البعثة الأمريكية السرية لمعالجة الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود
نشر في : الثلاثاء 9 يونيو 2015 - 02:55 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 9 يونيو 2015 - 10:36 ص
بي بي سي – التقرير
منذ ستة عقود، كانت العلاقة متوترة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بشأن النفط والأمن الإقليمي، ولكن رحلة سرية قام بها طبيب الرئيس “ترومان” الشخصي لعلاج العاهل السعودي جعلت هذه العلاقة أفضل حالًا.
في فبراير 1950، أرسل السفير الأمريكي في المملكة العربية السعودية طلبًا غير اعتيادي إلى وزارة خارجية بلاده. وقال السفير: “لقد طلب HM مساعدتنا في الحصول على خدمات فورية من اختصاصي متميز، يمكنه أن يذهب إلى المملكة العربية السعودية لفحص وعلاج التهاب المفاصل المزمن الذي يعاني منه، والذي يشعره بانزعاج وضعف متزايد“. وكان “HM” هو ملك المملكة العربية السعودية، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، المعروف في الغرب باسم “ابن سعود”.
(وضعت البعثة في قصر ضيافة كان قد تم إنجازه حديثًا في الرياض)
وقد جاء هذا الطلب في وقت معقد بالنسبة للعلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية. وكانت الولايات المتحدة قد استأجرت مطار الظهران؛ إلا أن الكثير من السعوديين -بما في ذلك السلطات الدينية، الأكثر تحفظًا- معارضون لأي وجود عسكري أمريكي في بلادهم.
وكان ابن سعود نفسه لا يزال متخوفًا من اعتراف أمريكا بإسرائيل. وكانت هناك مفاوضات جارية بشأن كيفية اقتسام أرباح شركة أرامكو، وهي شركة النفط التي كانت مملوكة من قبل المملكة العربية السعودية وشركات أمريكية.
وكان الملك ابن سعود زعيمًا قويًا وذكيًا استطاع توحيد المملكة العربية السعودية. ولكنه كان يتقدم في العمر، كما حدَّ الألم والتورم في رجليه نتيجة إصابته بالتهاب المفاصل من قدرته على الحركة إلى درجة كبيرة، واضطره للجلوس على كرسي متحرك.
ولاحظت مذكرة صادرة عن وزارة الخارجية أن أطباء الملك قد قاموا بعمل جيد فيما يخص معالجة ابن سعود، وأن الملك “كان يمكن في حال أفضل لو أنه قبل بتوصياتهم وعلاجهم“. ولكن، قد تكون الرحلة الناجحة التي أجراها طبيب في سلاح الجو خلال وقت سابق لعلاج ولي العهد (الأمير سعود) من مشكلة في العين، هي ما أقنعت الملك بالبحث عن المساعدة الطبية في مكان آخر.
وبالفعل، أرسلت وزارة الدفاع اثنين من المختصين ومن رجال الجيش السابقين، وكذلك من الفنيين بالمعدات. ولكن الرئيس الأمريكي “ترومان” أضاف إلى الفريق أيضًا طبيبه الخاص، وهو العميد “والاس غراهام”.
وفي برقية كانت سرية، وأصبحت الآن في ملف الأرشيف القومي الأمريكي، قال وزير الخارجية آنذاك، دين أتشيسون، للسفارة الأمريكية في جدة، إن الرئيس أراد أن يقوم الجنرال غراهام “بخدمة صديقه العظيم والجيد” وبترأس الفريق الطبي لوزارة الدفاع.
وخرجت البعثة من واشنطن يوم 15 أبريل 1950، وكانت صغيرة وسرية. وبينما كان يجري وضع اللمسات الأخيرة على البعثة، أرسلت الحكومة السعودية برقية طارئة لسفيرها في واشنطن تطلب منه أن يقول لترومان بأنه “لا يسمح بقدوم أي صحفي مع الفريق الطبي“. وكان السعوديون يخشون من أن هذه الزيارة المفاجئة سوف تشعل الشائعات حول إصابة ابن سعود بمرض خطير، وبأنه يدرس التخلي عن العرش.
وكانت لدى ترومان أسبابه الخاصة أيضًا للحفاظ على سرية البعثة. حيث إنه، وعلى الرغم من أهمية المملكة العربية السعودية كحليف محتمل بسبب الشراكة في أرامكو ومشاعر الحكومة القوية المناهضة للشيوعية؛ إلا أن مثل هذا التحالف لم يكن ليحظى بشعبية في الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
(زوار من الولايات المتحدة يتناولون الطعام في الرياض)
وكان أطباء فريق الدفاع العسكري هما الدكتور جيلبرت ماركوارت، والدكتور داريل كرين. وكان الدكتور كرين من سكان واشنطن، وقد جلب معه هوايته، وهي التصوير الفوتوغرافي، إلى المملكة العربية السعودية. وقد وجدت حفيدة الدكتور كرين، أليس ماكل، هذه الصور، جنبًا إلى جنب مع العديد من الصور الأخرى، العام الماضي.
وبعد رحلة استمرت ثلاثة أيام، وصل الفريق إلى المملكة العربية السعودية، وكان في استقباله الملك، الذي كان -وفقًا لهيوارد هيل، وهو مستشار في السفارة الأمريكية- “ينتظر بفارغ الصبر وبحماس مجيء هؤلاء الأطباء“.
وعلى الرغم من دوره كطبيب، كان وجود الجنرال غراهام في الرحلة ذا طابع دبلوماسي أيضًا، وهو الأمر الذي أظهره غراهام في أول لقاء مع ابن سعود. وكتب هيل في مذكرة أرسلت إلى واشنطن حينها أن “الجنرال غراهام قال مبتسمًا إن الرئيس ترومان قام بإرساله كهدية إلى الملك“. ووفقًا لهيل أيضًا: “ضحك صاحب الجلالة، وقال إنها هدية ثمينة جدًا في الواقع“.
(الجنرال والاس غراهام في الوسط)
(الدكتور داريل كرين على يسار الصورة انضم إلى الجنرال غراهام في البعثة)
وفي عام 1989، قال الجنرال غراهام لأحد المؤرخين إن ألم ابن سعود كان شديدًا. وأضاف أنه طلب من ابن سعود أن يأتي إلى الولايات المتحدة لإجراء عملية جراحية، ولكن الملك رفض ذلك.
(ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز في عام 1950)
(التهاب المفاصل حدَّ من قدرة ابن سعود على السفر)
وقدمت البعثة أيضًا معلومات إلى وزارة الخارجية عن الحياة اليومية للمواطنين السعوديين. وكتبت وزارة الخارجية الأمريكية في مذكرتها: “لوحظ باهتمام كبير أن العديد من القيود القديمة على الموسيقى، والألعاب، وغيرها من أشكال التسلية غير الدينية، قد رفعت في المملكة العربية السعودية“. ومنحت المذكرة ولي العهد -الأمير سعود- الفضل في إجراء معظم هذه التغييرات.
وخلال الزيارة، أجرى ولي العهد مباراة بيسبول بين الأطباء الزائرين والأمريكيين الذين يعملون في شركة Bechtel، وكذلك مباراة لكرة القدم ضد المنتخب السعودي المحلي، فاز فيها السعوديون بنتيجة 6: 0.
ورغم رفض إجراء الجراحة، أدت معالجة ابن سعود إلى تخليصه من بعض الألم، وبدأ يأخذ على عاتقه مرة أخرى مسؤوليات المملكة التي كانت قد وضعت على عاتق ابنه. وذكرت برقية بتاريخ مايو أن العاهل السعودي قد ترك استخدام الكرسي المتحرك، وأصبح يتحرك بسهولة كبيرة.
وذكر السفير تشايلدز في برقية إلى وزارة الخارجية أن المهمة خلقت “كمية كبيرة من النوايا الحسنة“.
وفي أغسطس من العام التالي، تعرض ابن سعود مرة أخرى “لآلام شديدة وتشنجات في أسفل البطن“. وفي مذكرة للرئيس، أوصى وزير الخارجية “بشدة” بأن يتم إرسال الجنرال غراهام وطبيب آخر إلى المملكة العربية السعودية على الفور.
وقال الوزير إن إرسال الجنرال غراهام لم يكن “مقدرًا بعمق” فقط من قبل ابن سعود، بل كان “أيضًا إنجازًا دبلوماسيًا مهد الطريق أمام التوقيع مؤخرًا على اتفاقية مهمة للغاية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية“. وكان الوزير هنا يشير إلى اتفاقية الدفاع المتبادل، التي هي أساس التعاون العسكري بين الدولتين حتى هذا اليوم.
وبالفعل، وافق الرئيس ترومان على إرسال البعثة مجددًا. وقال لرئيسها إنه وزملاءه في طريقهم لتأدية خدمة مهمة لرجل عظيم.