عبد الرحمن الناصر والعلم في الأندلس
عبد الرحمن الناصر
يذكر المؤرخون أن النهضة العلمية في
الأندلس بدأت متأخرة بعض الشيء، وهي التي قام عليها عماد تلك الحضارة العظيمة، التي قلَّما يجود الزمان بمثلها.
والحق أن بوادر تلك النهضة العلمية كانت مع الفاتحين الأوائل، الذين كان بينهم العديد من العلماء، في مختلف مجالات الحياة، ثم كان أن أنعم الله على الأندلس، وشعب الأندلس بحكام علماء، نشأوا على حُب العلم وأهله، وعرفوا ما للعلم من أهمية وقيمة في الرقي بمجتمعه وأمتهم، فساعدوا على قيام تلك النهضة العلمية، وكان من أعظم هؤلاء الخلفاء وأبرزهم عبد الرحمن الناصر، وابنه الحكم المستنصر.
عبد الرحمن الناصر والنهضة العلمية:
كان لنشأة الناصر العلمية، وحبه للعلم منذ صغره دور بارز في النشاط العلمي الذي حدث للأندلس أثناء تولِّيه الخلافة، فقد درس عبد الرحمن القرآن والحديث وهو طفل لم يبلغ العاشرة بعدُ، وبرع في اللغة والحساب وفنون الفروسية، وتلقّى العلم على أيدي محدثين وفقهاء كبار، منهم "قاسم البياني"[1].
وعلى الرغم من تولِّيه السلطة في عهد مليء بالفتن والاضطرابات، إلاّ أنه استطاع بفطنته وذكائه أن يقضي على كل هذه الفتن، ويوحِّد البلاد تحت إمرته، ويعلن
الخلافة الأموية بالأندلس، وتلقَّب بـ"أمير المؤمنين الناصر"[2]، وبدأ يركز على العلم والعلماء، ومحاولة الترقي العلمي بالأندلس؛ لذلك يذكر المؤرخون أن بلاط الناصر كان يحفل بالكثير من العلماء والأدباء، فمنهم ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد"، ومنذر بن سعيد كبير فقهاء عصره، و
أبو القاسم الزهرواي الطبيب والجراح الكبير، وقد كان عبد الرحمن يكرم هؤلاء العلماء، ويُجِلُّهم، ويحرص كل الحرص على إنزالهم ما يليق بهم من مكانة، والسماع لرأيهم ومشورتهم دائمًا، كما اجتهد في تخير قضاته من أولي العلم والمعرفة[3].
هذا وقد بلغ من عناية "الناصر" بالعلم والمعرفة أن بذل جهدًا خارقًا في جمع الكتب، كما وضع أساس المكتبة الأموية الكبرى[4] التي ازدهرت في عهد ابنه "
المستنصر"، ورفعت من شأن الأندلس كمنارة علمية كبرى يقصدها القاصي والداني.
ويُذكَر أنه اشتُهِرَ عنه اهتمامه بالكتب، وولعُه الشديد باقتنائها، حتى بلغ ذلك أحد ملوك عصره، وهو الإمبراطور البيزنطي "أرمانوس" الذي أرسل له هدية علمية، يتودَّده ويأمل أن يحوز رضاه، فأرسل إليه كتابين من تصانيف الأوائل، أحدهما في الطب: وهو كتاب "ديسقوريدس"، والآخر في التاريخ: وهو كتاب "رهوشيش"، وكان باللاتينية[5].
وبذلك كان عهد الناصر بداية مجيدة، ودفعة قوية، لعصرٍ عظيمٍ ازدهرت فيه العلوم والآداب، وانصرف العلماء فيه لتحصيل العلم وتصنيف الكتب في شتى فروع المعرفة، ولا ريب في ذلك فإنَّ كثيرًا من كتب العلم التي أُلِّفت في عهده، لَتَدُل على ما اتَّسم به من مناخ خصب نمت فيه القدرات العلمية، فأعطت ثمارًا يانعة في ميدان الفكر، وجعلت من حاضرة الخلافة قرطبة دارًا للعلوم، ومركزًا ثقافيًّا مهمًّا استقطب العلماء من نواحي الأندلس المختلفة، بل ومن خارجها، في صورة تؤكد عظمة ذلك العصر، ومدى اهتمام الناصر بالعلم والعلماء حينئِذٍ.
يُذكَر من اهتمامه بعلوم الحياة أن حركة الاشتغال بالطب ـ مثلاً ـ بدأت في عصره تأخذ أبعادًا جديدة، فتتبعت الخيرات في أيامه، ودخلت الكتب الطبية من المشرق، وقامت الهمم، وظهر الكثير من الأطباء المشهورين في دولته.
ومن أهم تلك الكتب كتاب "زاد المسافر" الذي نقله الطبيب العلاّمة ابن بريق، الذي كان من أمهر أطباء الأندلس، ودرس الطب في القيروان على يد ابن الجزار ستة أشهر، ثم عاد للأندلس بهذا الكتاب، فأحسن الناصر وفادته، وأجزل له العطاء.
وكان الخلفاء يحرصون على أن يكون في قصورهم عدد من الأطباء البارعين المهرة، لحاجتهم إليهم في التداوي، ولهذا اشتغل الكثير من الأطباء الأندلسيين، وعُرِفوا بخدمة الخلفاء، وممارستهم الطب في قصورهم، فمنهم أصبغ القرطبي، الذي خدم عبد الرحمن الناصر، وكذلك ابن بريق، ومنهم سليمان بن باج الذي عرف الناصر عنه تمكُّنَه العميق في الطب وتركيب الأدوية، فقرَّبه منه، وأصبح طبيبه الخاص، وكذا نال يحيى بن إسحاق مكانة رفيعة عند الناصر نظرًا لما تمتع به من سعة العلم والسيرة الحسنة، مما جعله يوليه الوزارة[6].
تقدير الناصر للعلماء:
لما بنى الناصر مدينة "الزهراء" واستفرغ جهده في زخرفتها وتنميقها وإتقان قصورها، كان من انهماكه بذلك أن تخلَّف مرة عن شهود الجمعة في المسجد الجامع بـ
قرطبة، والمفروض أن يشهدها في المسجد الجامع لا في غيره بحكم ولايته. فلمّا حضر لصلاة الجمعة بعد افتتاح "الزهراء" - وكان القاضي المنذر بن سعيد يخطب في المسجد، بدأ خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 128 - 135].
ومضى في هذه الطريقة والتذكير الخاشع، والموعظة المؤثرة، والقول البليغ في النفوس والقلوب - وما زال بالقوم حتى أخذ منهم الخشوع كل مأخذ، وضَجَّ المسجد على رحبه بالبكاء، وأخذ الخليفة من تلك الكلمات الإيمانية الصادقة بأوفر نصيب، فبكى وندم على ما حصل من التفريط، وكانت كل كلمة بالنسبة إليه سلاحًا ماضيًا يعمل عمله متخطيًا كل الحواجز والاعتبارات. غير أن الخليفة - على كل تأثره - وجد بعض الشيء على المنذر، وشكا ذلك لولده الحكم وقال - وقد أتعبته نفسه -: والله لقد تعمَّدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، فأسرف عليَّ، وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي، ثُمَّ أقسم ألاّ يصلي خلفه صلاة الجمعة، فجعل يلزم صلاتها وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة بـ
قرطبة ، ويجانب الصلاة في الزهراء؛ عند ذلك قال له ابنه الحكم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك إذا كرهته؟ وهنا تبدَّت الأصالة وغلب الدين، إذ قال الخليفة للحكم بعد أن زجره: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه - لا أُمَّ لك - يُعزَل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله ألا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعًا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكن أحرجني فأقسمت، ولوَدِدْتُ أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلِّي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض عنه أبدًا.
فهذه مكانة العلماء عند الناصر، مكانة عظيمة، يعرف بها حقهم، ويقدِّر موعظتهم ولو كانت ثقيلةً عليه.
[1] محمد عنان: تراجم إسلامية 167.
[2] ابن عذاري: البيان المغرب 2 /158.
[3] الإشبيلي: ريحان الألباب وريعان الشباب 1139.
[4] ماهر حمادة: المكتبات في الإسلام ص122.
[5] الإشبيلي: ريحان الألبان وريعان الشباب مخطوطة 1139.
[6] انظر ابن جلجل: طبقات الأطباء 110.