حلمي الأسمر
خواطر رمضانية -3-
التاريخ:19/6/2016
ما نعرفه من تاريخنا الحقيقي قليل جدا، فقد تعهدت مناهجنا التي ندرسها لطلابنا بتشويه ذاكرتنا الجمعية، خاصة حين يتعلق الأمر بتاريخ الأتراك في بلادنا!
من المواقف بالغة الدلالة على عظم الدولة العثمانية المدنية ما يذكره أورخان محمد علي في كتابه اللطيف، روائع من التاريخ العثماني، حين علم السلطان (سليم الأول) أن الأقليات غير المسلمة الموجودة في (اسطنبول) من الأرمن والروم واليهود، بدأت تتسبب في بعض المشاكل للدولة العثمانية، وفي إثارة بعض القلاقل، غضب لذلك غضباً شديداً، وأعطى قراراه بأن على هذه الأقليات غير المسلمة اعتناق الدين الإسلامي، ومن يرفض ذلك ضرب عنقه!
بلغ هذا الخبر شيخ الإسلام ( زمبيلي علي مالي أفندي)، وكان من كبار علماء عصره، فساءه ذلك جداً، ذلك لأن إكراه غير المسلمين على اعتناق الإسلام يخالف تعاليم الإسلام، الذي يرفع شعار { لا إكراه في الدين }. ولا يجوز أن يخالف أحد هذه القاعدة الشرعية، وإن كان السلطان نفسه. ولكن من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان، الذي يرتجف أمامه الجميع؟ من يستطيع أن يقف أمام هذا السلطان، ذي الطبع الحاد فيبلغه بأن ما يفعله ليس صحيحاً، وأنه لا يوافق الدين الإسلامي؟ ليس من أحد سواه يستطيع ذلك، فهو الذي يشغل منصب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية، وعليه تقع مهمة إزالة هذا المنكر الذي يوشك أن يقع. لبس جبته وتوجه إلى قصر السلطان، واستأذن في الدخول عليه، فأذن له، فقال للسلطان: سمعت أيها السلطان أنك تريد أن تكره جميع الأقليات غير المسلمة على اعتناق الدين الإسلامي، كان السلطان لا يزال محتداً فقال: أجل .. إن ما سمعته صحيح .. وماذا في ذلك؟ فقال شيخ الإسلام: أيها السلطان إن هذا مخالف للشرع، إذ لا إكراه في الدين، ثم إن جدكم (محمد الفاتح) عندما فتح مدينة (اسطنبول) اتبع الشرع الإسلامي فلم يكره أحداً على اعتناق الإسلام، بل أعطى للجميع حرية العقيدة، فعليك باتباع الشرع الحنيف، واتباع عهد جدكم (محمد الفاتح). قال السلطان سليم وحدته تتصاعد: يا علي أفندي، لقد بدأت تتدخل في أمور الدولة ... ألا تخبرني إلى متى سينتهي تدخلك هذا ؟
فيجيب الشيخ: إنني أيها السلطان أقوم بوظيفتي في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وليس لي من غرض آخر، وإذا لم ينته أجلي، فلن يستطيع أحد أن يسلبني روحي، فيقول السلطان: دع هذه الأمور لي يا شيخ الإسلام، فيقول الشيخ: كلا أيها السلطان ... إن من واجبي أن أرعى شؤون آخرتك أيضاً، وأن أجنبك كل ما يفسد حياتك الأخروية، وهنا يذعن السلطان (سليم) لرغبة شيخ الإسلام، فقد كان يحترم العلماء، ويجلهم، وبقيت الأقليات غير المسلمة حرة في عقائدها، وفي عباداتها، وفي محاكمها، ولم يمد أحد أصبع سوء إليها!
أذكّرهنا فقط بما فعله علمانيو تركيا ممن ورثوا الخلافة العثمانية مع الرئيس المنتخب مندريس حينما حكموا عليه بالإعدام شنقا لأنه أعاد الأذان باللغة العربية وأدى فريضة الحج سرا، والتهمة كانت: السعي لإنشاء دولة دينية!
بالمناسبة، ثمة رؤوس الآن تطل بين حين وآخر تحاول «تجريم» الرئيس التركي الحالي أردوغان، بالتهمة نفسها، التي أسندت إلى مندريس، ولكن الزمن غير الزمن، وإن كان مناهضو أردوغان ومندريس لم يلقوا عصا اليأس بعد!
يقول الكاتب المعروف فهمي هويدي: أوروبا لم تعرف التعددية السياسية إلا بعدما اقتبست من الدولة العثمانية نظام الملل, الذي استلهمته من الشريعة الإسلامية وحفظت به خصوصية أهل كل ملة وان الإسلام مادخل بلدا إلا وأبقى علي كل مافيه من ديانات وملل ونحل,، حتي أعتبر المجوس أهل ذمة. بينما ما دخل الأوروبيون بلدا وصل إليه الإسلام في قارتهم الا وأبادوا كل من خالفهم في الديانة. وماحدث في الأندلس وصقلية شاهد علي ذلك. ومن المفارقات الدالة في هذا الصدد أن اليهود حين طردهم الكاثوليك من الأندلس في القرن السادس عشر لم يجدوا ملاذا يحتمون فيه سوي الدولة العثمانية، التي كانت ترفع راية الشريعة!
(صحيفة الدستور)