احتفاء بالتطريز ووضعه في سياقه السياسي : أطراف الخيوط الفلسطينية في معرض جمع أثواب وطن وحكاية شعب
زهرة مرعي
بيروت ـ «القدس العربي»: «التطريز الفلسطيني مادة غنية، بصرية وملموسة حميمة وسياسية ومجهِدة في آن». كلمات تصدرت الكُتيب المرافق للمعرض الذي حمل عنوان «أطراف الخيوط: التطريز الفلسطيني في سياقه السياسي» الذي افتتح في 26 أيار/مايو الماضي ويستمر حتى 30 تموز/يوليو في دار النمر في بيروت. ظهر المعرض بعد سنتين من البحث أجرتها القيمة والمختصة بتاريخ الفن في الدول العربية راشيل ديدمان البريطانية الهوية. عشرات المقابلات أجرتها راشيل بين فلسطين، الأردن ولبنان لتتمكن من جمع مادتها البحثية التي يحتاجها معرض محترف بأدق التفاصيل. في متابعة لحيثيات المعرض خطوة خطوة يتبين أن التطريز صار في مرحلة ما جزءاً من حياة الفلسطيني، سواء في الهجرة أو تحت الاحتلال. في هذا المعرض صدف أن السيدتين الفلسطينيتين ملك الحسيني عبد الرحيم ووداد قعوار تمتلكان الكثير من الأثواب التي تؤرخ لحقبات قديمة من تاريخ أرض وشعب، وتعود لبدايات القرن الماضي. وهما تعاونتا بسخاء بهدف انجاز هذه المهمة على أكمل وجه.
ضم المعرض 200 قطعة منها 60 مطرزة، أكثرها أثواب نسائية، إلى وجود للوحات زيتية تؤرخ بدورها للتطريز وتحفظه كما هو في العادات الاجتماعية. كذلك بوسترات تحكي مراحل العمل في اتحاد المرأة الفلسطينية التي شكلت جزءاً من نضال الشعب الفلسطيني بخاصة في السبعينيات وما بعدها. بعض الأثواب المطرزة جاء من فلسطين، والحديث منها حاول الابتكار من خلال التراث. وفقاً لمسار المعرض من البدايات وصولاً إلى خواتيمه دونت على الأطراف سيرة قديمة تعود لسنة 1516 التي شكلت بداية الاحتلال العثماني لفلسطين وكل المنطقة، و1878 تاريخ نشوء أول مستعمرة يهودية 1917 وعد بلفور، 1929 أو 1930 تاريخ أول ماكينة خياطة سينغر إلى فلسطين. وغيرها من السنوات التي تؤرخ حياة الشعب الفلسطيني في وطنه والشتات وتربطه بتراثه، فنه، والسياسة التي طبعته. وفي الوعي الفلسطيني المبكر لدور المرأة في الحياة الاجتماعية كانت ريادة في انشاء جمعية النهضة النسائية في رام الله سنة 1925.
عُرضت الأثواب بحسب عمرها وانتمائها الجغرافي. بعضها يعود لثلاثينات القرن الماضي من القدس، رام الله ، بيت جن وغزّة. وامتازت أثواب الخليل بأنها مفتوحة على طرفيها، ولها منحى تجريدي ليس في مسار التطريز بل استعمال القماش الصغير. وهو حال جلابية تمّ تعريف عمرها بين 1900 و1910 فيها من الفن قدر فائق كمثل الجمع بين القماش والتطريز. الأثواب المؤرخة بعد النكبة بعقد أو عقدين أظهرت فروقات جمة في النوعية السابقة واللاحقة. في المخيمات ومع بدايات اللجوء تضاءلت الإمكانات وكذلك الطموحات. ولأن هذا النوع من التطريز مطلوب ومرغوب دخلت الصين في صناعاتها المكثفة دون حدود، وطبعت بأعداد هائلة التطريز الفلسطيني على الأثواب النسائية. ومع تنامي دور منظمة التحرير الفلسطينية خاصة داخل المخيمات عادت الأثواب لتتألق بأبهة وأناقة شكلاً، نوعية وتطريزاً، وصار الثوب الفلسطيني التراثي واحداً من هوية شعب مقاوم. وهكذا كنا أمام أثواب تحمل الأبهة المطلقة بكل شموخها الوطني والفني. أما الجليل فله بصمته في التطريز واللون الأحمر الوردي الواثق والدافئ، برز في بعض الأثواب، ومن خلال شرائط طولية مميزة جداً، تحافظ على غرزة الإبرة التقليدية.
عندما حاول المصممون الفلسطينيون الشباب التجديد شاهدنا في سنة 2000 وما بعدها سيطرة للون الفاتح على القماش، كمثل الأبيض، السكري والرمادي الفاتح. تراجع حجم التطريز إلى حده الأدنى وحلّت تصاميم مختلفة بعيدة عن روح الثوب الفلسطيني المعروف بتطريزه من بين مئات الأثواب، هو الشكل المعاصر الذي غرّد بعيداً. ربما هو تغريد متناغم مع تغريد سياسي فلسطيني ابتعد عن الصواب، وراح يبحث عن أقل من نصف الحق المشروع.
تعلن الباحثة راشيل عن فرحها لاستمرار هذا النوع من الفن والتطريز. وتقول أنها قابلت أكثر من 50 امرأة مُطرزة بين فلسطين، الأردن ولبنان، وسجلت معهن أفلاماً وثائقية، تُعرض كمادة توضيحية في سياق المعرض. كما أن كتاباً سيصدر في 15 الجاري يجمع الأبحاث والحوارات والصور.
نسأل راشيل تفسيرا للعنوان «أطراف الخيوط: التطريز الفلسطيني في سياقه السياسي»؟ تراه سياسياً على نحوين. لكونه عملاً يدوياً وتالياً يتم ارتداؤه على الأجساد. هو سياسي إذاً لأنه مرتبط بالعمل والجسد معاً. وفي نحو آخر فإن التطريز واكب المرحلة السياسية للمنطقة وفلسطين على وجه الخصوص. ففي سبعينيات القرن الماضي تقول راشيل شكل التطريز جزءاً من مقاومة الشعب الفلسطيني وأزدهر معها، كما كان جزءاً لصيقاً بالانتفاضة الأولى. وتضيف محدثتي: لدى نشوء منظمة التحرير الفلسطينية ونمو دورها، أولت للفن والتطريز اهتماماً، وشجعت على إعادة احيائه، كرمز للوطن. فالأمهات يلبسن هذا الثوب المطرز، وهنّ من ينشئن الأجيال، ويشجعنها على المقاومة والصمود. وذكّرت راشيل بمؤسسة صامد التي وظّفت مئات المُطرِزات، وأطلقت عليهن لقب مقاومات كونهن ساهمنّ بدعم الاقتصاد الفلسطيني حتى في الشتات.
في لقاءاتها الكثيرة في فلسطين دونت راشيل حكايات مقاومة لافتة شهدتها الإنتفاضة الأولى. فخلال التظاهرات العفوية تقول، كان جنود الإحتلال يصادرون الشعارات التي تحمل اسم منظمة التحرير وكذلك الأعلام الفلسطينية التي كان يحملها المتظاهرون. لهذا صار الفستان رمزاً فلسطينياً مقاوماً. فالثوب ليس منفصلاً عن حكاية الشعب ومقاومته. لهذا تضيف: في معرض دار النمر شاهدنا ثوب المخيم وثوب الانتفاضة. فخلال الانتفاضة كانت النساء يسهرن ليطرزن البندقية على الثوب وعلى ضوء الشمعة. فهي ـ أي المرأة ـ كانت تخطط عن سابق تصور وتصميم للمشاركة في المظاهرة بثوب يحمل بندقية، أو اسم منظمة التحرير، أو العلم، وحينها لم يكن الاحتلال يصادر الفساتين عن أجساد النساء.
ما هو دور التطريز والثوب الفلسطيني في الحفاظ على الهوية وإشهار الجذور في ظل اجتهاد المحتل وكل العالم لمحوها بهدف طمس القضية؟ تؤكد الباحثة راشيل ديدمان أن الدور كبير ومهم. وتضيف: للتطريز دوره في الحفاظ على التراث والتاريخ الفلسطيني. وأكثر من قابلتهن قلن أن عملهن وجه من المقاومة ضد محاولات سرقة هذا التراث من أهله. وكل منطقة في فلسطين لها هويتها في التطريز، وهي تجتهد للحفاظ على تلك الهوية والعمل على استمرارها عبر الأجيال المقبلة. والمصممون من الأجيال الجديدة يعملون لابتكار أزياء ويتجددون، دون إلغاء الماضي أو التنكر له. وكل جديد تلى مرحلة الأربعينيات من القرن الماضي في التطريز الفلسطيني كان مكملاً للتاريخ الفني لهذا الشعب. ولهذا يترافق هذا المعرض في دار النمر بحسب راشيل مع ورش عمل للأطفال بهدف تحفيزهم على التفاعل مع تراث وطنهم، وتشجيعهم على حمل رايته في المستقبل. كما يشكل المعرض بالنسبة للزائرين حافزاً لطرح السؤال وبعث نقاش عن التطريز الفلسطيني وارتباطه بالناس وحكاياتهم. وبحسب راشيل فكل ثوب حملته معها سيدة من فلسطين إلى مناطق اللجوء إثر احتلال وطنها حكاية وذكريات، ومرحلة من الاعتزاز. وتنوه بتعاون السيدتين ملك الحسيني ووداد قعوار لتقديمهما ما تمتلكانه من أثواب لتعزيز المعرض. وكذلك بجهود المتحف الفلسطيني في بيرزيت، وبجهود اللاجئات الفلسطينيات اللواتي احتفظن بهذه الملابس رغم ظروف اللجوء، وروين قصصها.
سؤال بديهي يطرح نفسه، لماذا راشيل ديدمان البريطانية هي القيمة على معرض التطريز الفلسطيني؟ بدورها تراه سؤالاً في مكانه. لا تجد سبباً سوى كون المتخصصين في تاريخ الفن عددهم قليل جداً في لبنان، ومؤخراً بدأت الجامعة اللبنانية تمنح الماجستير في هذا الاختصاص. وتضيف: أسكن في لبنان منذ ثلاث سنوات، تلقيت عرض العمل وقبلته، ولا ميزة لي عن غيري مطلقاً. كما أني أعمل مع متاحف أخرى حول العالم.