"يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"
أ. د. محمد خازر المجاليكتب الله تعالى الصيام على الأمم كلها، لأنه قيمة روحية عليا يحتاجها الإنسان في مراعاته لكيانه في رحلته هذه إلى الله تعالى، وفي حياته التي هي مرحلة مؤقتة، ينتقل بعدها إلى الدار الحقيقية، حيث النعيم أو الجحيم.
ولعل آكد ما نذكره عن الصيام، أنه دورة في الصبر وعتق النفس وقوة الإرادة وارتقاء الروح؛ فهو خروج عن روتين الحياة ليكتشف أحدنا قدراته وتعلو همته ويسمو هدفه، وينظر في نفسه من جديد أين هو من الله تعالى وحقوقه. إذ حين ترتقي الروح بالإنسان، تنجلي الغشاوة، ويرى ببصيرته لا بمجرد بصره. وحينها يدرك حقائق كثير من الأشياء، ويقترب من ربه أكثر. ولعله أن يكون من المحسنين الذين راقبوا الله في حياتهم، ولنقل إنه من الذين يعيشون في معية الله تعالى.
هو الصيام الذي جعل الله الجزاء عليه من اختصاصه هو، لأنه نوع من الصبر، والصبر عبادة قلبية لا يعلم أجرها إلا الله تعالى، ولا يعلم كنهها إلا الله؛ إنه مشاعر ويقين بالله تعالى، لا يطلع عليها إلا هو سبحانه.
نداء للمؤمنين بأن الله فرض الصيام عليهم. ولسنا وحدنا في التكليف، فقد سبقتنا أمم كثيرة. والغاية هي الوصول للتقوى، حيث ارتباط النفس بخالقها وحده، وحبه، وخشية عذابه. ومن عجيب آيات الصيام أنها ابتدأت بالتقوى واختتمت بها؛ فهي المقصد الرئيس في وصول النفس إلى درجة من الخشية له تعالى، خشية داعية إلى حبه، فكل مخلوق إذا خفته ابتعدت عنه، ولكن الله تعالى إن خفته أنست به وأحببته واقتربت منه.
بعد ذلك يتحدث الله تعالى أن الصيام أيام معدودات، ترغيبا في صيامه، وهو وإن كان شهرا كاملا، إلا أن مشقته لعلها في أيام، وسريعا ما تألف النفس الصيام وتتعود عليه. وهذا بحد ذاته درس عظيم؛ أن لا نستصعب الشيء ابتداء، فلنجرب ونصبر لنكتشف أن باستطاعتنا أداءه. وهي رسالة لكثيرين من الكبار الذين يستصعبون الصيام، ولهم في الصغار عبرة، حين يصوم أحدهم هذه المدة كلها، وهو ابن سبع سنين، ولا تبدو عليه آثار التعب أبدا، بل يتمتع بحيوية عجيبة، فهي من بركات الصيام، وهو الشعور مع قوم ربما حُرموا الطعام ليس في أيام أو شهر، بل ربما هذه حياتهم طيلة العام، فتنكسر نفوسنا لهم وتتواضع، فهي قيمة مجتمعية عالية في تفقد بعضنا والشعور معهم.
وهنا يبين الله تعالى بعض رخص الإسلام في حالتي المرض والسفر. فالدين يسر، ويحب الله تعالى أن تُؤتى رخصه كما يحب أن تُؤتى عزائمه؛ فليفطر أصحاب الأعذار ويقضوا أياما أُخر مكانها، ولكبار السن أو المرضى الذين لا يُرجى برؤهم أن يُخرجوا فدية صيامهم.
وتنتقل الآيات للحديث عن هذا الشهر العظيم؛ شهر رمضان، فهو شهر الصيام. وعرفه الله بأنه شهر القرآن، وهذا أمر عجيب، وهي لفتة مقصودة، فليس الأمر مجرد إخبار بأن القرآن أُنزِل في رمضان، بل ليكون للقرآن في حياة المسلم شأن خاص في رمضان، فهو هدى للناس جميعا، وبينات من الهدى والفرقان الذي يميز المسلم به بين الحق والباطل والهدى والضلال، فلا حيرة ولا تردد، بل صراط مستقيم مرسومة ملامحه، واضحة مقاصده. ويخبر سبحانه أن من شهد هذا الشهر وعلم بدخوله وحضره فعليه الصيام. ومرة أخرى يؤكد على مبدأ الرخصة حاليْ المرض والسفر، فالله يريد بنا اليسر لا العسر. ولا يخطرن على بال أحدنا أن الصيام نفسه عسر، فكيف يريده الله لنا؟! هنا نتذكر أن فيه مشقة، وإن كان ظاهره عسرا فحقيقته غير ذلك، لأنه صبر ولجم للنفس عن شهواتها وبناء لإرادة لطالما رضخت لنفس داعية إلى الدعة والسكون والراحة، فيريد الله منه أن يملك نفسه لا أن تملكه، ويريد للروح أن تنعتق من سلطان الشهوات المعتنية بالجسد على حساب الروح. ونتذكر دائما أننا مكرمون بالروح لا بالجسد، فلا ينظر الله تعالى إلى أجسادنا ولا إلى صورنا، ولكن إلى قلوبنا وأعمالنا، كما بين صل الله عليه وسلم.
بعدها تأتي آية الدعاء، عجيب شأنها وأسلوبها: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة، الآية 186). فقد وردت أسئلة كثيرة، وأُمر صل الله عليه وسلم أن يجيبهم "قل"، لكن هنا لم يأت هذا الأسلوب، بل يخبر الله تعالى عن نفسه مباشرة بأنه قريب مجيب، فما على أحدنا إلى أن يتوجه له بلا واسطة، فهو قريب يجيب دعوة الداع. وهو الذي حثنا أن ندعوه لأنه يحب انكسار عبده له وخضوعه له، فالدعاء مخ العبادة، ومظهر من أروع مظاهر العبودية لله تعالى، وهذا في ذاته رشد. ولعل ذكر الدعاء بين آيات الصيام إشارة إلى أحد أوقات الاستجابة، أو أن الصيام من آكد ما يوصل الإنسان إلى التقوى التي بها يثق بربه أكثر، ويقترب منه أكثر.
أما الآية الأخيرة من آيات الصيام، ففيها بعض التشريعات، حيث حِل إتيان النساء ليلا. وهنا إحدى مقاصد الزواج، في أنه ستر للرجل والمرأة معا، وفي هذا ارتقاء بكرامتهما وشأنهما. وتتحدث الآية عن حل الأكل والشرب حتى الفجر، وبعد ذلك فهو الصيام حتى الغروب الذي هو دخول الليل، ونهي عن مباشرة النساء أثناء الاعتكاف في المسجد.
آيات بينات في شأن ركن من أركان الإسلام العظيم، ليكون الصيام وسيلة لارتقاء صاحبه، فهو أبعد عبادة عن الرياء، فلو شاء لخلا بنفسه وأفطر، ولكن إمساكه كل هذه المدة علامة واضحة على خشيته لله وحبه له، وهذا سبب آخر أن يجزي الله به فهو علامة تقوى حقيقية لله تعالى.
رزقنا الله طاعته، وأن يكون رمضان هذا العام متميزا على صعيد الفرد والأمة، لعلنا نغير ما بأنفسنا، ليغير الله حالنا كلها إلى الأفضل، إنه عليّ قدير.