الفصل الثانى
أنبياء الله من إبراهيم حتى يعقوب عليهم السلام
المبحث الخامس
قصة إبراهيم حتى مولد إسماعيل عليهما السلام
هو إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن راغو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوحu (هذا هو نسبه الموجود في كتب التاريخ وفي التوراة). وقد ذُكر اسم إبراهيمu في القرآن الكريم 69 مرة في 25 سورة.
كان مولده بمدينة بابل بأرض الكلدانيين لأب يعبد الأصنام، بل كان أيضاً يصنعها ويبيعها للآخرين، ولهذا كان لأبيه اسمان علمان، أحدهما "آزر" على اسم ذلك الصنم الذي كان يعبده واشتهر بصناعته، والآخر "تارح"، وكان عمر "آزر" خمسا وسبعين سنة حين ولد له إبراهيمu وهو الابن الأوسط له، فقد كان لإبراهيمu أخوان هما ناحور وهاران، ووُلد لهاران "لوط"، أما أم إبراهيمu فكان اسمها "بونا" بنت كربتا بن كرثي، من بني أرفخشذ بن سام بن نوح، وقيل اسمها "أميلة"، وقد مات هاران في حياة أبيه ودفن بأرضه التي وُلد فيها (أرض الكلدانيين).
كانت لإبراهيمu مكانة خاصة بين أنبياء الله، فهو أحد أُولي العزم الخمسة الكبار، الذين أخذ الله منهم ميثاقاً غليظاً، وهم: (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه)، وهو النبي الذي ابتلاه الله ببلاء مُبين.. بلاء فوق طاقة البشر.. واتخذه الله بعد الشدة وعنت البلاء خليلاً، لقوله تعالى: )وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً( (النساء: الآية 125)، وقد آتى الله إبراهيمu رشده منذ الصغر، قال تعالى: )وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ( (الأنبياء: الآية 51).
ولم يرد في كتاب الله ذكر خليل لله غير إبراهيمu، والخلة هي شدة المحبة، إن منتهى أمل السالكين والعارفين أن يحبوا الله عز وجل، فكيف إذا كان الله عز وجل الذي أحَبَ إبراهيمu وجعله خليلاً له، فهو عبد رباني, وتلك مكانة عالية ومنزلة رفيعة عند الله، وقد جعل الله المسلمين يذكرونه في تشهدهم أثناء الصلاة، ففي حديث كعب بن عجرةَ قالَ: )خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِe فَقُلْنَا قَدْ عَرَفْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ، قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيد[ (صحيح مسلم: 614).
وقد كرم الله تعالى إبراهيمu تكريماً خاصاً.. فجعل ملته يرغبها كل عاقل، ويتجه بقلبه إليها كل راشد، ألا وهى التوحيد الخالص لله، وجعل الله من ترك ملتهu فقد سفه نفسه، فقد اصطفاه الله في الدنيا وهو في الآخرة لمن الصالحين قال تعالى: ]وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الأَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ[ (البقرة: الآية 130)، ولهذا أثنى الله عليه ثناء عظيماً فجعله وحده بمقام أُمة بكاملها، وجعله إماماً للناس، قال تعالى: ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[ (النحل: الآية 120)، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، كما أن محمداًe قد جاء تحقيقاً لدعوة إبراهيمu التي قال فيها: ]رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ (البقرة: الآية 129).
فنحن أمام قمة بشرية عظيمة، أمام نبي عظيم جاء ربه بقلب سليم، إنسان لم يكد الله يقول له أسلم حتى قال: أسلمت لرب العالمين، نبي هادئ مسامح حليم أواه منيب، قال تعالى: ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ[ (هود: الآية 75)، ألقى الله عليه الأمن والسلام: ]سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ[ (الصافات: الآية 109).
وكان هذا الفيض الإلهي على إبراهيمu مطلوباً لهداية البشر في زمانه، الذي أُطفئت فيه أنوار العقل في مشارق الأرض ومغاربها، وجلس الظلام على عروشه المتعددة، وبعدت الرحمة وضاع الحق بين الناس، الذين انقسموا في عصره إلى ثلاث فئات، فئة تعبد الأصنام والتماثيل، وفئة تعبد الكواكب والنجوم، وفئة تعبد الملوك والحكام.
كان عقل إبراهيمu إذ ذاك مضيئاً منذ طفولته، أضاء الله قلبه وعقله، وآتاه رشده وآتاه الحكمة، قال تعالى: ]وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ[ (الأنبياء: الآية 51)، وهكذا أنار الله بصيرة إبراهيمu منذ الصغر, وهداه إلى رشده، فعلم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، فهي لا تسمع نداء, ولا تجيب دعاء.
تزوج إبراهيمu من ابنة عمه سارة بنت هاران الأكبر، وازداد احتقار إبراهيم uللأصنام وعبادة الأوثان, واشتد غضبه عندما علم أن والده يريده أن يكون كاهناً بالمعبد، وازداد تفكير إبراهيمu في خلق الله, وسئم النظر إلى الأرض التي تموج بالجاهلية، فنظر إلى السماء والقمر والنجوم والكواكب، أدهشه أن يعبد الناس تلك المخلوقات التي تظهر تارة وتختفي تارة أخرى، وأدار إبراهيمu حواراً داخلياً مع نفسه, ثم لم يلبث أن نقل حواره الصامت هذا إلى حوار مسموع، بينه وبين قومه، وقد كانوا في ذلك الزمان يعبدون الكواكب السبعة، بطقوس غريبة، وخاصة أهل دمشق، ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها يعملون لها أعياداً ويقدمون لها القرابين، وكذلك كان أهل حران[1] يعبدون الكواكب والأصنام، وقد كان كل من على وجه الأرض في ذلك الوقت كفاراً، إلا إبراهيم الخليلu، وامرأته، وابن أخيه لوطاًu.
أولاً: دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه، ومناظرته الملك
1. دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه
قال تعالى: ]وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(41)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا(42)يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا(43)يَاأَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44)يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ ءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا(46)قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا(47)وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا[ (مريم: الآيات 41-48).
بيّن إبراهيمu لأبيه بألطف العبارات وأحسنها، بطلان عقيدته القائمة على عبادة الأصنام وصناعتها وبيعها، مبيناً له أنها لا تسمع، ولا تبصر، ولا تغني عنه شيئاً, فهي كائنات صامتة جامدة لا تستطيع له رزقاً ولا نصرا!، قال لأبيه: )يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا( (مريم: الآية 42) ثم برفق منه وسكينه ناشده أن يتبعه كي يهديه إلى الصراط السوي، ذلك الصراط الذي لا يعرفه عُبَّاد الأوثان وصناع الأصنام، فقد آتاه الله علماً آخر، علماً تتفتح أمامه الآفاق، وتتحرك به البصائر، وتنشرح له القلوب، فقال لأبيه: ]ياأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا[ (مريم: الآية 43)، أي أهديك طريقاً مستقيماً واضحاً سهلاًً، يوصلك إلى خير الدنيا والآخرة.
ثم حذره تحذيراً شديداً من الشيطان ووساوسه، فهو الذي وسوس لآدمu وزوجه، فأخرجهما من الجنة، وهو سر المصائب والشرور في هذه الدنيا، حذره من هذا العدو المبين الذي عصى ربه من قبل، قال إبراهيمu لأبيه: )يَاأَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا(44)يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا(45)( (مريم: الآيتان 44، 45)، فلم يتقبل"آزر" كلام إبراهيمu وأصر على كبره وتمادى في ضلاله، وأخذ يهدده ويتوعده ويقول: ]أََرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ ءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا[ (مريم: الآية 46)، أي إن لم تنته يا إبراهيم لأرجمنك رجماً، أو لتقاطعني وتبتعد عني، وتهجرني، فإنني لا أطيق سماع ما تقول.
لما رأى إبراهيمu ذلك من أبيه قال له: ]سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [(مريم: الآية 47)، أي سلام عليك لا يصلك منى مكروه، ولا ينالك مني أذى، أنت سالم من ناحيتي، وزاده خيراً فوعده بالاستغفار له عند ربه، قال إبراهيمu ماضياً في لوم أبيه: ]وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [(مريم: الآية 48) أي عليّ أن أعتزلكم وما تعبدون من الآلهة التي لا تنفع ولا تضر، وأبقى على عبادة ربى دائماً وأبداً حتى لا أكون بالبعد عنه شقياً، وقد استغفر إبراهيمu لأبيه كما وعد، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، قال تعالى: ]وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ[ (التوبة: الآية 114).
عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبيe قال: ]يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ[2] فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لا تَعْصِنِي فَيَقُولُ أَبُوهُ فَالْيَوْمَ لا أَعْصِيكَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ ثُمَّ يُقَالُ يَا إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ[ (صحيح البخاري: 3101).
2. دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه
دعا إبراهيمu قومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، وأبلغهم أن عبادة الله خير لهم لو كانوا يعلمون، وبين لهم أنهم يخلقون بأيديهم إفكاً (أي يصنعون الأصنام ويظلون عليها عاكفين)، وهى لا تملك لهم رزقاً فليبتغوا عند الله الرزق، قال تعالى: ]وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(16)إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(17)وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(18)( (العنكبوت: الآيات 16-18).
إن إبراهيم لأواه حليم، يرفض في داخله ما يفعله أبوه وقومه، من عكوف طوال اليوم أمام تماثيلهم، التي لا تنفعهم ولا تضرهم، ويدعوهم إلى ربهم بلطف ولين، غير أنهم كانوا لا يفكرون مطلقاً فيما يقول، بل يتمسكون بتقليد آبائهم تقليداً أعمى دون تفكير، ذلك لأنهم وجدوا آبائهم يعبدون تلك الأصنام وهم على آثارهم مقتدون، قال إبراهيمu: )مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ(53)قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(54)( (الأنبياء: الآيات 52-54).
فلما وجدوا أن إبراهيمu يقول الحق وأن قلوبهم أصبحت مظلمة، دار حوار بينهم وبينهu فقالوا: )أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ(55)قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ( (الأنبياء: الآيتان55، 56)، لما رأى إبراهيمu إصرار قومه على عبادة الأصنام، قرر أن يكسر لهم أصنامهم حين يولون عنها مدبرين، غير أن بعض قومه علموا بتلك النية المبيتة من إبراهيمu، قيل إنه كان لهم عيد يخرجون إليه فلما اقترب عيدهم قال أبوه: يا بني لو خرجت معنا لأعجبك ديننا، فلما خرج وكان ببعض الطريق ألقى بنفسه على الأرض وقال لهم إني سقيم، كانت تلك حجته التي قالها لهم كي يتمكن من الذهاب إلى أصنامهم ليكسرها وهم غائبون، فلقد أقسم على الكيد منها بعد أن يولوا عنها مدبرين، حين قال: )وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ( (الأنبياء: الآية 57).
وبعد أن ولى قومه عن معبدهم ذهب إلى أصنامهم، وراغ عليها ضرباً باليمين، فحطمها كلها إلا كبيرهم، وضع به القدوم الذي كان بيده لعلهم إليه يرجعون، فيسألونه عن الفاعل، قال تعالى: )فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ( (الأنبياء: الآية 58)، فلما عادوا إلى معبدهم وشاهدوا ما حدث لأصنامهم فزعوا فزعاً شديداً، فلم يعتادوا من قبل على هذا المشهد الرهيب، إن ذلك الذي حدث لألهتهم لم يتوقعوه قط، فمن هذا الذي يجرؤ على تكسير آلهتهم في غيبتهم؟!، لاشك أنه سيصاب بلعنات الآلهة، أو لعل هذا الإله الكبير، الذي لم يصب بأذى يكون عنده جواب أو يخبرهم بما حدث، قالوا يسأل بعضهم بعضاً: )مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ( (الأنبياء: الآية 59).
إن بعضهم قد سمع إبراهيمu وهو يهدد بالكيد من أصنامهم بعد أن يولوا مدبرين، فليخبروا إذا قومهم بذلك، قالوا: )سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ( (الأنبياء: الآية 60)، فتشاورا فيما بينهم وقالوا: )فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61) ( (الأنبياء: الآية 61)،
فلما أحضروه إليهم وسط جمع كبير من كبرائهم، بدأوا توجيه الاتهام إليه، ثم دار حوار بينهم وبينه، حوار بين الحق والباطل، قالوا: )ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ(64)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ(65)قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ(66)أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[ (الأنبياء: الآيات 62-67).
لقد عجزوا عن الوصول إلى الفاعل، فأرادوا أن يسألوا صنمهم الكبير عن الفاعل، وزادت حيرتهم!!، فكيف لهم أن يسألوا صنماً لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، وهنا رجعوا إلى أنفسهم خائبين، فقد علموا وأيقنوا في أنفسهم أن تلك التماثيل لا تنطق، فكيف لها أن تخبر عن شيء وهى محطمة، ولم تستطع دفع الأذى عن نفسها حين اعتدى عليها إبراهيمu، فلما سألوا كبير أصنامهم عن الفاعل، لم يجبهم، ولم ينطق بشيء، فوجهوا اللوم والاتهام إلى إبراهيمu، ذلك لأن بعضهم سمعه يهددهم، ويتوعدهم بالكيد لهم بعد أن يولوا مدبرين.
وأجمع قومه على التخلص من إبراهيم بقتله أو بحرقه، قال تعالى: )فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(24( (العنكبوت: الآية 24)، واستقر رأيهم الأخير على حرقه في النار، وليشهد حرقه جمع كبير من القوم، قالوا: )حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ(68)( (الأنبياء: الآية 68)، فجمعوا له حطباً كثيراً ووضعوه في جوبة من الأرض، وأضرموها ناراً فكان لها شرر عظيم، ولهب مرتفع، لم توقد نار مثلها من قبل، حتى كانت المرأة التي تمرض تنذر نذراً، إذا عوفيت، بأن تجمع حطباً لحريق إبراهيمu، ثم وضعوا إبراهيمu على كفة المنجنيق ليلقوه في النار التي تأججت وتطاير شررها.
إن خليل الله إبراهيمu كان على يقين من نصر الله، بينما يرى الكافرون غير ذلك، فها هو إبراهيمu قد أُلقي في النار، وليس بعد ذلك سوى الموت، هذا كان إدراكهم !!، أما خليل اللهu فقد كانت السكينة والطمأنينة تملأ قلبه، وكان واثقاً من نجاته من النار، ومن نصر الله له على المشركين الفجار.
أمر الله تعالى النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيمu: )قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ( (الأنبياء: الآيتان69، 70).
حين ألقى إبراهيمu في النار قال كلمات، لو علمها الناس لقالوها في المحن، قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، وعن تلكم الكلمات قال ابن عباس: )(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)( (صحيح البخاري: 4197).
إن في تحول النار إلى برد وسلام على إبراهيمu شأناً يجب الانتباه إليه، ففي هذا الشأن قال ابن عباس وأبو العالية، لولا أن الله قال: ]يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[ (الأنبياء: الآية 69) لأذى إبراهيمu بردها، فالنار لم تحرق إلا وثاقهu, لأن إبراهيمu كان في معية الله وحفظه، قيل إن إبراهيمu أقام في النار أربعين أو خمسين يوماً، وعن شعور إبراهيمu وهو في النار، أخبر المنهال بن عمر أن إبراهيمu قال: ما كنت أياماً قط أنعم مني عيشاً، من الأيام التي كنت فيها في النار.
هكذا نصر الله خليلهu، فقد أراد المشركون أن ينتصروا عليه، فخذلهم الله، وفى ذلك قوله تعالى: ]وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ[ (الأنبياء: الآية 70)، لقد ظنوا بحرقهم لإبراهيمu أنهم قد انتصروا عليه، لكن الله أذهب كيدهم، فجعلهم من الأسفلين، قال تعالى: ]فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأََسْفَلِينَ[ (الصافات: الآية 98)، لهم في الدنيا خزي، وفى الآخرة نار ساءت مستقراً لهم ومقاماً، قال تعالى: ]إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا[ (الفرقان: الآية 66).
3. إبراهيم u وملكوت السموات
جعل الله إبراهيمu من الموقنين من خلال رؤيته للكواكب والنجوم، قال تعالى: )وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ( (الأنعام: الآية 75)، فمن خلالها يمكن للإنسان أن يعرف الله خالق تلك الأشياء، وهذا فضل اختص الله به إبراهيمu من بين قومه ليخرجه من الظلمات إلى النور، فقد عاش إبراهيمu بين ظلمات شتى أحاطت به من كل جانب، فأبوه أقرب الناس إليه كان يعبد الأصنام، بل كان يصنعها بنفسه ويبيعها الناس، وأما قومه غارقون في الضلال، يتمسكون بعبادة الأصنام المصنوعة بأيديهم، ولا يحيدون عن عبادتها، يسيرون على ملة آبائهم الأولين، فقد كانوا لها عابدين.
قال تعالى: ]وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَءَا كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ(76)فَلَمَّا رءَا الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77)فَلَمَّا رءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(78)إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)[ (الأنعام: الآيات 75-79).
أخذ إبراهيمu يتدرج في حجته شيئاً فشيئاً مع قومه، فكان يوجه أنظارهم نحو الكواكب تارة، ثم القمر تارة، ثم الشمس تارة أخرى، فتلك هي الأشياء التي يستطيعون رؤيتها من على الأرض، فبدأ بالنظر إلى كوكب صغير، ثم قال لهم هذا ربى، فلما غاب الكوكب عن أنظارهم، قال لهم لا أحب الآفلين، أي لا أحب الذي يذهب ويختفي، يريد أن يخبرهم بهذه الطريقة أن الآلهة التي يعبدونها من الكواكب التي في السماء تذهب وتختفي، وبالتالي لا تصلح أن تكون آلهة، وهم قوم كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، وكذلك الأصنام، فلما لم ينتبهوا لما قال أتاهم بحجة أكبر وهى القمر، فلما ظهر إليه وأشار إليه، قال لقومه هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، ولم ينتبهوا أيضاً هذه المرة إلى مقصده، فالإله يختفي بالنهار لكنه يظهر لهم بالليل كما يرون بأنفسهم، والإله يجب أن يكون موجوداً دائماً بالليل والنهار، فلما لم تفلح تلك الحجة معهم، نظر إلى الشمس وهى أكبر مما سبق، وتختلف عن الكواكب التي أشار إليها من قبل، فالشمس تظهر بالنهار وتختفي بالليل، وهم أيضاً ينامون بالليل فلا حاجة لإله يظهر بالليل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالشمس أكبرها حجماً، وأكثرها إشراقاً ووضوحاً، فمنها يخرج ضوء وحرارة، يمكنهم الإحساس بهما، إذاً الشمس تستحق أن تكون إلهاً لهم من بين الكواكب والنجوم كلها، فلما جاء الليل، واختفت الشمس، قال لقومه يا قوم إني بريء مما تشركون، ولعل هذا التدرج في الحجج والبراهين من الصغير إلى الكبير، ومن الكواكب التي تظهر بالليل إلى"الشمس" التي تظهر بالنهار، لعل ذلك كله كان كفيلاً بإيمان أحدهم إن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، فلو كان منهم من يسمع أو يعقل قول إبراهيمu لآمن على الفور بالله رب العالمين دون تردد، لكنهم قوم ضالون، قلوبهم غُلف، فلما رأى إبراهيمu جحودهم وكفرهم، تبرأ منهم، ومن آلهتهم، كما تبرأ من أبيه "آزر".
لقد أنهى إبراهيمu حديثه معهم بقوله الفاصل القاطع: ]إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[ (الأنعام: الآية 79)، لافتاً أنظارهم إلى خالق الكواكب والنجوم، كان حواره هذا مع أهل حران, الذين كانوا يعبدون الكواكب، هكذا ناظر إبراهيمu قومه وتدرج معهم في إظهار حججه عليهم, بدأً من أشد الكواكب ظهورا منتهياً بأكبر النجوم ظهوراً وهى الشمس، مروراً بأشد الأجرام ضياءاً ومشاهدة وهو القمر، ثم وضح لهم أنها جميعاً مسخرة بقدرة الله، ولا تستحق أن تكون آلهة لأنها تختفي إما ليلاً أو نهاراً .
وقد ذكرنا أن طائفة من قومه كانوا يعبدون الأصنام، وهم أهل بابل في هذا الوقت، وهم الذين ناظرهم في شأن عبادتها وحطمها لهم، قال: ]إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ[ (العنكبوت: الآية 25)، لم يتركه قومه يتبرأ من آلهتهم دون أن يحاجوه، قال تعالى: )وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80)وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(81)الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ( (الأنعام: الآيات 80- 83)، لقد علمهم إبراهيمu درساً عظيماً في التوحيد، وفى الشجاعة، فهو لا يخاف ما يشركون به من آلهة صنعوها بأيديهم، لا تسمع ولا ترى ولا تضر ولا تنفع، فكل ما يعبدونه من دون الله لا يخيفه، فقد حطم أصنامهم كلها من قبل، وترك لهم كبيرهم، ليريهم أن هذا الصنم الكبير الذي يظلون عاكفين له وقتاً طويلاً، لم يستطع أن ينطق لهم بالفاعل الذي حطم آلهتهم في غيبتهم!.
4. مناظرة إبراهيم الخليلu مع الملك
كانت مناظرة إبراهيمu مع ملك بابل "نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوحu"، هذا الملك الذي طالت مدة حكمه، فتجبر على الناس، وكفر بالله وأنكر أن يكون للناس إلهٌ غيره، قيل إنه مكث في ملكه أربعمائة سنة، ويلفت الله الانتباه إلى تلك القصة لأهميتها في قضية إثبات وجوده Y للمكذبين، قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ[ (البقرة: الآية 258)، نسى النمرود أن الله هو الذي آتاه الملك، هكذا يخبرنا الحق تبارك وتعالى بالحوار الذي دار بين خليله إبراهيمu وهذا الملك الجبار"النمرود".
فهذا الملك ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليلu حجته، وبين له كثرة جهله وقلة عقله، كان الملك قد طغى وتجبر في الأرض، فلما دعاه إبراهيم الخليلu إلى عبادة الله وحده وعدم الشرك به، كذب وأبى وادعى لنفسه الربوبية، فكانت تلك المناظرة بينهما، إذ قال إبراهيمu للنمرود: إن ربي يحيى ويميت، فقال النمرود: أنا كذلك أحيي وأميت، قال تعالى: ]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ[ (البقرة: الآية 258)، قيل إن النمرود أحضر رجلين حُكم بإعدامهما، فأمر بقتل أحدهما والعفو عن الآخر، فكأنه بذلك قد أحيا هذا وأمات ذاك، والملك بهذا قد كابر وعاند، فأتى إبراهيمu بالحجة التي بهتته، فقال: ]فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ[ (البقرة: الآية 258)، أي إن كنت تحيي وتميت كما تزعم، فأت بالشمس من المغرب بدلا من المشرق، لأن هذا الأمر لا يستطيع أن يفعله إلا الذي خلقها وجعلها تجرى لمستقر لها في فلكها، فهو القادر على هذا الأمر وحده, فبهت الذي كفر، واصفر لونه، وشل تفكيره، فأنى له ذلك (أي كيف له أن يعكس اتجاه حركة الشمس فيأتي بها من المغرب بدلاً من المشرق على غير عادتها) قال تعالى: ]فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [(البقرة: الآية 258)، أي سكت النمرود عن القول، وضاعت حجته، وأحس بالعجز، وأخرسه التحدي.
قال زيد بن أسلم: بعث الله إلى الملك الجبار ملكاً آخر يأمره بالإيمان بالله فأبى، فدعاه الثانية فأبى، ثم دعاه الثالثة فأبى عليه، وقال: اجمع جموعك، وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، فأرسل الله عليهم ذباباً كثيراً من البعوض، حتى لم يروا منها عين الشمس، فهجمت عليهم، وأكلت لحومهم وشربت دماءهم ثم تركتهم عظاماً بالية، وقد دخلت إحداها في منخر الملك، فمكثت في منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها، فكان يضرب رأسه بالمزراب في هذه المدة كلها، حتى أهلكه الله عز وجل بها.
ثانياً: إخفاق إبراهيمu في هداية قومه، ورحلاته
لم ينجح إبراهيمu أن يقنع قومه بعد أن حاول معهم شتى وسائل الإقناع، ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا قتله فألقوه في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولم ينجح إبراهيم في هداية أبيه، حتى لقد هدده أبوه بالرجم إن بقي على دينه، هذا ولم يؤمن لإبراهيمu إلا زوجته ولوط بن هاران بن تارح.
1. رحلته إلى أور الكلدانيين ثم حاران (أو حران)
تبرأ إبراهيمu من أبيه، بعد أن تبين له أنه عدو لله، وما كان استغفاره له إلا لعهد قطعه على نفسه أمام أبيه من قبل، قال تعالى: ]وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ[ (التوبة: الآية 114)، هكذا تبرأ إبراهيمu من أبيه ومن قومه، ولم يطب له المقام بينهم، فهجرهم وذهب إلى أور[3]، ثم حاران (اُنظر خريطة هجرة إبراهيمu)، وكان معه امرأته "سارة" وكانت عاقراً.
2. رحلته إلى فلسطين:
رحل إبراهيمu بعد ذلك إلى فلسطين ومعه زوجته "سارة"، وابن أخيه لوطu الذي آمن له، قال تعالى: ]فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[ (العنكبوت: الآية 26)، وسكن إبراهيم ولوط عليهما السلام في فلسطين أرض "الكنعانيين" في بلاد بيت المقدس، وأقام في شكيم، وهي مدينة نابلس وأسماها أرض التيمن، ولكنه لم يُطل بها مقامه، وأخذ يتنقل نحو الجنوب، والدال على ذلك عبارات التوراة المكتوبة عن رحلته إلى مصر، ثم إلى أرض أبي مالك (ملك جرار)، وقد ذكرنا أن أهل بابل بأرض الكلدانيين كانوا يعبدون الأصنام، وكان أهل حران بأرض الكنعانيين يعبدون الأصنام أيضاً إضافة إلى الكواكب، وكان أهل الجزيرة والشام يعبدون الكواكب والنجوم .
3. رحلته إلى مصر
حدث جدب في الأرض، فانتقل إبراهيمu إلى مصر، وكان فرعون مصر أخاً للضحاك الملك المشهور بالظلم في ذلك الوقت، وكان عاملاً لأخيه على مصر، وقد ذكر ابن هشام في "التيجان": أن الذي كان على مصر هو عمرو بن امرئ القيس بن مايلون بن سبأ، نقله السهيلي.
قدم إبراهيمu إلى أرض مصر ومعه سارة، وكانت من أحسن الناس، وكانت عادة ملوك مصر في ذلك الوقت، أنه إذا جاءتهم امرأة غريبة ومعها زوجها قتلوه، وإن كان أخا لها تركوه، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: )قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثًا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام إِلاَّ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ ثِنْتَانِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ (إِنِّي سَقِيمٌ) وَقَوْلُهُ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وَقَالَ بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّ هَا هُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ مَنْ هَذِهِ قَالَ أُخْتِي فَأَتَى سَارَةَ قَالَ يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ وَإِنَّ هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ فَقَالَ ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي بِإِنْسَانٍ إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ مَهْيَا قَالَتْ رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ وَأَخْدَمَ هَاجَرَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ( (صحيح البخاري: 3108).
وكان إبراهيمu يُصلي لله عز وجل، ويسأله أن يدفع عن أهله السوء، وأن يرد بأس الملك الذي أراد بأهله سوءاً، وذلك من وقت أن ذهب بها إليه، وهكذا فعلت زوجته أيضاً، فلما أراد عدو الله أن ينال منها قامت إلى وضوئها وصلاتها، ودعت الله عز وجل وقالت: "اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر". فقد عملت بقوله تعالى: ]وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ[ (البقرة: الآية 45)، فعصمها الله لذلك وصانها عصمة لعبده ورسوله وخليله إبراهيمu.
وفي بعض الآثار أن الله عز وجل كشف الحجاب بين إبراهيمu وبينها، فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه، وكان مشاهداً لها وهي عند الملك، وكيف عصمها الله منه ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه وأشد لطمأنينته، فإنه كان يحبها حباً شديداً، لدينها وقرابتها منه وحسنها الباهر،:فهي أجمل امرأة بعد حواء إلى زمانها رضي الله عنهما.
ثم إن الخليلu رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها بفلسطين، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر المصرية التي أهداها الملك لسارة، حيث نزل بأرض "سبع" بفلسطين واحتفر بها بئراً "بئر سبع" واتخذ بها مسجداً، وبعد أن لقي الأذى من أهلها، انتقل منها إلى الرملة وإيليا ببلد يُقال لها قطة، وبعد أن جف "بئر سبع" هناك، ندم أهلها على ما فعلوه بإبراهيمu، واتبعوا أثره حتى أدركوه، وطلبوا منه العودة معهم فرفض، ولكنه أعطاهم سبعة من الأعشر، فلما وردت الماء ظهر الماء وشربت وعاد الماء للبئر، أما لوطu، فقد نزح بما له من الأموال الجزيلة إلى أرض الغور بأمر من الخليلu, وهى الأرض المعروفة بغور زغر (المؤتفكة) ببرية الشام.
وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليلu، أن يمد بصره وينظر شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، ثم بشره بأن تلك الأرض سيجعلها له ولخلفه حتى آخر الدهر، وسوف يكثر من ذريته، حتى يصيروا بعدد تراب الأرض.
تلك البشارة اتصلت بالأمة المحمدية، ويؤيد ذلك حديث ثَوْبَان بن بجدد حيث قال: }قَالَ رَسُولُ اللَّهِe إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا{ (صحيح مسلم: 5144).
قيل: إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوطu، فأسروه، وأخذوا أمواله واستاقوا أنعامه، فلما بلغ الخبر إبراهيمu سار إليهم في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً، فاستنقذ لوطاًu منهم واستعاد أمواله، وقتل من أعداء الله ورسوله خلقاً كثيراً، وهزمهم وسار في آثارهم حتى وصل إلى شمال دمشق، وعسكر بظاهرها عند برزة، ثم رجع مؤيداً منصوراً إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين، ثم استقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه.
ثالثاً: زواج إبراهيمu من هاجر، ومولد إسماعيلu وهجرتهم إلى جبال فاران
1. زواج إبراهيمu من هاجر ومولد إسماعيلu
سأل إبراهيمu ربه أن يهب له ذرية طيبة، فبشره الله بذلك، ولما كان إبراهيمu قد أقام ببيت المقدس عشرين سنة وكانت زوجته سارة عاقراً وقد جاءها الكبر، فقالت لإبراهيم: إن الله قد حرمني الولد، فادخل على أمتي "هاجر" فقد وهبتها لك، لعل الله يرزقني منها ولداً، فتزوجها إبراهيمu وحملت منه وولدت له إسماعيلu.
وتقول التوراة في سفر التكوين الإصحاح الحادي والعشرين, بأن غيرة (سارة) بعد ظهور المولود وإحساسها بحب إبراهيم uللوليد أثرت فيها، حتى طلبت منه تغريب هاجر ووليدها معها، وهذا يخالف شخصية إبراهيمu التي جبلت على تنفيذ أمر الله تعالى والعمل بما يرضيه، كما أن شخصية سارة نفسها تحوُل دون ذلك، فهي التي زوجته بهاجر، ودعت الله له أن يرزق منه بولد، كما أنها منحت كل وجودها لإبراهيمu الذي ليس في قلبه حب لأحد غير خالقه، قال تعالى: ]رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ[ (هود: الآية 73)، ثم أمر الله إبراهيمu أن يسير بهاجر وولدها الرضيع إسماعيلu حتى يضعهما بمكة، ففعل ما أمره الله به، وسار بهما إلى مكة.
2. قصة هاجر، وزواج إسماعيلu
خرج إبراهيمu وزوجه هاجر، ووليدهما الرضيع إسماعيلu حتى وصلوا مكة المكرمة, وهناك تركهما إبراهيمu في واد غير زرع تنفيذاً لأمر الله عز وجل، وقد روى ابن عباس قصة بئر زمزم، وأسباب سعى هاجر بين الصفا والمروة، وقصة زواج إسماعيلu، ووفاة أمه "هاجر" رضي الله عنها في الحديث الذي رواه، حيث قال: )أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلاَ شَيْءٌ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ لَهُ أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ إِذَاً لا يُضَيِّعُنَا ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ رَبِّ (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) حَتَّى بَلَغَ (يَشْكُرُونَ) وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا قَالَ فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلاَمُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لاً يُضِيعُ أَهْلَهُ وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمَ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا قَالَ وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ فَقَالَتْ نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْإِنْسَ فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيل فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ( (صحيح البخاري: 3113).
[1] حران: هي التي هاجر إليها إبراهيمu مع أبيه تارح وزوجته سارة وابن أخيه لوط، كان أهلها يعبدون الكواكب والأصنام، وقد توفى فيها تارح عن عمر يبلغ مائتين وخمسين سنة.
[2] القترة: شبه دخان يغشي الوجه ويعلوه، والغبرة: الغبار الدقيق، الذيخ: ذكر الضبع.
[3] مدينة كانت قبل الشاطئ الغربي للفرات.