لفترةٍ رئاسيةٍ ثانية. وحلّتْ في واشنطن إدارةُ ريغَن-بوش مطلقةً الوعود بتحرير الرهائن، والإطاحة بعلماء الدين، وإعادة الديمقراطية إلى إيران، وتصحيح وضع قناة بنما.كانت الدروسُ بالنسبة إليّ لا تقبلُ الدحض. فقد بيّنت إيرانُ، بما لا يترك موضعاً للشك، أنّ الولاياتِ المتحدةَ كانت دولةً تعملُ على التنكُّر لحقيقةِ دورنا في العالم. فليس مفهوماً أننا كنا مُضلَّلين حول الشاه وتيّار الكراهية المندفع ضده. حتى نحن العاملين في شركات مثل مين، التي كان لها مكاتبُ وموظفون في تلك البلاد، لم نكنْ نعلم. كنتُ واثقاً من أنّ وكالة الأمن القوميِّ ووكالةَ الاستخبار المركزية كانتا تريان ما كان واضحا لتوريجُس، حتى حين اجتمعتُ به عام 1972. لكنّ استخباراتِنا تعمّدت تشجيعنا جميعا على إغلاق أعيننا.[i] لمعرفة المزيد عن صعود الشاه إلى السلطة، راجع:H.D.S. Greenway, “The Iran Conspiracy,” New York Review of Books, September 23, 2003; Stephen Kinzer, All the Shah’s Men: An American Coup and the Roots of Middle East Terror (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons, Inc., 2003) [ii] See TIME magazine cover articles on Ayatollah Ruhollah Khimeini, February 12, 1979, January 7, 1980, and August 17, 1987. |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:11 am | |
| الفصل الحادي والعشرون
كولُمبيا: حجر الزاوية في أمريكا اللاتينية
بينما قدّمتْ السعوديةُ، وإيرانُ، وبنما دراساتٍ رائعةً ومزعجة، فقد كانت استثناءً للقاعدة. ذلك أنه بسبب ما لدى الدولتين الأوليين من مخزونٍ نفطيٍّ، وبسبب وجود القناة في الثالثة، فإنها لم تلائم النموذج المتبع. لكنّ وضع كولُمبيا كان نموذجيا، وكانت شركةُ مين الشركةَ الهندسيةَ الرئيسية والمُصممة لمشروع كهرومائيٍّ ضخم هناك.
أخبرني ذات يوم أستاذٌ جامعيٌّ كولُمبيٌّ يكتبُ كتاباً عن تاريخ العلاقات الأمريكية الشاملة أنّ تِدي روزفلت كان مُقدِّراً لأهمية بلاده. وقد رُوي عن هذا الرئيس الأمريكيّ، والمتطوّع السابق في وحدة “الفرسان الاشداء”*، أنه، إذ كان يُشير إلى خريطةٍ أمامه، وصف كولُمبيا بأنها “حجر الزاوية في قوس جنوب أمريكا.” لم أتأكدْ قطُّ من هذه الرواية. بيد أنها حقيقةٌ مؤكّدةٌ أنّ كولُمبيا، إذ تتربَّعُ في أعلى القارة، تبدو أنها تجمعُ بقية القارة معا. فهي تصلُ جميع البلاد الجنوبية ببرزخ بنما، فبأمريكا الوسطى والشمالية كلتيهما.
سواءٌ وَصفَ روزفلت كولُمبيا بهذه الكلمات أم لا، فقد كان واحدا من رؤساءَ كثيرين أدركوا وضعها المحوري. فلقرنين من الزمن تقريباً، تنظر الولاياتُ المتحدةُ لكولُمبيا باعتبارها حجر زاوية – أو، ربما بتعبير أدق، باعتبارها بوابة التجارة والسياسة معاً إلى نصف الكرة الجنوبي.
لهذا البلدِ أيضاً جمالٌ طبيعيٌّ أخّاذ: شواطئُ خلابةُ المنظر محفوفةٌ بالنخيل على ساحلَيْ الأطلسيِّ والهادئ، وجبالٌ مهيبةٌ، وسهولٌ معشوشبةٌ تنافسُ السهولَ الكبرى في منطقة الغرب الأوسط في أمريكا الشمالية، وغاباتٌ مطيرةٌ واسعةٌ وغنيةٌ في تنوعها الحيوي. ولسكانها أيضا صفةٌ خاصّةٌ إذ يجمعون المُميِّزاتِ الجسديةَ والثقافيةَ والفنيةَ للخلفيات العرقية المختلفة، من التايرونيين المحليين إلى الآتين من أفريقيا وآسيا وأوربا والشرق الأوسط.
على الصعيد التاريخيّ، قامت كولُمبيا بدور حاسمٍ في تاريخ أمريكا اللاتينية وثقافتها. وفي الحقبة الاستعمارية، كانت مقرّ نائب الملك المنتدب لجميع المناطق الإسبانية من شماليّ البيرو إلى جنوبيّ كوستا ريكا. وكانت أساطيلُ سفنِ الذهبِ الشراعيةِ الضخمةِ تُبحرُ من مدينتها الساحلية، قرطاجنّة، لتنقل الكنوز التي لا تُقدّرُ بثمن من أقصى الجنوب في تشيلي والأرجنتين إلى موانئ إسبانيا. وفي كولُمبيا أيضا وقعت الأعمالُ الحاسمةُ لحروب التحرير. فقد انتصرت قوات سِيمون بوليفار، مثلا، على الملكيين الإسبان في معركة بوياكا المحورية عام 1819.
في العصر الحديث، اشتُهرت كولُمبيا بكونها وطنَ بعض ألمع الكُتّاب والفنانين والفلاسفة وغيرهم من المُفكِّرين في أمريكا اللاتينية، وكذلك بحكوماتها الحصيفةِ ماليا والديمقراطيةِ نسبيا. وقد أصبحت نموذجا للرئيس كندي في برامجه لبناء الأمة في جميع أرجاء أمريكا اللاتينية. وعلى عكس غواتيمالا، لم تتلطّخْ سمعةُ حكومتِها بكونِها من صنع وكالة الاستخبار المركزية؛ وعلى عكس نيكاراغوا، كانت حكومتُها منتخبة، وهو ما مثّل بديلاً للمستبدين اليمينيين وللشيوعيين. وأخيراً، على عكس دول كثيرة أخرى، كالبرازيل والأرجنتين القويتين، لم تحمل كولُمبيا ريبةً تجاه الولايات المتحدة. وبالرغم من شائنة عصابات المخدِّرات لديها، استمرت صورة كولُمبيا كحليفٍ يُعتمَدُ عليه.[i]
بيد أنّ أمجادَ التاريخ الكولُمبي كانت تُقابلُها الكراهيةُ والعنف. ذلك أنّ مقرَّ نائب الملك الإسباني كان أيضاً مركزا لمحاكم التفتيش. فقد شُيِّدت القلاعُ الضخمةُ والمزارعُ والمدنُ على عظام الهنود [الحمر] والعبيد الأفارقة. أما الكنوزُ التي كانت تُحمَلُ على سفن الذهب الشراعية الضخمة، والتماثيلُ المُقدّسةُ والتحفُ الفنيةُ التي كانت تُسيَّحُ لتسهيل نقلها، فكانت تُنتزَعُ انتزاعاً من قلوب القدماء. والثقافاتُ الأثيرةُ نفسُها دمَّرتْها سيوفُ الفاتحين وأمراضُهم. وحديثا، تولّدَ عن انتخاباتٍ رئاسيةٍ مثيرة للجدل عام 1945 انقسامٌ عميقٌ بين الأحزاب السياسية أدى إلى “أحداث العنف” (1948-1957)،*التي قُتل فيها أكثر من مئتي ألف نسمة.
بالرغم من تلك النزاعات والسخافات، كانت واشنطن ومركزُ وول ستريت الماليُّ ينظران إلى كولُمبيا كعامل جوهريٍّ في تعزيز المصالح السياسية والتجارية في عموم أمريكا. ويعود هذا إلى عدة عوامل منها، بالإضافة إلى موقع كولُمبيا الجغرافيِّ الحاسم، أنّ القادة في نصف الكرة ينظرون إلى بوغوتا [عاصمة كولُمبيا] كمصدر للإلهام والريادة، وأن هذا البلد مصدرٌ لمنتجاتٍ كثيرة تُباع في الولايات المتحدة – كالقهوة، والموز، والأنسجة، والزمرّد، والأزهار، والنفط، والكوكائين – وسوقٌ أيضاً لبضاعتنا وخدماتنا.
كانت إحدى أهمّ الخدمات التي بعناها لكولُمبيا خلال نهايات القرن العشرين خبراتنا الهندسية والإنشائية. وقد كانت كولُمبيا نموذجاً لأماكنَ كثيرةٍ عملتُ فيها. فقد كان سهلا نسبياً أن يُبرهن المرءُ أن باستطاعة هذا البلد أن يتحمّل مقاديرَ كبيرةً من الدين ثم يُسددها من المنافع المتحققة من المشاريع نفسها ومن موارد البلد الطبيعية. وهكذا، فإن الاستثمارات الضخمة في الطاقة الكهربائية، والطرق السريعة، والاتصالات من شأنها أنْ تساعد كولُمبيا في فتح مواردها الغازية والنفطية ومناطق الأمازون غير المنمّاة التابعة لها. ومن شأنِ هذه المشاريع أنْ تُنتجَ الدخلََ اللازمَ لسداد القروض والفوائد.
كانت هذه هي النظرية. غير أنّ الحقيقةَ المتماشيةَ مع نيَّتنا الحقيقية حول العالم كانت إخضاعَ بوغوتا في سبيل تعزيز الإمبراطورية العالمية. وكما هو الحالُ في أماكن عديدة، كانت وظيفتي أنْ أُقدِّمَ الحجة لقروض ضخمة جدا. وإذ لم تنتفعْ كولُمبيا بوجود واحد مثل توريجُس، فقد شعرتُ أنّ عليّ أنْ أضع تنبؤاتٍ مبالغاً بها في الاقتصاد والأحمال الكهربائية.
باستثناء نوباتٍ من الشعور بالذنب كانت تنتابني بين الحين والحين، أصبحتْ كولُمبيا ملاذا شخصياً لي. وقد قضينا، آنْ وأنا، شهرين هناك في وقتٍ مبكر من سبعينات القرن العشرين. بل إني دفعتُ دفعةً أولى لمزرعة قهوةٍ صغيرة في الجبال فوق الساحل الكاريبي. أعتقد أنّ الوقت الذي قضيناه معاً كان أفضلَ ما فعلنا لمداواة الجروح التي سببناها أحدنا للآخر خلال السنوات الماضية. لكنّ تلك الجروح في نهاية المطاف تعمقت أكثر من أنْ تُحتمل. ولم أتعرّفْ جيداً على تلك البلاد إلا بعد أنْ تداعى زواجُنا.
خلال سبعينات القرن العشرين، مُنحتْ شركة مين عددا من العقود لتطوير عدة مشاريع بنية تحتية، تتضمّنُ شبكةً للمرافق الكهرومائية وأنظمةَ توزيع لنقل الكهرباء من أعماق الأدغال إلى المدن في أعالي الجبال. خُصِّصَ لي مكتبٌ في مدينة بَرَنْكْوِلاّ الساحلية، وحدث في العام 1977 هناك أنني التقيتُ بامرأةٍ كولُمبية جميلةٍ أصبحت عاملاً قوياً في تغيير مجرى حياتي.
كانت بولا ذاتَ شعرٍ أشقرَ طويلٍ وعينين خضراوين ساحرتين – وهو ما لا يتوقعُه معظمُ الأجانب لدى امرأة كولُمبية. كان أبوها وأمُّها قد هاجرا من شمال إيطاليا، والتزاماً بإرثها أصبحت مصممة أزياء. لكنها تقدمت خطوة إلى الأمام إذ أنشأت مصنعاً صغيراً كان يتحوّلُ فيه إبداعُها إلى ملابس تبيعُها في متاجر الطبقة العليا في البلاد، وكذلك في بنما وفنزويلا. كانت امرأةً مُفعمةً بالمحبة، ساعدتني في التغلب على بعض الصدمات الشخصية من جرّاء زواجي المتداعي، وفي البدء في معالجة بعض مواقفي من النساء، وهو ما أثر بي بصورة سلبية جدا. كذلك أرشدتني كثيرا بالنسبة إلى نتائج السلوك الذي أسلكه في وظيفتي.
كما قلتُ سابقاً، تتألّفُ الحياةُ من سلسلة من المصادفات التي لا نملك لها ضابطا. من هذه المصادفات في حياتي أنني نشأتُ ابناً لأبٍ يُعلِّمُ في مدرسة إعدادية للذكور في نيوهامبشَيَر الريفية. ثم قابلتُ آن وعمّها فرانك، الذي اشترك في حرب فيتنام، وكذلك آينر غريف. غير أنه حين تأتينا هذه المصادفات تكون أمامنا الخيارات. والذي يصنع الفرق يكمنُ في استجابتنا لهذه المصادفات وتصرفنا إزاءها. والمثلُ على ذلك أن تفوُّقي في المدرسة، وزواجي من آن، وانضمامي إلى فرقة السلام، واختياري أن أصبح قاتلا اقتصاديا – كلُّ هذه القرارات أوصلتني إلى حيث أنا في الحياة.
كانت بولا مصادفة أخرى. وكان لتأثيرها أنْ يقودني إلى التصرف بما غيّر مجرى حياتي. فإلى أنْ التقيتٌُ بها، كنتُ ماضياً قُدُما مع ذلك النظام. غالباً ما وجدتني أتساءل عما أفعل، وكان أحيانا ينتابني شعور بالذنب تجاهه، غير أني كنت دائماً أكتشفُ وسيلةً لتبرير بقائي. لعل بولا صادفتني في الوقت المناسب. ولعلّ من المحتمل أنني كنت سأُقدِمُ على تلك الاندفاعة على أي حال، وأنّ تجاربي في السعودية وإيران وبنما كانت ستدفعُني إلى العمل. لكنني كنتُ واثقاً من أنه حتى حين كانت امرأةٌ، أعني كلودين، فعّالةً في إقناعي أن أنضمَّ إلى صفوف القتلة الاقتصاديين، فإن امرأةً أخرى، هي بولا، كانت الحافز الذي كنتُ في حاجةٍ إليه في ذلك الوقت. لقد أقنعتني أن أغوص في أعماق نفسي لأرى أنني لن أكون سعيداً أبداً ما دمتُ أُمارسُ ذلك الدور.
الفصل الثاني والعشرون *** |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:13 am | |
| الفصل الثالث والعشرون
ملخّص السيرة الخادع
حين كنتُ في كولُمبيا جاءنا خبرُ تقاعد جيك دوبر كرئيس لشركة مين. وكما كان متوقعاً، قام رئيسُ مجلس الإدارة والمديرُ التنفيذيُّ الأعلى، مَك هول، بتعيين برونو خلفاً لدوبر. كانت خطوطُ الهاتف بين بوسطن وبَرانكِلاّ مشغولة بشكل جنوني. وإذ كنتُ واحداً من أكثر المقربين لبرونو والحائزين على ثقته، توقع الجميعُ لي أيضا أن أنال ترقية.
كانت هذه التغييراتُ والإشاعاتُ حوافزَ إضافيةً لي لمراجعة وضعي الخاص. وبينما كنتُ لا أزالُ في كولُمبيا، اتّبعتُ نصيحةَ بولا بقراءة النص الإسباني لملخص سيرتي. ولقد صدمتني. حين عدتُ إلى بوسطن، أخرجتُ الأصل الإنكليزيَّ ونسخة شهر تشرين الثاني 1978 من مينلاينز، مجلة الشركة؛ وكان في هذا العدد ذكرٌ لي في مقالة بعنوان “المختصون يُقدِّمون لعملاء مين خدماتٍ جديدة”. (ص 157 و158.)
كنتُ ذات يوم فخوراً جداً بتلك السيرة وتلك المقالة. أما الآن، حين رأيتهما كما فعلتْ بولا، شعرتُ بغضب عارم واكتئاب. فقد انطوتْ مادةُ هاتين الوثيقتين على خداع، إن لم يكن على أكاذيب. وكانت هاتان الوثيقتان تحملان أهميةً أعمقَ، وحقيقةً تعكسُ أزماننا وتصلُ إلى صميم مسيرتنا الحالية نحو الإمبراطورية العالمية: لقد لخصتا مخططا محسوباً بحيث يُقدِّمُ مظاهر ويُخفي الحقيقة الكامنةَ وراءها. وبطريقةٍ غريبةٍ، كانتا ترمزان إلى قصة حياتي: طبقة لامعة خارجية تُغطي سطحاً خشنا.
وبطبيعة الحال، لم يُسعدني كثيراً أنْ أعرفَ أنّ عليّ أن أتحمّلَ كثيراً من المسؤولية لما تضمنه ملخّصُ سيرتي. فحسب الإجراءات العملية المتبعة، كان مطلوبا مني أن أُحدِّثَ بصورةٍ دائمةٍٍ ملخصَ السيرةِ الأساسيَّ وملفاً يحتوي على معلومات احتياطية ذات صلة عن العملاء الذين يتلقون خدماتنا ونوعَ العمل المُنجَز. فلو أن شخصاً تسويقياً أو مدير مشروع أراد أنْ يُضمِّنني في عرض ما أو أن يستخدم أوراق اعتمادي بطريقة أخرى، فبإمكانه استعمالُ هذه المعطيات الأساسية بطريقة تعزز حاجاته الخاصة.
مَثَلُ ذلك أنه قد يختارُ ذلك الشخصُ أنْ يُلقي الضوء على خبرتي في الشرق الأوسط، أو في تقديمه عرضاً أمام البنك الدولي ومنابر أخرى متعددة الجنسية. عندئذٍ، يُفترض به أنْ يحصل على موافقتي قبل نشر الملخّص المُراجَع. لكنْ، لما كنتُ أسافرُ كثيرا، كما يفعل الكثيرون من موظفي مين، كانت هناك استثناءاتٌ متكررة. وهكذا، فإن الملخص الذي اقترحتْ بولا أن أطَّلع عليه وعلى نصه الإنكليزي المقابل كانا عليَّ جديدين تماما، بالرغم من وجود المعلومات في ملفي.
لأول وهلة، كان ملخصُ سيرتي يبدو بريئاً بما يكفي. فتحتَ بند “الخبرة”، ذُكر أنني كنتُ مسؤولا عن مشاريعَ مهمةٍ في الولايات المتحدة، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط. وكانت هناك قائمةٌ لأنواع المشاريع: التنمية والتخطيط، التنبؤ الاقتصادي، التنبؤ باحتياجات الطاقة، وهكذا. وانتهى هذا القسم بشرح عملي في فرقة السلام في الإكوادور؛ إلا أنه ألغى إشارتي إلى فرقة السلام نفسها، مُعطياً الانطباع أنني كنتُ المدير المهني لشركة مواد بناء، بدل كوني متطوعاً يقوم بمساعدة جمعية تعاونية صغيرة مؤلفة من فلاحين أنديزيين أُميين يصنعون القرميد.
بعد ذلك كانت هناك قائمةٌ طويلةٌ من العملاء. كان في هذه القائمة البنكُ الدولي لإعادة الإعمار والتنمية (وهو الاسم الرسمي للبنك الدولي)؛ بنك التنمية الآسيوي؛ حكومة الكويت؛ وزارة الطاقة الإيرانية؛ شركة النفط العربية الأمريكية في السعودية؛ وغيرها الكثير. لكنّ المادة الأخيرة لفتت نظري بصورة خاصة: دائرة مالية الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية. وقد عجبتُ كيف طُبعت هذه القائمة، بالرغم من أنها كانت جزءاً من ملفي.
وضعتُ ملخص سيرتي جانباً لأعود إلى المقالة في مجلة مينلاينز. تذكرتُ تماماً مقابلتي مع كاتبة المقالة، وكانت شابّةً حسنةَ الطويّةِ ذاتَ موهبة عالية. وقد أعطتني المقالةَ للموافقة عليها قبل نشرها. تذكرتُ كم شعرتُ بالرضا للإطراء الذي أناطته بي، فوافقتُ عليها فورا. ومرةً أخرى، أتحمّلُ أنا المسؤولية. بدأت المقالة هكذا:
“بالنظر إلى الوجوه خلف المكاتب، من السهل القولُ إنّ الاقتصادَ والتنميةَ الإقليميةَ أحدُ أحدث المجالات التي تشهد نمواً سريعا في شركة مين …
بينما كان لعدة أناس أثرُهم في الشروع بعملِ المجموعة الاقتصادية، إلا أنها بدأتْ أساساً بجهود رجل واحد، هو جون بيركنز، الذي يترأس الآن هذه المجموعة.
وإذ وُظِّفَ جون مساعداً لكبير متنبئي الأحمال في كانون الثاني، 1971، فقد كان واحداً من الاقتصاديين القلائل العاملين في شركة مين في ذلك الوقت. ولأداء مهمته الأولى، أُرسل كعضوٍ في فريقٍ مؤلفٍ من أحدَ عشرَ رجلا للقيام بدراسة الاحتياجات الكهربائية في إندونيسيا.”
لخّصتْ المقالةُ تاريخ عملي السابق، وشرحتْ كيف “قضيتُ ُثلاث سنوات في الإكوادور،” ثم استُرسلت كما يلي:
“في هذا الوقت، التقى جون بيكنز بآينر غريف (أحدَ الموظفين السابقين) [منذ تركه مين، أصبح رئيساً لشركة تَكسُن للغاز والكهرباء] الذي كان يعمل في بلدة بوتي في الإكوادور على مشروع كهرومائي لشركة مين. وقد تصادق الاثنان، ومن خلال تراسلهما المستمر، عُرض على جون منصبٌ في شركة مين.
بعد ذلك بسنة تقريبا، أصبح جون كبير متنبئي الأحمال. وإذ زاد الطلب من قِبَلِ العملاء والمؤسسات، كالبنك الدولي، تبين له أن شركة مين أصبحت بحاجة لمزيد من الاقتصاديين.”
لم تكن أيٌّ من العبارات في كلا الوثيقتين كذبا مباشرا – فقد كان في ملفي نسخةٌ لكل منهما؛ إلا أنني اليوم أرى التواءً في الفكرة التي أُريدَ إيصالُها وتعقيمُها. وفي ثقافة تُقَدِّسُ الوثائقَ الرسمية، أراهم ارتكبوا ما هو أشد شرا. ذلك أنّ الأكاذيب المباشرة يُمكنُ دحضُها. لكنَّ وثائق كهاتين الوثيقتين يستحيلُ دحضُهما لأنهما استندتا إلى شيءٍ من الحقيقة، فليستا خداعا مُطلقا، ولأنهما صادرتان عن شركة نالت ثقة الشركات الأخرى والبنوك العالمية والحكومات.
فيما يتعلق بملخص سيرتي، كان هذا صحيحا بصورة خاصة لكونها وثيقة رسمية، مُقارنةً بالمقالة التي كانت مجرد مقابلة في مجلة. وشعار مين المثبت في أسفل الملخص وعلى مُغلَّفات جميع العروض والتقارير، التي من المرجَّح أن يحتفي بها الملخص، يحمل أهمية كبيرة في عالم الأعمال العالمية. فهو خاتم للأصالة التي تُعطي المستوى ذاته من الثقة، مَثَلُها مًَثَلُ تلك الشعارات المثبتة على الشهادات المعلقة على جدران عيادات الأطباء ومكاتب المحامين.
وقد صورتني هاتان الوثيقتان باعتباري اقتصاديا كُفئاً ورئيساً لدائرة في شركة استشارات مهيبة يُسافرُ حول العالم ويُشرفُ على عددٍ من الدراسات التي من شأنها أن تجعل العالم أكثر حضارةً وازدهارا. على أنّ الخداع لم يكنْ فيما ذُكر، بل فيما لم يُذكر. فلو أني لبستُ قبّعة رجل خارجي – أي نظرتُ نظرةً موضوعية – لكان عليّ أنْ أعترفَ بأنّ من شأن ما أُغفل أنْ يُثيرَ أسئلة كثيرة.
مَثَلُ ذلك أنه لم يكن ثمة ذكرٌ لتجنيد وكالة الأمن القومي لي أو لعلاقة آينر غريف بالجيش ولدوره كضابط ارتباط مع الوكالة المذكورة. وبطبيعة الحال، لم يكن هناك ذكرٌ لحقيقة أنني كنتُ أُوضع تحت ضغطٍ هائل لكي أُنتج تنبؤاتٍ اقتصاديةً مُبالغاً فيها، أو أنّ كثيراً من وقتي كان يدورُ حول ترتيب قروضٍ لن تستطيع دولٌ كإندونيسيا وبنما أنْ تٌسدِّدَها إطلاقا. كذلك لم يكن هناك امتداحٌ لاستقامةِ سلفي، هِوَرد باركر، ولا اعترافٌ بأنني أصبحتُ كبير متنبئي الأحمال لأنني كنتُ مستعداً للإتيان بالدراسات المنحازة المتوقعة مني، بدل أنْ أقول – كما فعل هِوَرد – ما اعتقدتُ أنه صحيح، ثم أنْ أواجه الفصل نتيجة ذلك. والأكثرُ عجباً كان القيدَ الأخير في قائمة عملائي: دائرة الخزينة الأمريكية، والمملكة العربية السعودية.
كرّرتُ عودتي إلى ذلك السطر متسائلا عمّا يمكنُ الناسَ أن يُؤَوِّلوه. فقد يسألون ما العلاقةُ بين الخزينة الأمريكية والسعودية. لعلهم سيحسبونه خطأً مطبعياً، سطرين منفصلين دُمجا معا بطريقة خاطئة. إلا أنّ أغلبَ القراء لن يحزروا حقيقة أن ذلك القيد قد وُضِع لسبب محدد، وهو أنْ يفهم أولئك القابعون في دوائر العالم الداخلية حيث كنتُ أعمل أنني كنتُ جزءاً من الفريق الذي صنع صفقة القرن، الصفقة التي غيّرت مجرى تاريخ العالم، ولكنها لم تصل إلى الجرائد، وأنني اشتركتُ في وضع اتفاقيةٍ ضمنتْ استمرار تدفق النفط إلى أمريكا، وأنني أمّنتُ حُكم آل سعود، وساعدتُ في تمويل أسامةَ بن لادن وفي حماية مجرمين دوليين، مثل عيدي أمين. كان هذا السطرُ الواحدُ يُخاطبُ أولئك العارفين. كان يقول إن كبير اقتصاديي مين رجلٌ قادرٌ على الإنجاز.
كانت الفقرةُ الأخيرةُ من مقالة مينلاينز ملاحظةً شخصيةً من الكاتبة استثارتني:
“توسعتْ دائرة الاقتصاد والتخطيط الإقليمي بخطوات سريعة، إلا أن جون يرى أنه كان محظوظاً في أنّ كلَّ من أُعطِيَ الوظيفةَ كان مهنيا مُجِدّاً في عملة. وإذ كان يُكلمني من على مكتبه، كان اهتمامُه بموظفيه ودعمُه لهم واضحاً وباعثا على الإعجاب.”
الواقعُ أنني لم أكنْ قطُّ لأرى نفسي اقتصاديا أصيلا. فقد تخرجتُ من جامعة بوسطن بدرجة بكالوريوس في إدارة الأعمال، بتركيز على التسويق. وكنتُ دائماً مقصِّرا في الرياضيات والإحصاء. وفي كلية مِدِلْبِري كان اختصاصي الأدبَ الأمريكي؛ والكتابة بالنسبة إليّ كانت أمرا سهلا. أما مركزي ككبير الاقتصاديين ومدير دائرة الاقتصاد والتخطيط الإقليمي، فلا يُعزى لقدراتي في الاقتصاد أو التخطيط؛ بل كان نتيجة قبولي الإتيانَ بنوع الدراسات التي يرغبُ في رؤيتها رؤسائي وعملائي، مضافاً إليها براعتي الطبيعية في إقناع الآخرين بالكلمة المكتوبة. أضف إلى ذلك أنني كنتُ من الذكاء بحيثُ وظَّفتُ أناساً ذوي كفاءة عالية، يحملُ الكثرةُ منهم المجستير واثنان الدكتوراه. فكان لديّ موظفون مُلمُّون بتقنيات عملي أكثر مني. فلا غروَ أن تقول كاتبة المقالة “كان اهتمامُه بموظفيه ودعمُه لهم واضحاً وباعثا على الإعجاب.”
احتفظتُ بهاتين الوثيقتين وبعدة وثائقَ شبيهةٍ في الدُّرْج الأعلى من مكتبي، وكثيرا ما كنتُ أعود لها. وأحياناً كنتُ أراني خارج غرفة مكتبي متجوِّلاً بين مكاتب موظفي دائرتي، أنظرُ إلى أولئك الرجال والنساء العاملين تحت إدارتي، شاعراً بالذنب لما فعلتُه بهم، وللدور الذي قمنا به جميعا لتوسيع الفجوة ما بين الأغنياء والفقراء. كنتُ أُفكر بالناس الذين كانوا يتضوّرون جوعاً، بينما كنا ننامُ في فنادق الدرجة الأولى، ونأكل في أرقى المطاعم، ونُكبِّرُ محافظنا المالية.
كنتُ أُفكِّرُ في حقيقة أنّ من درَّبتُهم قد انضموا الآن إلى صفوف القتلة الاقتصاديين. أنا من جاء بهم، ومن جنّدَهم ودرّبهم. لكن الأمر اختلف عن الزمن الذي التحقتُ فيه بعملي. فقد تحرّك العالم وتقدّمت سلطة الشركات. أصبحنا أكثر إيذاءً وخبثا. أما موظفو دائرتي، فقد أصبحوا سلالة مختلفة. فليس في حياتهم قيودٌ لدى وكالة الأمن القومي ولا امرأةٌ مثل كلودين. لم يقلْ لهم أحدٌ ما يُتوقَّعُ منهم أن يعملوا لكي يقوموا بمهمة الإمبراطورية العالمية. لم يسمعوا قطُّ بتعبير “قاتل اقتصادي”، ولم يُقَلْ لهم إنه لا مخرج لهم مدى الحياة مما دخلوا فيه. فقد تعلموا ببساطة من حذوِهم حذوي ومن نظامنا في المكافأة والعقاب. كانوا يعلمون أن عليهم أن يضعوا نوع الدراسات ويخرجوا بنوع النتائج التي أريدُها. فرواتبُهم، وهدايا عيد الميلاد، بل ووظائفُهم، كانت تعتمد على إرضائي.
كنتُ، بطبيعة الحال، أقوم بكلِّ ما أستطيعُ تخيُّلَه للتخفيف عن أعبائهم. كتبتُ الأوراق، وألقيتُ المحاضرات، وأستغللتُ كلَّ فرصةٍ لأقنعهم بأهميةِ التنبؤات المتفائلة، والقروض الضخمة، وضخِّ رأس المال الذي يحفز الناتج القومي الكليّ ويجعلُ من العالم مكاناً أفضل. وقد استغرقَ الأمرُ أقلَّ من عقد من الزمن للوصول إلى هذه النقطة حيث اتخذ الإغراءُ والإكراهُ شكلاً أكثر براعة وأشدّ مكرا، نوعاً من الأسلوب اللطيف لغسيل الدماغ. والآن، يخرج إلى العالم هؤلاء الرجالُ والنساءُ الجالسون إلى مكاتبهم خارج غرفة مكتبي لكي يدفعوا بقضية الإمبراطورية العالمية إلى الأمام. وبمعني حقيقي، لقد شكّلتُهم كما شكّلتني كلودين. لكنهم، على العكس مني، أُبقُوا وراء ستار.
ليالٍ كثيرةٌ كنتُ أسهد فيها مفكِّرا بهذه الأمور، مغتاظاً منها. فقد فتحتْ إشارةُ بولا لملخّص سيرتي بابَ مشاكلَ لم تخطرْ بالبال، وكثيراً ما كنتُ أحسدُ موظفي دائرتي لسذاجتهم. لقد خدعتُهم عامدا متعمدا؛ وبعملي هذا حميتُهم من أعباء ضمائرهم، فما كان عليهم أن يتصارعوا مع المسائل الأخلاقية التي كانت تُطاردُني.
كذلك كثيراً ما تأملتُ في فكرة الاستقامة في الأعمال، وفي المظهر مقابل المخبر. كنتُ أقول لنفسي من المؤكد أن الناس لا يزالون منذ فجر التاريخ يخدعون بعضهم بعضاً. فالأساطير والحكايات مفعمةٌ بالحقائق الملتوية والاتفاقات المخادعة: كتجار السجاد الغشاشين، والمرابين، والخياطين المستعدين لإقناع الإمبراطور بأنه وحده من يرى ملابسه غير مرئية.
بيد أنني، بقدر ما كنتُ أريد الاستنتاج بأن الأشياء لا تزال كما كانت دائما، وبأن ظاهرَ ملخص سيرتي لدى شركة مين والحقيقةَ التي وراءها كانا محض انعكاسٍ للطبيعة الإنسانية، كنتُ أعلم في قلبي أنْ ليست هذه هي القضية. فلقد تغيّرت الأشياء، وأنا الآن أُدرك أننا وصلنا مرحلةً جديدةً من الخداع سوف تقود إلى دمارنا – ليس أخلاقيا حسب، بل ماديا أيضا، كثقافة – ما لم نقم قريبا بتغييراتٍ مهمة.
تعطينا الجريمة المنظمة مثالا على ذلك. فغالباً ما يبدأُ زعماءُ المافيا كزعران شوارع. وبمرور الوقت، يُغيِّرُ من مظهرهم من يصلُون منهم إلى الأعلى، فيرتدون الملابس الفاخرة جدا، ويمتلكون الأعمال المشروعة، ويلفون أنفسهم بعباءة مجتمع الطبقة العليا، ويدعمون الجمعيات الخيرية المحلية، فيجتذبون احترام المجتمع. وهم جاهزون لإقراض المال للمعسرين. وكمثل جون بيركنز في ملخص سيرته لدى شركة مين، يبدو هؤلاء الرجالُ مواطنين نموذجيين. بيد أنّ تحت هذا الطلاء مسيرةً دموية. وحين يعجزُ الدائنون عن السداد، يتحرك القتلةُ لأخذ حصتهم من اللحم. فإن لم يأخذوها، أتت بالعصيِّ بناتُ آوى. وأخيراً، تُستلُّ السيوفُ باعتبارها الحلَّ الأخير.
تبيّن لي أن ما أُنيط بي من لمعةٍ باعتباري كبيرَ الاقتصاديين، ورئيسَ دائرة الاقتصاد والتخطيط الإقليمي، لم تكنْ الخدعة البسيطة التي يقوم بها بائع السجاد، أي ليست ما يستطيعُ المشتري الانتباه له. فقد كانت جزءاً من نظام شرّير لم يهدفْ إلى التفوّق بالحيلة على زبونٍ غير مرتاب، بل إلى تعزيز أبرع شكلٍ وأشدِّه تأثيراً لإمبريالية لم يعرفْها العالمُ من قبل قط. وقد كان لكلٍّ من موظفي دائرتي لقب – مُحلّل مالي، خبير اجتماعي، خبير اقتصادي، خبير في الاقتصاد الرياضي، خبير في تسعير كُلَف الظل، وهكذا. غير أنّ أيّاً من هذه الألقاب لم يكنْ ليدلَّ على أنّ كلا منهم بطريقته إنما هو قاتل اقتصادي، وأنّ كلا منهم إنما يخدم مصالح الإمبراطورية العالمية.
كذلك لم تكن حقيقةُ هذه الألقاب بين موظفي دائرتي لتدلّ على أننا لم نكنْ سوى رأس جبل الثلج. فلكلِّ شركة دولية كبرى – من تلك التي تصنعُ الأحذية والملابس الرياضية إلى التي تصنعُ المعدات الثقيلة – ما يُعادل القاتل الاقتصادي. لقد بدأت المسيرةُ وأخذت تطوّق الكرة الأرضية بسرعة. أما الزعران فقد خلعوا معاطفهم الجلدية، وارتدوا ملابس رجال الأعمال، محيطين أنفسهم بجوٍّ من الاحترام. من مقارِّ الشركات في نيويورك، وشيكاغو، وسان فرنسِسكو، ولندن، وطوكيو، يخرجُ رجالٌ ونساءٌ وينسابون عبر كلِّ قارّةٍ في العالم لإقناع السياسيين الفاسدين بجعل دولهم ترزح تحت نير سلطة الشركات، ولإغراء اليائسين من الناس على بيع أجسادهم في مصانع الكدح وخطوط الإنتاج.
كان مزعجا أن يُدرك المرءُ أن التفاصيل المسكوت عنها خلف الكلمات المكتوبة في ملخص سيرتي وفي تلك المقالة كانت تُحدد عالماً من الدخان والمرايا يُراد له أن يُبقينا مغلولين إلى نظامٍ بغيضٍ أخلاقيا، وفي آخر المطاف مدمر ذاتيا. وإذ جعلتني بولا أقرأ ما بين السطور، حفزتني إلى أنْ أخطو خطوةً أخرى على طريقٍ من شأنها أنْ تُعيد أخيرا تشكيل حياتي.
الفصل الرابع والعشرون ****
الفصل الخامس والعشرون **** |
| | | ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز الأربعاء 25 مايو 2016, 9:15 am | |
| الجزء الرابع
من 1981 إلى اليوم
الفصل السادس والعشرون
موت رئيس الإكوادور
لم يكنْ تركُ مين بالأمر السهل. فلم يقبلْ بول بْرِدي أن يُصدِّقَني. غمزني وقال، “كذبة نيسان.”
أكّدتُ له أنني كنت جادّاً. وإذ تذكّرْتُ نصيحةَ بولا أنّ عليّ ألا افعل شيئاً يستعدي أحداً أو يُثيرُ الشكّ بأني قد أُفشي اسرارَ عملي كقاتل اقتصادي، أكدتُ له أنني أقدِّرُ كلَّ ما فعلتْه شركةُ مين لي، ولكنني أريدُ أنْ آخذ سبيلي. كنتُ دائماً أودُّ أنْ أكتبَ عن الناس الذين عرّفتني بهم مين حول العالم، ولكنْ لا شيءَ في السياسة. وقلتُ إنني أودُّ أنْ أعمل كاتبا مستقلا مع مجلة ناشُنَل جيوغرافِك ومجلاتٍ أخرى، وأنْ أُواصل الترحال. كذلك أعلنتُ ولائي لشركة مين وأقسمتُ أنني سأتغنى بمديحها في كل مناسبة. أخيرا وافق بول.
بعد ذلك، أراد كلُّ واحدٍ أنْ يُقنعني بألا أستقيل. ذُكِّرتُ كثيرا بالخير الذي جنيتُه، بل اتُّهِمْتُ بالجنون. علمتُ أنه ما من أحدٍ كان يتقبّلُ حقيقةَ أنِّي أُغادر بمحض إرادتي، ولو جزئيا على الأقل، لأن ذلك يُجبرهم على النظر إلى أنفسهم. فلو لم أكنْ أترك لمسٍّ أصابني، فقد يكون عليهم أن ينظروا في سلامة عقولهم حين يبقَوْن. كان أسهلَ عليهم أن يرَوْني فاقدا عقلي.
أزعجتني بشكلٍ خاصّ ردةُ فعل موظفي مكتبي. ففي أعينهم أنني كنتُ أتخلّى عنهم، وما من وريثٍ ظاهر ليحلَّ محلي. بيد أني كنتُ حسمتُ قراري. فبعد كلِّ تلك السنينَ من التذبذبِ، أصبحتُ مصمما على نصر نظيف.
لسوء الحظ، لم يكن الأمر كذلك. صحيحٌ أنه لم يعدْ لديّ عمل، ولكنْ، لأنني لم أكنْ شريكا مُخوَّلا تماماً، فإن قيمة أسهمي لم تكنْ كافية للتقاعد. فلو بقيتُ في شركة مين بضع سنين أخرى، فقد أصبحُ المليونيرَ ذا الأربعين عاما الذي حلمتُ به ذات يوم. بيد أني، في الخامسة والثلاثين من عمري، كان أمامي طريقٌ طويلٌ لتحقيق ذلك الهدف. بلى، كان باردا مخيفا شهرُ من نيسانَ ذاك في بوسطن.
ذات يوم بعد ذلك، هاتفني بول بْرِدي ورجاني أنْ آتيه في مكتبه. قال لي، “إن أحدَ عملائنا يُهدِّدُ بتركنا. فقد استخدمونا لأنهم كانوا يُريدونك أنتَ أنْ تُمثِّلَهم في إعطاء شهادة الخبرة.”
فكّرتُ بها مليّاً. وفي الوقت الذي كنتُ أجلس فيه أمام بول في مكتبه، أخذتُ قراري. حددتُ السعرَ الذي أطلبه – أتعاباً تبلغ ثلاثة أضعاف ما كان عليه راتبي لدى مين. ولدهشتي، وافق عليها، وهو ما جعلني أبدأ سيرة عمل جديدة.
أصبحتُ في السنوات التالية أعملُ كشاهد خبرة عالي الأجر – بصورة رئيسية لدى الشركات الكهربائية الأمريكية التي تسعى إلى موافقة لجان المنافع الكهربائية العامة على إنشاء محطات كهربائية جديدة. وكانت إحدى عميلاتي شركةُ الخدمة العامة في نيوهَامْبْشَيَر. كانت مُهمّتي أن أُبرِّر، تحت القَسَم، الجدوى الاقتصادية لمحطة سيبرُك للطاقة النووية المثيرة جداً للجدل.
بالرغم من أنني لم أعدْ على علاقةٍ بأمريكا الجنوبية، فقد بقيتُ متابعاً للأحداث هناك. وإذ توافر لي وقتٌ طويلٌ بين مواعيد ظهوري على منصات الشهادة، بقيتُ على اتصال ببولا وجددتُ صداقاتي من أيامَ فرقة السلام في الإكوادور – وهو بلدٌ قفز فجأةً إلى المسرح الرئيسي في عالم سياسات النفط الدولية.
كان جيم رُلْدُس ماضياً قُدُما في السبيل الذي اختطّه. وإذ أخذ وعود حملته الانتخابية على محمل الجد، أخذ يشنُّ هجوماً واسعا على شركات النفط. وكان يرى بوضوح ما لم يكن يراه الكثيرون غيره على جانبي قناة بنما، أو كانوا يتجاهلونه. كان يُدرك التياراتِ التحتيةَ التي تُهدد بتحويل العالم إلى إمبراطورية عالمية وبالحطِّ من مواطني بلده إلى دور تافهٍ على شفا العبودية. وحين كنتُ أقرأ مقالاتِ الجرائد عنه، كنتُ أُعجبُ ليس بالتزامه حسب، بل بقدرته أيضاً على إدراك القضايا الأعمق، وهي التي تشير إلى حقيقة أننا ندخل عصراً جديداً من سياسات العالم.
في تشرين الثاني 1980، خسر كارتر انتخابات الرئاسة الأمريكية لرونَلد ريغَن. وقد كانت العواملُ الرئيسيةُ وراء ذلك معاهدةَ قناة بنما التي تفاوَضَ فيها مع توريجُس، والوضعَ في إيران، خاصةً الرهائن المحتجزين في السفارة الأمريكية، والمحاولة الفاشلة في إنقاذهم. بيد أن شيئاً أكثر مكراً كان يحدث. فقد ذهبَ رئيسٌ كان هدفُه الأعظمُ سلامَ العالم وكان مُكرِّساً نفسه لتخفيف اعتماد الولايات المتحدة على النفط، ليحلَّ محِلّه رجلٌ مؤمنٌ بأنّ مكانَ الولايات المتحدة الصحيحَ هو قمةُ هرم العالم محمياً بالعضلات العسكرية، وأن السيطرة على حقول النفط أينما وُجدتْ إنما هو جزء من “بيان المصير”. ذهبَ رئيسٌ كان قد ركّب على سطح البيت الأبيض ألواحاً شمسيةً، ليحلَّ محِلّه واحدٌ ما إن احتل المكتبَ البيضاوي حتى أزالها.
لعلّ كارتر كان سياسياً غير فعّال، لكنه يحمل رؤية لأمريكا متوافقةً مع ما حدده إعلانُ الاستقلال. وبالنظر إلى الخلف، يبدو الآن ذا تفكير عفا عليه الدهرُ، ملتزماً بالمُثُل التي شكّلتْ هذه الأمةَ واجتذبت الكثيرين من أجدادنا إلى شواطئها. وحين نُقارن بينه وبين سلفه وخلفه المباشرين، نجده شاذاً عنهم. لقد كانت نظرتُه إلى العالم غير متوافقة مع القتلة الاقتصاديين.
أما ريغَن، فمن المؤكد أنه كان بانياً للإمبراطورية العالمية وخادما لسلطة الشركات. وفي أيام الانتخابات، وجدتُ مناسباً له أنْ يكون ممثلا من هوليوُد، رجلا يتبع أوامر سادته الذين يعرفون مقاصدهم. هذا هو طابعه. إنه يخدم أولئك القوم الذين يتنقلون من مناصب المديرين العامين في الشركات، إلى مجالس إدارات البنوك، فإلى المناصب الحكومية العليا. إنه يخدم الرجال الذين يبدون كأنهم يخدمونه، لكنهم هم حقيقة من يُسيِّرون شؤون الحكومة – من هؤلاء نائبُ الرئيس جورج بوش [الأب]، ووزير الخارجية جورج شُلْتْز، ووزير الدفاع كاسبر واينبيرغر، ورِتشَرد تشيني، ورِتشَرد هِلْمز، وروبرت مكنَمارا. إنه يدافعُ عما يريده هؤلاء الرجال: سيطرة أمريكا على العالم وعلى موارده، وطاعة العالم لأوامرها، وفرض جيشها القوانينَ التي تضعُها، ونظاماً تجاريا ومصرفيا دولياً يدعم أمريكا رئيسة عليا للإمبراطورية العالمية.
وإذ كنتُ أنظر إلى المستقبل، بدا لي أننا نلجُ حقبةً ستكون جيدة للقتلة الاقتصاديين. لقد كان انعطافَ مصيرٍ آخرَ أنني اخترتُ تلك اللحظة من التاريخ للخروج. وكلما تفكّرتُ بها، كلما شعرتُ بالارتياح. كنتُ أعلمُ أن توقيتي صحيح.
أما ما يعني ذلك في المدى البعيد، فلستُ منجّماً في الغيب. لكنني أعلم من التاريخ أنّ الإمبراطورياتِ لا تخلد، وأن عقارب الساعة تتحرك في الاتجاهين. ومن منظوري أرى أن رجالا مثل رُلْدُس يحملون الأمل. كنتُ متأكدا من أن رئيس الإكوادور الجديد مدركٌ للكثير من المكر الكامن في الوضع الجاري. كنتُ أعلمُ أنه مُعجبٌ بتوريجُس ومُقدِّرٌ لكارتر موقفَه الشجاع من قضية قناة بنما. وكنتُ أشعرُ شعوراً أكيداً أنَّ رُلْدُس لن يتردد، وليس لي إلا أنْ آمل في أنّ ثباته سوف يضيء شمعةً لقادة الدول الأخرى، الذين كانوا في حاجةٍ إلى وحيٍ باستطاعته هو وتوريجُس أن يقدماه.
في وقتٍ مبكر من عام 1981، عرضتْ إدارةُ رُلْدُس رسميا قانون الهايدروكربون الجديد على البرلمان الإكوادوري، وهو قانونٌ إنْ تم تطبيقه، فمن شأنه أنْ يُصلح علاقة البلاد بشركات النفط. وقد اعتُبر، بمقاييس كثيرة، ثوريا، بل متطرفا. ومن المؤكد أنه كان يهدف إلى تغيير الطريقة التي تدار بها الأعمال. أما تأثيره، فسوف يمتد بعيداً خارج حدود الإكوادور, إلى الكثرة من دول أمريكا اللاتينية وجميع أرجاء العالم.[i]
ردّتْ شركاتُ النفط بما كان متوقعا منها – تحلَّلتْ من كل الموانع. أخذ العاملون في العلاقات العامة لديها يعملون على تسويد صفحة جيم رُلْدُس، وهرول جماعة الضغط فيها إلى كويتو وواشنطن، يحملون حقائب مليئة بالتهديدات والرشاوى. لقد أرادوا تصوير أول رئيس إكوادوريٍّ منتخبٍ ديمقراطيا في العصر الحديث على أنه كاسترو آخر. لكنّ رُلْدُس لم يكن ليُذعن للتخويف. رد بشجب المؤامرة بين النفط والسياسة – والدين. وبالرغم من أنه لم يُقدِّم إثباتا ملموساً، فقد اتهم معهدَ اللغاتِ الصيفيَّ بالتواطؤ مع شركات النفط، وفي خطوة جريئة جدا، أمر هذا المعهد بمغادرة البلاد.[ii]
بعد أسابيع فقط من إرسال رزمته التشريعية إلى البرلمان، وبعد يومين من طرد المبشرين التابعين لمعهد اللغات الصيفي، حذّر رُلْدُس جميع المصالح الأجنبية، ومنها شركاتُ النفط، بأنها ما لم تُطبقْ خططا لمساعدة الشعب الإكوادوري، فسوف تُجبَرُ على مغادرة البلاد. وقد ألقى خطابا مٌهما في ملعب أتاهُوَالبا الأولمبي في كويتو، ومن ثَمّ توجّه إلى قريةٍ صغيرةٍ في جنوب الإكوادور.
هناك مات باحتراق طائرته وتحطُّمِها في 24 أيار 1981.[iii]
صُدم العالم، وعمّ الغضبُ أمريكا اللاتينية، وانفجرت الجرائد في أنحاء نصف الكرة معلنة، “الاغتيال الذي دبّرته وكالة الاستخبار المركزية!” وبالإضافة إلى حقيقة كره واشنطن وشركات النفط له، ظهرت أحداثٌ تدعم هذه المزاعم، وكبرت مثلُ هذه الشكوك حين عُرفتْ حقائق إضافية. لم يثبتْ شيء أبدا، لكن شهود عيانٍ زعموا أنّ رُلْدُس، وكان حُذِّر مسبقا بوجود محاولة لاغتياله، كان قد اتخذ احتياطات، بما فيها السفر بطائرتين. وفي اللحظة الأخيرة، كما قيل، أقنعه أحد ضباط أمنه بركوب الطائرة الشَّرَك.
بالرغم من ردة فعل العالم، فإن الأخبار كادت لا تُذكر في صحافة الولايات المتحدة.
تولى رئاسة الإكوادور أوزفَلدو هُرتادو. وتحت إدارته، استمرَّ معهدُ اللغاتِ الصيفيُّ يعمل في الإكوادور، ومُنح أعضاؤه تأشيرات خاصة. وبحلول نهاية السنة، كان قد ابتدأ برنامجاً طموحاً لزيادة الحفريات النفطية التي تقوم بها تكسَكو والشركاتُ الأجنبية الأخرى في خليج غْواياكِل وحوض الأمازون.[iv]
في تأبينه رُلْدُس، وصفه عمر توريجُس بـ”الأخ”. واعترف هو الآخرُ بكوابيسَ تأتيه حول اغتياله؛ فقد رأى في المنام نفسَه يسقط من السماء في كرة نار ضخمة. وكانت نبوءته صحيحة. |
| | | | قراءة في كتاب: اعترافات قاتل اقتصادي للكاتب الأمريكي جون بيركنز | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |