عظماء التاريخ.. أمير الخلفاء هارون الرشيد أجل ملوك الدنيا الحاج والغازي
التاريخ:18/6/2016 - الوقت: 9:35ص
جمع وإعداد : محمد أيوب عوده.
أبو جعفر هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي ولد في مدينة الري عام149 هـ، وكان والده واليا على المدينة، ثم انتقل إلى بغداد.
تدرب هارون على الفروسية والرمي وفنون القتال، وعندما بلغ عمره 15 عاما عينه والده قائدا للجيش الذي يضم العديد من القواد الكبار وأمراء الدولة.
لقبه والده "بالرشيد" وأخذ له البيعة كولي للعهد بعد أخيه الأكبر "موسى الهادي" في عام 163هـ ، وذلك بعد عودته من قتال الروم وقد توغل في أراضيهم وحاصر قلعة "سمالو" لمدة 38 يوما حتى افتتحها، ووصل إلى أبواب القسطنطينية ،ثم عاد محملا بالغنائم واستقبله أهل بغداد استقبال الأبطال، وكافأه المهدي بتوليته بلاد المغرب وأذربيجان وأرمينية.
بعد وفاة أخيه "موسى الهادي"، بويع الرشيد بالخلافة عام 170 هـ حين بلغ 22 من عمره، فارتقت في زمانه العلوم، وسمت الفنون والآداب، وعم الرخاء ربوع الدولة الإسلامية.
تزوج من ابنة عمه زبيدة بنت جعفر والتي أنجب منها ولده محمد الأمين، أما ابنه الثاني عبد الله المأمون فقد ولد من جارية فارسية اسمها "مراجل"، وأنجب من زوجاته 10 أبناء و12 بنتا.
أصدر الرشيد عند توليه الخلافة عفوا عاما عدا بعض الزنادقة، وجعل الرقة عاصمة له.
أنشأ بيت الحكمة في بغداد وزودها بأعداد كبيرة من الكتب والمؤلفات من مختلف بقاع الأرض، حيث ضمت غرفا عديدة بينها أروقة طويلة، وخُصصت بعضها للكتب، وبعضها للمحاضرات، وبعضها الآخر للناسخين والمترجمين والمجلدين.
تمت في عهده أول ترجمة إلى العربية لأشهر كتاب علمي عرف في التاريخ وهو "كتاب الأصول (الأركان) في الهندسة والعدد لإقليدس.
وتطورت العلوم خصوصا الفيزياء الفلكية والتقنية، وابتكرت عدد من الاختراعات كالساعة المائية.
أنشئ في عهده أول مصنع للورق ببغداد سنة 795 م، وصار سوق الوراقين لاحقا الذي يضم مئات الحوانيت التي تبيع السلع الورقية الفاخرة مفخرة عاصمة العباسيين.
كان أول من استعمل القناديل في إضاءة الطرقات والمساجد.
اعتنى بالزراعة فأسس ديوانا لها، فبنى الجسور والقناطر الكبيرة، وحفر الترع والجداول الواصلة بين الأنهار.
قام بتنمية التبادل التجاري بين الولايات وأمر بحراسة طرق التجارة بين المدن، وشيد مدينة" الواقفة" قرب مدينة "الرقة" على ضفاف الفرات لتكون مقرا صيفيا لحكمه.
كان ليحيى البرمكي وأولاده –من أصول فارسية مكانة عظيمة لدى العباسيين، وهو الذي ربى الرشيد، الذي بدوره كان لا يناديه إلا بـ (يا أبي)، فأسند إليهم إدارة جميع مرافق الحياة العامة، من إدارة وعلوم وفنون، وقد ولى الرشيد "الفضل بن يحيى" بلاد المشرق (خراسان وطبرستان وأرمينيا وبلاد ما وراء النهر) أما "جعفر بن يحيى" فولاه على (الجزيرة والشام ومصر وأفريقية)، وسماهم المؤرخون "زهرة الدولة العباسية كلها"لأنهم قادوا الجيوش، وسدوا الثغور، ودافعوا عن حياض الدولة، وذكر بعض المؤرخين أنهم استطاعوا أن يقنعوا الرشيد بأن يجعل ولاية العهد لابنه المأمون الذي كانت أمه من أصول فارسية، بعد أخيه الأكبر الأمين الذي كانت أصول أمه عربية، وجعل للمأمون ولاية بلاد المشرق، وبهذا يصبح حكم الأمين على بلاد المشرق حكما صوريا، ولما حج الرشيد مع أولاده أخذ عليهم المواثيق والعهود وكتبها وعلقها في الكعبة ليعطيها القدسية، ثم بدأت فجوة الخلاف والصراع بين العرب والعجم تزداد، فبدأ العرب يوغرون صدر الرشيد ضد البرامكة، بأنهم يؤثرون مصلحة العلويين على مصلحته، وهذه التهمة أشد من تهمة الزندقة عند العباسيين، فخاف الرشيد من البرامكة الذين كانت لهم وزارة تفويض، فيستطيعون إصدار المراسيم بدون توقيع الرشيد، فبدأ بالتخلص منهم وحبسهم وصادر أموالهم، فمات يحيى والفضل في السجن وعفى عن مجموعه منهم، ويبدو أن الرشيد قد ندم بعدها، فقد كان يقول: لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي، وأني تركتهم على حالهم.
استطاع الرشيد القضاء على طائفة الخوارج حيث حاولوا أن يثيروا الفتن والاقتتال، فقاتلهم خمس مرات من بداية حكمه إلى عام 191هـ، فقضى على زعمائهم وأخمد فتنتهم، واستطاع القضاء على الحركات التي كانت تحاول الاستقلال والخروج عن دولة الخلافة.
كانت علاقة الرشيد بالإمبراطورية البيزنطية علاقة عداء وحرب، وكذلك الدولة الرومانية التي كانت الحروب طاحنه بينه وبينها قبل استخلافه وبعدها، ففي كل عام كانت تقوم بينهم الحرب ماعدا الخمس سنوات التي أبرم فيها صلحا مع الملكة "إيريني" وبعد موتها نقض "نقفور" الصلح وأرسل للرشيد خطابا عدائيا يطلب فيه أموال الجزية كلها التي كانت ترسلها الملكة، وطلب أن يدفع له الرشيد الفدية أو سيقاتله، فلما قرأ الرشيد رسالة نقفور أرسل له رسالة قال فيها: "من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام" وقاد جيشه المكون من 135 ألفا غير الأتباع والمتطوعين حتى وصل مدينة "هرقلة" عاصمة "كورة بيثينيا" فحاصرها واستولى عليها وهزم جيش نقفور، وبدأ نقفور بإرسال الجزية وقيمتها 50 ألف دينار، وتعهد بعدم إعادة بناء الحصون التي دمرها الرشيد.
غدت بغداد محطة لطلاب العلم حيث ضمت كبار الفقهاء والمحدثين والقراء واللغويين، فكان فيها غزارة العلم، ودقة التخصص وحرية الرأي والمناقشة فذاع صيت الرشيد في الآفاق، وعلى إثرها قامت أوروبا والهند والصين بإرسال رسلها لتكسب صداقته ووده.
كان الرشيد مثقفا ثقافة عربية واسعة وكان يملك أدبا رفيعا وتذوقا للشعر واللغة، وكان له فهم العلماء، وكانت مجالسه يملؤها الشعراء والعلماء والفقهاء والأطباء والموسيقيين, وكان كثيرا ما يناقش العلماء والأدباء, وينقد الشعر والشعراء.
وفي المجال العلمي دعم الرشيد عالم الكيمياء المشهور جابر بن حيان الذي أسس مع تلاميذه منهج التجربة في العلوم.
وقد قام بعض كتاب العرب والغربيين بتشويه سيرته فأشاعوا عنه الأكاذيب بحب الجواري وشرب الخمر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية، فمنهم من اختلط عليهم الأمر بين شخصية الرشيد وحال كثير من الأمراء والوزراء، والزمن الذي عاش فيه من رغد العيش ورفاهية ورخاء، ومنهم من تعمد تشويه التاريخ الإسلامي وهم الأغلب.
كانت علاقة الرشيد مع إمبراطور الفرنجة"شارلمان" علاقة ودية طيبة فتبادلوا السفارات والبعثات والهدايا، وكان مما ارسله الرشيد الى شارلمان عطورا وأقمشة وعددا من الفيلة ومفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس، ولوحة شطرنج، وساعة مائية مصنوعة بطريقة عجيبة أذهلت العقول، فهي مصنوعة من النحاس الأصفر بارتفاع نحو 4 أمتار وتتحرك بواسطة قوة مائية، وعند تمام كل ساعة يسقط منها عدد من الكرات المعدنية يتبع بعضها البعض الآخر بحسب عدد الساعات فوق قاعدة نحاسية، فتحدث رنينا جميلا في أنحاء القصر الإمبراطوري، وكانت الساعة مصممة بحيث يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة، ويخرج منه فارس يدور حول الساعة، ثم يعود إلى المكان الذي خرج منه، وحين تصبح الساعة 12 يخرج 12 فارس مرة واحدة يدورون دورة كاملة ثم يعودون من حيث أتوا وتغلق الأبواب خلفهم، فخاف الرهبان واعتقدوا أن بداخلها شيطان يسكنها ويحركها، فجاؤوا بالفؤوس فحطموها، فحزن الملك "شارلمان" حزنا بالغا، واستدعى حشدا من العلماء والصناع المهرة لمحاولة إصلاح الساعة وإعادة تشغيلها, لكن المحاولة فشلت، وخجل أن يطلب من الرشيد تصليحها.
قال عنه الذهبي: " كان يحب العلماء, ويعظم حرمات الدين, ويبغض الجدال والكلام, ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لاسيما إذا وُعظ".
قال الفضيل بن عياض: "ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره"، فكان يرى فيه خيرا، وفعلا بعد وفاة الرشيد ظهرت الفتن والقول بخلق القرآن.
ومن أشهر الأدباء الذين عاصروا الرشيد وحضروا مجالسه الشاعر أبو العتاهية وأبو سعيد الأصمعي.
ومن علماء الدين الذين عاشوا في عصره الإمام الشافعي والإمام مالك بن أنس.
سافر الرشيد مع أبناءه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على الإمام مالك رحمه الله.
يعتبر أول خليفة عباسي قاد الغزو بنفسه.
حجّ تسع مرّات ، وكان يأخذ معه مئة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة 300 رجل بالنفقة الكامله مع الكسوة.
كان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم.
وكان يصلي في اليوم مئة ركعة، وكان كثير البكاء من خشية الله،
روي أنه كان كثير الصلاة على الرسول ويبكي حبا وشوقا له.
كان أحيانا يطوف بنفسه متنكرا في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها.
كان صاحب فكرة إنشاء قناة بحرية بين بحر الرومأي البحر الأبيض المتوسط، وبحر القلزمأي البحر الأحمر إلا أنه امتنع خوفا من هجوم الروم، (التي أنشأت فيما بعد وعرفت بقناة السويس).
كان أبيض طويلا جميلا مليحا فصيحا وسيما سمين الجسم، يعظم حرمات الإسلام، ويبغض المراء في الدين والكلام في معارضة النص.
ذات ليلة نظر إلى سحابة فقال في أي مكان شئتِ أمطري فسيُحمل إليّ خراجك إن شاء الله، وهذا دلالة على سعت الدولة العباسية وعظمتها وقوتها.
رؤي وهو واقف كاشف عن رأسه وحاف على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي.
كان الرشيد يشعر في قرارة نفسه بقلة الحيلة أمام المنافسات والتيارات الخفية في داخل مملكته، وأن نكبة البرامكة لم تكن حلا للموقف، فهناك ولداه الأمين والمأمون يضمران النقمة لبعضهما البعض، ومن ورائهما حزبا العرب والعجم، ينتظران خاتمة الرشيد ليستأنفا صراعهما من جديد، لذلك كان الرشيد في أواخر أيامه وحيدا حزينا يخفي علته عن الناس، إذ روي أنه كشف عن بطنه لأحد أصدقائه فإذا عليها عصابة من حرير ثم قال له: "هذه علة أكتمها عن الناس كلهم، فكل واحد من ولدي إلا وهو يحصي أنفاسي ويستطيل دهري".
وقد رأى الرشيد رؤيا تدل على موته، فرأى كفًّا بها تربة حمراء، وقائل يقول: هذه تربة أمير المؤمنين، فلما انطلق إلى خراسان مَرّ بـ (طوس) في إيران، فمرض بها، فقال لخادمه: أحضر لي شيء من تربة هذه الأرض، فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال: والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها! فأمر بحفر قبره في حياته، وأن تُقرأ فيه ختمة للقرآن تامة، وحُمِل حتى نظر إلى قبره فجعل يقول:" إلى هنا تصير يا ابن آدم! ونظر إلى جيشة وكان عددهم لا يحصى، فقال ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانية، ثم نظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول ملكه، إرحم من زال ملكه، وبكى" ثم قبض بعد ثلاث ليال، عام 193 هـ، فكانت مدة حكمه رحمه الله 23 سنة.
(البوصلة)