ابن رضوان المصري.. إمام الطب
د. راغب السرجاني طبيب آخر، كان رئيس الأطباء في كل مصر في زمنه، وله مع النبوغ قصة مختلفة.
هو أبو الحسن بن رضوان بن علي بن جعفر، وُلِدَ بالجيزة في مصر، وبها نشأ ونبغ وتصدَّر الطب إلى أن مات في سنة (453هـ/ 1061م) .
وهو عصامي، مات أبوه وهو في الرابعة عشرة من عمره ، فاشتغل بعدَّة صناعات كالطب والتدريس ليعول نفسه، حتى نبغ في الطب فأصبح دخله من الطب يكفيه، وكان في السنة الثانية والثلاثين كما يروي عن نفسه .
عاش ابن رضوان في حكم الدولة العبيدية (الفاطمية)، وبلغ من نبوغه في الطب أن صار رئيس الأطباء للحاكم صاحب مصر .
وقصة النبوغ المختلفة لابن رضوان هي ما كان من معلم جلس إليه صغيرًا ليتعلَّم الطب، فكان المعلم يقرأ من الكتاب دون أن يفسِّر ويُعَلِّقَ على ما يقرؤه؛ فانصرف عن الجلوس للشيوخ، وأكبَّ على كتب الطب يلتهمها التهامًا، ومن هذه الحصيلة العلمية النظرية، ومن مشاهداته العملية تَكَوَّن الطبيب النابغة أبو الحسن علي بن رضوان.
ولذا أَلَّف كتابًا يقول فيه: إن التعلم من الكتب أفضل من التعلم من الشيوخ. وهي النظرية التي قال بها، وخطَّأه فيها كثير من معاصريه ولاحقيه، خاصَّة ابن بطلان الذي أفرد كتابًا للردِّ على هذا .
أقوال العلماء في ابن رضوان المصري:
لكن الذين ترجموا لابن رضوان –وإن لم يوافقوه على هذا المنهج- اعترفوا له بالنبوغ في الطب، وكذا في الفلسفة، فهو -أيضًا- من الموسوعيين الذين جمعوا بين فنون شتى.
فيقرِّر مؤرخ الإسلام الذهبي أنه "صاحب المصنَّفات، من كبار الفلاسفة الإسلاميين" . ويقول: "الفيلسوف الباهر.... واشتغل في الطب، ففاق فيه، وأحكم الفلسفة ومذهب الأوائل وضلالهم... صنَّف كتابًا في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين، وهذا غلط، وكان مسلمًا موحِّدًا" .
ويقول ابن تغري بردي: "كان من كبار الفلاسفة في الإسلام... كان إمامًا في الطب والحكمة، كثير الردِّ على أرباب فَنِّه" .
ويصفه ابن العماد الحنبلي فيقول: "الفيلسوف صاحب التصانيف كان رأسًا في الطب" .
وينقل عنه المقريزي المؤرخ فيما سوى الفلسفة والطب، فينقل عنه في شأن هندسة الأهرام المصرية، وفي طبيعة أهل مصر، وفي جغرافية مصر وتاريخها أيضًا، وغير ذلك .
وفي شأن الاشتباك الذي دار بين ابن رضوان وابن بطلان في شأن الأخذ من المعلِّم، نجد ابن أبي أصيبعة يشهد لابن رضوان بالتفوق العلمي فيقول: "وكان ابن بطلان أعذب ألفاظًا، وأكثر ظرفًا، وأميز في الأدب... وكان ابن رضوان أطب وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها" .
إنجازات ابن رضوان المصري الطبية:
"كان أبو الحسن علي بن رضوان يبذل جهدًا عظيمًا في محاولته لتشخيص العلَّة عند المريض... ونهج منهجًا رائعًا في فحص المريض، يدلُّ على طول باعه في ميدان العلوم الطبية، لقد اندهش أطباء العصر الحديث من الطريقة التي سلكها ابن رضوان في فحصه لجسم العليل؛ حيث إن طريقته التي كان يطبقها لا تختلف كثيرًا عن الفحص الإكلينيكي المتَّبع في هذه الأيام" .
وكُتبه في علم الطب لا تحتوي فقط على العلوم والمعارف الطبية، بل زخرت بالجانب التربوي والأخلاقي، ففي أبرز مؤلفاته (النافع في كيفية تعليم صناعة الطب) يتحدَّث عن طريقة تعليم الطب بالنسبة للمتعلِّم، ثم الصفات الواجب توافرها في التلميذ الراغب في دراسة الطب، وعلامات كفاءة الممارس في صناعة الطب .
مؤلفات ابن رضوان المصري:
شهد مَنْ ترجموا لحياة أبي الحسن بن رضوان بأنه صاحب المصنَّفات، وبأنه كثير الردِّ على أرباب فَنِّه، إلى جانب ما حفلت به حياته من معارك دارت حول رؤيته بأن تَعَلُّم الطب على الكتب أفضل، وبما كان يَتَّصف به من حدَّة في الردِّ والمناظرة والنقد، غير أنه يُشهد له بالخير والدين، فيقول الصفدي: "وفيه تشنيع في بحثه، إلاَّ أنه كان يرجع إلى خير ودين وتوحيد" . ويقرِّر الذهبي ذلك فيقول: "وكان مسلمًا وموحِّدًا"، ولعلَّ هذا ما عناه ابن تغري بردي بقوله: "وكان فيه سعة خُلق عند بحثه" .
فكان من الطبيعي لرجل تَعَلَّم على الكتب وحدها، وعاش حياة حافلة بالردود أن يحفل تراثه بالمؤلفات والتصانيف، حتى قاربت المائة مُؤَلَّف، واسْتَغْرَقَتْ من ابن أبي أصيبعة سبع صفحات في سردها ، إلاَّ أن أغلبها مفقود للأسف . وأهم كتبه قاطبة كتابه (النافع في كيفية تعلم صناعة الطب). ومن مؤلفاته:
- شرح كتاب العرق لجالينوس.
- شرح كتاب الصناعة الصغيرة لجالينوس.
- شرح كتاب النبض الصغير لجالينوس.
- شرح كتاب جالينوس إلى أغلوقن في التأني لشفاء الأمراض.
- شرح كتاب الأسطقسات لجالينوس.
- شرح بعض كتاب المزاج لجالينوس.
- كتاب الأصول في الطب.
- رسالة في علاج الجذام.
- كتاب تتبع مسائل حنين.
- تفسير ناموس الطب لأبقراط.
- تفسير وصية أبقراط المعروفة بترتيب الطب.
- كلام في الأدوية المسهلة.
- كتاب في عمل الأشربة والمعاجين.
وغير هذا من مؤلفات في الطب، ومؤلفات أخرى كثيرة في الفلسفة وغيرها.
ويُعَدُّ ابن رضوان نموذجًا إنسانيًّا فريدًا؛ ففي سيرته التي كتبها عن نفسه، ثم في وصاياه التي أوردها في بعض كتبه نلمس جانب الإنسان القنوع المجتهد المنظَّم، الذي لم ينسَ العبادة والتأمُّل في ملكوت الله، ومحاسبة نفسه على أعمالها، والاهتمام بتغذية جسمه بالغذاء والرياضة، وفعل الخير، وترتيب الوقت بين مصالحه ومصالح أهله ومنافع بيته.
يقول عن نفسه (باختصار): "أتصرَّف في كل يوم في صناعتي بمقدار ما يُغني، ومن الرياضة التي تحفظ صحة البدن، وأغتذي بعد الاستراحة من الرياضة غذاء أقصد به حفظ الصحة، وأجتهد في التواضع والمداراة وغياث الملهوف، وأنفق على صحة بدني، وعمارة منزلي نفقة لا تبلغ التبذير، ولا تنحط إلى التقتير، وأتفقد آلات منزلي فما يحتاج إلى إصلاح أصلحته، وأُعِدُّ في منزلي ما يحتاج إليه من الطعام والشراب والثياب، فما فضل بعد ذلك له أنفقته في وجوه الخير، وأُنَظِّف وأُزَيِّن ثيابي، وأَلْزَم الصمت وكفّ اللسان عن معايب الناس، وأجتهد أن لا أتكلم إلاَّ بما ينبغي، وأتوقَّى الأيمان ومثالب الآراء، فأحذر العُجْب وحُبَّ الغلبة، وإن دهمني أمر فادح أسلمتُ فيه إلى الله تعالى، وقابلته بما يوجبه التعقُّل من غير جبن ولا تهوُّر، وما بقي من يومي بعد فراغي من رياضتي صرته في عبادة الله سبحانه بأن أتنزه بالنظر في ملكوت السموات والأرض، وتمجيد محكمها" .
وهكذا كان العلم يتعانق مع الإيمان في الحضارة العربية والإسلامية؛ فنتعلَّم من الطبيب الطبَّ والحكمةَ، والنظام، والتخطيط، والقناعة؛ لأن حضارتنا تصوغ الإنسان بدءًا من روحه وإنسانيته ذاتها.
المصدر: كتاب (
قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.
موضوعات ذات صلة:
البيرونيابن النفيسأبو بكر الرازي والطب الإكلينيكيابن سينا.. موسوعة العلم والعلومابن زهر .. الطبيب الإكلينكي ورائد علم الأورام