مير البحار.. خير الدين بربروس
أحمد أمين
كاتب وباحث في التاريخ الإسلامي
يحفل تاريخنا الإسلامي بسير العظماء والقادة الذين تركوا بصمتهم واضحة على ما قدموه إلى الإسلام والمسلمين. لكن كثيرا من هؤلاء العظماء أصبحوا شخصيات حبيسة بطون الكتب؛ حيث ضن المؤرخون بذكرهم أو تناول سيرتهم العطرة، حتى استغل الغرب ذلك فقام بتشويه صور الكثير من شخصياتنا التاريخية، ولطخ تاريخها الناصع البياض.
فأردنا أن نزيح بعض الغبار عن سيرتهم وكفاحهم؛ لتستلهم الأجيال القادمة بطولاتهم وصولاتهم، ولتكون نبراسا لنا في طريق المجد والصعود نحو قيادة العالم مرة أخرى كما قاده هؤلاء المجاهدون.
من هذه الشخصيات أمير البحار المجاهد خير الدين بربروس ، أبرع من ركب البحر، وقاد السفن، وخاض المعارك الحربية البحرية، وفتح للمسلمين بلادا عديدة، وحرر كثيرا من البلاد المحتلة، ووجه ضرباته القوية المؤلمة إلى أعداء الإسلام، فكسر شوكتهم، وهزم جيوشهم، وذاع صيته في أوروبا كلها، وأطلق عليه الأوروبيون لقب: بربروس ، وهو يعني: ذو اللحية الحمراء.
وبلغ من شدة خوفهم وهلعهم منه أنهم كانوا يدعون في صلواتهم:
بربروس بربروس
أنت صاحب كل شر
ما كان من ألم أو عمل
مؤذ وجهنمي مدمر
إلا والــســـبب فـــــيه
هذا القرصان الذي
لا نظير له في العالم (1)
ومن أجل تشويه صورته قام الغرب بإنتاج سلسلة أفلام ضخمة حملت اسم: قراصنة الكاريبي، وصور فيها المجاهد خير الدين بصورة وحشية ودموية، ووصفه بالخسة والنذالة؛ محاولا أن ينال من ذلك القائد العظيم الذي أذل قادتهم، وهزم جيوشهم، حتى إن كارلوس الخامس ملك إسبانيا كان يصرخ في قواده قائلا:
«لقد جعلتموني مسخرة بين الملوك، فليس فيكم من يستطيع التصدي لبربروس» (2).
الاسم والمولد والنشأة
هو خضر بن يعقوب، الملقب بخير الدين، ولد عام 1472م في جزيرة لسبوس اليونانية، لأب من الانكشارية (3) ترك في أبنائه حب الجهاد، وأم أندلسية كان لها الفضل الكبير في اهتمام خير الدين وأخيه عروج بمسلمي الأندلس فيما بعد (4).
كان لبربروس ثلاثة أشقاء، هم: عروج، وإلياس، وإسحاق، شاركوه في جهاده البحري، وخاضوا معه المعارك، وقد استشهدوا جميعا في معارك حربية، بينما توفي هو في 4 يوليو 1546م في مدينة إسطنبول.
بداية الحركة الجهادية
عمل هو وإخوته في بداية حياتهم في التجارة البحرية، وعندما وجدوا فرسان القديس يوحنا (جزيرة رودس) عاثوا فسادا في سواحل المدن الإسلامية، وأن الإسبان احتلوا بعض المدن الإسلامية في المغرب العربي، اندفعوا إلى جهاد هؤلاء المعتدين بحريا.
كون خير الدين أسطوله البحري الصغير بمساعدة أخيه عروج، وبدأ رحلته الجهادية مهاجما بعض السفن الأوروبية الحربية، وأسر من فيها، ومبادلتهم بأسرى مسلمين.
وقد استعان خير الدين بالبحارة الأندلسيين الفارين من بطش محاكم التفتيش، واستفاد من مهارتهم العالية في صناعة السفن وقيادتها، وكانوا يشكلون جزءا كبيرا من طاقمه البحري.
وتوجه عروج وخير الدين نحو جزيرة جربة في تونس سنة 1504م، واتفقا مع أميرها أبي عبدالله محمد بن الحسن الحفصي (5) على أن يمنحهما ميناء حلق الوادي؛ ليجعلا منه قاعدة لهما مقابل أن يدفعا له خمس الغنائم التي يغنمانـها، فوافق الحفصي، وعقد معهما الاتفاق.
وبدأت هجمات الأخوين تزداد قوة وشراسة، وتدفق عليهما المجاهدون من كل صوب وحدب، وبدأ أسطولهما الحربي في النمو، وهاجما به الأساطيل الأوروبية، واستطاعا - رغم قلة عدتهما وعتادهما - إلحاق أضرار جسيمة بتلك الأساطيل، وهزيمتهم في العديد من المواقع، وأسر جنود منهم، ونصب أكمنة، ومحاصرتهم، ومنع وصول الإمدادات إلى القوات الغازية لشمال إفريقيا، مما جعل الأخوين مصدر خطر على أوروبا في ذلك الحين.
التحالف مع العثمانيين
بدأ عود أسطوله يشتد، فهاجم شواطئ جنوة والبندقية، وإسبانيا وإيطاليا، وأصبح وجوده مثيرا لفزع الدول الأوروبية. واستطاع الأخوان استعادة مدينة بجاية من الإسبان، وحماية الجزائر من هجماتهم، واتخاذها مقرا لهم.
وفي عام 1518 استشهد عروج، وتولى القيادة من بعده خير الدين، وأرسل إليه السلطان العثماني سليم الأول أسطولا بحريا، وعددا كبيرا من المدافع، و2000 جندي للعمل تحت إمرته، ومنحه رتبة بكلر بك، والتي تعني: القائد الأعلى للقوات الإسلامية في إقليمه، وأصبحت مدينة الجزائر تابعة للخلافة العثمانية، كأول مدينة في الشمال الإفريقي (6).
وكان انضمام بربروس إلى العثمانيين بمنزلة طعنة رهيبة لقوى الاستعمار الأوروبي، وأصبح خير الدين حجر عثرة في طريق طموحهم الاستعماري، لذلك قام ملك صقلية هيكو دي مينكادا في سنة 1519م بحملة ضد خير الدين لكنها باءت بالفشل؛ لصلابة خير الدين وقوته وتصديه الباسل لتلك الحملة (7).
وقد وجه خير الدين أسطوله نحو تونس وتلمسان وحررهما، وتمكن أيضا من طرد الإسبان نهائيا من قلعة البينيون، والتي كانوا قد احتلوها قبالة مدينة الجزائر، وكان ذلك عام 1530م (، حيث حاصر القلعة لمدة عشرين يوما، وقصفها بالمدافع حتى هدم أسوارها، واقتحمها مع جنده، وأسر قائد القلعة وكبار ضباطه. ثم طلب منه السلطان سليمان القانوني فتح تونس، التي كان يحكمها مولاي حسن، آخر سلاطين بني حفص، وكان متعاونا مع الإمبراطور الأوروبي شارلكان (كارلوس الخامس)، وكان الشعب التونسي ناقما على ذلك الوضع، فتوجه خير الدين بأسطوله وفتح تونس (9)، وسط ترحيب كبير من سكانها. وحكمها باسم العثمانيين، وعينه السلطان سليمان القانوني قائدا عاما للأساطيل العثمانية.
بعد توالي انتصارات بربروس ، وفرض سيطرته على المتوسط والكاريبي، تداعى الأوروبيون للقضاء عليه، فتكون تحالف على رأسه البابا بفرسانه وإسبانيا وفرنسا والبندقية والبرتغال، وتم تجهيز أكثر من 600 سفينة حربية؛ بغرض إنهاء سيطرة بربروس على المتوسط والقضاء على دولته.
وكانت المعركة في خليج بروزة، 4 من جمادى الأولى 945هـ - 1538م؛ حيث التقت أساطيل التحالف الأوروبي بأساطيل خير الدين، المكونة من 122 سفينة، ودارت معركة حسمت لخير الدين، الذي فاجأ السفن الأوروبية بهجوم غير متوقع، فتفرقت سفنهم، وفقدت تشكيلاتها العسكرية، فوقعت فيهم الهزيمة، ووقع أكثر من 2000 جندي في الأسر، وغنم ما يربو على 36 سفينة حربية، وفرض خير الدين سيطرته وهيمنته كاملتين على البحر المتوسط (10).
نجدة مسلمي الأندلس
انتشرت هجمات خير الدين لتطول مدنا أوروبية ساحلية، إلا أن أعظم ما قام به كان إنقاذ كثير من مسلمي الأندلس من بطش محاكم التفتيش؛ حيث كان صريخ الموريسكيين يتوالى كل يوم طالبا النجدة والغوث مما تفعله بهم محاكم التفتيش.
فكان يتم الاتفاق سرا مع المسلمين أن يكونوا موجودين ليلا في أماكن محددة من شواطئ بلنسية؛ لتنقلهم سفن بربروس إلى مدينة الجزائر.
وقد ذكرت مصادر تاريخية أنه نقل أكثر من 70 ألف مسلم، حملهم في 7 رحلات بأسطول بحري مكون من أكثر من 30 سفينة.
ولم يكتف بذلك، بل هاجم سفن الأسطول الإسباني، وأسر جنودا منه؛ ليقايضهم بمسلمين أندلسيين (11).
وأصعب الرحلات التي تعرضت للمخاطر كانت عام 1529م، حين أرسل بعض المسلمين الموريسكيين رسالة إلى خير الدين ليقلهم إلى الجزائر، فأرسل خير الدين نائبيه ريس صالح وإيدين ريس، واستطاعا جمع أكثر من 600 موريسكي، لكن قبل مغادرة الميناء هجم عدد كبير من السفن الإسبانية، وتمت مطاردة رجال خير الدين حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار)، لكن فجأة انقلبت سفن المجاهدين من الدفاع إلى الهجوم، ودمرت عددا كبيرا من السفن الإسبانية، وغنمت بعضها، وعادت إلى مدينة الجزائر سالمة، حاملة معها الموريسكيين، وبعض أسرى الإسبان (12).
غزو فرنسا
أثناء الحرب الدائرة بين ملك فرنسا فرنسوا الأول والإمبراطور كارلوس (شارل الخامس) حول دوقية ميلان (شمال إيطاليا)، استنجد فرنسوا بالسلطان سليمان القانوني وطلب مساعدته، فأرسل السلطان سليمان حملة كبيرة على رأسها أمير البحار خير الدين، فغادر إسطنبول في 23 من صفر 950هـ 28 من مايو 1543م. وفي طريقه إلى فرنسا استولى خير الدين على مدينتي مسينة التابعة لصقلية، وريجيو الإيطالية من دون مقاومة، ثم استولى على ميناء أوستيا الإيطالي، حتى وصل إلى ميناء مارسيليا الفرنسي، ورفعت السفن الفرنسية الأعلام العثمانية احتفالا بقدوم خير الدين ورجاله، ونجح خير الدين في استعادة ميناء نيس الفرنسي من حاكمه الإسباني، وتسليمه إلى الملك الفرنسي (13).
ميناء طولون
كان لمساعدة العثمانيين للفرنسيين أثر كبير، فقام الفرنسيون بالتنازل عن ميناء طولون، وتسليمه إلى السلطان العثماني، وتحول الميناء إلى مركز للقوات البحرية الإسلامية، ومن خلاله قام العثمانيون باعتراض الأساطيل الإسبانية التي كانت تهدد المغرب العربي.
وخلال إدارة المسلمين للميناء أخلت الحكومة الفرنسية الثغر كله للمسلمين؛ ليتحول إلى مدينة إسلامية، وارتفع الأذان في جنبات المدينة (14).
صفاته وأخلاقه
كان خير الدين يمتاز بالقوة والدهاء والإقدام والشجاعة، وكان سخيا كريما محبا للفقراء والمساكين، كثير العطف عليهم، قوي الإيمان بالله، ذا صلابة في الجهاد وقناة لا تلين، إلى جانب تصميم وعزم لا يتطرق إليهما أي ضعف، ونظرة صائبة خاطفة، لا تكاد تخطئ التقدير ولا التدبير، وجرأة واندفاع لا يباليان بالصعوبات، ولا يحسبان حسابا للعقبات، ودقة في السياسة، وتدبير الملك، وعبقرية ترافقه ساعة الحرب وساعة السلم.
وصفه المؤرخ التونسي ابن المضياف: «خير الدين هذا من رجال الدنيا، بل والآخرة، فهو كما قال بعض الأدباء: خير الدين والدنيا» (15).
قاد خير الدين حروب الإيمان، وحقق فوزا عظيما، واتصف بالوفاء والإخلاص وإنكار الذات، والاستعداد الدائم للتضحية، والصدق، والشجاعة بكل أشكالها. ويحفظ لنا التاريخ رده على شارلكان عندما قال له: «يجب ألا تنسى أن الإسبان لم يخذلوا في معركة، وأنهم قتلوا أخويك إلياس وعروج، وإن تماديت فيما أنت عليه وركبت رأسك فإن عاقبتك ستكون كعاقبة أخويك».
فأجاب خير الدين: «سترى غدا، وإن غدا ليس ببعيد، أن جنودك ستتطاير أشلاؤهم، وأن مراكبك ستغرق، وأن قوادك سيرجعون إليك مكللين بعار الهزيمة» (16).
وعندما حاصر شارلكان (كارلوس الخامس) ملك إسبانيا الجزائر خرج له خير الدين ومعه حزم وعزم، وتلا على جميع قواده وجنوده قوله تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7)، وتقدم إلى الميدان ومعه رجاله، وقال لهم: «إن المسلمين في المشرق والمغرب يدعون لكم بالتوفيق؛ لأن انتصاركم انتصار لهم، وإن سحقكم لهؤلاء الجنود الصليبيين سيرفع من شأن المسلمين وشأن الإسلام».
فصاحوا كلهم: «الله أكبر»، وهاجموا الإسبان فأبادوهم عن آخرهم (17).
وفاة بربروس
كانت حملة خير الدين بربروس على ميناء طولون هي آخر حملة، فلم تطل به الحياة بعد عودته إلى إسطنبول؛ حيث توفي في 953هـ - 1547م، تاركا خلفه تاريخا عظيما سطره هو وإخوته بدمائهم الزكية التي سالت من أجل الدفاع عن راية التوحيد وحماية بلاد المسلمين.
الهوامش
(1) مجلة تاريخ وحضارة المغرب في كلية الآداب في الجزائر 1969م، العدد 6.(2) مذكرات خير الدين بربروس، ترجمة د. محمد دراج، ص148.(3) الانكشارية: مقاتلون كانت تتم تربيتهم منذ الصغر على الجهاد والقتال في مدارس خاصة أعدها العثمانيون، تشبه المدارس الحربية حاليا.(4) انظر: أحمد توفيق مدني، حرب الثلاثمئة سنة بين الجزائر وإسبانيا، ص15.(5) انظر: المصدر السابق، ص158.(6) تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد، ص231.(7) انظر: حرب الثلاثمئة، ص206.( الدولة العثمانية لعلي الصلابي، ص214.(9) انظر: الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد، ص232.(10) انظر: مذكرات خير الدين بربروس ، ترجمة د. محمد دراج، ص188-190.(11) دولة الإسلام في الأندلس نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، ص386.(12) المرجع السابق، الصفحة نفسها.(13) انظر: خير الدين بربروس والجهاد في البحر لبسام العسيلي، ص165-166.(14) المصدر السابق نفسه.(15) حرب الثلاثمئة بين إسبانيا والجزائر، ص203.(16) خير الدين بربروس ، ص170-171.