الهندسة في الحضارة الإسلامية
د. راغب السرجانيعلم الهندسة
يعرف علم الهندسة عند العلماء المسلمين بأنه العلم بقوانين تُعرف منه الأصول العارضة للكم من حيث هو كم. وجاء تعريفه في (مدينة العلوم) بأنه: علم يعرف منه أحوال المقادير ولواحقها، وأوضاع بعضها عند بعض، ونسبتها وخواص أشكالها، والطريق إلى عمل ما سبيله أن يعمل بها، واستخراج ما يحتاج إلى استخراجه بالبراهين اليقينية.
وفي حفاوة بالغة عن علم الهندسة تحدث
ابن خلدون في مقدمته بما يعكس نظرة إسلامية أصيلة لهذا الفرع من العلوم، فقال في تعريفه: هذا العلم هو النظر في المقادير، إما المتصلة: كالخط والسطح والجسم، وإما المنفصلة: كالأعداد وفيما يعرض لها من العوارض الذاتية، مثل: إن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في وجه ولو خرجا إلى غير نهاية، ومثل: أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين، ومثل: أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان، ومثل: أن الأربعة المقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع وأمثال ذلك.
والهندسة معرب (أندازه) - التسمية الأجنبية لها - ووجه التسمية ظاهر، وموضوعه: المقادير المطلقة، أعني - كما يقول القونجي -: الخط والسطح والجسم التعليمي، ولواحق هذه من الزاوية والنقطة والشكل (1).
أهمية علم الهندسة
تبرز أهمية علم الهندسة أو منفعته - كما يذكر القونجي - في الاطلاع على الأحوال المذكورة من الموجودات، وأن يكسب الذهن حدة ونفاذا، ويُروض بها الفكر رياضة قوية؛ لما اتفقوا على أن أقوى العلوم برهانا هي العلوم الهندسية.
ومن جملة منافعها: العلاج عن الجهل المركب؛ لما أنها علوم يقينية لا مدخل فيها للوهم؛ فيعتاد الذهن على تسخير الوهم، والجهل المركب ليس إلا من غلبة الوهم على العقل" (2).
وفي ذلك أيضا يقول ابن خلدون: واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَة الانتظام، جليّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق).
وقد زعموا - كما يذكر ابن خلدون - أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون: "من لم يكن مهندسا فلا يدخل منزلنا". قال: وكان شيوخنا - رحمهم الله - يقولون: "ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينفيه من الأوصار والأردان"؛ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه (3).
فلا عجب - إذا - في حق الأمة التي ينظر علماؤها إلى الهندسة كنور للعقل، ومُطهِّر للفكر من أدران العشوائية والفوضى.. أن تبرع في شتى التطبيقات الهندسية المتنوعة، على نحو ما سنراه في هذا البحث وغيره.
علم الهندسة قبل الإسلام
كما أن لكل ثمرة بذرة فإن لكل علم وصنعة جذور يرتد إليها ويقوم عليها، ولقد كان لعلم الهندسة في الإسلام بدايات تمثلت في حضارات شتى كانت قائمة بذاتها قبل مجئ الإسلام، وكان لكل منها طابعها الخاص والذي يقف فيه علم الهندسة عند حدود معينة ينتهي بخفوت هذه الحضارة ثم يشرق ثانية ببزوغ نجم حضارة جديدة.
ولقد كان من أهم ما يمثل الوضع العالمي لعلم الهندسة قبل الإسلام حضارة المصريين القدماء، تلك التي كان لعلم الهندسة في بنائها أثر كبير جدًا، بل كان هو السر الأعظم في فضل بقاء بعض آثار هذه الحضارة إلى الآن متمثلة في أهرامات الجيزة وغيرها.
فقد كان لقدماء المصريين حضارة راقية جدًا، تتضح من قياساتهم العمرانية الدقيقة، كالتي في هرم الجيزة الأكبر الذي بني سنة 2900 ق.م، فكانت قاعدته مربعًا كاملاً، تتجه أضلاعه جهة الشرق، وكل أوجه الهرم الجانبية لها نفس الميل (51.50) مما يدل على دقة متناهية في القياس، وكل حجر من أحجاره يزن 2 طن، وتتطابق هذه الصخور على بعضها تمام التطابق" (4).
وإن حاجتهم لتحديد مزارعهم بعد فيضان نهر النيل كل عام ليظهر مكانة علم الهندسة في حياتهم، وفضلا عن هذا فإن المعلمات المتوفرة أكدت أن لدى قدماء المصريين معرفة تامة بكيفية حساب حجم الهرم والهرم الناقص، يوضح ذلك محمد عبد الرحمن مرحبًا في كتابه (الموجز في تاريخ العلوم عند العرب) بقوله: ولا يقل المصريون عن السومريين براعة في العلم الرياضي، يدل على ذلك بناء الأهرامات الذي كشف عن معرفة واسعة بالهندسة، وقد وصف العلماء المحدثون رياضيات المصريين من بردية ريند RHIND، كما نجح المصريون في إقامة العمود باستعمال المثلث القائم الزاوية، وكانت حيلتهم في ذلك استخدام حبل به عقدتان تقسمانه إلى 3 قطع، بنسبة 3: 4: 5، وقد توصلوا إلى هذه الفكرة بالخبرة العملية المتكررة، كما استفادوا من هذه الفكرة في تعيين الجهات الأصلية الأربعة (5).
ومثل المصريين القدماء فقد كان للبابليين باع طيب أيضا فيما يخص علم الهندسة، "فلقد استطاع علماء بابل حساب سطوح الأشكال الهندسية وحجوم بعض الأشكال المجسمة مثل: الهرم والهرم المقطوع على قاعدة مربعة، كما عرفوا قيمة النسبة التقريبية واعتبروها.. حتى لقد صار من المسلم في يومنا هذا أن نظرية فيثاغورث المشهورة - مساحة المربع المنشأ على وتر المثلث قائم الزاوية تساوي مساحة المربعين المنشأين على الضلعين القائمين - هي في الحقيقة من ابتكارات علماء بابل" (6).
هذا وبنظرة عامة على إسهامات الحضارات القديمة في علم الهندسة فإنها لم تكن لتتعدى عملية البناء، تلك التي تمثلت في إقامة الجسور وتشييد السدود، ولم يتطرق هذا العلم في هذه الحضارات إلى التقنيات الدقيقة مثل فنون الحيل والميكانيكا الهندسية وغيرها، وهو الأمر الذي يمكن القول معه بأن علم الهندسة قديما لم يبعد أن يكون فنًا معماريًا (غير مكتمل النضج).
المسلمون وعلم الهندسة
كرم الله الإنسان بصفته عاقلا، وجاء الإسلام ورفع من شأن العقل وأعلى من مكانته، وحث على تعلم العلم، وإجالة الخاطر والنظر والفكر وذلك في أكثر من موضع من المصدر الأول من التشريع، والذي كان منه على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ] {الغاشية: 17- 20}، وقوله تعالى: [إن في خلق السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {البقرة: 164} وغيرها الكثير من الآيات التي تنتهي بقوله تعالى: [لقوم يتفكرون] - [لعلكم تعقلون].
ومن هنا وإذا كان علم الهندسة من العلوم الرياضية العقلية التي تستدعي الفكر وإعمال العقل، فإن الإسلام يكون أول ما يدعو إليه ويحث عليه، خاصة وأن استعمال مثل ذلك مما يؤدي إلى الإقرار بالوحدانية والاعتراف بالإبداع الكوني الرباني المعجز.
وقد تبلور علم الهندسة عند المسلمين وآتى ثماره عليهم وعلى غيرهم من الأمم والحضارات من خلال ما يلي...
علم الهندسة والاستفادة من الحضارات السابقة
من البديهيات المسلم بها أن الجوار من قنوات انتقال الحضارات، وأن الحضارة بساط نسجته وتنسجه أيدي أمم كثيرة، فالحضارة متواصلة العطاء، وقيمة كل أمة في ميزانها يساوي ما قدمته مطروحًا منه ما أخذته من الحضارات التي سبقتها، وبهذا فلا ينكر عاقل أن الحضارة العربية الإسلامية أخذت من حضارات سبقتها، ولكنه وإتماما لذلك - على نحو ما سنرى - فإنها واصلت العطاء، ووشّت بساط الحضارة الإنسانية بكل ما هو جميل وراق.
إن ما قام به العرب المسلمون لهو عمل إنقاذي له مغزاه الكبير في تاريخ العالم، ولئن أشعل العرب سراجهم من زيت حضارات سبقت، فإنهم ما لبثوا أن أصبحوا شعلة وهّاجة بذاتها، استضاء بنورها أهل العصر الوسيط، وإن ما يُدْعي (المعجزة اليونانية) تنفيها الحقائق العلمية التاريخية وتنقضها، يقول السِّير هنري مين: "وإذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء لم نجد شيئا يتحرك في هذا العالم إلا وهو يوناني في أصله" وتبنى فيليب حتّى هذا الادعاء، فجعل دور العرب المسلمين في مقام الوسيط ـ كساعي البريد ـ في أن نقلوا إلى أوربا خلال العصر الوسيط بضاعتهم اليونانية.
والحقيقة التاريخية تنفي وجود (المعجزة اليونانية)؛ لأن الحضارة اليونانية امتداد لحضارة وادي الرافدين ووادي النيل وبلاد الشام واقتباس منها، فاليونانيون اقتبسوا من الحضارات السابقة في شرقي المتوسط ومصر الكثير من مختلف العلوم، وعاد إلينا على أنه علم وطب يونانيان، ونُسى الأصل أو تنوسي. يقول وُلْ ديورانت: فطاليس (536 ق.م) زار مصر عدة زيارات ونقل من العلوم الهندسية المتقدمة من مدارس الإسكندرية، وفيثاغورس (497 ق.م) زار مصر عدة مرات، ثم مكث ببابل مدة طويلة، وقد بات من المعروف أن نظرية: مربع الوتر في المثلث القائم يساوي مجموع مربع الضلعين الآخرين، أخذها فيثاغورس من بابل، ونسبها إليه دون عزو لمصدرها، أو نسبت إليه، إن لوحة (تل حرمل) الحجرية التي عُثِرَ عليها في ضواحي بغداد تدل يقينًا على أن البابليين سبقوا اليونانيين في حساب المثلثات القائمة والمتشابهة بمئات السنين (7).
ومن هنا فمن السذاجة والخطأ الادعاء بأننا لم نأخذ ممن سبقنا؛ وذلك لأننا لم نبدأ من الصفر، ولو بدأت كل حضارة في مضمار العلوم من الصفر لما ازدهرت حضارة، ولما وصلت الحضارة اليوم إلى ما وصلت إليه من هذا التقدم العلمي المذهل، وعليه فإن المسلمين أخذوا أصول الهندسة عن اليونان، وقد ترجموا كتاب إقليدس في الهندسة وسموه الأصول، وذلك في عهد الخليفة المنصور (
.
إضافات المسلمين لعلم الهندسة وعلم الحيل النافعة
كما أنه لا ضير في أن نقر بأن المسلمين اعتمدوا على من سبقهم في قيام نهضتهم وحضارتهم في علم الهندسة، فإنا لا نستطيع أن نقر وجهة النظر التي تقول: "إن اليونان لم يتركوا في الهندسة القديمة زيادة لمستزيد، ولم يستطع أحد بعد إقليدس الذي دون علم الهندسة (330 - 320 ق.م) أن يزيد على هذا العلم شيئًا أساسيًا، أعظم أفضال العرب على الهندسة أنهم اهتموا بها حينما أهملتها الشعوب ثم حفظوها من الضياع، وناولوها للأوربيين في زمن باكر، فلقد أخذ الأوروبيون الهندسة اليونانية عن العرب لا عن اليونان، ونقلوها إلى اللغة اليونانية" (9).
فهذا الرأي لا يستقيم لا منطقيًا ولا علميًا، يشهد بذلك علماء الغرب أنفسهم على نحو ما سنورده في هذا البحث وفي هذا الموضوع بالذات، ولا أدري كيف نعت صاحب هذا الرأي الهندسة بـ(القديمة)؟! ألأجل أن يكون ذلك علم خاص فقط باليونان، ومن ثم فلا يستطيع أحد أن يجاريه أو يزيد عليه؛ مما يتسنى له بعد ذلك أن يطلق هذا الحكم؟ وإذا كان الأمر كذلك فهذه تعد مثلبة وليست منقبة لليونان أصحاب الهندسة (القديمة)، ومفخرة لأصحاب الهندسة الحديثة.
فمن المسلم به تاريخيًا وعلميًا أن المسلمين أضافوا إضافات جوهرية كثيرة، وأدخلوا أمورًا جديدة على هندسة من سبقهم، وكان من ذلك: تقسيم الزاوية إلى ثلاثة أقسام متساوية وكذلك الدائرة، وقد ألف الكندي الرسائل المختلفة في تقسيم المثلث والمربع واستخرج سمت القبلة، وكان يرجع إلى مؤلفاته المعماريون عند القيام بحفر الأقنية والجداول بين دجلة والفرات، وأدخل المسلمون أيضا المماس والقواطع، واستخدموا فن الزخرفة الذي يعتمد على قواعد هندسية في رسم المغلقات، وترتيب الخطوط، وأوراق النبات، وجمع المسلمون بين الهندسة والجبر، ولذلك يُعتبرون واضعي الهندسة التحليلية (10).
ولقد ذكر صاحب الرأي السابق أن اهتمام العرب (المسلمين) بالناحية العملية من الهندسة كان أكثر من اهتمامهم بالناحية النظرية، تشهد بذلك المباني والقصور التي نهضت في المشرق والمغرب.. (11). ولا تعليق!!
وإحقاقا للحق فقد ظل المسلمون يبدعون ويضيفون الكثير والكثير مستلهمين ذلك من أمور دينهم ودنياهم، حتى ظهر علم الهندسة وتبلور على أيديهم، وبدت معالمه الكلية واضحة جلية، وازدهرت تقنيات الهندسة الميكانيكية في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، واستمر عطاء المسلمين فيها حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي).
وكانت هذه التقنيات تعرف عند المسلمين باسم "الحيل النافعة"، وهي آلات وتجهيزات يعتمد البحث فيها على حركة الهواء (الإيروديناميكا)، أو حركة السوائل واتزانها (الهيدروديناميكا و(الهيدروستاتيكا).
وإذا كان أعلام
الحضارة الإسلامية قد اطلعوا على بعض ما خلفه قدماء المصريين والفرس والهنود والصينيون والإغريق في "علم الحيل" أو الهندسة الميكانيكية - بلغة العلم المعاصرة - إلا أن ما ورثوه عن الحضارات السابقة كان محدودًا من الناحيتين النظرية والتطبيقية على حد سواء، فطوروه وأضافوا له القواعد العلمية، وصنفوا فيه كتبًا رائدة، لا يزال الكثير منها مجهولاً أو مفقودًا.
ويمثل علم "الحيل النافعة" الجانب التقني المتقدم في علوم الحضارة الإسلامية، حيث كان المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية للإفادة منها في كل ما يخدم الدين، ويحقق مظاهر المدنية والإعمار.
وقد جعلوا الغاية من هذا العلم هي: "الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير"، ويقصد به استعمال الحيلة مكان القوة، والعقل مكان العضلات، والآلة بدل البدن(12).
وهي نزعة حضارية تتسم بها الأمم التي قطعت أشواطا في مجالات العلم والحضارة، كما أنها المحور الذي تدور حوله فلسفة أي اختراع تفرزه عقول العلماء يوميا؛ سعيا وراء تحسين حياة الإنسان، ورفع المشقة عنه قدر الإمكان.
ولعل من الأبعاد الأخلاقية التي قادت العقل الإسلامي في اتجاه الإبداع والتفرد في مجال الحيل النافعة أن الشعوب السابقة على المسلمين كانت تعتمد على العبيد، وتلجأ إلى نظام السُّخرة في إنجاز الأعمال التي تحتاج إلى مجهود جسماني كبير، دون النظر إلى طاقة تحمّل أولئك العبيد..
فلما جاء الإسلام نهى عن السخرة وكرّم العبيد، فمنع إرهاقهم بما لا يطيقون من العمل، فضلا عن تحريم إرهاق الحيوانات - كما بينا ذلك في عنوانه - وتحميلها فوق طاقاتها.. إذا عرفنا ذلك وأضفنا إليه ضرورات التعمير والبناء - بكل أشكالها - التي صاحبت اتساع الحضارة الإسلامية.. فسوف ندرك جانبا هاما من دوافع هذا السبق الفريد في مجال التكنولوجيا عند المسلمين، أو قل: "الحيل النافعة"!!
فبعد أن كانت غاية السابقين من علم الحيل لا تتعدى استعماله في التأثير الديني والروحي على أتباع مذاهبهم، مثل استعمال التماثيل المتحركة أو الناطقة بواسطة الكهان، واستعمال الأرغن الموسيقى وغيره من الآلات المصوتة في المعابد، فقد جاء الإسلام وجعل الصلة بين العبد وربه بغير حاجة إلى وسائل وسيطة أو خداع بصري، وأصبح التأثير على الإنسان باستعمال آلات متحركة (ميكانيكية) هو الهدف الجديد لتقنية "الحيل النافعة" (13).
ولعل من أهم إنجازات الهندسة الميكانيكية (أو علم الحيل النافعة) ما ظهر واضحًا في الإمكانيات التي استخدمها المسلمون في رفع الأحجار ومواد البناء لإتمام الأبنية العالية من مساجد ومآذن وقناطر وسدود.. فيكفيك أن ترى الارتفاعات الشاهقة لمعالم العمارة الإسلامية في عصور غابت عنها الروافع الآلية المعروفة في زماننا.. لتعلم براعة المهندسين المسلمين في التوصل لآلات رفع ساعدت - ولا شك - على إنجاز تلك الأعمال الخالدة.. وإلا فكيف يمكن أن ترفع مئذنة فوق سطح مسجد سبعين مترا.. أي ما يزيد على عشرين طابقا..؟!
ولا ننسى في هذا السياق "سور مجرى العيون" في القاهرة أيام صلاح الدين الأيوبي، والذي كان ينقل الماء من فم الخليج على النيل إلى القلعة فوق جبل المقطم، وكانت هناك ساقية تدار بالحيوانات ترفع المياه لعشرة أمتار ليتدفق في القناة فوق السور وتسير بطريقة الأواني المستطرقة حتى تصل إلى القلعة!
ومن هنا تتجلى عظمة المسلمين في هذا الفن، ولا يستطيع أن ينكر دورهم في ذلك إلا جاحد، يقول محمد كرد علي: وللعرب (المسلمين) في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلي في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم ثياب من ثياب الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها، كما قال أحد العارفين من الإفرنج (14).
علماء الهندسة المسلمون والهندسة الميكانيكية
لم تكن إضافات المسلمين السابقة وليدة يوم وليلة، ولم تنسب هذه الإضافات - مع غيرها الكثير على نحو ما سنراه - إلى فرد واحد أو حتى مجموعة بعينها فقط، بل كان وراء ذلك ثلة من العلماء الأعلام في عصور الخلافة بطولها، حيث كان المسلمون يعيشون أزهى عصور التقدم والحضارة والمدنية، وكانت لهم السيادة سياسيًا واقتصاديًا وعلميًا، وهو الأمر الذي كان له بالغ الأثر في تقدم علم الهندسة وتطوره.
ويمكن التعرف على مراحل تطور علم الهندسة على يد المسلمين من خلال تلك الأعمال القيمة التي خلَّفها أبرز رواد التقنية الإسلامية في مجالات الهندسة الميكانيكية أو علم الحيل على النحو التالي:
1- بنو موسى بن شاكر:وهم الإخوة الثلاثة (محمد وأحمد والحسن)، أبناء موسى بن شاكر، وقد عاشوا في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، ولمعوا في علوم الرياضيات والفلك والعلوم التطبيقية والتقنية، واشتهروا بكتابهم القيم المعروف باسم "حيل بن موسى".
وعن كتابهم هذا يقول ابن خلّكان: "ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها، وهو مجلد واحد".
ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي مع شروح تفصيلية ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل.
وكان استخدام بني موسى للصمامات المخروطية ولأعمدة المرافق التي تعمل بصورة آلية، وغير ذلك من مباديء وأفكار التحكم الآلي استخدامًا غير مسبوق، وسبقوا به أول صَفٍّ لآلية عمود المرافق الحديث في أوروبا بخمسمائة عام، ويعد أيضا من أهم الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عام.
ومن أمثلة تركيبات بني موسى الميكانيكية هذه عمل سراج إذا وضع في الريح العاصف لا ينطفئ، وعمل سراج يخرج الفتيلة لنفسه ويصب الزيت لنفسه، وكل من يراه يظن أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيئًا البتة، وعمل نافورة يفور منها الماء مدة من الزمان كهيئة الترس، ومدة متماثلة كهيئة القناة، وكذلك لا تزال دهرها تتبدل.
وقد استحدثوا كذلك آلات لخدمة الزراعة والفلاحة، مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام معينة تتمكن أن تصيب مأكلها ومشربها فلا تنازعها غيرها الطعام والشراب، وعمل خزانات للحمامات، وآلات لتعيين كثافة السوائل، وآلات تثبت في الحقول لكيلا تضيع كميات الماء هدرًا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية ري المزروعات.
وكان لكل هذه الأفكار الإبداعية أثر كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة الميكانيكية قدمًا، حيث تميزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة (15).
وإضافة إلى كتابهم "حيل بني موسى" فقد كان لهم أيضًا كتاب "معرفة مساحة الأشكال البسيطة والكروية"، حيث يرون أن الأقدار الثلاثة: الطول والعرض والسمك تحد عظم كل جسم، وانبساط كل سطح، والعمل في تقدير كمياتها إنما يتبين بالقياس إلى الواحد المسطح والواحد المجسم، والواحد المسطح الذي به يقاس السطح، وكل مضلع يحيط بدائرة، فسطح نصف قطر تلك الدائرة في نصف جميع أضلاع ذلك المضلع هو مساحته (16).
وقد شكل هذا الكتاب تطويرًا مهمًا لكتابي أرشميدس عن: "حساب مساحة الدائرة" وعن: "الكرة والأسطوانة"، والذي استغل فيه الإخوة الثلاثة منهج الاستنزاف لدى يودوكس، ومفهوم الكميات متناهية الصغر لدى أرشميدس، والذي كان بالغ التأثير في الشرق الإسلامي، وفي الغرب اللاتيني معًا.
وفي هذا الكتاب تتضح صيغ العمل الجماعي مثل: "وذلك ما أردناه" و"نبين" و"نقول: فالسطوح المستديرة المحيطة بهذا الجسم جميعًا أصغر من ضعف سطح الدائرة" و"نريد أن نجد مقدارين".. الخ. وهو عمل أراه سابقة للعرب المسلمين، وفيه يظهر قيمة مبدأ التعاون وسيادة روح الفريق، ذلك الذي اعتُمد عليه حديثا في الاختراعات الهندسية العظيمة، والتي لا مكان فيها للأعمال الفردية.
كما تتجلى في هذا الكتاب أيضا الأمانة العلمية للجماعة ذاتها؛ إذ كانت تشير إلى ما ليس لها فيه، فكانوا يقولون: "فكل ما وصفنا في كتابنا فإنه من عملنا، إلا معرفة المحيط من القطر، فإنه من عمل أرشميدس، وإلا معرفة وضع مقدارين بين مقدارين لتتوالى على نسبة واحدة، فإنه من عمل مانا لاوس (17).
2- ثابت بن قرة:ولد ثابت بن قرة سنة 221 هـ / 834 م في حَرَّان من أرض الجزيرة شمال العراق، بتركيا الآن، وكان في بداية حياته صيرفيا في حران، وكان من الصابئة قبل أن يسلم؛ فوقعت بينه وبين أهل مذهبه أشياء وأنكروها عليه فحرّم عليه رئيسهم دخول الهيكل؛ فخرج ثابت من حران إلى "كفر توثا" وهناك لقي "محمد بن موسى شاكر" الذي كان قيّمًا على بيت الحكمة ببغداد؛ فأعجب بذكاء ثابت ونبوغه وفصاحته؛ فاصطحبه معه إلى بغداد ووصله بالخليفة المعتضد الذي أكرمه وأغدق عليه العطايا والهبات، وصارت له خطوة ومكانه عنده.
برع ثابت في علم الهندسة حتى قيل عنه: إنه أعظم هندسي عربي على الإطلاق، وقال عنه "يورانت ول": إنه أعظم علماء الهندسة المسلمين؛ فقد أسهم بنصيب وافر في تقدم الهندسة، وهو الذي مهد لإيجاد علم التكامل والتفاضل، كما استطاع أن يحل المعادلات الجبرية بالطرق الهندسية، وتمكن من تطوير وتجديد نظرية فيثاغورث، وكانت له بحوث عظيمة وابتكارات رائدة في مجال الهندسة التحليلية؛ فقد ألف كتابا في الجبر، شرح فيه العلاقة بين الجبر والهندسة، وكيفية التوفيق بينهما، واستطاع أن يعطي حلولا هندسية لبعض المعادلات التكعيبية، وهو ما أفاد علماء الغرب فيما بعد في تطبيقاتهم وأبحاثهم الرياضية في القرن السادس عشر.
ومن مؤلفات ثابت الرياضية والهندسية:
- كتاب في الشكل الملقب بالقطاع.
- كتاب في مساحة الأشكال المسطحة والمجسمة.
- كتاب في قطوع الأسطوانة وبسيطها.
- مساحة المجسمات المكافية.
- قول في تصحيح مسائل الجبر بالبراهين الهندسية (18).
3- أحمد بن خلف المرادي:ظهر اسمه حديثا عندما اكتُشِف في مكتبة لورنيين بفرنسا (عام 1975م) مخطوطٌ في الحيل النافعة يحمل اسمه بعنوان "الأسرار في نتائج الأفكار" يعود إلى العصر العربي الإسباني، ويحوي أجزاء مهمة حول الطواحين والمكابس المائية، ويشرح أكثر من ثلاثين نوعا من الآلات الميكانيكية، وساعة شمسية متطورة جدا.
وعن هذا الكتاب يقول جوان فيرنيه أستاذ تاريح العلوم العربية بجامعة برشلونة: "لقد تأكدت نسبة كتاب "الأسرار في نتائج الأفكار" للمؤلف العربى الإسباني أحمد (أو محمد) بن خلف المرادي، الذي عاش في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)، ويهدف إلى تعليم صنع لعب ميكانيكية كان الكثير منها قابلا للاستعمال كساعة مائية".
ويلح "فيرنيه" على وجود قرابة بين هذا الكتاب وكتاب آخر ترجمته "شميللر" إلى الألمانية عام 1922م، كما أنه يؤكد على أن المهندس المعمارى الفرنسي "فيلاردوهنكور" الذى عاش في النصف الثانى من القرن الثانى عشر الميلادى، كان على علم بتقنيات العالم العربي التي تقوم بحركات دائمة.
ومن أمثلة التقنيات المتقدمة التى صورها كتاب المرادي: "حامل المصحف" الموجود في جامع قرطبة، ويتيح تناول نسخة نادرة من القرآن الكريم، وقراءتها دون أن تمسها الأيدي، ينفتح الحامل بطريقة آلية حيث توضع المجموعة المكونة من الحامل والمصحف على رَفٍّ متحرك في صندوق مغلق بالقسم العلوي من المسجد، وعندما يدار مفتاح الصندوق ينفتح باباه فورا وآليا نحو الداخل، ويصعد الرف من تلقاء ذاته حاملا نسخة القرآن إلى مكان محدد، وفي الوقت نفسه ينفتح حامل المصحف وينغلق بابا الصندوق، وإذا أدخل المفتاح من جديد في قفل الصندوق وأدير بالاتجاه المعاكس تتوالى الحركات السابقة بالترتيب المعاكس، وذلك بفضل سيور وآليات أخفيت عن الأنظار.
وفي موضع آخر يقدم المرادي شرحا وافيا لتقنية أخرى متقدمة في قصر جبل طارق، يتم فيها تحريك جدران مقصورة الخليفة آليا عن طريق تجهيز قاعة محركات إلى جانبها، وهذا يؤكد أن الأمر لم يكن مقتصرا - كما يزعم البعض - على صنع ألعاب فقط من أجل التسلية (19).
4- عبد الرحمن بن أحمد بن يونس:وهو عبد الرحمن بن أحمد بن يونس، توفي في سنة 1009م، وهو الذي اخترع الرقاص (البندول( وعرف أشياء كثيرة من قوانين تذبذبه، وبعد ستمائة وخمسين عامًا من دراسات ابن يونس، جاء غاليليو الإيطالي (ت 1624م) ليتوسع في درس الرقاص (20).
5- بديع الزمان الجزري:تضمنت ابتكارات المسلمين الأوائل في مجال تقنية الحيل النافعة تصميمات متنوعة لساعات وروافع آلية، يتم فيها نقل الحركة الخطية إلى حركة دائرية بواسطة نظام يعتمد على التروس المسننة، وهو الأساس الذي تقوم عليه جميع المحركات العصرية، ومن المؤلفات الذاتية الرائدة في هذا المجال كتاب "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل" لبديع الزمان أبي العز بن إسماعيل الرازاز الجزري، الذي عاش في القرنين السادس والسابع الهجريين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي.
وقد ترجم دونالدهيل هذا الكتاب إلى الإنجليزية عام 1974، ووصفه مؤرخ العلم المعاصر
جورج سارتون بأنه أكثر الكتب من نوعه وضوحًا، ويمكن اعتباره الذروة في هذا النوع من الإنجازات التقنية للمسلمين، ويضم كتاب الجزري عدة أقسام، أطولها قسم الساعات المائية، وفيه قسم آخر يعالج موضوع آلات رفع الماء.
أما ساعات الجزري فكانت تستعمل دمى ذاتية الحركة لتشير إلى مرور الوقت، مثل: طيور تقذف من مناقيرها كرات صغيرة فوق صنوج، أو أبواب تفتح ليخرج منها أشخاص، أو دوائر بروج تدور، أو موسيقيين يقرعون الطبول وينفخون الأبواق، وفي معظم هذه الساعات كان المحرك الأول ينقل الطاقة إلى الدمى بواسطة أنظمة بكرات بالغة الدقة.
وأما قسم آلات رفع الماء، ففيه وصف لتصميم مضخة يعتبرها المؤرخون الجدد الأقرب للآلة البخارية، وتتكون هذه المضخة من (ماسورتين) متقابلتين، في كل منهما ذراع يحمل مكبسًا اسطوانيًا، فإذا كانت إحدى الماسورتين في حالة ضغط أو كبس فإن الثانية تكون في حالة سحب أو (شفط).
ولتأمين هذه الحركة المتقابلة المتضادة يوجد قرص دائري مسنن قد ثبت فيه كل من الذراعين بعيدًا عن المركز، ويدار هذا القرص بواسطة تروس متصلة بعامود الحركة المركزي، وهناك ثلاثة صمامات على كل مضخة تسمح بحركة المياه في اتجاه واحد من أسفل إلى أعلى، ولا تسمح بعودتها في الاتجاه العكسي(21).
وفي مُؤَلَّف آخر للجزري بعنوان (كتاب في معرفة الحيل الهندسية) يوجد قسم خاص لآلات رفع المياه يتضمن وصفًا دقيقًا لمضخة تتألف من زنجير متصل طويل عليه مجموعة من الدلاء، وكانت هذه المضخة التي وصفها الجزري نموذجًا مصغرًا للتسلية، فقد كانت جوانب الحوض من الرخام، وكانت أرضيته من النحاس، وكان محيط الدولاب الرأسي يدير مسننًا آخر أفقيًا متعامدًا عليه، ثم تنتقل الحركة التي يسببها الماء الساقط على الدولاب عبر محور رأسي طويل إلى مسنن أفقي علوي، يدير بدوره مسننًا رأسيًا آخر في الأعلى، محمولاً على محور علوي أفقي يدير الزنجير، ويدور هذا الزنجير المتصل ذو الدلاء بواسطة دولاب رأسي مثبت أيضًا على المحور الأفقي.
ولما كان هذا النموذج للتسلية فإن الجزري وضع صينية وذراعاً، وتمثالاً خشبيًا لبقرة تدور مع دوران العمود، ويهدف النموذج إلى تقليد السواقي التي كانت في المعتاد تدور بواسطة الأبقار، ولا نجد - فيما نعلم - وصفًا لنموذج مماثل في المراجع الغربية قبل المنشأة المائية ذات الزنجير والدلاء والمسننات التي وصفها أجريكولا عام 1556م، وكان يديرها رجل بواسطة ذراع المرفق (22).
ويُعد الجزرى أول من اخترع الإنسان الآلي المتحرك، وكان ذلك بغرض الخدمة في المنزل، فقد طلب منه الخليفة أن يصنع له آلة تغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له الجزري آلة على هيئة غلام منتصب القامة، وفي يده إبريق ماء، وفي اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يصفر الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى من وضوئه يقدم له المنشفة تم يعود إلى مكانه والعصفور ما زال يغرد (23).
6- تقي الدين الدمشقي:إلى جانب كل ما سبق كان هناك فخر التقنية الإسلامية تقي الدين بن معروف الراصد الدمشقي، والذي عاش في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وصاحب كتاب "الطرق السنية في الآلات الروحانية"، وفيه وصف العديد من الأجهزة الميكانيكية مثل: الساعات المائية والآلية والرملية، والروافع بالبكرات والتروس (المسننات)، والنافورات المائية، وآلات الدوران باستعمال العنفات (المراوح) البخارية التى نعرفها اليوم.
ويحظى كتاب تقي الدين الدمشقي بأهمية خاصة؛ لأنه يكمل أهم مرحلة في تقنية الهندسة الميكانيكية في العصر الإسلامي، ويقدم وصفا لآلات كثيرة لم يرد ذكر لها في كتب السابقين، وقبل أن يرد وصف ما يماثلها في المراجع الغربية المعروفة في فترة عصر النهضة.
ويتميز كتاب تقي الدين بأنه اقترب كثيرا في عرضه وتوصيفه للآلات من مفهوم الرسم الهندسي الحديث ذي المساقط، لكنه يوضح كل شيء يتعلق بالآلة في رسم واحد يجمع بين مفهوم المساقط ومفهوم الرسم المنظور (المجسم )، ومن هنا فإنه يحتاج إلى دراسة عميقة من أهل الاختصاص لقراءة النصوص وفهم الرسوم حتى يكون التخيل صحيحا.
ومن أهم الآلات المائية التى وصفها تقي الدين في كتابه "المضخة ذات الأسطوانات الست"، وفيها استخدم لأول مرة "كتلة الأسطوانات" لست أسطوانات على خط واحد، كما استخدم "عمود الكامات" بستة نتوءات موزعة بانتظام على محيط الدائرة، بحيث تعمل الأسطوانات على التوالي، ويستمر تدفق الماء بصورة منتظمة، وأوصى تقي الدين بألا يقل عدد الأسطوانات عن ثلاث ليتناسب صعود الماء من غير دفق، وهذا المفهوم المتقدم للتتابع وتجنب الدفق أو التقطع، بالإضافة إلى مفهوم التوازن الديناميكي الحديث، هو الأساس الذى قامت عليه تقنية المحركات والضواغط الحديثة متعددة الأسطوانات.
وفي تصميم تقي الدين لمضخته المكبسية ذات الأسطوانات الست نجده يضع ثقلا من الرصاص على رأس قضيب كل مكبس يزيد وزنه عن وزن عمود الماء الموجود داخل الأنبوب الصاعد إلى أعلى، وهو بهذا يسبق (مورلاند5) الذي قام في عام 1675م بتصميم مضخة وضع فيها أقراصا من الرصاص فوق المكبس حتى يعود المكبس إلى الهبوط ويدفع الماء بتأثير الرصاص إلى العلو المطلوب.
وهكذا يبطل زعم مؤرخي التقنية الغربيين أن التقنية الإسلامية في مجالات الهندسة الميكانيكية كان لها فقط طابع التسلية واللعب وتزجية أوقات الفراغ، وكانوا يشيرون بذلك إلى الآلات العجيبة التى وصفها التقنيون المسلمون، ويشهد على بطلان زعم هؤلاء المؤرخين غير المنصفين تلك الدواليب المائية التى كانت تُستخدم لتدوير المطاحن ومعاصر القصب وعصر الحبوب والبذور، وفي رفع المياه لأغراض الري، وقد استخدمت طاقة الماء والهواء على نطاق واسع، وكانت العلاقة وثيقة بين العلوم النظرية وتطبيقاتها التقنية في مجالات الحياة العملية التى شملت تصميم المدن ومنشآت الري والسدود والأبنية والآلات وغيرها.
وكان المهندسون والتقنيون في عصر الحضارة الإسلامية يتبعون المنهج العلمى في كل أعمالهم، ويبدأون - في الحالات الصعبة - برسم مخططات، ثم يصنعون نموذجا مصغرا لما ينوون تنفيذه، وقد أعاد الفنيون المحدثون بناء العديد من التركيبات والآلات تبعا للشروح التى قدمها التقنيون الإسلاميون في مؤلفاتهم (24).
..... يتبع