9. حقوق الإنسان المتعلقة بمقصد العقل
أ. حق إبداء الرأي
كما كفل الإسلام حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، عما يعتقده الإنسان، كفل أيضاً حرية إبداء الرأي في كافة الأمور الدنيوية، غير ذات الصبغة الدينية. واحترم الإسلام العقل، وحفزه على الفكر والإبداع الحقيقي.
وقد كان النبي، r، أكثر الناس مشاورة لأصحابه؛ عملاً بقوله تعالى له: ]وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ[ (سورة آل عمران: الآية 159). وليس مبدأ الشورى في حقيقته، إلاّ احتراماً لحق إبداء الرأي. ولهذا، فإبداء الرأي في الإسلام حق مكفول، لا يستطيع أحد أن ينتزعه.
وقد أولى الإسلام حرية الرأي عناية كبرى، باعتبارها الوسيلة إلى إعلان الدعوة ومواجهة الناس بها، وعرضها عليهم. وقد كان النبي، r، يعرض دعوته على القبائل في بلادهم، وعلى جبل الصفا، ليعلن كلمة التوحيد.
وكان أسلوب الدعوة قائماً على المناقشة والحجة، باعتبارهما مظهراً لحرية الرأي. وفي ذلك يقول الله تعالى: ]لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ[ (سورة الأنفال: الآية 42)، ]إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا[ (سورة يونس: الآية 68)، ]وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ[ (سورة الأنعام: الآية 83).
وقال تعالى في قصة فرعون: ]قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ[ (سورة الشعراء: الآيات 23 ـ 30).
وحرية الرأي هي التي تؤدي إلى إفحام الخصم واعترافه، وانكشاف الحق وإزالة الشبهة يقول الله تعالى: ]وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[ (سورة النحل: الآية 125). والقرآن من أوله إلى آخره، محاجة مع الكفار. وفي ذلك ما يبين قيمة الرأي، واعتماد الإسلام عليه في بيان الحجة، وإيراد الدليل.
وحرية الرأي كفلها الإسلام للجميع، حُكاماً ومحكومين. ودعا إلى تحمل الإيذاء في سبيلها، والاستشهاد دونها. فعن رسول الله r أنه قال: ]لاَ تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلاَ تَظْلِمُوا[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1930).
والناظر إلى ما جرى في سقيفة بنى ساعدة، لاختيار خليفة رسول الله، r، يجد أروع تطبيق لحرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية المناقشة، وذلك فيما جرى بين المهاجرين والأنصار، وحجة كل منهم في اختيار الخليفة. وكان ذلك تصويراً لأول مجلس نيابي في الإسلام، نوقش فيه اختيار الخليفة.
والحرية في الإسلام مكفولة لاعتناق الآراء والتعبير عنها، حتى ولو كانت مخالفة لرأي الجماعة، ما دامت لا يفرضها أصحابها بالقوة.
القيود على حرية الرأي
تتحدد القيود على الحريات العامة، تبعاً لمدلول فكرة النظام العام، التي تسود النظم السياسية المختلفة. فالنظام العام، هو مجموعة المصالح الأساسية للجماعة، أي مجموع الأسس والدعامات، التي يقوم عليها بناء الجماعة وكيانها، بحيث لا يتصور بقاء هذا الكيان سليماً، من دون استقراره عليها.
والقيود على الحريات العامة، تقررها القاعدة القانونية. وتبعاً لذلك، فإن هذه القيود تتسع وتضيق تبعاً لمدلول فكرة النظام العام، التي تكون في إطار المذهب السياسي للدولة. ولم يطلق الإسلام حرية الرأي بلا ضابط، وإلاّ كان في ذلك الفتنة والفوضى، بل وضع للحرية ضوابط، وحدد لها حدوداً بحيث يقف في سبيلها إذا ما استهدفت الفتنة أو خيف منها الفرقة، أو ألحقت ضرراً بالآخرين، أو خدشاً لكرامتهم أو تعريضاً بهم.
فإذا تعدت حرية الرأي نطاقها، فاعتدت على الأخلاق أو الآداب أو النظام العام، أو تجاوزت حدود الفضيلة، ووجب ردها إلى عقالها. فإذا مُنع الفرد من الخوض فيما يمس هذه الأشياء، فقد مُنع من الاعتداء، ولم يُحرم من حق.
كما لا يجوز أن تصل حرية الرأي، إلى نشر الأهواء والضلالة والبدع. يقول أحد الفقهاء: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء، لفروا منه فرارهم من الأسد.
وقد حظر الإسلام الخوض في أعراض الناس، وإذاعة أسرارهم، فليس ذلك من حرية الرأي في شيء. لذلك شرع حد القذف، وهو ثمانين جلدة، لمن يخوضون في أعراض الناس، ويرمون بالإفك، يقول سبحانه وتعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ[ (سورة النور: الآية 19).
ومن القيود على حرية الرأي، عدم جواز المراء والمجادلة بدعوى حرية الرأي. فهما معصية، فضلاً عما فيهما من إيذاء للغير. فعن أنس بن مالك أن رسول الله r قال: ]مَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَهُوَ بَاطِلٌ بُنِيَ لَهُ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُحِقٌّ بُنِيَ لَهُ فِي وَسَطِهَا وَمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ بُنِيَ لَهُ فِي أَعْلاَهَا[ (سنن الترمذي، الحديث الرقم 1916).
ب. حق التربية والتعليم
إذا كان البر والإحسان في المعاملة، حق الآباء على الأولاد؛ فإن التربية الصالحة، حق الأولاد على الآباء.
ولكل إنسان ـ ذكر أو أنثى ـ الحق في أن يتعلم. وطلب العلم واجب على الجميع، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : ]طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 220).
فعلى المجتمع أن يتيح فرصة التعلم والاستنارة لكل إنسان، ولكل إنسان أن يختار ما يتوافق مع مواهبه وقدراته الذاتية، فعن عَبْدِاللَّهِ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: ]قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ قَالَ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 6996).
10. حقوق الإنسان المتعلقة بمقصد العرض والشرف
أ. حق حماية العرض والسمعة
حرّم الإسلام أن تُنتهك سمعة الإنسان وعرضه، فالرسول، r يقول في خطبة الوداع: ]فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 65).
كما حرّم الإسلام ـ أيضاً ـ تتبع عورات الناس، ومحاولة النيل من شخصية الإنسان المعنوية: ]وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا[ (سورة الحجرات: الآية 12)، ]وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ[ (سورة الحجرات، الآية 11).
وهذا الحق نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقال: (لا يجوز تعريض إنسان للتدخل في شؤونه الخاصة، ولا في شؤون أسرته، أو مسكنه، أو رسائله، بغير مسوغ قانوني، ولا للاعتداء على شرفه وسمعته، ولكل إنسان الحق في الاحتماء بالقانون، من مثل هذا التدخل أو الاعتداء).
والحق أن الإسلام يسمو كثيراً، على كل ما جاءت به الإعلانات والقوانين الوضعية، في إقرار هذا الحق المقدس للإنسان. يقول سيد قطب في هذا المجال: (إن للناس حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم، التي لا يجوز أن تنهك في صورة من الصور، ولا أن تمس بحال من الأحوال. ففي المجتمع الإسلامي الرفيع الكريم، يعيش الناس آمنين على أنفسهم، آمنين على بيوتهم، آمنين على أسرارهم، آمنين على عوراتهم. ولا يوجد مبرر ـ مهما يكن ـ لانتهاك حرمات الأنفس والبيوت، والأسرار، والعورات. حتى ذريعة تتبع الجريمة وتحقيقها، لا تصلح في النظام الإسلامي ذريعة للتجسس على الناس. فالناس على ظواهرهم، وليس لأحد أن يتعقب بواطنهم، وليس لأحد أن يأخذهم، إلاّ بما يظهر منهم من مخالفات وجرائم، وليس لأحد أن يظن، أو يتوقع، أو حتى يعرف أنهم يزاولون في الخفاء مخالفة ما، فيتجسس عليهم ليضبطهم. وكل ما له عليهم أن يأخذهم بالجريمة عند وقوعها وانكشافها، مع الضمانات الأخرى، التي يُنَصُّ عليها بالنسبة لكل جريمة).
ب. حق الأسرة
الزواج حق لكل قادر عليه، وهو الطريق الشرعي لبناء الأسرة وإنجاب الذرية وإعفاف النفس. وقد حث الله تعالى المجتمع الإسلامي على تيسير الزواج، فقال تعالى: ]وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[ (سورة النور: الآية 32).
ولكل من الزوجين حق قِبَل الآخر، وعليه واجب ]وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[ (سورة البقرة: الآية 228). ولكل من الزوجين قِبَل الآخر حق احترامه، وتقدير مشاعره وظروفه، في إطار من المودة والرحمة، ]وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً[ (سورة الروم: الآية 21).
وقد كَفَلَ الإسلام، لكل فرد في الأسرة، أن ينال منها ما هو في حاجة إليه، سواء كان رعاية أو حناناً أو كفاية مادية، وذلك في كل مراحل العمر. كما أن مسؤولية الأسرة شركة بين أفرادها، كل بقدر ما يستطيع.
ولا يُجْبَر في الإسلام، الفتى أو الفتاة، على الزواج ممن لا يرغبا فيه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: ]أَنَّ جَارِيَةً بِكْرًا أَتَتْ النَّبِيَّ r فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ [r (سنن أبو داود، الحديث الرقم 1794).
11. حقوق الإنسان المتعلقة بمقصد المال
أ. الحقوق الاقتصادية والعمالية
إن الثروات الطبيعية، بجميع أنواعها، وكذا الكون، مِلْك لله سبحانه، ]لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ[ (سورة المائدة: الآية 120). وقد منح الله للإنسان حق الانتفاع بهذه الثروات، فقال تعالى: ]وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ[ (سورة الجاثية: الآية 13).
ومن هنا، فلكل إنسان أن يحصل على رزقه بالطرق المشروعة. قال تعالى: ]هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ[ (سورة الملك: الآية 15).
وقد وضع الإسلام الضوابط، التي تُرَشِّد النشاط الاقتصادي، ومن هذه الضوابط:
تحريم الغش، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r: ]مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَسَأَلَهُ كَيْفَ تَبِيعُ فَأَخْبَرَهُ فَأُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ[ (سنن أبو داود، الحديث الرقم 2995).
كما حرّم الإسلام الغرر والجهالة، فنهى، r، عن الغرر. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ]نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ[ (صحيح مسلم، الحديث الرقم 2783).
وحرّم الاحتكار لضروريات الناس، فقال عليه الصلاة والسلام: ]لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2145). وحرّم الربا، وكل كسب طفيلي يستغل ضوائق الناس. وحرّم الاكتناز، وبيع الأشياء المحرمة، والإسراف في استعمال المال.
ويتصل بالحقوق الاقتصادية، أن انتزاع الملكية المعتبرة شرعاً لا تجوز، قال تعالى: ]وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[ (سورة البقرة: الآية 188).
أمّا فيما يتعلق بالحقوق العمالية، فقد رفع الإسلام شعار العمل لمجتمعه ]وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ[ (سورة التوبة: الآية 105). وحق العامل أن يأخذ أجراً يتناسب مع ما يبذله من جهد، وأن يحيا حياة كريمة، من دون أن تُستغل ظروفه، بل توفر له الحماية والرعاية. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: ]أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ[ (سنن ابن ماجه، الحديث الرقم 2434).
وقد عبّر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الحقوق العمالية في قوله: لكل إنسان حق العمل وحرية اختياره، وله حق العمل في ظروف عادلة ملائمة، وحق الحماية من التعطل. ولجميع الأفراد أن يتقاضوا أجوراً متكافئة عن الأعمال، من دون أي تمييز بينهم.
ولم يكتف الإسلام بتحقيق فرص العمل للأفراد وكفالتها لهم، بل كفل لهم أيضاً، الأجر المناسب للعمل، وعدم التأخير في أداء أجورهم. وفي ذلك يقول الله تعالى: ]وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[ (سورة الأحقاف: الآية 19). فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ r قَالَ: ]قَالَ اللَّهُ ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ[ (صحيح البخاري، الحديث الرقم 2075).
وقد اتجه الإسلام إلى العناية بالعامل، وعدم تركه عرضة لإرهاق رب العمل له واستغلاله. وكفل للعامل قدراً من الراحة، حفظاً لقوته ورعاية لصحته. وفي ذلك يقول الله تعالى: ]لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[ (سورة البقرة: الآية 286). فالقاعدة الشرعية أنه لا تكليف إلاّ بمستطاع. فلا يجوز أن يكلف الشيوخ وأحداث السن بأعمال ينوء بها كاهلهم، كما لا يكلف النساء بما لا يتناسب مع طبيعتهم.
وإذا تعطل العامل، أوجب الإسلام على الدولة إعالته وكفالته، وإعانته على العيش، حتى توفرِّ الدولة له عملاً، وهذا من مصارف الزكاة. فالذين يفتقرون إلى فرص العمل، هم الفقراء حقاً يقول الله تعالى: ]لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ[ (سورة البقرة: الآية 273).
كما روى الإمام أحمد أن النبي، r قال: ]مَنْ وَلِيَ لَنَا عَمَلاً وَلَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ فَلْيَتَّخِذْ مَنْزِلاً أَوْ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَلْيَتَزَوَّجْ أَوْ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَلْيَتَّخِذْ خَادِمًا أَوْ لَيْسَتْ لَهُ دَابَّةٌ فَلْيَتَّخِذْ دَابَّةً وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ غَالٌّ[ (مسند أحمد، الحديث الرقم 17329).
ب. حق الملكية
أقر الإسلام حق الملكية الفردية، وكفله بأحكام عدة. وقد نهى القرآن الكريم، في مواضع كثيرة، عن الاعتداء على مال الغير، في قوله تعالى: ]لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[ (سورة النساء: الآية 29).
ولكن الإسلام لم يجعل حق الملكية مطلقاً، وإنما قيده بما يجعل صاحبه أشبه بالوكيل عن الجماعة، فيما تحت يده من أموال. قال تعالى: ]وَءَاتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي ءَاتَاكُمْ[ (سورة النور: الآية 33).
ولذلك، فرض الله على المسلمين الزكاة في أموالهم، ثم جعل للحاكم الحق في أن يأخذ منهم فوق الزكاة ما يلزم حاجة الجماعة، كلّما دعت الضرورة إلى ذلك، دفعا للضرر، ورفعا للحرج، وصونا لمصالح المسلمين.
والإسلام قد أقر الملكية بنوعيها : الفردية، والجماعية، ولهذا لا يجوز لولي الأمر أن يعتدي على مُلك فرد من الأفراد، أو أن يجعله في منفعة عامة مملوكة للمسلمين، إلاّ إذا تطلبت مصلحة المسلمين ذلك. فيأخذه الإمام عن رضا، أو عن قهر، ببدله من دون غبن على صاحبه (يعنى مقابل تعويض عادل)، ذلك أن المصلحة العامة، مقدمة على المصلحة الخاصة.
وملكية الأفراد للأموال في الإسلام ثابتة، سواء كانت عقاراً أو منقولاً، وكان اكتسابها بطريق شرعي. فهي مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
فقد أباح الإسلام التملك، ودعا إلى تحصيل المال من أبواب الحلال، وكفل للأفراد حرية التصرف والتعامل فيما يملكون، سواء أكان ذلك بالبيع، أو الهبة، أو الوصية، أو غير ذلك من التصرفات، مع اعتبار حقوق الآخرين وعدم الإضرار بهم. كما دعا القرآن الأفراد إلى حماية أموال الآخرين، والدفاع عنها، وتقرير العقوبات على من يعتدي على حق غيره: ]إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[ (سورة النساء: الآية 10).
يتبين مما سبق أن حقوق الإنسان في الإسلام، نابعة ـ أساساً ـ من رؤية الإسلام للمنظومة الثلاثية: الكون والإنسان والخالق، ومن علاقة الإنسان بطرفي المنظومة الآخرين. ولا شك أن هناك نقط التقاء كثيرة بين حقوق الإنسان في الإسلام، وبين إعلان حقوق الإنسان العالمي، شأن كثير من الخصال الخلقية، التي يتفق عليها عقلاء البشر، وإن تفاوتت أديانهم، كحسن الصدق، وقبح الكذب.
ومن معاد القول، أن الإسلام سابق في هذا كله. ففرنسا، التي يحظى ميثاقها لحقوق الإنسان بالكثير من الاهتمام، لم يكن يسودها حتى أوائل القرن الثامن عشر، قانون عام شامل، بل كان القاضي في كل منطقة يحكم حسب العادات والتقاليد، في قدر كبير من حرية التقدير، فضلاً عن أن يكون لديها الكثير الذي تقدمه لحقوق الإنسان.
بينما قدّم الإسلام القانون العام الشامل، الذي كان يشمل أقطاراً بأسرها، من دون اضطراب أو تقصير، والذي استطاع أن يقدم للإنسان حقوقه الحقيقية، التي افتقدها قبل الإسلام، والتي ضاعت منه بتوقف الحكم بالشرع الإسلامي.
وقد طُبق النظام الإسلامي في عهد النبوة، على أساس أن القانون الإسلامي يعتمد على دعامتين:
الدعامة الأولى: هي القرآن، الذي أنزله الله على نبيه وفقاً للوقائع والحوادث والمناسبات. والدعامة الثانية: هي أقوال النبي وفتاويه وأحكامه عليه السلام. وفي ذلك العهد طُبّق النظام الإسلامي، بما شمله من تقرير الحريات العامة، تطبيقاً سليماً. الحقوق فيه مضمونة، والحريات مكفولة.
وقد تقررت حرية النفس، باعتبارها جزءاً من العقيدة الإسلامية، وتقرر التكافل الاجتماعي بفريضة الزكاة وبالصدقة، ووطد الرسول الكريم r، بالتطبيق العملي، مبدأ المساواة. فكان موقفه ـ وهو النبي r المؤيد من السماء ـ موقف الأخ من أخيه. كما زوّج بعض الموالي من سيدات كريمات الحسب في قومهن، وحقق الشورى عملاً حين كان يستشير صحابته، قائلاً: لهم (أشيروا عليَّ أيها الناس). كما تقررت مسؤولية كل فرد عمّن يتولى شؤونه، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أسرته راع ومسؤول عن رعيته.
وسار الأمر على ذلك في عهد الخلافة الرشيدة. فكان الخلفاء، كلّما جد في أمور الدولة أمر جديد، جمعوا الصحابة واستشارهم، ثم انتهوا إلى رأي تقره جماعتهم.
ومنذ أوائل القرن الثاني الهجري، امتازت تلك الحقبة بقيام الحضارة الإسلامية ونموها، كما كثرت العلوم العقلية والنقلية، ودوّنت العلوم العربية الخالصة، وظهرت المذاهب الفقهية.
وفي النهاية، نختم البحث بما جاء في توصيات المؤتمر العام العاشر، للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، حيث كانت أولى توصياته:
أولاً: يوصي المؤتمر بتطبيق الشورى في مختلف مجالات الحياة في البلاد الإسلامية، وتنظيم كيفية ممارسة السلطات حسب ظروف كل دولة إسلامية، سواء في مجال اختيار الحكام، أو تحديد حقوقهم وواجباتهم.
ثانياً: يوصي المؤتمر باتخاذ الوسائل الكفيلة بالالتزام بأحكام الإسلام، في تنظيم حياة الأمة الإسلامية، ومنها احترام حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية من دون تمييز.