المبحث الثاني
الديموقراطية المعاصرة وأزمتها
تقوم النظريات الديموقراطية، على أساس أن السلطة مصدرها الشعب، ولذلك لا تكون السلطة مشروعة، إلاّ إذا كانت وليدة الإرادة الحرة للجماعة، التي تحكمها.
وأهم النظريات الديموقراطية هي نظرية العقد الاجتماعي، التي تقول بوجود حياة فطرية تسبق قيام الجماعة، وأن الانتقال من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة، قد تم بناء على عقد اجتماعي بين الأفراد، بقصد إقامة السلطة الحاكمة.
وقد تبلورت الديموقراطية، في ظل عصر صاخب متشابك التيارات الفكرية، إلاّ أنه كانت هناك العديد من المبادئ، التي أخذت في الاستقرار، والتي جاءت الديموقراطية كبلورة أو نظام جامع لها:
أولاً: التطور الاقتصادي وأثره في تطور الديموقراطية
يمكن القول إن أصحاب الأموال، من الطبقات الجديدة، كانوا وراء محاولات سحب بساط السلطة، من تحت الكنيسة الغربية وأمراء الإقطاع بادئ الأمر، وذلك بالاتفاق مع ملوك الدول، عن طريق تحويل السلطة من الكنيسة والإقطاعيين إلى الملوك. وبعد أن ازدادت قوة أصحاب الأموال، عادوا ليسحبوا بساط السلطة المطلقة من تحت أرجل الملوك.
صاحبَ هذا التطور الفكر السياسي، ولازمه ملازمة وثيقة، تتلقى منه وتلقي إليه تأثيراً متبادلاً. وهو تطورٌ في الفكر الاقتصادي، يعكس مصالح طبقة التجار النامية، كما كان الفكر السياسي يعكس مطالبها وتطلعها إلى الحكم والسلطة.
وقد كان لهذه الطبقة النامية، أثر كبير في نشأة الدولة القومية الحديثة. وكان لقيام الدولة القومية أثر على مصالحها، وكيانها الاجتماعي، ونمو تلك المصالح إلى الحد الذي وصلت إليه الدولة في اتساعها. كما لعبت هذه الطبقة دورها على مسرح السياسة، حين انحازت إلى جانب المَلك، وتوجته بالحق الإلهي المقدس (لدى المسيحيين)، ليُضعف من سلطة البابا والكنيسة، وأضفت عليه من السلطة ما يفوق سلطة الإقطاع، بتأييد حقه في السيادة المطلقة على أراضيه.
وفي ظل الدولة القومية، اتجه التنظيم الاقتصادي إلى بناء دولة قوية عظمى، تُضاعف من أرباح التجار وثرائهم. واضطلعت الدولة بهذا التنظيم، فحل التنظيم القومي للتجارة محل الإشراف أو التوجيه، الذي كانت تقوم به النقابة، أو سلطة المدينة في العصور الوسطى.
وغدا امتلاك الذهب والفضة، مظهر الازدهار الاقتصادي للدولة، والدعامة الكبرى لحكومة قوية. فعملت الدول، التي تملك المناجم على اكتنازهما، ومنع تصديرهما مع استيراد أكثر ما يمكن استيراده منهما، وهي سيادة أدت إلى تعويق التجارة، وإن لم تعق تدفق النقد أو الاحتفاظ به.
أمّا الدول، التي لا تمتلك مصادر السبائك، فاتجهت إلى التنظيم التجاري، وشجعت التجارة الخارجية، ووضعت قيوداً صارمة على استيراد السلع، بغية جلب مقدار من النقد يفوق ما تصدره منه. وأصبح تراكم النقد أساساً للثروة القومية، مما أدى إلى ثراء التجار وفقر المستهلكين، فقد ارتفعت الأسعار في الوقت، الذي وقفت الأجور فيه عند حد معين لا تنمو ولا تزيد.
وعرف هذا التنظيم التجاري بـ (المركنتليه)، وظل هذا التنظيم قائماً حتى أخذت طبقة التجار تشعر بقدرتها على الوقوف وحدها، وغدت القيود المفروضة على التجارة والصناعات اليدوية، عبئاً ثقيلاً عليها يعوق حريتها في العمل. فطالبت بالحد من تدخل الحكومة وإشرافها، كما طالبت بحماية حقوق الملكية وحرية التعاقد. ودعت جماعة (الفيزيوقراطيين) إلى حرية التجارة، ملتمسين من قانون الطبيعة، كأرباب الفكر السياسي حينذاك، مسوِّغاً لدعوتهم بالوصول إلى (فيزياء اقتصادية). فإن الحقائق الاجتماعية تخضع لقوانين ثابتة، تربط بينها، لا تتغير ولا تتبدل، يقبلها الناس ويؤمنون بها حالماً يكشفون عنها. وهذه القوانين ليست من صنع البشر، وما في قدرتهم أن يصنعوها، فهي قوانين أزلية خالدة تتفق مع العقل وتعبر عن إرادة الله، وكلّما أمعنوا فيها، ازدادوا توقيراً لها. وعلى قدر ما هي بسيطة، فهي أكيدة وضرورية، تتمثل في بديهيات ثلاث هي: الملكية، والأمن، والحرية.
ثانياً: مبادئ الديموقراطية
1. الحرية
يقوم جوهر الحرية أساساً على الانطلاق، الذي يحمل الأفراد على السعي وراء مصالحهم كيفما يريدون، أو يبتغون، ما داموا لا يتعرضون بالأذى للغير؛ فالفرد سيد نفسه وبدنه وعقله، ولا تعاني الإنسانية من حرية ينطلق فيها الناس كما يحبون، بقدر ما تعاني من تكبيلهم بقيود يفرضها عليهم الآخرون.
فلتثبيت الحرية لا بد من الاستعانة بالقوانين المدنية والجنائية، التي تبين لكل فرد ما له، وما عليه. كما يُستعان بالدين والروح الديني في تهذيب الأخلاق، وتمسك الأفراد بالفضيلة، التي هي في إطاعة القوانين.
2. المساواة
إن الحالة الاجتماعية لا تقضي على المساواة، التي كانت موجودة في حالة الطبيعة بين الأفراد، ولا تستطيع التغلب على حالة عدم المساواة الطبيعية، التي تبدو أحياناً بين الأفراد، سواء من حيث القوة الجسمية، أو من حيث المقدرة العقلية، إذ أصبح الكل سواء بفضل العقد الاجتماعي.
3. السعادة
قد يبدو الحديث عن السعادة سهلاً، ومباشراً، لكنه عميق ووعرٌ، لتفاوت مفهوم السعادة ومقاييسها بين الفلاسفة. أضف إلى ذلك مفهوم الإسلام المتميز للسعادة، واعتبار السعادة الأخروية ركناً أساسياً في مفهوم السعادة. فالسعادة الأخروية في الإسلام، أهم وأبقى من السعادة الدنيوية، مما يؤثر لزاماً على سلوك الفرد، والمجتمعات والأمم.
4. الفردية
تُعد الفردية من أهم المبادئ، التي قامت عليها الديموقراطية. وقد ظهر المذهب الفردي في القرن السابع عشر، وهو يرى أن الفرد سابق على الجماعة، ولذلك فهو أعلى منها قيمة في ضوء لغة القانون في الدور الغلاب، الذي تتقلده (الإرادة الفردية)، وعلى الأخص في مجال (العقود)، وأن أفضل السبل لكفالة (الغايات الفردية) هو أن يترك تنظيم العلاقات الاجتماعية للأفراد قدر الإمكان، فلا يتدخل القانون إلاّ لتكملة إرادة المتعاقدين.
وأكثر من ذلك، فقد اُعتبر القانون ذاته في (النظرية الفردية)، نتاج (عقد اجتماعي)، فكل شيء يعود به المفكر القانوني الفردي إلى فكرة العقد.
5. الإرادة العامة
تمثل الإرادة العامة مبدأ مهماً من المبادئ، التي قامت عليها الديموقراطية. ومن أوائل من أولوا الإرادة العامة اهتمامهم، جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، ورأى أن لها وحدها الحق في قيادة قوة الدولة، وتوجيهها نحو الغاية، التي أنشئ من أجلها النظام السياسي. وتمثل الإرادة العامة (الأنا الاجتماعية). وهي صوت الكل، إذ تعبر عن صالح الكل.
وفي الحقيقة فإن الإرادة العامة ليست هي إرادة الجميع، فليست هي مجموع إرادات كل الأفراد، وإنما هي روح عامة تعبر عن الإرادات الخيرة للأفراد، فيما يخص الصالح العام.
وهذه الإرادة ـ وحدها ـ هي مصدر القانون، وهي وحدها التي تمارس السلطان، وتوجه قوى الدولة.
6. فصل السلطات
هو من أهم مبادئ الديموقراطية، يرجع الفضل فيه إلى منتسكيو، الذي كانت مذكراته عن إنجلترا ومناقشاته مع رجال السياسة فيها، ونقده للسلطات سبباً، في خلق مبدأ الفصل بين السلطات، لضمان الحرية، وهو المبدأ الذي أخذت به كل الدساتير الحديثة فيما بعد.
ويُعد مبدأ الفصل بين السلطات، أكبر ضمان للحرية السياسية. ففيه يتم الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بحيث تستقل الأولى منها بالتشريع، والثانية بالتنفيذ، والأخيرة بالقضاء، ولا تتدخل أي منها في شؤون السلطتين الأخريين.
وقد أصبح مبدأ الفصل بين السلطات، هو السُّنة الأولى لكل حكم ديموقراطي في العصر الحديث.
7. سيادة الشعب
ومن أهم مبادئ الديموقراطية أنها ناتجة عن السيادة، وتطور مفهومها من نظرية الحق الإلهي إلى السلطة الزمانية، إلى الشعب. ويتنازع مفهوم السيادة نظريتان: التيوقراطية، والديموقراطية.
فالتيوقراطية هي، التي تُرْجِع مصدر السلطة إلى الله، في ضوء: نظرية الحق الإلهي المباشر، التي تدّعي أن الحاكم يستمد سلطته في الحكم من الله مباشرة، من دون تدخل أية إرادة أخرى، ومن ثم فهو يحكم بمقتضى الحق الإلهي المباشر.
ونظرية الحق الإلهي غير المباشر، التي تقوم على أن الله لا يتدخل بإرادته المباشرة في تحديد شكل السلطة، ولا في طريقة ممارستها، وأنه لذلك لا يختار الحاكم بنفسه، وإنما يوجه الحوادث بشكل خاص، يساعد الأفراد على اختيار الحاكم.
وقد نشأت نظرية السيادة في فرنسا في القرن السادس عشر، دفاعاً عن سلطة الملوك، وتمييزاً لها عن السلطات الأخرى التي كانت تنازعها، وهي سلطة أمراء الإقطاع في الداخل، وسلطة الإمبراطور والبابا في الخارج، خاصة النزاع الذي ثار بين الملك والبابا، وانبثق عنه بعض النظريات، التي احتج بها كل من الأطراف المتنازعة. وكان على هؤلاء الملوك أن يلجأوا ـ في الدفاع عن أنفسهم ـ إلى السلاح ذاته الذي استخدمته البابوية. ولهذا السبب تم نقل هذه النظرية، من القانون الكنسي إلى النظرية الدستورية، حيث صاغ منها فقهاء القانون الفرنسيون نظرية السيادة.
ونتيجة لذلك فإن السلطة ـ عند هوبز ـ تكون دائماً مطلقة. كما أن السّيادة عند بعض المفكرين، تعني سلطة عليا، متميزة وسامية فوق كل الشعب، وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كله. ولهذا السبب، فإن هذه السلطة تكون مطلقة، غير محدودة، لا في مداها، ولا في مدتها، وبلا مسؤولية أمام أي إنسان على الأرض.
وقد ربط روسو أيضاً، بين نظريته في العقد الاجتماعي، ومفهوم السيادة. فالعقد الاجتماعي يعطي المجتمع السياسي سلطة مطلقة على كل أعضائه. هذه السلطة المطلقة، التي تتولاها إرادة عامة، تحمل اسم السيادة.
فالسيادة سلطة عُليا آمرة، لا تقبل التصرف فيها أو التنازل عنها، وهي منفصلة عن الشعب وسامية عليه، أي فوق الشعب وتحكم من مكانها ذاك المجتمع السياسي كله. هذه السلطة، التي تتجلى بأظهر ما تتجلى في فرعها التشريعي، تتميز بقدرتها على وضع القوانين بمفردها، وفرضها على الرعايا من دون موافقة منهم. وهي تتميز، فضلاً عن ذلك، بخاصية أخرى أساسية، هي أنها سلطة غير محدودة، لا ترد عليها أية قيود.
وتتلخص خواص السيادة، فيما يلي:
أ. السيادة إرادة لا يمكن أن يُفرض عليها أي التزامات، من إرادة أخرى.
ب. السيادة وحدة واحدة ولا تقبل التجزئة، فالإقليم الواحد لا يمكن أن توجد به سوى سيادة واحدة.
ج. السيادة غير قابلة للتفويض، فصاحب السيادة لا يمكن أن ينقلها لآخر.
د. السيادة غير قابلة للتملك، بمضي المدة.
ومع الثورة الفرنسية، ظهر مبدأ مهم للغاية أثرّ بقوة في تطور الديموقراطية، وهو مبدأ: السيادة للأمة، حيث ينص دستورها (الدستور الفرنسي لسنة 1791) أن السيادة للأمة باعتبارها شخصاً مستقلاً، ومتميزاً عن الأفراد المكونين لها. فالأمة ليست فقط مجموعة الأفراد، الذين يرتبطون بإقليم محدد، والذين يجمعهم مَثَلٌ أعلى مشترك، وذكريات وآلام آمال مشتركة، فضلاً عن وحدة الدين واللغة، لكن الأمة إضافة إلى كل ذلك، هي شخص معنوي كبير، له ضمير وإرادة متميزان عن ضمائر وإرادات الأفراد.
وقد ترتب على انتقال السيادة إلى الأمة، مجموعة من النتائج المهمة، منها:
أ. أن القانون لا يُعد مُعبراً، إلاّ عن الإرادة العامة للأمة.
ب. ما دامت السيادة للأمة، فإن النائب لا يعتبر ممثلاً فقط للدائرة التي انتخبته، وإنما يعد ممثلاً للأمة جمعاء.
ج. أن الأمة وحدها صاحبة الحق، في وضع الدستور وتعديله.
وقد حدث تطور جديد في مفهوم السيادة للأمة، حين تحولت السيادة إلى الشعب، في الدستور الفرنسي لسنة 1793.
وتتفق نظرية السيادة للشعب، مع نظرية السيادة للأمة، ولكن ليس بوصفها وحدة مستقلة عن الأفراد المكونين لها، بل بوصفها مكونة من عدد من الأفراد، تكون السيادة لكل فرد منهم، فالسيادة وفقاً لذلك تنقسم بين جميع أفراد الجماعة.
وعلى ذلك، فالفرق بين النظريتين، يبدو في الآتي:
أ. ما دام كل فرد يملك جزءاً من السيادة في نظرية السيادة للشعب، فإن الانتخاب يكون حقاً، بينما يكيف على أنه وظيفة، وفقاً لنظرية السيادة للأمة.
ومن ثم تؤدي نظرية السيادة الشعبية، إلى تقرير حق الاقتراع العام. أمّا نظرية سيادة الأمة، فهي لا تتنافى مع تقييد حق الاقتراع بشروط مالية، أو بشروط تتعلق بالأصل أو الجنس.
ب. وفقاً لنظرية السيادة للأمة، يكون النائب في البرلمان ممثلا للأمة كلها، وليس فقط لدائرته الانتخابية، أو الحزب المنتمي له، أي أنه ليس وكيلاً عن ناخبيه، وإنما وكيلٌ عن الأمة، ومن ثم فليس للناخبين إعطاء تعليمات محددة إلى النائب، وتكليفه بالاقتراع بناء عليها، بل يبقى النائب حراً في إبداء آرائه، التي يستريح لها ضميره، متحرياً مصلحة الأمة ككل، وليس مصلحة دائرته الانتخابية.
وعلى العكس من ذلك في نظرية سيادة الشعب، التي توزع السّيادة بين أفراد المجتمع، بحيث يكون النائب ممثلاً لجزء من السيادة، الذي يملكه ناخبوه، وعلى ذلك فلهم أن يعطوا تعليمات ملزمة للنائب عنهم، لأنه يُعَد وكيلاً عنهم ملزماً بتنفيذ وكالته، وللناخبين عزله في أي وقت.
ج. الأمة بوصفها وحدة دائمة، لا تتمثل في هيئة الناخبين في وقت معين فقط، بل تشمل أيضاً الأجيال السابقة والأجيال اللاحقة. ونتيجة لذلك، فإن الأخذ بنظرية سيادة الأمة، لا يؤدي دائماً إلى النزول على إرادة الأغلبية، التي قد تمثل رغبات عارضة. أمّا في نظام السيادة الشعبية، فإنه يتعين دائماً الأخذ برأي الأغلبية.
د. يترتب على نظرية سيادة الشعب، الأخذ بنظام جمهوري، بينما تتواءم سيادة الأمة حتى مع النظم الملكية.
هـ. نظرية سيادة الشعب تؤدى إلى الديموقراطية، التي هي التعبير عن إرادة الشعب.
وهكذا يبدو الارتباط الوثيق، بين تطور مفهوم السيادة في الفكر الغربي، وأثره على نظرية الديموقراطية.
ثالثاً: الوسائل والغايات
لا يخلو مُؤَلَفٌ سياسي من ذكر معايير خاصة للديموقراطية، مثل التنافس الحزبي، وحكم الأغلبية، وحقوق الأقلية، والمعارضة، والحكومة البديلة، والمراقبة، والتوجيه، إلى آخر ما يراه الكُتّاب والمفكرون.
وعلى كل، فالديموقراطية المرغوبة، هي ديموقراطية وسائل وغايات، ويجب الاهتمام بالوسائل، قدر الاهتمام بالغايات، إذ إن الديموقراطية الحقة لا تعيش من دون وسائل وإجراءات كفيلة بتحقيقها بصورة سليمة، بعيدة عن العنف والظلم. ولا بد لنجاح أي نظام ديموقراطي ودوامه، من وجود اتفاق أساسي، على هذه الوسائل والغايات. فديموقراطية الوسائل تجعل الديموقراطية جسداً بلا روح، كما أن ديموقراطية الغايات تجعل الديموقراطية "يوتوبيا"[1] بعيدة المنال.
وليس للوسائل الديموقراطية من جدوى، إذا لم تكن لها غايات ديموقراطية، ومُثُلٌ أخلاقية تهدف إلى تحقيق السعادة الروحية، والمساواة، والحرية، والعدالة، والإخاء الإنساني.
والواقع أن الاتجاه المعاصر، في الفكر السياسي الغربي، يَعُدُ الديموقراطية آلة سياسية فقط، مما يدفع كثيرٌ من المواطنين، إلى العزوف عن المشاركة في تسيير دفة هذه الآلة.
والتأكيد على الوسائل، قد يُفضي إلى اعتبار الوسيلة غاية في حد ذاتها (وقد نعيش في الوسائل، ونقضي العمر كله مع الوسائل، من دون بلوغ الغايات).
ولابد من التأكيد على أن الديموقراطية، كمجموعة من القيم، والديموقراطية، كطريقة لصنع القرارات السياسية، هما مظهران يكمّل أحدهما الآخر. فالديموقراطية كطريقة في الحياة، لا تنفي كونها نظاماً سياسياً قائماً على مجموعة من المؤسسات والوسائل، التي تهدف إلى تحقيق الحرية، التي هي غاية الديموقراطية القصوى.
ولا شك في وجود كثيرٍ من الغايات، التي كانت الديموقراطية تتوخاها وتحرص على بلوغها، ومن ذلك العديد من القضايا، التي كانت تبرز في المجتمع، أو التي برزت نتيجة للتطورات الاجتماعية، الناشئة عن التطورات الاقتصادية والسياسية.
كما أن مبادئ الديموقراطية (التي سبق ذكرها)، هي في الوقت ذاته غايات تسعى الديموقراطية إلى المحافظة عليها، في حركة تفاعلية دائمة على أرض الواقع.
ومع هذا، فيمكن رصد بعض الغايات، التي تسعى الديموقراطية إلى تحقيقها، ممثلة في الآتي:
1. الحرية المدنية والاجتماعية
فالحرية إحدى المبادئ، التي قامت عليها الديموقراطية، وهي أيضاً إحدى الغايات، التي تتوخى الديموقراطية الحفاظ عليها، في كل أشكالها ومراميها وانطلاقاتها.
2. العلاقة المتوازنة بين الحرية الفردية، والسلطة العامة، والمجتمع
يقع سلوك الفرد حيال غيره، تحت رقابة المجتمع، أمّا سلوكه حيال ذاته، فله مطلق الحرية على جسده وعقله، ما لم يبدر منه ما يسيء إلى نفسه، فيتدخل المجتمع بالنصح والتعليم والإقناع. فإن لم يجدِ ذلك، فمن حق المجتمع أن ينبذه، أو يعاقبه، إذا وجد في ذلك خيراً له. ولهذا، فإن من غايات الديموقراطية، تنظيم وتحديد طبيعة الحدود، التي يمارسها المجتمع شرعاً في سلطانه على الفرد. فما يخص الفرد وحده هو من حقوقه، أما ما يخص المجتمع، فهو حق للمجتمع.
فسلطة المجتمع ويمثلها سيادة العرف، وسلطة الحكومة، ويمثلها القانون، لا يجوز لهما أن يتعرضا لحرية الفرد، إلاّ لحماية الغير منه، أو لمنعه من الإضرار بنفسه أو بغيره؛ فالإنسان حر في كل ما يتعلق بذاته، ولكنه ليس حراً في أن يصيب الآخرين بالضرر.
3. تنظيم المجتمع عن طريق العلم
وهو من أهم غايات الديموقراطية، لأن العلم حق لكل فرد في المجتمع، وهو إرادة محايدة وموضوعية في أحكامها.
4. الإصلاح الاجتماعي
إن غاية الديموقراطية رفع الجهل والفقر والمرض عن أفراد المجتمع، فضلاً عن الخرافات والأوهام.
5. الإصلاح النيابي
تدرجت الحقوق النيابية طبقاً لتطور طبقات المجتمع، بدءاً من حق النبلاء، فحق الممولين أو أصحاب رؤوس الأموال، وانتهاءً بحق كل المواطنين.
6. التوازن بين طبقات المجتمع
وهو من أهم غايات الديموقراطية، فلا تستعبد الطبقة العليا الطبقة الفقيرة، كما لا تعتدي الطبقة الفقيرة على الطبقة الغنية.
7. العمل على تنمية الفضائل، وإذكاء العقل لدى الأفراد
فمنفعة المجتمع لا تُحَقَقَ إلاّ بضمان حرية الفرد، وفي هذا الإطار تحدد غاية الحكومة. فلا تقاس الحكومة الصالحة، إلاّ بمقدار ما يتمتع به أفرادها من فضائل الخُلق والسُلوك، والتقدم العقلي العام.
8. تحقيق المنفعة
ولم يتفق مفكرو الغرب على مفهوم محدد للمنفعة، ففضل بعضهم تقديم منفعة الفرد على منفعة المجتمع، بينما ذهب آخرون إلى تفضيل منفعة المجتمع، على ألاّ تطغى على حرية الفرد.
9. الحرية الفكرية، وحرية العمل
لا يتحقق ما ينبغي في الأفراد، من فضائل وسلوك عقلي عام، إلاّ عن طريق حرية العقل، وحرية العمل.
أمّا عن حرية الفكر وإبداء الرأي، فيرى بعض العلماء، أن الإجماع ليس دليلاً على الصواب، وليست القلة دليلاً على الخطأ، وحرمان الفرد من إبداء رأيه مضرة للناس، وحرمان للإنسانية من دواعي الرقي والتقدم، فإذا كان الرأي صواباً فقد حُرم المجتمع من فرصة نافعة، وإن كان خطأ، فقد حُرم من فرصة المقارنة، التي تؤكد ما هو عليه من حق. فالرأي مهما بلغ فساده، ومهما بلغ إيمان الناس بضرره، فليس هناك ما يبرر حرمان صاحبه من عرضه والدفاع عنه. كما أن الرأي مهما بلغ صوابه لا بد أن تمحصه المناقشة.
أمّا حرية العمل، فلا ضير من إطلاقها، كحرية الرأي سواء بسواء، ما دام ذلك لا يتسبب في ضرر بالآخرين، فما يَصْدُق على حرية الرأي، يَصْدُق على حرية العمل، ولن تستقيم الحياة ما لم تتأكد شخصية الفرد.
رابعاً: أزمة الديموقراطية المعاصرة
تبرز أزمة أي نظرية، في عدم قدرتها على تحقيق الفروض، أو الغايات، التي قامت من أجلها، وعجزها عن الوفاء بها. بل إن عدم القدرة عن اتخاذ غايات أسمى،تُمثل عجزاً أشد. بينما يمثل التراجع، أو الانتكاس، عن الغايات والمثل، نوعاً آخر من العجز، أو بُعداً من أبعاد الأزمة.
في الستين سنة الأخيرة، جرت محاولات عدة لاستبدال النظرية الديموقراطية التقليدية، التي وُجدت أساسها في الحكم الشعبي المباشر، وكانت تؤكد على مجموعة من المُثُل والغايات الأخلاقية. وقد رأى بعض مفكرو الغرب، نسخ هذه النظرية بأخرى تقوم على معايير وأسس مغايرة. وانصب النقد المعاصر على المفاهيم الأساسية، التي تشكل مضمون النظرية التقليدية، لأنها:
1. تتخيل صورة طوباوية (مثالية)، غير واقعية للطبيعة البشرية.
2. أنها لم تورد تحديداً دقيقاً لمفاهيمها الأساسية.
وقد واجهت الديموقراطية المعاصرة أزمتين هما:
أ. أزمة المشاركة
يُعد حق المشاركة في صنع القرارات السياسية في المجتمع الحديث، عنصراً مميزاً للحكم الديموقراطي. فكل الحكومات الديموقراطية، تسعى إلى توسيع المشاركة السياسية إلى أقصى مدى، لغرض دعم شرعيتها. وطالما أن الناس أحرار ومتساوون، فإن المشاركة تعد أداة رئيسية، لتجسيد هذه الحرية والمساواة.
والمشاركة في حقل السياسية، تعني الاشتراك في عمل قانوني، أو اتخاذ قرار سياسي. وعلى هذا تعني المشاركة جزءاً من كُلٍ أكبر، بحيث لا يُستطاع تملكه كله، ولكن يمكن اقتسامه مع الآخرين. ولذا، تستدعي المشاركة وجود الجماعة. ومن هنا ثار سؤال قديم: هل تكون المشاركة السياسية حقاً للجميع، أم تكون حكراً على من يعرفون كيف يستخدمونها بحكمة؟
وقد اختلفت الآراء في هذا المقام، فبعض النقاد الغربيين، يرى أن نسبة قليلة من المواطنين في الغرب، هي التي تؤدي حقوق المشاركة، التي لا تتعدى في الواقع، وضع المواطن ورقة الانتخاب في الصندوق، أثناء فترة الانتخاب، أو التصويت بنعم أو لا، على البرامج الحزبية المعروضة عليه، والمعدّة سلفاً من قبل أداة الحكم، من خلال مؤسسة الاستفتاء.
ويؤكد هؤلاء النقاد على أن السياسة العامة، ليست انعكاساً للخير العام، كما يعتقد أنصار الديموقراطية التقليدية.
وبناء على ذلك، تبنى العديد من المفكرين الغربيين المعاصرين، نظرية جديدة تتلاءم مع الأوضاع السياسية الحاضرة. وكانت أعلى الصيحات الرافضة للقديم، هي المنادية بنظرية "النخبة الديموقراطية". وقد توالت الكتابات المناصرة لها، خصوصاً عند علماء السياسية الأمريكيين. وأصبح هذا الجانب، يغطي حيزاً كبيراً من المؤلفات المعاصرة في الديموقراطية.
والكشف عما يحدث من تزييف للرأي العام، عن طريق المؤسسات السياسية، وممارسات أجهزتها وآلياتها، يعكس مدى التزييف الواقع على المشاركة.
فالاستطلاعات، بصفة عامة، لا تُستخدم أساساً لغرض معرفة مواقف المواطنين، أو تأكيد حقهم في المشاركة الفعالة في الحكم، بل تعمل على تزييف وعيهم، وتبرير سياسيات معينة للنخبة.
وتنحصر مطالب أنصار نظرية "النخبة الديموقراطية"، التي يحاولون بها تقديم بديل للديموقراطية التقليدية في الفكر الغربي، فيما يلي:
(1) تحقيق المجتمع التعددي، الذي يكفل وجود أنماط متعددة من المرشحين متنافسة، سلمياً، ومرتبطة بعضها ببعض، ومفتوحة نسبياً، للدخول والخروج منها.
(2) اتفاق أساسي، على الأقل بين المرشحين، على قواعد المنافسة، من أجل الوصول إلى السلطة.
(3) انتخابات تضمن فرصاً متساوية وعادلة للمواطنين، للمشاركة دورياً في اختيار الحكام.
(4) يجب أن تكون المادة البشرية السياسية (المرشحون)، من مستوى جيد.
(5) أن تكون الحكومة قادرة من السيطرة على الموقف، وعلى توجيه خدمات البيروقراطية ذات التدريب الجيد، وذات التقاليد، والمراكز الاجتماعية المرموقة.
(6) أن يكون هناك ضبط للنفس، وأن يسود التسامح بين المرشحين.
(7) تُمنع الهيئة الناخبة، حالماً تقوم بمهمة اختيار الحكام، من التدخل في العمل السياسي لممثليها ـ بأي نوع من أنواع التدخل ـ حرصاً على استقرار النظام.
(
أن تكون السلطة الحاكمة، قادرة على فض المنازعات، التي قد تحدث بين المرشحين.
(9) أن تكون السلطة الحاكمة، قادرة على فرض وتنفيذ القرارات اللازمة، لتحقيق المصلحة العامة المشتركة.
(10) إيجاد إدارة اقتصادية فعالة.
(11) إيجاد ضمانات كافية، لمنع نشاط من يريد تغيير البنية الأساسية للمجتمع.
ب. الأزمة الأخلاقية
كان من المفترض أن تعكس الديموقراطية مُثُلاً وقيماً أخلاقية، وهو ما كانت تحاول الديموقراطية التقليدية تمثله، بل وتحقيقه على أرض الواقع.
ولكن مع انهيار المثل والأخلاق، ليس فقط على أرض الواقع، بل أيضاً على المستوى الفلسفي، أضحت الديموقراطية، مدعوة إلى التخلص من تلك المثل والقيم الأخلاقية، لتصبح فقط أداة للحكم.
ثم أُعلِن موت الفلسفة نفسها، التي تبحث في الأخلاق والقيم، وترك كل شيء لتفترسه النسبية على يد الفيلسوف الألماني نيتشة. ويعد (جوزيف شومبتير)، النموذج المعبر عن هذه الحالة الصارخة في الفكر الفلسفي السياسي الحديث، حيث صب جام غضبه على القيم والمثل التقليدية، كالخير العام، وإرادة الشعب، والإرادة العامة، التي نادى بها روسو، واعتبرها شومبتير مجرد خرافات. وعلى هذا اقترح مفاهيم جديدة، فبدلاً من مفهوم (حكم الشعب) اقترح مفهوم (حكم معتمد على الشعب) أو (حكم لصالح الشعب).
ولم تزد الديموقراطية، من وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة، عن كونها تنظيماً تأسيسياً القصد منه التوصل إلى قرارات سياسية، حيث يحرز الأفراد من خلاله، سلطة التقرير بواسطة التنافس على، أو الصراع من أجل، الظفر بصوت الشعب.
فلم ترتبط الديموقراطية عند هؤلاء النفر، بغايات أو مثل محددة، يجب الكفاح من أجلها. بل هي لديهم طريقة من الطرق، أو آلة من الآلات، أو نمط من التنظيم القائم، على مؤسسات تهدف إلى الوصول إلى قرارات سياسية. أو على حد تعبير أحد المفكرين الفرنسيين المعارضين: تقنية للحكم خاضعة لمعيار الفعالية وحده.
فالديموقراطية من وجهة النظر هذه، مذهب له غايات ووسائل، ولكنها غايات غير محددة، وإنما تتكيف بحسب الوضع السياسي.
والسمة المميزة، لهذا الموقف من الديموقراطية، هو عدم الثقة الشديدة بالمواطن العادي، حينما يدخل الميدان السياسي، لعدم قدرته على القيام بدور ما، خلال العملية السياسية.
وترتب على ذلك، أن الوسائل السياسية، التي أتاحتها نظرية "النخب الديموقراطية" للمواطن العادي، لم تتعد حقه في قبول أو رفض من سيحكمه، من خلال العملية الانتخابية. وكانت النتيجة المنطقية، هي حصر حق المواطن السياسي في انتخاب القادة والحكام، والنقاش. ولا يُطلب من المواطن إلاّ العمل على جعل الآلة الانتخابية تدور بنجاح، وأن يتحلى بضبط النفس الديموقراطي.
بل وصلت الأزمة إلى حد التحذير من دكتاتورية الأغلبية، وإطاحتها بالنخب السياسية، مما يؤدي إلى الفوضى. فيحذّر أحد المفكرين السياسيين، المؤسسين لنظرية النخب الديموقراطية، من أن عدم الثقة في حكم النخب، يمكن أن يقود إلى الفوضى السياسية، وأن الأرستقراطية لم تَعُدْ العدو التقليدي للديموقراطية، وإنما الطبقات الوسطى، هي الآن، عدو الديموقراطية. فإن أخشى ما تخشاه الديموقراطية ـ كما يتصوره ـ أن تتولى هي نفسها تحطيم قادتها بيدها، وإحلال نخب ذات نزعات مضادة للديموقراطية، محل الصفوة الديموقراطية. ويخلص إلى المناداة، ببقاء السلطة بيد النخب الحاكمة، التي تملك كل أسباب الامتياز المعترف بها من قبل الجميع.
[1] مدينة فاضلة، عالم مثالي بعيد تحقيقه.