ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: أنبياء الله من يوسف حتى يونس عليهم السلام الثلاثاء 14 يونيو 2016, 11:28 pm | |
| الفصل الثالثأنبياء الله من يوسف حتى يونس عليهم السلام
المبحث الثامن
يوسف u
هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقد ذكر اسم يوسف u27 مرة في القرآن الكريم فى سور(الأنعام ويوسف وغافر). (اُنظر خريطة بعثة يوسف u) مكان مولد وبعث يوسفu ورحلته إلى مصر.
وهب الله تعالى ليوسفu حسن الصورة والجمال الرائع، فكان ذلك مكمن محنته، فلا يقدر أحد على وصف هيئته وحسن منظره، ورث الحسن عن جده إسحاقu، وإسحاق ورثه عن أمه سارة، قال وهب: إن الحسن عشرة أجزاء، تسعة منها ليوسفu وواحد لسائر الناس. وقد تكلمت الكتب السماوية السابقة عن قصة يوسفu، ولكن لما ذُكرت في القرآن الكريم، تركوا كتبهم، وأخذوا يقرأونها من القرآن الكريم, ذلك لأن فيها الإعجاز والتشويق, فهي تحرك المشاعر من داخل النفس، وتعطي من الدروس والعبر ما يظل عالقاً في الذهن إلى أمد بعيد، فالقصة إعجاز لا يقدر على الإتيان بمثله أعظم كُتَّاب القصة من البشر، ثم إنها هي أحسن القصص؛ لأنها اشتملت على دروس وعِبر متعددة في مراحل العمر المختلفة.
كما تُعَدّ قصة يوسفu مرجعاً من المراجع المهمة لعلماء النفس في جميع أنحاء الدنيا، فهي تحلل النفس البشرية وأهواءها، فيوسفu هو المثل الذي يجب أن يحتذى به في كل أسرة، فهو يعطي القدوة لما يجب أن يكون عليه الابن والأخ والصديق والحاكم، فهو نعم الابن ليعقوبu، ونعم الأخ لإخوته، ونعم الصديق لمن كانوا أصدقاء له في السجن، ونعم الحاكم حين تولى أمر خزائن مصر، كما ضرب مثلاً في معنى الوفاء لمن آواه في بيته، فلم يخنه في زوجه حينما راودته عن نفسها، وضرب لنا أيضاً مثلاً في العفة حينما طمعت فيه النسوة فأبى وقالالسجن أحب إلى مما يدعونني إليه).
كان يوسفu جميل الصورة محبوبا عند أبيه، يخصه بقسط عظيم من محبته، وكان ذلك سبباً في حقد إخوته عليه وكرههم ومكرهم له، وسبباً في محنته بعد ذلك وفراقه لأبيه وإخوته.
إن يعقوبu كان له من البنين اثنا عشر ولداً ذكراً، وردت أسماؤهم في قصة يعقوبu، وإليهم يُنسب أسباط بني إسرائيل، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم هو يوسفu على الإطلاق، فسميت سورته باسمه، ولقد جعل الله في قصته عبرة وموعظة لكل من أراد أن يسأل، قال تعالى: )لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءَايَاتٌ لِلسَّائِلِينَ( (يوسف: الآية7).
ولقد وصف رسول اللهe يوسفu بصفة (الكريم)، فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: }سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ قَالَ أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ{ (صحيح البخاري: 4321)، فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ذلك لأنه من نسل كريم، فهو ابن يعقوبu ابن إسحاقu ابن إبراهيم خليل اللهu، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيe قال: }الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمْ السَّلاَم{ (صحيح البخاري: 3138).
أولا: يوسفu يقص رؤياه على أبيه
رأى يوسفu رؤيا غريبة وهو صغير، فقد رأى في المنام أن أحد عشر كوكبا يسجدون له، وكذلك الشمس والقمر، قال يوسفu: ]يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ( (يوسف: الآية 4)، فلما قص يوسفu على أبيه رؤياه، وعلم أبوه أن إخوته سوف يخضعون له يوما، أمره بألا يقص تلك الرؤيا على إخوته خشية حسدهم وكيدهم له، فقال ليوسفu: ]يَابُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ( (يوسف: الآية 5)، ثم أخبره أن الله كما أنعم عليه بتلك الرؤيا، فإنه سوف يعلمه أيضاً من تأويل الأحاديث، أي تعبير الرؤيا وتفسيرها، وهذه نعمة خصه الله بها، وسوف يظهر تأثيرها خلال قصته حين يدخل السجن ويفسر رَؤْيَيَ صاحبيه بالسجن، وكذلك رؤيا الملك، قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: )وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[ (يوسف: الآية6).
ثانياً: إلقاء يوسفu في البئر
أسرَّ إخوته في أنفسهم ضيقهم وغضبهم من حب أبيهم يوسفu وأخاه بنيامين دونهم، فكيف لأبيهم بحب اثنين من بين اثنى عشر ولداً؟، قال تعالى: ]إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ[ (يوسف: الآية .
لقد انتقلوا من مرحلة التفكير إلى مرحلة التنفيذ العملي، فهاهم يبيتون التخلص منه، فإن وجوده يزاحمهم في حب أبيهم، ولا بد من قتله أو على الأقل إبعاده إلى أرض لا يرجع منها أبداً، ليخلوا لهم وجه أبيهم بعده إلى الأبد، وقد عزموا أن يكونوا بعد ذلك قوماً صالحين، قالوا: )اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ[ (يوسف: الآية 9).
وكي يتم ما أمر الله به وقدر، قال قائل منهم، (قيل هو "يهوذا" وقيل هو "روبييل"، وقيل هو "شمعون") وهؤلاء هم أبناء يعقوب من "ليا" ابنة "لابان" قال قائل منهم: )لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ[ (يوسف: الآية 10)، هكذا غلب رأى واحد منهم على كثرتهم، فلوا أجمعوا كلهم على قتله لقتلوه، لكن الله لم يرد ذلك له، فإن له دوراً كبيراً وعظيماً في هذه الدنيا، لابد من أدائه، فالله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فلما اتفقوا جميعاً على أن يلقوه في غيابة الجب، ذهبوا إلى أبيهم ليستأذنوه في يوسفu، وهم يعلمون خوف أبيهم عليه وتشككه فيهم، فهو لا يأمنهم في المحافظة عليه، قالوا: ]يَاأَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ(11)أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (يوسف: الآيتان 11، 12)، أخبرهم يعقوبu أنه يحزن لغياب يوسفu عنه هذه الفترة، فهو القريب إلى قلبه، المتوسم فيه الخير العظيم وشمائل النبوة، وقد أضمروا له ما الله به عليم، وقد أحس يعقوبu منهم الشر, فقال إني لأشعر بالحزن إذا ابتعد عنى، وأخاف إذا أمنتكم عليه أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون: )إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ(13)قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ[ (يوسف: الآيات 12-13)، فقد خشي أن ينشغلوا عنه، وهم يلعبون، فيأكله الذئب وهم لا يشعرون، فتلقفوا تلك الكلمة منه، ليضللوه بها بعد عودتهم، وأظهروا له ما يشجعه على إرساله معهم، أقنعوه بأنهم عصبة، ويستطيعون حمايتهu وأنه لو حدث ذلك لِيوسفu، وهم عصبة، فيكون ذلك عجزاً منهم، وكانوا إذا من الخاسرين!!.
هكذا أقنعوا أباهم أن يرسل يوسف u معهم ليرتع ويلعب في الصباح، وها هم قد أجمعوا أيضاً على أن يلقوا بأخيهم يوسفu في غيابة الجب، بعد أن آمنهم يعقوبu عليه، وقد أوحى الله إلى يوسفu بأنه سينبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، وقد قيل إما أن يكون قد أُوحي إليه قبل إلقائه في غيابة الجب، فيكون ذلك بمثابة إنذار له منهم، وإما أن يكون قد أوحي إليه بعد إلقائه فيكون ذلك سكناً له، وتقوية لقلبه، وتبشيراً له بسلامته، قال تعالى: ]فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[ (يوسف: الآية 15).
وهكذا مكروا بيوسفu، فأخذوه وألقوه في الجب، ثم لطخوا قميصه بدم كذب، قيل هو دم سخلة أو جدي أو ظبية، وجاءوا أباهم عشاءً يبكون في ظلمة الليل، قال تعالى: )وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ[ (يوسف: الآية 16)، وقصوا على أبيهم قصة ملفقة، فقالوا يا أبانا إنا مضينا نتسابق في الرمي والجري وتركنا يوسف عند متاعنا ليحرسها فأكله الذئب، ونحن مشغولون عنه، وما أنت بمصدق لنا هذا الذي أخبرناك به، ولو كنا صادقين، قالوا: )يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ(17)وَجَاءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ[ (يوسف: الآيتان 17، 18).
حين جاءوا أباهم وعلى قميصه الدم الكذب، لم يجد يعقوبu القميص ممزقاً، فقال لهم: ما أحلم هذا الذئب الذي افترس ولدي، ولم يمزق قميصه، لقد سولت لكم أنفسكم أمراً عظيما فأقدمتم عليه, فصبرٌ جميل على ما أصابني منكم, والله المستعان على ما تزعمون وتدَّعون من الباطل, وسلَّم يعقوبu أمره إلى الله، ولبس مئزره الأسود وحزن علي يوسفu أياماً كثيرة، وطلب من الله أن يلهمه الصبر الجميل، أي الذي ليس فيه جزع أو يأس.
ثالثاً: يوسفu في بيت سيده
تنتقل قصة يوسفu من دائرة البيت الذي تربى فيه، إلى دائرة أخرى أكبر وأشمل، ففي تلك الدائرة قضى يوسفu معظم حياته، حتى لقي إخوته مرة أخرى، ليعود إلى دفء الأسرة الذي فقده طويلا، تبدأ القصة بعد أن تركه إخوته في غيابة الجب (البئر)، حيث جاء إلى البئر بعض المسافرين، قادمين من مدين، قاصدين مصر، فأرسلوا واردهم (أي الرجل الذي يأتيهم بالماء من البئر) فأدلى دلوه، فتعلق به يوسفu، فلما رفع الدلو رأى يوسفu وقد تعلق به، ففرح به فرحاً شديدا،ً واستبشر به خيراً، وأبلغ به أصحابه، فوضعوه في بضاعتهم سراً، قال تعالى: ]وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ[ (يوسف: الآية 19).
قيل إن إخوة يوسفu هم الذين باعوه بثمن بخس، بدراهم معدودة، عشرين أو اثنين وعشرين درهماً، وقيل أيضاً أنه لما استشعر إخوة يوسف u أن السيارة قد أخذوا أخاهم، لحقوا بهم وقالوا: هذا غلامنا ضاع منا، فاشتراه السيارة منهم بثمن بخس (قليل)، قال تعالى: )وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ[ (يوسف: الآية 20)، وكان الذي اشتراه هو عزيز مصر، قيل اسمه "قطفير" أو "أطفير بن روحيب" وكان على خزائن مصر في ذلك الوقت، وكانت امرأته تسمى "راعيل بنت رعابيل" وقيل "زليخا".
لم يحدد القرآن الكريم مكان البلد الذي كان عاصمة المُلك في البلاد المصرية وقتها، والأقرب أنها مدينة "صان"، ببلاد الشرقية قرب بحيرة المنزلة، كما يقول بعض المؤرخين، حيث يقول إن ملك مصر في ذلك العهد كان "الريان بن الوليد بن ثروان بن أراشة بن فاران بن عمر بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح"، وكان من العمالقة الذين وردوا مصر قبل نزول إبراهيمu، وهم الذين شغلوا تاريخ مصر ما بين الأسرة الرابعة عشر إلى الثامنة عشر، و"أحمس" هو أحد ملوكها الذي طرد العمالقة منها. والله أعلم، ولما استقر يوسفuعند سيده، ألقى الله في نفسه محبته, وقال لامرأته: ]أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا[ (يوسف: الآية21)، فكان يوسفu مقرباً عنده، قيل لم يكن في دار سيده كلمة أعلى من كلمة يوسفu سوى كلمة سيده أو سيدته.
لقد تغير وضع يوسفu منذ أن دخل بيت العزيز، قال تعالى: ]وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْض وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ[ (يوسف: الآية21)، فتلك بداية تمكين يوسفu في الأرض، وتعليمه من تأويل الأحاديث، فقد أصبح في بيت العزيز وامرأته يرعيانه حق الرعاية، ويكونان بذلك بداية لحياة جديدة ليوسفu في مصر، وهذا هو حكم الله الذي حكم به من قبل، وكان لا بد له أن يحدث، فالله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، قال تعالى: ]وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِه وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[ (يوسف: الآية21).
ولما بلغ أشده (قيل بلغ أربعين سنة) لقوله تعالى: ]حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً[ (الأحقاف: الآية15)، آتاه الله حكماً وعلماً كذلك يجزى الله المحسنين من الناس، قال تعالى: )وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءَاتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين[ (يوسف: الآية 22).
رابعاً: محنة يوسفu مع امرأة العزيز
قال تعالى: ]وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ[ (يوسف: الآية23).
قال ابن عطاء الله السكندري: ربما كانت المنن في المحن، تلك المحن أن امرأة العزيز نظرت إلى يوسفu وما هو عليه من الخُلق السوي والجمال المفرط، فأشعل ذلك في نفسها جذوة الحب الذي صار يزداد بتكرار رؤيته، حتى غلب حبه حياءها، فأخذت تتقرب إليه وتتودد، بينما هو يُعرِض عنها، وحين زاد شوقها إليه، غلقت الأبواب وتهيأت له، ولبست له أحسن ثيابها وأفخرها، ثم خلت به وغلقت الأبواب، لقد أصبح أمام يوسفu امرأة ذات منصب وجمال في حجرة مغلقة الأبواب لكنه قال إني أخاف الله، عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبيe قال: }سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإْمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ، وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَخْفَاهَا، لاَ تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا قَالَ أَنَا أَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ{ (مسند أحمد: 9288). فيوسفu نبي من سلالة أنبياء، عصمه الله عز وجل، وأبعده عن الفحشاء، وحماه من مكر النساء، فهو سيد السادة النجباء، والسبعة الأتقياء، لما رأى يوسفu ذلك من امرأة العزيز قال: ]مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ[ (يوسف: الآية 23) يعني: زوجها صاحب المنزل، أحسن إليه وأكرم مقامه عنده، فكيف يأتي ظلماً في بيته، إنه لا يفلح الظالمون.
إن يوسفu صار في محنة عظيمة، لا يقدر عليها سوى عباد الله المُخلصين، الذين لا يستطيع الشيطان أن ينتصر عليهم، ذلك الشيطان الذي أقسم بعزة الله رب العالمين أن يغوى جميع الناس إلا عباد الله المُخلصين، حيث قال: ]فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ[ (ص: الآيتان 83,82)، ويوسفu هو من عباد الله المُخلصين، لقوله تعالى: ]كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ[ (يوسف: الآية24).
همت امرأة العزيز به، وأتت نحوه بقصد أن يجامعها، وهم يوسفu بها، واختلف العلماء في معنى هم بها، فبعضهم قال إنه هم بها أي: هم بضربها ودفعها عن نفسه, لولا أن رأى برهاناً بأن يكف عن ضربها; إذ لو ضربها لأوهم الغير أنه قد قصدها، فامتنعت، فلذلك ضربها، وقال بعضهم الآخر إنه هم بها، لكنه لم يفعل ما هم به، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير; أي أنه أرادها حين همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية، وكانت مصرة, وهم يوسفu بها، ولم يواقع ما هم به; فبين الهمتين فرق. وقال القشيري أبو نصر: إن قوماً قالوا جرى من يوسفu هم, وكان ذلك الهم حركة طبع، من غير تصميم للعقد على الفعل; وما كان من هذا القبيل لا يؤاخذ به العبد, فقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد; وتناول الطعام اللذيذ; فإذا لم يأكل ولم يشرب, ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس; والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما، قال تعالى: ]وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ [(يوسف: الآية24).
قال يعقوب بن أحمد عن علي بن الحسين في قوله تعالى: لولا أن رأى برهان ربه، قال: قامت امرأة العزيز إلى الصنم فظللت دونه بثوب، قال: فقال لها يوسف ما هذا؟، قالت: أستحي أن يرانا، فقال لها يوسف: أتستحين مما لا يسمع ولا يبصر ولا يبقى، ولا أستحي أنا ممن خلق الأشياء كلها وعلمها، وفر يوسف إلى الباب هارباً.
قال تعالى: ]وَاسْتَبَقَا الْبَاب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍَ[ (يوسف: الآية25)، أي سابقها إلى الباب هرباً منها فاتبعته في أثره، وأمسكت بقميصه من الخلف لترده إليها فمزقته، وحين وصلا كلاهما إلى الباب لقيا زوجها أمامهما، قال تعالى: ]وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ[ (يوسف: الآية25)، وهنا استطاعت بمكرها أن تبادر زوجها بالكلام قبل أن يسألها، وألقت التهمة على يوسفu على الفور: ]قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ (يوسف: الآية25).
اتهمته وهي المتهمة، وأفهمت زوجها أنه راودها عن نفسها فأبت ذلك، ولما سمع يوسفu ما قالته مدافعة عن نفسها، قال الحقيقة أمامهم، قال: ]هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي[ (يوسف: الآية 26)، وشهد شاهد من أهلها، قيل إن الشاهد من أهلها هو ابن عمها، وكان في المهد وسمي (بشاهد يوسف)، وذلك ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه، عن النبيe حيث قال: )تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَم، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ( (مسند أحمد: 2682)، وقيل إن الشاهد هو ابن عمها الذي كان مع زوجها، وقيل هو رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من أهلها مع زوجها، وظهرت فراسته في إحقاق الحق والبت في قولهما، فقال: إن كان قميص يوسف قد شق من قبل أي (من الأمام) فهي صادقة، وهو من الكاذبين، وأما إن كان قد شق من دبر أي (من الخلف) فكذبت، وهو من الصادقين، قال تعالى: ]وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ(26)وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ(27)[ (يوسف:الآيتان 26، 27).
وحقيقة الأمر أن يوسفu هرب منها إلى الباب فاتبعته وتعلقت به من الخلف فانشق قميصه، لذلك لما رأى العزيز أن قميصه قد من دبر، قال إنه من كيدكن، إن كيدكن عظيم قال تعالى: ]فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [(يوسف: الآية 28) أي إن هذا الذي جرى هو من مكر النساء، وأنتِ راودتِهِ عن نفسه ثم اتّهمتِهِ بالباطل، ثم أمر يوسفu بكتمان الخبر، وأمرها بالاستغفار والتوبة، فإن المذنب إذا تاب، تاب الله عليه، قال الشاهد لهما: ]يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ [(يوسف: الآية 29). خامساً: شيوع خبر امرأة العزيز في المدينة
قال تعالى: ]وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(30)فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ(31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ(32)قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[ (يوسف: الآيات 30-34).
شاع نبأ حادثة امرأة العزيز وفتاها في أرجاء المدينة، ولاكته أفواه النساء يستنكرن هذا الغرام, ولمن امرأة العزيز على مراودتها لفتاها، فقالت النسوة: )امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( (يوسف: الآية30) أحدث هذا القول دوياً في أذن امرأة العزيز، فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن تستضيفهن، وأعتدت لهن مكاناً أنيقاً يجلسن فيه، وقدمت إليهن طعاماً، ثم آتت كل واحدة منهن سكيناً، قال تعالى: )فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَءَاتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا( (يوسف: الآية30), ثم أمرت يوسفu أن يخرج عليهن، فلما خرج عليهن بهرهن منظره، وقطعن أيديهن دون أن يشعرن، فقد شغلهن حسنه وجمال صورته وطلعته عليهن عن السكاكين التي كانت بأيديهن, ذلك لأنهن صرن يتأملنه ملياً، وأكبرن جماله المبهر، وانشغلن به عن الطعام، قال تعالى: ]فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ[ (يوسف: الآية 31) حينئذ باحت امرأة العزيز لهن بما يخبئه فؤادها من اللوعة والشوق, وقالت لهن كما يشكو العاشق بلواه لعاشق مثله، رغبة منها أن يعذرنها ولا يعذلنها[1]، قالت لهن: ]فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ[ (يوسف: الآية 32).
هكذا نجحت امرأة العزيز في أن توقعهن معها في شباك غرامه, فصرن كلهن سواء في هواه، ثم باحت لهن بما حدث من أمر يوسفu, فقد أمنت النميمة التي كانت منهن عليها، ولكن عشقها هذه المرة فضحها، وكشف كذبها السابق باتهام يوسفu بمراودتها عن نفسها, وجاء الدور للانتقام من ذلك الرجل الذي وصل حبه إلى شغاف قلبها, وأنضج فؤادها بنار هواه، ذلك الحب الذي لا تستطيع التخلص منه، فتوعدته إن لم يجب طلبها أن تدخله السجن بمكرها، حيث الذل والهوان هناك، غير أن يوسفu أبى ذلك، وفضل السجن على أن يخضع لهن، ودعا ربه أن يصرف عنه كيد النسوة، حتى لا يصبوَ إليهن ويكونَ من الجاهلين، وقال متضرعاً إلى ربه: )رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ(33)فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)( (يوسف: الآيتان: 33، 34).
هكذا انتشرت في المدينة قصة امرأة العزيز ويوسفu وأصبحت على كل لسان, ورأى العزيز ومستشاروه أن يسجنوا يوسفu إلى حين، حتى تكف ألسنة الناس عنهم, فزجوا به في السجن، ليوهموا الناس أنه قد راود امرأة العزيز عن نفسها, وأنها بريئة مما قُذِفت به، قال تعالى: )ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ( (يوسف: الآية 35). سجنوه ظلماً وعدواناً، لقد عمد العزيز، هو ومستشاروه، إلى الإساءة إلى من حفظه في زوجه في غيبته، بينما ترك زوجته المسيئة الكاذبة المستهينة بكرامتها وكرامة زوجها, التي عرضت عفافها بضاعة مزجاة في سوق الفسوق، فلم يمسها يوسف u بأذى، بل زج بيوسف البريءu إلى السجن فدى سمعتها.
سادساً: دخول يوسفu السجن
دخل يوسفu السجن ظلماً وهو برئ، ودخل معه السجن فتيان، قال تعالى: ]وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ[ (يوسف: الآية 36)، كان أحدهما ساقي الملك ويسمى "بنوا" والآخر خبازه ويسمى "مجلث"، وقد أحبا يوسفu حباً شديداً، وتعلقا به، بعد أن أعجبهما حسن صورته، وكثرة عبادته، قال السدى، إن سبب دخولهما السجن أن الملك توهم أنهما حاولا دس السم له في الطعام والشراب، ورأى كل واحد منهما وهو بالسجن رؤيا تخصه، أما الساقي فرأى كأن ثلاثة قضبان من حبلة[2]وقد أورقت وأينعت عناقيدها، فأخذها فاعتصرها في كأس الملك وسقاه إياها، وأما الخباز فقد رأى كأن على رأسه سلالاً من خبز، ورأى ضواري الطير تأكل منها، فلما قصا رؤييهما علي يوسفu, طلبا منه أن يعبرهما لهما فوافقهما على ذلك، قال تعالى: ]وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[ (يوسف: الآية36).
لقد علَّم الله يوسفu من تأويل الأحاديث، وهذا ما أخبره به يعقوبu من قبل حين قص رؤياه عليه وهو صغير فقال له: )يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ(5)وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ( (يوسف: الآيتان 5، 6)، هكذا علم الله يوسفu من تأويل الأحاديث.
انتهز يوسفu رغبة السجينين في تعبير رؤييهما، ليعلن لهما عن دينه ويدعوهما إليه، وفي البداية أخبرهما بمقدرته على تأويل الرؤى, ثم أخبرهما أنه يستطيع أن ينبِّئهما بطعامهما قبل أن يأتيهما فذلك مما علمه ربه، قال يوسفu لهما: )لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(37)وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَاءِى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(38) ((يوسف: الآياتان37- 38).
هكذا لفت يوسفu أنظارهما، فبين لهما أنه لما ترك ملة قومه الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، علمه الله من ذلك العلم الذي لا يعرفه بشر، فلا يستطيع أحد من البشر أن يعرف رزق الآخرين قبل أن يأتيهم!!، لكن هذا الشيء اختصه الله به فضلا منه ونعمة، وهو فضل يؤتيه الله من يشاء ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
ثم أراد يوسفu أن ينقلهم من مرحلة الاستماع إليه، إلى مرحلة المشاركة الفعالة في الحوار، فسأل صاحبيه وقال: ]يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ[ (يوسف: الآية 39)، إن هذا السؤال يحتاج الإجابة هذا ما أراده يوسفu لهما، فإن مشاركتهما إياه في الإجابة (الأرباب المتفرقون خير أم الله الواحد القهار؟)، يحرك المشاعر والأحاسيس، ويسمو بالفكر والعقل، ويبعدهما عن الجمود، الذي جعلهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل، فقال: )مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ[ (يوسف: الآية 40).
وبعد أن فرغ من دعوتهما إلى الله، بدأ يفسر لهما رؤييهما، فقال: ]يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا[ (يوسف: الآية 41) وهو الساقي، ]وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ[ (يوسف: الآية 41) وهو الخباز، فلما فرغ يوسفu من تأويل رؤياهما قال: ]قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ[ (يوسف: الآية 41)، وهناك أحاديث تبين فضل الرؤيا الصالحة، وعدم التحدث بالرؤيا إلا للعلماء أو الناصحين، أو أصحاب العقول، فعن أبى رزين، عن النبيe قال: ]الرُّؤْيَا مُعَلَّقَةٌ بِرِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ يُحَدِّثْ بِهَا صَاحِبُهَا فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ وَلاَ تُحَدِّثُوا بِهَا إِلاَّ عَالِمًا أَوْ نَاصِحًا أَوْ لَبِيبًا وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ[ (مسند أحمد: 15594)، وخلال الفترة التي أمضاها يوسفu في السجن، كان دائماً يأمل من الله أن يفرج كربه، ويخرجه من السجن.
وطلب يوسفu من صاحبه الذي ظن أنه ناج منهما، أن يذكره عند سيده، فقال: ]اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ[ (يوسف: الآية 42)، فلما ذهب صاحبه الذي نجا منهما إلى الملك، أنساه الشيطان أن يذكر ما وصاه به يوسفu في السجن، لقوله تعالى: ]فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ[ (يوسف: الآية 42)، لهذا لبث يوسفu في السجن بضع سنين، قيل سبعاً وقيل اثنتى عشرة، ولا يهم في هذا عدد السنوات التي قضاها، إنما الذي يجب معرفته هو أنه لبث في السجن بضع سنين، أي عدداً من السنوات، لقوله تعالى: ]فَلَبِث فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[ (يوسف: الآية 42).
يتبع......
|
|
ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: رد: أنبياء الله من يوسف حتى يونس عليهم السلام الثلاثاء 14 يونيو 2016, 11:29 pm | |
| تابع .....الفصل الثالثأنبياء الله من يوسف حتى يونس عليهم السلام
سابعاً: تعبير رؤيا الملك وخروج يوسفu من السجن
أراد الله أن يجعل يوسفu عزيزاً لمصر، فسبَّب له الأسباب وهيَّأ له الظروف، وقدَّر له المقادير، فجعل الملك يرى رؤيا، وجعل الملأ من السحرة والعرافين والكهنة وأهل العلم وأشراف القوم يحتارون في تعبيرها، وجعل الساقي يتذكر يوسفu في تلك اللحظة، ويخبر الملك بأنه سوف يأتي بتأويل رؤيا الملك، فتكون تلك الأحداث التي حدثت بعلم وتقدير العليم الخبير، هي السبب في خروج يوسفu من السجن، وبداية طريق جديد ليصل إلى عرش مصر، قال تعالى: ]وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّء ْيَا تَعْبُرُونَ(43)قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ(44)وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ(45)يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ(46)قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ(48)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ[ (يوسف: الآيات 43-49).
ذلك أن ملك مصر في ذلك الوقت وهو "الريان بن الوليد" قد رأى رؤيا، رأى كأنه على حافة نهر وقد خرج منه سبع بقرات سمان، وخرجت في إثرهن سبع بقرات هزال ضعاف، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلنهن، ورأى أيضاً سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذ بسبع سنبلات أُخر يابسات تأكلهن، فاستيقظ الملك مذعوراً، وقص رؤياه على ملأ من قومه فلم يجد من يحسن تعبيرها، بل قالوا له: ]أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ[ (يوسف: الآية 44).
فلما سمع الساقي (الذي كان مع يوسفu في السجن) برؤيا الملك، ورأى عجز الناس عن تعبيرها، تذكر يوسفu، وذكر قصته عند الملك، بعد أن تذكر وصية يوسفu له في السجن (اذكرني عند ربك), وذلك من حكم الله عز وجل وقدره، وله في ذلك حِكم، قال تعالى: ]وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَر بَعْدَ أُمَّةٍ[ (يوسف: الآية 45) أي بعد حين قيل بضع سنين، فقال لقومه والملك: ]أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون [(يوسف: الآية 45) فأرسلوه إلى يوسفu، فلما أتاه قص عليه رؤيا الملك، وطلب منه أن يفتيه في تلك الرؤيا وقال: )يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ[ (يوسف: الآية 46).
إنه يقول ليوسفu (أيها الصديق) فقد عرف، وهو في السجن، أن يوسفu من الصديقين ذوى الكرامات، ولما تذكر يوسفu ذلك الرجل الذي كان معه في السجن، لبى له طلبه وعبر له رؤيا الملك،وقال له: )تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ(47)ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ( (يوسف: الآيات 47 – 48).
لقد عبر يوسفu عن رؤيا الملك خير تعبير، فأخبر الساقي بوقوع سبع سنين خصبة، يعقبها سبع سنين عجاف، فما يحصدونه خلال السنوات الخصبة يتركونه في سنابله، إلا قليلاً مما يأكلون، ثم عليهم أن يأكلوا في سنوات الجدب ما تركوه في سنابله في السنوات الخصبة، إلا قليلاً مما يدخرون، كما بشره يوسفu بعام آخر فيه الرخاء والخير الكثير، قال: ]ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ[ (يوسف: الآية 49)، يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية والرخاء، أي بعد تلك السنوات العجاف سوف يأتي عام يعصرون فيه ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها، مما يدل على الرخاء بعد العناء، فعبر لهم بما يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.
عاد رئيس السقاة إلى الملك بتأويل رؤياه من يوسفu، فسُر الملك بذلك كثيراً واستبشر، وأراد أن يرى يوسفu ذلك الصديقu الذي عبَّر له عن رؤياه، فقال ائتوني بيوسفu، فلما ذهبوا إلى يوسفu وأخبروه بطلب الملك, أبى أن يخرج من سجنه، حتى يعرف الملك بأمر النسوة اللاتي قطعن أيديهن وأخفين الحقيقة عنه، وكن سبباً في سجنه، قال الملك: ]ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ[ (يوسف: الآية 50).
أحضر الملك النسوة وسألهن عما حدث حين راودن يوسفu عن نفسه، قال: )مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ[ (يوسف: الآية 51)، قالت النسوة حاشا لله لم نعلم عن يوسفu شيئاً يسوء، فما هذا ببشر إن هو إلا ملك كريم، حينئذ حصحص الحق، واعترفت امرأة العزيز ببراءة يوسفu، كما اعترفت بمراودتها له عن نفسه، وشهدت أنه كان من الصادقين في أقوالهم، ذلك حين قال لزوجها هي راودتني عن نفسي، قال تعالى: )قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ(51)ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ(52)وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[ (يوسف: الآيات 51-53)، قيل أن ما ورد في الآيتين 52، 53 من سورة يوسف هو من قول يوسفu، وقال بعضهم هو من قول امرأة العزيز وهو الأرجح.
ثامناً: يوسفu ولقائه بالملك
لما ظهرت براءة يوسفu للملك، أراد أن يستخلصه لنفسه ليكون من أهل مشورته، قال تعالى: ]وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِيَ[ (يوسف: الآية 54), ولما جاءوه به تحدث معه، وأعجب بأمانته وعلمه, وعلم أنه أهل للثقة، وهنا قال الملك ليوسفu: ]إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌَ[ (يوسف: الآية 54).
طلب يوسفu من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فهو خير من يوثق به في المحافظة على حصاد البلاد خلال السنوات الخصبة والسنوات العجاف، فقال للملك: ]اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمَ[ (يوسف: الآية 55)، ولم يجد الملك بداً من ذلك، فهو خير من يتولى تلك المهمة الدقيقة الصعبة التي تتعلق باقتصاد البلاد, فهو القادر على تنظيم أمور البلاد في تلك الفترة الحرجة من أعوام الخصب والجفاف.
قال تعالى: ]وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ[ (يوسف: الآية 56) فبعد السجن والضيق صار يوسفu مُطلق الركاب بديار مصر، يتبوأ منها حيث يشاء، ويتمتع في الوقت نفسه بحب الناس, وأخذ ينتقل من بقعة إلى أخرى حتى تنال كل البقاع قدراً مساوياً من الاهتمام، هكذا أدخل الله يوسفu في رحمته ووفاه أجره إنه كان من المحسنين: ]نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[ (يوسف: الآية 56)، قيل إن الملك الريان ابن الوليد قد زوج يوسفu "براعيل" امرأة "أطفير" عزيز مصر بعد موته، وأنها أنجبت له ولدين هما "إفرايثيم، وميشا".
تاسعاً: قدوم إخوة يوسفu إلى مصر يمتارون طعاماً
مرت سبع سنين خصبة، وأعد يوسفuعدته وخزن الغلات في غلفها، ثم جاءت السبع سنين المجدبة، واشتد الجفاف في جميع أنحاء الأرض بما فيها أرض كنعان التي بها يعقوبu، ففتح يوسفu المخازن وباع للناس من الطعام ما يكفيهم، وذاع أمره في الآفاق، وعلم الناس عنه اللين والكرم والعدل والرحمة، وأحس أهل فلسطين الجوع وعلموا أن الطعام موجود بمصر، فأرسل يعقوبu أولاده ومعهم الجمال والحمير للميرة بعد أن احتجز معه أخاهم "بنيامين"، الذي هو أحب أبنائه إليه بعد يوسفu، فقدموا إلى مصر لشراء قوت لأهلهم، فلما قدموا إلى يوسفu عرفهم ولم يعرفوه، قال تعالى: ]وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ[ (يوسف: الآية 58)، فقد ناهز الأربعين من عمره، وقد كسته أبهة الملك مهابة في عيون الناظرين إليه، وأما هم فلم يتغير حالهم سواء في ملبسهم أو لغتهم أو منظرهم.
قال تعالى: ]وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِم[ (يوسف: الآية 59) أي أعطاهم من الميرة[3]، ما جرت به عادته، لكل رجل حمل بعير لا يزيد عليه في السنة الواحدة، وبعد أن فعل ذلك قال: ]ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ[ (يوسف: الآية 59) قالها لهم ليزدادوا كيل بعير، بعد أن علم أنهم تركوا "بنيامين" عند أبيهم، وكان قد سألهم عن حالهم وعددهم، فقالوا: كنا اثني عشر رجلاً، فذهب واحد منا إلى البرية، فهلك، وبقي شقيقه عند أبينا، فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فائتوني به معكم: ]أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ[ (يوسف: الآية 59) أفلا ترون أنى قد أحسنت نزلكم وقراكم[4]، رغبهم في المجيء بأخيهم في المرة القادمة، ثم رهبهم إن لم يأتوا به فلا كيل لهم عنده، ولا يقربوا هذا المكان: ]فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ[ (يوسف: الآية 60).
]قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ[ (يوسف: الآية 61) سنجتهد ونراود أبانا عنه بكل طاقاتنا وإنا لقادرون على ذلك، ثم أمر يوسفu فتيانه بأن يضعوا بضاعتهم (أي ما دفعوه من ثمن الميرة) في أمتعتهم وهم لا يشعرون، وقال لهم: ]اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ (يوسف: الآية 62) قيل: إن يوسفu أرادهم أن يردوها إليه إذا وجدوها في بلادهم، وقيل: خشي ألا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية، وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضاً عن الميرة، والله اعلم.
عاشراً: عودة إخوة يوسفu إلى أبيهم
بعد رجوعهم إلى أبيهم، أخبروه بأنه قد منع عنهم شراء الطعام من مصر حتى يأتوا (يوسفu وزير مصر)بأخيهم (بنيامين)، قال تعالى: ]فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[ (يوسف: الآية 63) وهنا تذكر يعقوبu يوسفu, وعاوده الحزن مرة أخرى وقال لهم: ]هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينُ [(يوسف: الآية 64), فقد خشى على أخيهم "بنيامين" أن يفقدوه كما فقدوا يوسفu من قبل.
لما فتحوا متاعهم الذي أتوا به من مصر, وجدوا بضاعتهم أي (ثمن ميرتهم) قد ردت إليهم، قال تعالى: )وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ[ (يوسف: الآية 65), فكان ذلك مشجعاً لهم على إقناع أبيهم فهم أمام أمرين، الأول ضرورة رد ثمن الميرة التي جعلها يوسفu في رحالهم فهي ليست من حقهم، الثاني ضرورة أخذ أخيهم " بنيامين" معهم إلى يوسفu حتى يستطيعوا شراء ميرتهم، ويزدادوا كيل بعير، وهذا أمر عليهم يسير، هكذا أقنعوا أباهم يعقوبu، ومن الواضح أن القحط الشديد هو الذي جعل يعقوبu يسمح لهم بأخذ ابنه "بنيامين" تحت شروط اشترطها عليهم.
خشى يعقوبu أن تعاد الكرة على" بنيامين" كما حدث ليوسفu من قبل، فقال: ]لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ[ (يوسف: الآية 66) أي أعطوني العهد بالمحافظة على أخيكم حتى تعودوا به إلى إلا أن تُغلبوا على أمركم، فلما أعطوه موثقهم على الوفاء بما اشترطه عليهم, قال الله على ما نقول وكيل، قال تعالى: )فَلَمَّا ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلَ[ (يوسف: الآية 66), ثم أمر يعقوبu بنيه ألا يدخلوا المدينة من باب واحد، بل يدخلوها من أبواب متفرقة خشية الحسد, حتى لا يلفتوا نظر الناس إليهم، فإن العين تستنزل الفارس عن فرسه، قال يعقوبu لبنيه: )يَابَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ(67)وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ( (يوسف: الآيتان 67، 68)، وقد حقق له أبناؤه ذلك، فهي حاجة كانت في نفس أبيهمu قضاها، فقد علمه الله من لدنه علماً لا يعلمه أكثر الناس.
حادي عشر: حيلة يوسفu لإبقاء أخيه بنيامين عنده
ذهب أخوة يوسفu إلى مصر، ونفَّذوا ما وصاهم به أبوهمu، فكانوا لا يدخلون جميعاً من باب واحد بل يدخلون من أبواب متفرقة، فلما دخلوا على يوسفu استقبلهم استقبالا حسناً، وأكرمهم عنده، وأدخلهم منزل ضيافته، ثم اختلى بأخيه "بنيامين"، وأطلعه على حقيقة أمره بأنه أخوه، وقص عليه حكايته، ثم أخبره بحيلته التي سيحتال بها على إخوته ليبقيه بجانبه، قال تعالى: ]وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[ (يوسف: الآية 69).
وبعد أن جَهَّزهم بجهازهم، نفذ حيلته التي أطلع أخاه "بنيامين" عليها، فأمر رجاله أن يجعلوا السقاية[5] في رحل أخيهم "بنيامين"، وملأوا لهم أوعيتهم طعاماً, وأمر أن توضع نقود كل واحد منهم في متاعه, وأن يوضع صواع الملك في متاع أخيهم "بنيامين"، وقيل إنه وضعها بنفسه دون علمهم, ثم نادى مناد بينهم: أيتها العير إنكم لسارقون، قال تعالى: )فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ[ (يوسف: الآية 70).
فأقبل إخوة يوسف على الجمع يسألونهم عما فقدوه، فقال المنادي: لقد فقد صواع الملك، ولمن يجده له كيل بعير، وهو كفيل بتنفيذ وعده، قال تعالى: )قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ(71)قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ(72)[ (يوسف: الآيتان71، 72).
وبعد أن وجهت التهمة لإخوة يوسف بسرقة صواع الملك، وبعد أن أشاروا إليهم بأصابع الاتهام بأنهم قد سرقوا سقاية الملك بغير حق، تعجب إخوة يوسف من هذا الأمر!!، وتبرأوا من هذا الاتهام وطفقوا يدافعون عن أنفسهم من أجل تبرئة ساحتهم، فهم يعلمون حقاً أنهم لم يسرقوا، وكيف لهم ذلك وهم أبناء نبي الله يعقوبu، فكيف يتَّهِمُونهم بهذا الاتهام المشين: )قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ[ (يوسف: الآية 73).
وقال رجال يوسف لهم ما جزاؤكم إن وجد الصواع في رحالكم وكنتم كاذبين؟، قال إخوة يوسف إن في شريعتنا أن من سرق شيئاً يُسترق ويُستعبد، أي من وجد في رحله صواع الملك يؤخذ عبداً للملك: )قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [(يوسف: الآية 75)، ففتش يوسفu متاعهم مبتدئا بالأخ الأكبر حتى وصل إلى رحل أخيهم "بنيامين" فوجد الصواع عنده, قال تعالى: )فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ[ (يوسف: الآية 76)، هكذا كاد الله ليوسفuمن إخوته، فما كان يوسفu لِيأخذ أخاه "بنيامن" إلا بتلك الحيلة، وتلك الشريعة التي يأخذ بها إخوة يوسف في بلادهم، فلولا التزام إخوته بشريعتهم أمامه بأخذ من يوجد عنده صواع الملك رقيقاً أو عبداً، ما استطاع أن يحجزه عنده، حيث لم يكن ذلك في شريعة مصر في ذلك الوقت.
لما رأوا الصواع يخرج من رحل أخيهم تبرأوا منه، وقالوا ليوسفu: إن سرق الصواع فقد سرق أخوه من قبل: )قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ[ (يوسف: الآية 77) يقصدون أن يوسفu قد سرق من قبل، وذلك كذب وافتراء عليه، لذلك لم يعلق يوسفu على قولهم هذا وأسرها في نفسه، ودخلوا على يوسفu مستعطفين مسترحمين أن يترك أخاهم ويعفو عنه: )قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(78)قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ[ (يوسف: الآيتان 78، 79).
وأشاروا على يوسف u بأن يأخذ أحدهم مكان أخيهم فإن أباهم شيخ كبير، ولا يتحمل فراقه، فهو سلوته عن أخيه المفقود "يوسفu", لكنه أبى أن يتركه أو يستبدله بآخر وقال: لا نأخذ إلا من وجدنا الصواع في متاعه, وأما أنتم فاذهبوا إلى بلادكم، فلما يَئسوا من يوسفu، خلوا بأنفسهم، وأخذوا يتناجون فيما بينهم، فقال كبيرهم قيل هو "روبيل" قال لن أبرح هذا المكان حتى أعود به، ألم يأخذ أبوكم عليكم موثقاً من الله بالمحافظة عليه، ومن قبل فرطتم في أخيكم يوسف، فعودوا إلى أبيكم واذكروا له ما حدث وإني باق هنا حتى ترجعوا، وليسأل أباكم، ويتحقق من العير التي رجعتم معها، والقرية التي كنتم فيها، ليتأكد من صحة قولكم بأن أخاكم قد سرق، قال تعالى: ]فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ(80)ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ(81)وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ(82) [ (يوسف: الآيات 80-82).
ازداد حزن يعقوبu على "بنيامين"، وتذكر يوسفu فها هو فقد ثلاثة أبناء (يوسفu، وبنيامين، وروبيل كبيرهم)، وتمنى من الله أن يعودوا جميعاً إليه، ثم أخذ جانباً من بيته، وبقي كاظماً حزنه وألمه حتى ابيضت عيناه من الحزن، وأصابه العمى، وقال لبنيه: )بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(83)وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ(84)[ (يوسف: الآيتان 83، 84).
قالوا لأبيهم ألا تزال تذكر يوسف، إنك لن تهدأ حتى يصيبك الضعف، أو تكون من الهالكين: )قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ(85)قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ(86)يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [(يوسف: الآيات 85-87).
قال لهم يعقوبu إنما يشكو بثه[6] وحزنه إلى الله، وأنه يعلم من الله ما لا يعلمون, فإن فرج الله سيأتي قريباً, وإن بعد الهم فرجاً، وبعد العسر يسراً، ثم حثهم على الذهاب إلى مصر, والبحث عن يوسفu وأخيه بنيامين, فقد شعر يعقوبu وتيقن من قرب الفرج، وأن الله تعالى سيأتيه بأولاده جميعاً وسيجزيه خيراً على صبره ]إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيم الْحَكِيمُ[ (يوسف: الآية83)، كما حثهم على عدم اليأس في البحث عن أخيهم، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه إلا القوم الكافرون.
ثاني عشر: يوسفu يتعرف على إخوته
قال تعالى: ]فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ(88)قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ(89)قَالُوا أَءِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(90)قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ(91) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(92)اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ[ (يوسف: الآيات 88-93).
حضر إخوة يوسفu إلى مصر بعد أن مسهم القحط والجوع، وشكوا حالهم لأخيهم يوسفu، قال تعالى: ]فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ[ (يوسف: الآية 88)، وقالوا إنهم جاءوا هذه المرة ببضاعة رديئة ]وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ[ (يوسف: الآية 88), وطلبوا منه أن يوفي لهم الكيل كما كان يوفيه لهم من قبل: ]فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلََ[ (يوسف: الآية 88)، وطلبوا أيضاً أن يتغاضى عن رداءة بضاعتهم، وأن يتصدق عليهم من الكيل، قالوا: ]َوَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا[ (يوسف: الآية 88), فإن الله يثيب المتصدقين على إحسانهم ]إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ[ (يوسف: الآية 88).
وقال يوسفu هل تذكرون ما كان منكم من إساءة حينما كنتم صغاراً جاهلين: ]هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونََ[ (يوسف: الآية 89) فقد فرقتم بينهما, ثم كلمهم بلغتهم، فكانت المفاجأة لقد عرفوه لأول مرة وقالوا متعجبين: ]أَءِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[ (يوسف: الآية 90), لقد كانت مفاجأة سعيدة، فهاهم أخيرا قد عثروا على أخيهم يوسفu الذي لم يفقد أبوهم أمله، في يوم من الأيام، في أن يعثر عليه حياً بعد هذا الفراق، إنها لاشك مفاجأة كبرى لهم ولأبيهم بعد تلك الغيبة، ثم إنهم قد وجدوا يوسفu في هذا المنصب الكبير، الذي لم يكن يخطر ببالهم قط، وهنا شعروا بخطئهم تجاهه وعلموا أن الله قد آثره عليهم (أي فضله عليهم)، قال تعالى: ]قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ ءَاثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ[ (يوسف: الآيه91)، ثم اعتذروا له، وقالوا لقد فعلنا بك الكثير، وها نحن بين يديك فافعل بنا ما شئت، ]قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ (يوسف: الآية 92).
نسي يوسفu ما كان من أمرهم وعفا عنهم، ألم يقل رسول اللهe عنه إنه الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم جميعاً السلام، قال يوسفu لإخوته لن أعاتبكم على ما تقدم منكم بعد يومكم هذا، ثم أمرهم أن يذهبوا بقميصه ليلقوه على وجه أبيهم حتى يعود إليه بصره, قال: )اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ( (يوسف: الآية 93)، ثم أمرهم أن يأتوا بأهله جميعاً إليه، حيث الخير والدعة، وجمع الشمل بعد الفراق.
كانت نفس يعقوبu تتطلع لرؤية أولاده ولقاء يوسفu الذي طال حزنه عليه, لقد أحس بنسمات البشارة تهب عليه من مصر فقال لمن كان معه من أبنائه: ]إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ[ (يوسف: الآية 94), قالوا ]تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمُِ[ (يوسف: الآية95), أي في اعتقادك القديم بأن يوسفu مازال حياً وباقياً إلى اليوم, فلما جاءه البشير، قيل هو"يهوذا" الذي جاءه بقميص يوسفu من قبل وعليه دم كذب, وها هو يحمل قميص يوسفu مرة أخرى، لكن هذه المرة يحمله لأبيه وفيه الخير والبشارة، لعل ذلك يخفف من غضب أبيه عليه حينما يعلم ما حدث منه ليوسفu من قبل، وسارع يهوذا بإلقاء قميص يوسفu على وجه أبيه يعقوبu فارتد بصيراً, قال تعالى: )فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[ (يوسف: الآية96).
ذكَّر يعقوبu أبناءه بما قال لهم، فقد قال لهم من قبل إنه يعلم من الله ما لا يعلمون، يعلم أن الله سيجمع شمله بيوسفu وسيرى ما يسره وتقر به عينه، وها هو قد تحقق، عندئذ قالوا: ]يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ[ (يوسف: الآية 97)، فقال يعقوبu: ]سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[ (يوسف: الآية 98).
وهكذا اقتربت قصة يوسفu من نهايتها السعيدة، فخرج يعقوبu وبنوه، وقيل معه زوجته من أرض كنعان متوجهين إلى مصر، فلما بلغوا مصرا ودخلوا على يوسفu احتفى بهم جميعاً وخرج لاستقبالهم، وأمر الملك بخروج أمرائه وكبراء قومه لاستقبال نبي الله يعقوبu، وآوى يوسفu إليه أبويه، وقال لأهله ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ثم رفع أبويه على العرش، أي على سرير الملك وخروا له سجدا، وهى تحية الملوك في ذلك الوقت والسجود هنا ليس سجود عبادة بل سجود تحية، قال تعالى: ]فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ(99)وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا[ (يوسف: الآيتان 99، 100).
وبعد أن التقى الوالد بولده بعد هذا الفراق، وقرت عينه، وجُمع الشمل، والتقى الأحباب، أخذ يوسفu يقص على أبيه قصته، وقال: )يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[ (يوسف: الآية 100).
أخذ يوسفu يشكر الله ويناجيه على النعم التي أنعم بها عليه، فقد آتاه الله الملك، وعلمه من تأويل الأحاديث، ثم أتم نعمته عليه بجمع شمله مع أهله بعد الفراق، ثم دعا يوسفu ربه أن يتم عليه نعمته بأن يتوفاه مسلماً، ويلحقه بالصالحين، قال: )رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[ (يوسف: الآية 100).
ثم لما حضرت يوسفu الوفاة: أوصى أن يدفن عند أبيه، فحنطوه ووضعوه في تابوت، وظل بمصر حتى أخرجه موسىu ودفنه عند آبائه كما سيأتي، قالوا: مات يوسفu وهو ابن مائة وعشرين سنة ودفن بنابلس، وله ضريح هناك، علما بأن يوسفu عاش بعد موت يعقوبu ثلاثاً وعشرين سنة، ثم أوصى أخاه يهوذا واستخلفه على بني إسرائيل.
ثالث عشر: الدروس والعظات المُستفادة من قصة يوسفu
هذه القصة مورد غزير لمن أراد أن يستنبط الأخلاق الفاضلة الطاهرة، ولمن أراد أن يسير على المبادئ الحقة، وتفاصيل قصة يوسف كما بينها القرآن الكريم هي دروس قيمة في علم النفس، ولا يكون العالم النفسي مُسرفاً إذا وضع في علم الأخلاق وعلم النفس كتاباً كبيراً راقياً مرجعه سورة يوسفu، وجعل من أحوال يوسفu وأبيه وإخوته وما حدث لهم موضع التطبيق.
فمن قصته تستخرج أمهات الفضائل والأخلاق، ويستخلص منها معنى العفة والفضيلة للشباب المحفوف بالمغريات ومواطن الشهوات، فعلى الرغم من أن يوسفu كان في ريعان شبابه، وتعرض لرغبة النساء ذوات المنصب والجمال، لكنه لم يكترث بذلك واستمسك بقيمه وأخلاقه، ولاقى في سبيل ذلك الأهوال والمصاعب, ولم تتغير مبادؤه على الرغم مما تعرض له من سجن وإذلال، وعلى الرغم مما وهبه الله من الجمال، مع أنه لو أجاب النساء لكان منعماً مرفهاً, وكان منظوراً إليه بعين الإكبار والإجلال، فإن الاستمساك بالدين أصل كل فضيلة، واستمساكه بدينه جعله يستهين بالأخطار والأهوال، وإن الحق وإن ستره زمناً ثوب من التضليل, فلابد أن يظهر، ولو بعد حين.
1. هذا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام غُذي بنور النبوة،ورباه أبوه على التقوى والصلاح, وتعهده نبى الله يعقوبu بالأخلاق النبوية والفضائل الكريمة، فنشأ أعظم نشأة, وأحس من صغره بمجد آبائه وأجداده, فكان أبوه يذكره دائماً بالصالحين والمصطفين الأخيار, ويتمنى له أن يحذو حذوهم, هكذا يكون الرجل الذي يُرشح للنبوة، ويعده الله تعالى لنشر دينه، قال تعالى: ]اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ[ (الأنعام: الآية 124)، ورثه الله علم ما لم يكن يعلم، وزاده علماً على علمه، وفتح بصيرته, وجعله ذا فطنة ثابتة.
2. الإيمان بالمبدأ، يسهل على صاحبه ملاقاة الصعاب, ومواجهة هوج العواصف النفسية والأخطار، فبالنظر إلى يوسفu وهو الفتى الغض الإهاب المشتعل فيه جمرة الشباب، في بيئة كلها مغريات، تدعوه امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فيعرض عنها وتلح عليه فيرفض، كل ذلك ينبئنا عن نفس كريمة وروح طاهرة عفيفة، وعزيمة ماضية لا تلتفت للغواية.
3. الالتجاء إلى الله عند الابتلاء، فقد لجأ يوسفu إلى الله بعدما زاد عدد المراودات والراغبان فيه، وبعد التهديد والوعيد له بالسجن والعذاب، فهو الذي قال: ]رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ[ (يوسف: الآية 33)، ففرج الله كربه وأبعده عن كيدهن بالسجن، فكان أهون الشرين عنده.
4. استغل يوسفu فرصة طلب ساقي الملك والخباز في تعبير رؤييهما، فدعاهما إلى دينه بعد أن أظهر لهما قدرته على تعبير الرؤيا, ثم بين ما عليه أهل مصر من ضلال وتعدد الآلهة، وأوضح أن دينه دين التوحيد، وهو الدين القيم الذي لا ريب فيه، فينبغي على كل إنسان مخلص لدينه أن يستغل الظرف والوقت المناسبين لإلقاء عظاته ونصائحه على الآخرين.
5. عفة يوسفu، ومحافظته على نقاء سريرته وبياض صفحته، حين رفض الخروج من السجن حتى تنجلي الحقيقة أمام الجميع.
6. تحلي يوسفu بالصبر، والصبر من أعظم الفضائل، وأجلها قدراً، ذُكر الصبر في القرآن الكريم في نيف وسبعين موضعاً، فالصبر هو حبس النفس على ما تكره وعن الشهوات، وهو خاصية مهمة من خصائص الإنسان التي يمتاز بها عن الحيوان. عن عمرو بن عبسة قال: }أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِe فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا الْإِيمَانُ قَالَ الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ {(أخرجه أحمد: 18618).
وقال تعالى عن الصبر: ]وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[ (البقرة: الآية 177)، وفي ثواب الصابرين قال جل شأنه ]وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا[ (السجدة: الآية 24)، ]وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا[ (الأعراف: الآية 137)، ]وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[ (البقرة: الآية 155)،
وقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالصبر، لقوله تعالى: )وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( (العصر: الآية 3).
وقوله أيضاً: )وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ( (البلد: الآية 17).
وقد ضرب يوسفu للناس المثل الأعلى في كثير من أنواع الصبر:
أ. صبر على إيذاء إخوته له حين ألقوه في الجب بقصد إهلاكه.
ب. صبر على استرقاقه وبيعه بيع الرقيق، بعد أن باعوه بثمن بخس (عشرين درهماً).
ج. صبر على نعمة الله بالشكر, فإنه حين تمكن من بيت سيده شكر النعمة، وصبر على غواية زوجته ولم يخنه.
د. صبره عن شهوة الفرج, بما تهيأ له من جيش المغريات الذي أحاط به, وعلى رأسهن سيدة القصر، مع ما هي عليه من جمال ورغبة، فلم يخرج من بين تلك المغريات إلا عفيفا متوجا,ً بتاج الصبر عن الشهوات.
هـ. صبره على إلقائه في السجن بلا ذنب حيث تحلى بالصبر الجميل.
و. على الرغم مما فعله إخوته معه، لم يقابل إساءتهم له بمثلها بل صبر وغفر وأكرمهم في داره.
هكذا نرى أن يوسفu قد تقلب بين حالتي البؤس والرخاء، وتداولته رياح الزعزعة والاستقرار، وهو ثابت كالذهب الإبريز لا يزيده التقلب في النار إلا صفاء، أو كالياقوت لا تؤثر فيه النار. فبينما هو في كنف أب يؤثره بالكرامة، ويحوطه بالمحبة، ويخاف عليه, إذا هو في يد إخوته يذيقونه المذلة والإهانة، يضربونه ظالمين، ويلقونه في غيابة الجب غير نادمين، وبينما هو على هذا الحال إذا به يشم نسيم الحياة من جديد، ولكنها حياة الرق والعبودية، ثم انتقل إلى عبودية هي أشبه بالحرية، إذ صار رئيس العبيد والخدم في بيت سيده، وبينما هو في هذه النعمة التي يغبطه عليها كثير من الأحرار، إذا هو في غيابة السجن بلا ذنب اقترف، ولا جريمة اجترح، وفيما هو في هذه الحال، إذا هو في السجن مبشراً دينياً يدعو إلى عبادة الله، ويصد الناس عن كل ما سواه من الأرباب المتفرقين، وإذا هو يقسم الحظوظ ويخبر بالأشياء الغائبة، ثم يرتقي به الحال, إلى أن صار مُعبِر منام الملك، ونذيره بقحط عقب رخاء يعم كل البلاد، فصيره على خزائن الأرض, واصطفاه لنفسه، واستخلصه لمملكته، فصار قسيم الملك, وعليه إعاشة مصر، والبلاد القريبة منها, لتحكمه في تموين كل العباد.
وفيما هو على هذه الحال لا ينقصه إلا أن يشاهد أباه وأمه (خالته)، إذا بإخوته قد وقعوا في شركه، فداعبهم أجل مداعبة, وعبث بهم عبثاً كله جد، واحتال عليهم حتى أتوه بأخيه لأمه وأبيه، ثم أتوه بأهله كلهم أجمعين، وهو في كل هذه الأطوار المختلفة, متمسك بأكمل الخِصال وجميل الأخلاق.
فهذه القصة الجميلة عبرة وعظة بالغة, لا تلمح العبرة منها عين كل ناظر إليها، ولا ينفذ إلى لبابها كل قارئ لها، ولكنها كما قال الله تعالى: ]لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ[ (يوسف: الآية 111).
[1] لا يعذلنها: لا يلمنها.
[2] قضبان الحبلة: عناقيد الكرم، العنب.
[3] الميرة: الطعام.
[4] قراكم: ضيافتكم.
[5] السقاية: إناء من فضة وقيل من ذهب كان يوسف يكتال به ويشرب فيه، وقال بن عباس هو صواع الملك كانوا يشربون فيه وكان مصنوعاً من الفضة.
[6] بثه: أي حزنه وهمه.
|
|