أبو الوليد إسماعيل .. السلطان الغالب بالله
السلطان الغالب باللَّه أبو الوليد إسماعيل بن الرئيس أبو سعيد فرج بن أبي الوليد إسماعيل أخي أبي عبد الله محمد بن الأحمر، خامس ملوك دولة بني نصر بن الأحمر في الأندلس. كانت لأبيه ولاية مالقة وسبتة، فتولاهما من بعده.مبايعة السلطان أبي الوليد إسماعيل
في شعبان سنة 701هـ / 1302م توفي السلطان أبو عبد الله الفقيه بعد حكم دام ثلاثين سنة عن عمر يناهز 68 عامًا، فخلفه ولده أبو عبد الله محمد المخلوع الذي كان ضريرًا، أديبًا وفقيهًا، لكن لم يكن رجل دولة. فغلب عليه وزيره، وساءت أمور الدولة الداخلية، كما ساءت علاقة مملكة
غرناطة في أيامه مع المغرب.
وتحالف المخلوع مع قشتالة ضد
المغرب، فثار عليه أهل
غرناطة سنة 708هـ / 1309م وخلعوه وبايعوا مكانه أخاه أبو الجيوش نصر، وكان هو كذلك أديبًا ولوعًا بالرياضة و
الفلك، لكنه لم يحسن تدبير الدولة. فتوالت الأزمات، وانتهز النصارى هذه الفرصة فغزوا أراضي المسلمين سنة 709هـ / 1309م، فتحالفت قشتالة وأراغون، وحاول الأراغونيون احتلال المرية ففشلوا، لكن القشتاليين احتلوا الجزيرة الخضراء وجبل طارق.
ولما وافق السلطان أبو الجيوش نصر بن محمد الفقيه على أداء الجزية لطاغية قشتالة، ثار أهل غرناطة عليه وخلعوه سنة 713هـ / 1314م. وانقرض بذلك الملك من عقب مؤسس الدولة، وانتقل إلى عقب أخيه أبو الوليد إسماعيل بمبايعة السلطان أبو الوليد إسماعيل بن فرج بن إسماعيل أخي أبي عبد الله محمد بن الأحمر.
ولما بويع أبو الوليد إسماعيل خرج نصر إلى وادي آش (Guadix)، وأراد بطرس الأول بن ألفونس الحادي عشر (من ملوك الإسبان) أن يستفيد من فرصة الفتنة في غرناطة فاقتحم الحصون يريدها، فكانت بين جيشه وجيش إسماعيل وقائع هائلة انتهت سنة 717 هـ بمقتل بطرس.
عصر أبي الوليد إسماعيل
جلس السلطان أبو الوليد إسماعيل على عرش غرناطة في شوال سنة 713هـ / 1314م، وامتاز عصره بتوطد الملك، واستقرار الأمور، وإحياء عهد الجهاد.
وصف السلطان أبي الوليد إسماعيل
كان السلطان أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر قائدًا مجاهدا محنكًا من أفضل قادة وسلاطين بنو الأحمر، كما كان حازما مقداما جميل الطلعة جهير الصوت كثير الحياء بعيدا عن الصبوة، يتمتع بخلال باهرة، وكان يشتد في إخماد البدع وإقامة الحدود. وفى عهده حرمت المسكرات وطورد الفساد الأخلاقي، وحرم جلوس الفتيات في ولائم الرجال، وعومل اليهود بشيء من الشدة، وألزموا أن يتخذوا لهم شعارًا خاصًا بهم، وهو عبارة عن العمائم الصفراء [1].
الجهاد ضد القشتاليين
وفى أوائل عهد السلطان أبي الوليد إسماعيل النصري غزا القشتاليون كعادتهم بسائط غرناطة واستولوا على عدة من القواعد والحصون، وهزموا المسلمين هزيمة شديدة في وادي فرتونة سنة 716هـ. ولما رأى القشتاليون نجاح غزوتهم اعتزموا منازلة الجزيرة الخضراء والاستيلاء عليها ليحولوا دون وصول الأمداد إلى المسلمين من عدوة المغرب. ولكن السلطان إسماعيل بادر إلى تحصينها وجهز الأساطيل لحمايتها من البحر، فعدل القشتاليون عن مشروعهم، وعولوا على مهاجمة الحاضرة الإسلامية ذاتها.
وبادر ابن الأحمر بطلب الغوث والإمداد من السلطان أبى سعيد سلطان المغرب، فنكل عن معاونته، وطالب بتسليم عثمان بن أبى العلاء لما كان منه في حق
بني مرين، فأبى ابن الأحمر خشية العواقب؛ وزحف القشتاليون على غرناطة بجيش ضخم، يقوده الدون بيدرو (دون بطره) والدون خوان الوصيان على ألفونسو الحادى عشر ملك قشتالة، ومعهما عدة من الأمراء القشتاليين، وفرقة من المتطوعة الإنجليز بقيادة أمير إنجليزي.
موقعة إلبيرة
فبادر المسلمون إلى لقائهم في هضبة إلبيرة على مقربة من
غرناطة، وكان الجيش الغرناطي لا يجاوز ستة أو سبعة آلاف جندي منهم نحو ألف وخمسمائة فارس، ولكنهم صفوة المقاتلة المسلمين، وكان قائده شيخ الغزاة أبو سعيد عثمان بن أبى العلاء، جنديا جريئًا وافر العزم والبسالة، فلم ترعه كثرة الجيش المهاجم، وعول في الحال على لقائه في معركة حاسمة.
وفى 20 من ربيع الثاني سنة 718هـ / مايو سنة 1318م، التقى فرسان
الأندلس بطلائع النصارى وردوهم بخسارة فادحة. ثم زحف أبو سعيد في نخبة من جنده، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، كانت الدائرة فيها على القشتاليين، فمزقوا شر ممزق، وقتل منهم عدد جم، بينهم دون بيدرو ودون خوان، ورهط كبير من الأمراء والنبلاء والأحبار، وغرق منهم عند الفرار في نهر شنيل عدة كبيرة، وأسر منهم بضعة آلاف، واستمر القتال والأسر فيهم ثلاثة أيام.
وخرج أهل غرناطة فرحين مستبشرين، يجمعون الأسلاب والأسرى، وظفر المسلمون بغنائم عظيمة، منها مقادير كبيرة من الذهب والفضة. وكان على العموم نصرًا مشهودًا أعاد ذكرى الجهاد المجيد. وكان معظم الفضل في إحرازه يرجع إلى الجند المغاربة وإلى شيوخهم بني العلاء الذين تزعموا الجيوش الأندلسية، وتولوا قيادتها في تلك الفترة. ويعلل
ابن خلدون ظهور القادة والجند المغاربة في ميدان الجهاد بقرب عهدهم بالتقشف والبداوة. ووضع المسلمون جثة الدون بيدرو في تابوت من ذهب على سور الحمراء تنويهًا بالنصر، وتخليدًا لذكرى الموقعة [2].
معاهدة الصلح مع مملكة أراجون
وفى سنة 721هـ / 1321م جدد السلطان إسماعيل بن الأحمر النصري معاهدة الصلح مع ملك أراجون خايمى الثاني وذلك تحقيقًا لرغبته؛ ونص في المعاهدة الجديدة على:
- أن يعقد بين الفريقين صلح ثابت لمدة خمسة أعوام، تؤمن خلالها أرض المسلمين بالأندلس وأرض أراجون تأمينًا تامًا برًا وبحرًا.
- وأن تباح التجارة لرعايا كل من الفريقين في أرض الآخر.
- وأن يتعهد كل من الملكين بمعاداة من يعادى الآخر، وأن لا يأوي له عدوًا أو يحميه.
- وأن تكون سفن كل فريق وشواطئه ومراسيه آمنة، وأن يسرح كل فريق من يؤسر في البحر من رعايا الفريق الآخر.
- وتضمنت المعاهدة أيضًا نصًا خاصًا بتعهد ملك أراجون بألا يمنع خروج المدجّنين من أراضيه إلى أرض المسلمين بأهلهم وأولادهم وأموالهم، وهو نص يلفت النظر، إذ كان المدجنون في هذا العصر يؤلفون أقليات كبيرة في بلنسية ومرسية وشاطبة وغيرها من القواعد الشرقية، وكان ملوك أراجون يحرصون على بقائهم وعدم هجرتهم لأسباب اقتصادية وعمرانية.
السلطان إسماعيل وتجديد عصر الجهاد ضد النصارى
وعلى أثر موقعة إلبيرة تعاقبت غزوات المسلمين في أراضى النصارى وعادت الدولة الإسلامية الفتية تجوز عهدًا من القوة بعد أن لاح أنها شارفت طور الفناء. ففي سنة 724 هـ / 1324م زحف السلطان إسماعيل على مدينة بيَّاسة الحصينة وحاصرها بشدة، وأطلق المسلمون عليها الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع حتى سلمت. وفى رجب من العام التالي (725هـ / 1325م) سار إسماعيل إلى مرتش واستولى عليها عنوة، وكانت أعظم غزواته، وامتلأت أيدي المسلمين بالسبي والغنائم، ثم عاد السلطان إلى غرناطة مكللا بغار النصر.
اغتيال السلطان أبي الوليد إسماعيل
بيد أنه لم تمض على عوده ثلاثة أيام حتى قُتل بباب قصره غيلة، وكان قاتله ابن عمه محمد بن إسماعيل صاحب الجزيرة، وقد حقد عليه لأنه انتزع منه جارية رائعة الحسن، ظفر بها في موقعة مرتش، وبعث بها إلى حريمه بالقصر. ولما عاتبه محمد رده بجفاء وأنذره بمغادرة البلاط، فتربص به وطعنه بخنجره وهو بين وزرائه وحشمه، فحمل جريحًا حيث توفى على الأثر.
وكان مصرعه في السادس والعشرين من رجب سنة 725هـ / يونيه سنة 1325م، وعظمت فيه فجيعة المسلمين لما ثكلوا من جهاده وعزمه، وبلوه من سعده وعز نصره، فكثرت فيه المراثي، وتراهنت في شجوه القرائح، وبكاه الغادي والرائح.
وكُتب على لوح من الرخام بباب قبره:
"هذا قبر السلطان الشهيد، فتَّاح الأمصار، وناصر ملّة المصطفى المختار، ومحيي سبيل آبائه الأنصار، الإمام العادل، الهمام الباسل، صاحب الحرب والمحراب، الطاهر الأنساب والأثواب، أسعد الملوك دولة، وأمضاهم في ذات الله صولة، سيف الجهاد، ونور البلاد الحسام المسلول في نصرة الإيمان، والفؤاد المعمور بخشية الرحمن.
المجاهد في سبيل الله، المنصور بفضل الله، أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن الهمام الأعلى الطاهر الذات والفخار، الكريم المآثر والآثار، كبير الإمامة النصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدّس، المرحوم أبي سعيد فرج، ابن علم الأعلام، وحامي حمى الإسلام، صنو الإمام الغالب، وظهيره العليّ المراتب، المقدّس، المرحوم أبي الوليد إسماعيل بن نصر، قدّس الله روحه الطيّب، وأفاض عليها غيث رحمته الصيّب، ونفعه بالجهاد والشهادة، وحباه بالحسنى والزيادة، جاهد في سبيل الله حقّ الجهاد، وصنع له في فتح البلاد، وقتل كبار الأعاد، ما يجده مذخورا يوم التناد، إلى أن قضى الله بحضور أجله، فختم عمره بخير عمله، وقبضه إلى ما أعدّ له من كرامته وثوابه، وغبار الجهاد طيّ أثوابه، فاستشهد رحمه الله شهادة أثبتت له في الشهداء من الملوك قدما، ورفعت له في أعلام السعادة علمًا" [3].
[1] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 1/ 206 - 207. ابن الخطيب: اللمحة البدرية في الدولة النصرية، ص71 - 74.
[2] راجع في تفاصيل هذه الموقعة الشهيرة، ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، 4/ 172، 7/ 250. ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 1/ 207 – 208. المقري التلمساني: نفح الطيب، 1/ 210.
[3] ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، 1/ 211.
المصادر والمراجع:
- ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1424هـ.
- محمد عبد الله عنان:دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: الرابعة، 1417هـ - 1997م.
- الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر / مايو 2002م.