ما بعد الشتات!
إبراهيم نصر الله
ذات يوم كتبت جريدة (لوموند دبلوماتيك) معلّقة على صدور كتاب الدكتور وليد الخالدي (قبل الشتات)، والذي ضمّ صوراً من فلسطين التقطت بين عامي 1876 و 1948: (كلنا سمع بالشعار الصهيوني «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»).. إن هذا الكتاب هو الحجة الداحضة لهذا القول.
لا أعرف ما الذي يمكن أن تكتبه هذه الجريدة أو سواها، لو أن كتاباً جديداً صدر عن فلسطين، عنوانه: (ما بعد الشتات)؟!
أكتب هذا، وقد مرّت قبل أيام الذكرى التاسعة والستون للنكبة، مستعيداً ما ضمه كتاب الدكتور الخالدي من صور عن الحياة الفلسطينية الممتلئة بالحياة، ومظاهرها العصرية من مزارع ومصانع ورحلات ومظاهرات ودور للسينما وإضافة إلى ذلك النوادي الرياضية والسهرات الاجتماعية والأعراس والعمران والحياة الثقافية والفنية وزيارات كبار الكتّاب والفنانين الى فلسطين.
لكن ما قبل الشتات، ذاك، هو السرّ الحقيقي لحيوية هذا الشعب ما بعد الشتات، أو كما يقول الشاعر توفيق زياد عن شعر المقاومة الفلسطيني: ( كل شيء يمكن أن تبدأه من جديد إلا الثقافة، إنها مثل الحياة نفسها، تورُّث وتواصُل) ويذهب إلى أن شعر المقاومة استمرار لمعركة ممتدة خاضها شعراء فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين، فالخندق نفسه والعدو نفسه، والهدف نفسه، والسلاح نفسه.
من هذا القول يمكن أن ينطلق المرء لفهم فلسطين وحيوية شعبها الذي استطاع أن يؤسس ثقافة فاعلة على مستوى قضيته وعلى المستوى العربي، ويتجاوز تأثيره إلى العالمية.
في دراسة حديثة، قدمها الروائي والقاص الفلسطيني محمود شقير في الملتقى الأول للرواية العربية، الذي عقد في رام الله مطلع هذا الشهر، تلمس القدرة الهائلة لهذا الشعب على التجدد والعطاء في أقسى الظروف، يقول: لم يظهر في فلسطين من بدايات القرن العشرين إلى العام 1948 سوى تسعة روائيين فلسطينيين، لم يكن من بينهم روائية واحدة، ولم يظهر من العام 1948 إلى العام 1967 سوى سبعة روائيين، ولم يكن من بينهم روائية واحدة. في حين ظهر من العام 1967 إلى العام 1993 أربعة وسبعون روائيًّا، كان من بينهم ست روائيات. وظهر من العام 1993 إلى العام 2017 مئة وثلاثة وثلاثون روائيًّا، كان من بينهم سبع وثلاثون روائية.
إن المتأمل لهذه الأرقام ومعناها، سيكتشف أن هناك معجزة حقيقية، ومصدرها، أن الشعب الذي بدأ حياته في الشتات في أسوأ الظروف، اقتصادياً وتعليمياً..، استطاع أن يتجاوز الواقع المرّ، وبسرعة استثنائية، أولاً عبر التعليم، الذي تواصل في عقد الخمسينيات- العقد الذي كان بالنسبة للأدب عقد البكاء والحنين والتفجع، ثم بتجاوز هذه الحالة في مطلع عقد الستينيات، حيث تغيرت النبرة، وتفتّحت الحياة في أعمال غسان كنفاني وشعر المقاومة، وصولاً إلى ما بعده من عقود بات الأدب الفلسطيني فيها مكوناً فاعلاً وأساسياً في الثقافة العربية على المستوى الفني وعلى مستوى الانتشار.
وما جاء في دراسة شقير حول الرواية، ينطبق تماماً على ما حدث في مجال السينما، فقد كان الوعي بالسينما وأهميتها في تلك الدعوة التي نشرت كإعلان في منتصف الثلاثينيات، للاكتتاب في أسهم (شركة السينما العربية المحدودة) المسجلة بموجب قانون الشركات لسنة1992، وهي أول مشروع من نوعه في حيفا، برأسمال خمسة آلاف سهم، قيمة السهم جنيه فلسطيني! إشارة مهمة لقوة الحياة، رغم أن سنوات ما قبل النكبة لم تنتج فيها سوى أفلام قليلة جداً، بسب الحالة السائدة في فلسطين، وللصعوبة التي يواجهها منتجو الأفلام، عموماً، إذا ما قورن عملهم بالكتّاب والرسامين، ولكن السينما الفلسطينية ظلت في نمو مستمر، وشهدت سنوات ما بعد النكبة تصاعداً في الإنتاج، سواء ذلك الذي قدّمه الأفراد أو القطاع الخاص، أو ذلك الذي ظهر عبر مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ثم ما لبث أن تطوّر أكثر فأكثر، وفق المقاييس العالمية للإنتاج السينمائي؛ وبذلك ظهر مخرجون وممثلات وممثلون باتوا مكوناً أساسياً لتنوع السينما العربية والدراما، فحصدوا العديد من الجوائز العربية والعالمية وساهموا في إخراج أفلام داخل العالم العربي وخارجه، كما ساهم مخرجون وفنانون عرب: عراقيون، مصريون، سوريون، لبنانيون، أردنيون وسواهم في إخراج أفلام فلسطينية. ومن تتاح له الفرصة للمشاركة في مهرجانات السينما الوثائقية، بشكل خاص، العربية والعالمية، سيرى كمًّا من الأفلام الفلسطينية، ينتج سنوياً، يكاد يفوق كثيراً من السينمات الوثائقية في كثير من الدول العربية.
ليس الفن التشكيلي الفلسطيني بعيداً عن هذا، ففي دراسة يعمل عليها الفنان والناقد حسين نشوان عن الفنانين الفلسطينيين الذين رسموا القدس، ولم تُنشر بعد، توصل إلى أن هناك 40 فناناً فلسطينياً رسموا المدينة قبل النكبة، وأن من رسموها بعد النكبة يتجاوز عددهم 200 فنان، وهو يقدر أن عدد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين يفوق الألف. والأمر نفسه ينطبق على الشعراء والقصاصين والنقاد والمصورين… كما يمكن أن نلاحظ هذا النمو الاستثنائي في المجال الأكاديمي والطبي والعلمي والتاريخي، في داخل العالم العربي وخارجه، ومن يكتبون بلغات أخرى، أو تطورت أعمالهم الفنية وأدواتهم في ثقافات أخرى.
البيانات الموثقة التي أصدرها جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني تقول: إن القوات الإسرائيلية سيطرت خلال النكبة على 774 قرية ومدينة، ودمرت 531 قرية ومدينة، كما اقترفت أكثر من 70 مذبحة ومجزرة وأدت إلى استشهاد ما يزيد على 15 ألف فلسطيني. وهذا كله في نطاق سياسة المحو التي مارسها الصهاينة، لكن المركز قدر عدد الفلسطينيين في العالم نهاية عام 2016 بحوالي 12.70 مليون نسمة، وهذا يعني أن عددهم تضاعف 9.1 مرة منذ النكبة 1948.
إذا كان ما (قبل الشتات) هو جذور الحياة التي رفضت أن تذبل رغم الهجمة الصهيونية الاستعمارية، فإن ما (بعد الشتات) هذا هو شجرة الحياة ومعجزة شعب لا يستطيع أن يموت.
ما بعد الشتات، كتاب مفتوح، مطلعه ماض حيّ، ومساره مستقبل لا يتوقف عن تحليقه نحو الجمال والحرية.
وبعد:
كانت الزعيمة الصهيونية جولدا مائير تقول دائماً: لم يكن هنالك شيء اسمه الفلسطينيون.. إنهم لم يوجدوا مطلقاً!
ما الذي ستقوله الآن؟!