ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75802 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: شعيب وأيوب وذو الكفل عليهم السلام الثلاثاء 14 يونيو 2016, 11:31 pm | |
| الفصل الثالثأنبياء الله من يوسف حتى يونس عليهم السلامالمبحث التاسع: شعيب وأيوب وذا الكفل عليهم السلام المبحث التاسعشعيب وأيوب وذو الكفل عليهم السلامأولاً: شعيبuهو شعيب بن يشخر بن لاوى بن يعقوب وقيل هو شعيب بن صنفور بن عيفا بن ثابت بن مدين، وقيل هو شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين، وقيل إن أمه كانت بنت لوط, وقد ذُكر اسم شعيب في القرآن الكريم 11 مرة, في سور (الأعراف, هود, الشعراء, العنكبوت), وكان زمن شعيب قبل زمن موسىu، وقد سمى المفسرون شعيباًu بخطيب الأنبياء، لحسن مراجعة قومه، وبراعته في إقامة الحجة عليهم، ودحض حججهم.أرسل الله شعيباًu إلى قومه (أهل مدين)، وهم عرب يسكنون مدينتهم "مدين" في الأردن بالقرب من أرض معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز، بالقرب من بحيرة قوم لوط، وكذلك أرسله الله إلى بادية مدين الذين يسمون بأصحاب الأيكة (وهي غيضة تنبت شجراً كثيراً من الأيك الناعم كانوا يعبدونها)، وكانوا بعد قوم لوط بمدة قريبة، وهم أيضاً من قبيلة مدين. (اُنظر خريطة بعثة شعيبu)كان شعيب نبي اللهu يدعو قومه بدعوة كل الأنبياء والمرسلين، فيقول: }اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ{ (الأعراف: الآية 59)، كانت دعوته لعبادة الإله الواحد هي القضية الأساسية، فقضية التوحيد أولاً, ثم تليها قضية المعاملة بأمانة وعدل، فقد كان قومه ينقصون الكيل والميزان, ويبخسون الناس حقهم, ويقطعون السبيل، ذلك بجانب شركهم بالله وعبادتهم للأيكة، وتتلخص قصة شعيبu، في ثلاث مراحل، (مرحلة الدعوة، ومرحلة تكذيب قومه، ومرحلة وقوع العذاب على قومه):1. مرحلة الدعوةهذه المرحلة شملت دعوته إلى التوحيد، ودعوته إلى الإصلاح، فأما الدعوة إلى التوحيد فتمثلت في دعوته لقومه بعبادة الله وحده وعدم الإشراك به، محذراً ومنبهاً إياهم بألا يعبدوا إلهاً غيره، قال تعالى: ]وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ[ (الأعراف: الآية 85)، وشملت دعوته إلى الله نهيهم عن الوقوف في وجه الذين آمنوا، وصدهم عن سبيل الله، لقوله تعالى: ]وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا[ (الأعراف: الآية 86).
أما دعوته للإصلاح فتمثلت في نداءاته المتكررة لهم بالوفاء في الكيل والميزان، وعدم بخس الناس أشياءهم، محذراً إياهم من عذاب الله، قال شعيبu: ]ولا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ[ (هود: الآية 84), وقال: ]فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا[ (الأعراف: الآية 85)، وقال: ]وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينٍَ[ (هود: الآية85), فقد أمرهم بالعدل ووفاء الكيل والميزان بالقسط, ونهاهم عن الظلم, وتوعدهم بعذاب الله إن خالفوا ذلك، ثم قال لهم: ]ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(85)وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ[ (الأعراف: الآيتان 85، 86)، كانوا يقطعون الطريق على الناس ويتوعدونهم في كل وقت، فيأخذون أموالهم وثيابهم، كانوا قوماً طغاة بغاة.
ثم ذكرهم شعيبu بنعمة ربهم عليهم بأن جعلهم كثرة من بعد قلة، وأعزهم من بعد ذلة، وأخذ شعيبu يحذرهم أن تكون عاقبتهم مثل عاقبة الذين من قبلهم، قال: ]وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ[ (الأعراف: الآية 86).
يقول شعيبu إن المال الذي يأتيكم من خسران الموازين والمكاييل، ومن بخس الناس أشياءهم، وقطع الطريق على الآمنين، وسلب أموالهم بالباطل، إنما هي أموال خبيثة سلبتموها غصباً من الآخرين، ولا يستوي عند الله المال الخبيث والطيب، ولو أعجبكم كثرة الخبيث، هكذا كان شعيبu يدعو قومه بالحجة والمنطق، عملا بقوله تعالى: ]قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ[ (المائدة: الآية 100)، فإن الحلال مبارك فيه ولو قل، والحرام ممحوق وإن كثر، وقد حث رسول اللهe على الصدق في البيع والشراء، لأن الصدق في البيع، وعدم بخس الناس أشياءهم، وعدم تطفيف الكيل والميزان تجلب البركة، وعكس ذلك يقللها، فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: }قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ قَالَ حَتَّى يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا{ (صحيح البخاري: 1937)، وهي تعني أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل، والحرام لا يجدي وإن كثر، فما يبقى للناس من رزق حلال خير لهم من بخس حقوق الناس، وتطفيف الكيل والميزان، لقوله تعالى: ]بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[ (هود: الآية 86).
إن شعيباًu يدعو قومه بأوضح العبارات وألطفها، فيقول: إني على بينة من ربى، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، بل إنني أول من يتركه،عملاً بقوله تعالى: ]أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ[ (البقرة: الآية 44)، قال لقومه إنني لا أدعوكم إلى الإفساد في الأرض، بل أريد الإصلاح بقدر طاقتي وجهدي وأدعو الله أن يوفقني في ذلك، هذا ما قاله شعيبu لقومه، قال: ]يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[ (هود: الآية 88).
لقد حذر اللهY المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، في قوله تعالى: )وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1)الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5)يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)( (المطففين: 1-6)، وقوم شعيب كانوا يفعلون ذلك الشيء حتى اشتهروا به، فهم القوم الذين تحدث عنهم القرآن الكريم بصريح القول بأنهم لا يوفون الكيل ولا الميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، ويعثون في الأرض مفسدين.
تعددت سبل الدعوة عند شعيبu، فتارة يدعوهم إلى عبادة الله وعدم الشرك به، وتارة يدعوهم إلى إصلاح شأنهم في البيع والشراء، وتارة يحذرهم ويخوفهم من عقاب الله إن استمروا على هذه الحال، فكان يقول: ]وَيَاقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ[ (هود: الآية 89)، أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه، فيصيبكم مثل الذي أصاب قوم نوح، أو قوم هود، أو قوم صالح، أو قوم لوط وهم ليسوا منكم ببعيد، استخدم أسلوب الترغيب والترهيب والإقناع، فهو أول المنفذين أمامهم لما يأمرهم به، ثم دعاهم إلى الاستغفار والتوبة، فإنهم إن فعلوا ذلك، وجدوا الله رحيماً ودوداً، قالu: ]وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ[ (هود: الآية 90).
2. مرحلة تكذيب قوم مدين لشعيبu
تأمر كفار مدين على شعيبu، فأخذوا يحرض بعضهم بعضاً على عدم الاستجابة لدعوة شعيبu وإلا سيكونون من الخاسرين، أما عن تكذيبهم لشعيبu فقد قال تعالى: ]وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ[ (الأعراف: الآية 90)، قال قومه ذلك على سبيل الاستهزاء والتهكم، كما قالوا أصلاتك هذه التي تصليها هي التي أمرتك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا من قبل، ونعبد إلهك من دونهم؟ وهل صلاتك قد أمرتك أن نفعل في أموالنا ما نشاء فنترك تطفيف الكيل والميزان: ]قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ[ (هود: الآية 87)، وقالوا على سبيل الاستهزاء بنبي اللهu: ]إِنَّكَ لأََنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ[ (هود: الآية 87).
ومن تكذيبهم أيضاً لنبيهم، أنهم لم يصدقوا بأن يكون لبشر مثلهم صلة بالسماء، فقالوا: ]وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ [ (الشعراء: الآية 186)، كانوا يقولون: ]يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ[ (هود: الآية 91)، وهذا من شدة كفرهم وعنادهم، فهم لا يفقهون كثيراً مما يقول، لأنهم يكرهون ما يقول، ولا يريدون سماعه، وهو قول المكذبين دائماً، فذلك القول قالته قريش لمحمدe، في قوله تعالى: ]وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ[ (فصلت: الآية 5).
قال قوم شعيبu إنا نراك فينا ضعيفاً ولولا قبيلتك وعشيرتك لرجمناك، فقالu: ]يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ[ (هود: الآية 92)، أتخشون قبيلتي وعشيرتي، ومن أجل ذلك ترعونني، هل صار رهطي أعز عليكم من الله، بينما تجعلون الله الذي خلقكم ورزقكم وراء ظهوركم؟، ]وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا[ (هود: الآية 92)، فالله خبير بما تعملون, وسيجزيكم على أفعالكم ومكركم وسيحل عليكم عقابه، قال: ]إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[ (هود: الآية 92).
وجد شعيبu إصرارهم على الكفر، كما هددوه بإخراجه من قريتهم، أو العودة إلى ملتهم والكف عما يدعو إليه، قال تعالى: )قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا( (الأعراف: الآية 88)، فقال لهم شعيبu )أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ( (الأعراف: الآية88)، قال إننا إن عدنا إلى ملتكم، بعد أن هدانا الله ونجانا منها، نكون قد افترينا على الله كذباً، قال: )قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا( (الأعراف: الآية 89).
ونعود إلى أصحاب الأيكة، فقد كذبوا نبي الله شعيباًu قال تعالى: }كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ(176)إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ(177)إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(178)فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ{ (الشعراء: الآيات 176-179)، فقد دعاهم شعيبu كما دعا قوم مدين، فكذبوه هم الآخرون.
وأخيراً أنذرهم شعيبu عذاب الله، وعليهم أن يرتقبوه وهو معهم رقيب، فليعمل كلٌ على طريقته، وليرتقب الجميع ما يحدث، قال شعيبu: ]وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌْ[ (هود: الآية 93)، إن شعيباًu يثق في وعد الله بإهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين، فهاهم قد أصبحوا فريقين، فريقاً آمن بشعيبu، وفريقاً آخر لم يؤمن، فليصبر كلا الفريقين حتى يحكم الله بينهما، هذا ما قاله شعيبu لقومه: ]وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ ءَامَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ[ (الأعراف: الآية 87).
3. عذاب قوم شعيبu وأصحاب الأيكة
لما أصر كفار مدين على كفرهم وعنادهم وحان وقت إهلاكهم، أخذتهم الرجفة فأصبحوا في منازلهم جثثاً هامدة لا روح فيها ولا حراك، قال تعالى: ]فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ[ (الأعراف: الآية 91)، أي: رجفت بهم الأرض، وزلزلت زلزالاً شديداً فأزهقت أرواحهم، وقد سلط الله عليهم صنوفاً من عقابه، وجمع لهم أنواعاً من عذابه، وذلك لقبح صفاتهم وإصرارهم على تكذيب نبيهم، أخذتهم رجفة شديدة زلزلت الأرض من تحت أقدامهم، كما أخذتهم صيحة عظيمة أسكنت حركاتهم، لقوله تعالى: ]َوَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ(94)كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ[ (هود: الآيتان94، 95).
وبعد أن نجى الله شعيباu والذين آمنوا من أهل مدين، أرسله الله إلى أصحاب الأيكة، (هي غيضة تنبت شجراً ناعماً يسمى الأيكة ـ كانت بقرب مدين)، كان يسكنها طائفة من الناس، وكانوا على طريقة أهله الذين أهلكهم الله، فنهاهم شعيبuعما كانوا يعملون، فكذبوه وقالوا: ]إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ(185)وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ(186)فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(187)قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ[ (الشعراء: الآيات 185-188)، كان من شدة حماقتهم وجهلهم أن طلبوا من شعيبu أن يُسقط عليهم كسفاً من السماء (أى قطعاً من السماء) إن كان صادقاً في دعوته، فأخذهم عذاب يوم الظلة (سلط الله عليهم الحر سبعة أيام حتى غلت مياههم، ثم ساق إليهم غمامة فاجتمعوا للاستظلال بها من وهج الشمس، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا جميعاً)، قال تعالى: ]فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [(الشعراء: الآية 189).
وقال تعالى: ]الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينْ[ (الأعراف: الآية 92), ثم لما هلك القوم تركهم وتولى عنهم وهو غير آسف عليهم وقال: ]يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ[ (الأعراف: الآية 93)، قال لقد أديت ما كان واجباً علي من البلاغ التام والنصح الكامل، وحرصت على هدايتكم بقدر استطاعتي فلم ينفعكم ذلك، لأن الله لا يهدي من أراد الضلال، ولا آسف عليكم فكيف آسى على قوم كافرين؟: }فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ{ (الأعراف: الآية 93).
وعن هلاك أصحاب الأيكة قال تعالى: ]وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ(78)فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ[ (الحِجر: الآيتين 78-79).وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس :أن شعيباu توفي بمكة المكرمة ومن معه من المؤمنين، وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم.
ثانياً: أيوبu
هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيس بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وقيل هو أيوب بن موص بن رزاح بن العيس بن اسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.
ذكر اسم أيوبu في القرآن الكريم في 4 سور، هي (النساء ـ الأنعام ـ الأنبياء ـ ص), وذُكر في كتب أهل الكتاب، بل إن له سفراً خاصاً باسمه يسمى "سفر أيوب"، وقد ذكر القرآن الكريم قصته دون تفاصيل، فلم يذكر القرآن الكريم اسم زوجته، ولا نوع المرض الذي ابتلى به ولا مدته، وهذا ليس له أهمية هنا بجانب قصته، فالعبرة بما يريد الله أن نعلمه من تلك القصة، فقد ابتلاه الله في ماله وولده وجسده، فصبر صبراً جميلاً، حتى أصبح يضرب به المثل في الصبر على البلاء لبني البشر جميعاً، ولهذا أثنى الله عليه الثناء الجميل لما وجده صابرا، فقال تعالى: ]إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ (ص: الآية 44)، (اُنظر خريطة بعثة أيوبu) و(صورة قبر أيوبu)
وقد أوحى الله إليه، قال تعالى: ]إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ[ (النساء: الآية 163).
قيل إن أيوبu كان يعيش بأرض الثنية من أرض حوران، ووهبه الله حياة كريمة وثروة عظيمة، وبنين شهودا وزوجة صالحة, فكان شاكرا لأنعم الله، قائماً على عبادته حق العبادة, ثم ابتلاه الله فسُلبت منه تلك النعم، وابتلي في جسده بلاءً عظيماً، قيل: لم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، فكان يذكر الله عز وجل بهما في كل وقت، حتى طال مرضه وبعُد الناس عنه، وعافه الناس حتى أخرجوه من بلدهم، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، التي كانت ترعى له حقه، وتعرف قديم إحسانه وشفقته، فكانت تتردد عليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته، وهكذا صبرت زوجته على بلائه، كما صبرت على بلائها هي الأخرى في الزوج والولد والمال، ومرت عليها السنون الطوال وهي صابرة شاكرة لله، ومع ضعف المرأة كانت تقوم برعايته والاهتمام بشأنه، ولم تشكُ حالها لأحد، ولم يؤثر فيها الشقاء والعذاب، كما لم يؤثر في أيوبu، ولم يزدهما ذلك إلا صبراً واحتساباً وحمداً وشكراً لله عز وجل.
هكذا يبتلى الأنبياء والصالحون، فالأنبياء أشد بلاءً ثم الذين يلونهم، فعن فاطمة عمة عبيدة بن حذيفة أنها قالت: ]أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ e نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلاَءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْْ[ (مسند أحمد: 25832)، وكذلك يبتلى الرجل على حسب دينه، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: }قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً قَالَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ{ (مسند أحمد: 1400).
لما طال المرض بأيوبu وزاد بلاؤه، حتى قيل إنه تساقط لحمه فلم يبق إلا العظم والعصب، وكانت امرأته تأتيه بالرماد وتفرشه تحته لتخفف من آلامه، فلما طال صبره، وطال عذابه، ألحت عليه أن يدعو الله ليشفيه، وقالت: يا أيوب، لو دعوت ربك لفرج عنك، فقال لها أيوبu: لقد عشت سبعين سنة صحيحاً، فهل لي أن أصبر مثلها لله عز وجل, فجزعت من هذا الكلام، وأخذت تخدم الناس بالأجر لتوفر لزوجها الطعام، ثم بدأ الناس في اعتزالهما حتى لا ينالهم أذى بمخالطتهم أيوبu.
وفى ذات مرة لم تجد زوجة أيوبu عملاً لتوفر منه طعاماً لزوجها، فاضطرت إلى بيع إحدى ضفيرتيها لتشتري بثمنها طعاماًً، فلما أتت به أيوبu، قال: من أين لك هذا؟ وأنكره عليها، فقالت: خدمت أُناساً فأعطوني أجراً فاشتريت به طعاماً، فلما كان اليوم التالي وهى تبحث عن عمل لها فلم تجد، فباعت ضفيرتها الثانية، وأتت بثمنها طعاماً فأنكره أيضاً، وحلف ألا يأكل من هذا الطعام حتى تخبره عن مصدره، حينئذ كشفت له عن رأسها وأزاحت خمارها، فلما رأى رأسها محلوقاً دعا ربه أن يكشف عنه هذا الضر، قال تعالى: ]وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ(84)[ (الأنبياء: الآيتان 83، 84).ولم يصح عن قصة أيوبu إلا ما أخبرنا الله في كتابه في سورتي الأنبياء في قوله تعالى: }وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ{ (الأنبياء: الآية 83)، وفى سورة ص في قوله تعالى: }أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ{ (ص: الآية 41). وكذلك ما ورد في صحيح البخاري من أحاديث، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبيe قال: }بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ{ (صحيح البخاري: 3140).ولما آن الأوان، وقدر الله الشفاء، تضرع أيوبu إلى ربه بالدعاء وقال لربه: )أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ( (ص: الآية 41). فأوحى الله إليه أن يضرب برجله الأرض فنبع منها الماء فاغتسل منها وشرب، فبرئ من مرضه!!، ووهبه الله أهله، ومثلهم معهم، رحمة منه، وذكرى لأولى الألباب، قال تعالى: )ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ(42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ(43)( (ص: الآيتان 42، 43).وقد جعل الله أيوبu يبر بيمينه الذي حلفه على امرأته أثناء مرضه بأن يضربها مائة سوط إذا شفاه الله، قيل ذلك بسبب بيعها لضفائرها، فلما عافاه الله عز وجل وشفاه، أمره أن يأخذ ضغثاً[1] به مائة فرع، فيضربها به ضربة واحدة.هكذا جعل الله لأيوبu مخرجا، فقد كانت امرأته صابرة محتسبة عابدة بارة رشيدة رضي الله عنها, ولهذا يسر الله لأيوبu أن يبر بقسمه بغير أذى لزوجته، قال تعالى: )وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ[ (ص: الآية 44)، وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الإيمان والنذور.
كما اختلف العلماء في مدة بلائه، والأرجح أنها ثماني عشرة سنة.
وفاة أيوبu
توفي أيوبu وكان عمره ثلاثاً وتسعين سنة، ذلك ما ذكره ابن جرير، وأوصى عند موته ابنه "حومل"، وبعث الله بعده ابنه "بشر" نبياً، وسمي ذا الكفل على زعم كثير من الناس، ثم توفي وكان عمره خمساً وسبعين سنة، وأوصى لابنه عبدان من بعده. والله أعلم.
ثالثاً: قصة ذا الكفلu
هو بشر بن أيوب بن موص بن رعويل بن العيس بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وكنيته ذو الكفل، فالمشهور أنه كان من ذرية إبراهيم, وقد ذكر اسمه في القرآن الكريم مرتين مقروناً بالأنبياء عليهم السلام، في سورتَي (الأنبياء وص)، قال الله تعالى في سورة الأنبياء: ]وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ(85)وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ[ (الأنبياء: الآيتان 86,85).
وقال تعالى في سورة ص: ]وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ(45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ(46)وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ(47)وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ[ (ص: الآيات 45-48). (اُنظر خريطة بعثة ذي الكفلu)روي عن ابن جرير عن مجاهد: أنه لم يكن نبياً وإنما كان رجلاً صالحاً، وحكماً مقسطاً عادلاً, وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضي بينهم بالعدل، فسُمي لذلك ذا الكفل.وروى ابن جرير عن مجاهد أيضاً أنه قال: لما كبر اليسع قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتى، حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال: من يتكفل لي بثلاث أستخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب، قال: فقام رجل تزدريه الأعين، فقال: أنا، فقال: أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فرده ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم التالي، فسكت الناس، وقام ذلك الرجل فقال: أنا، فاستخلفه.قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم ذلك، فقال دعوني وإياه، فآتاه الشيطان في صورة شيخ كبير فقير حين أخذ مضجعه وقت القيلولة، وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة (وقت القيلولة) فدق الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم، قال: فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه، فقال: إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي كذا حتى حضر الرواح وذهبت القائلة، وقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر، هل يرى الشيخ فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه، فلما رجع إلى القائلة وأخذ مضجعه أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال: الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ فقال: إنهم أخبث قوم، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني، قال: فانطلق فإذا رحت فائتني، قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظر فلا يراه، وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النوم، فلما كانت تلك الساعة جاء، فقال له الرجل وراءك وراءك، فقال: إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري، فقال: لا والله، لقد أمرنا ألا ندع أحداً يقربه فلما أعياه، نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من الداخل، قال: فاستيقظ الرجل، فقال: يا فلان ألم آمرك؟ قال: أما من قبلي والله فلم تؤت، فانظر من أين أتيت؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه، وإذا الرجل معه في البيت فعرفه، فقال: أعدو الله؟ قال: نعم أعييتني في كل شيء، ففعلت ما ترى لأغضبك، فسماه الله ذا الكفل، لأنه تكفل بأمر فوفى به.[1] الضغث: هو قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. |
|