مخلوقات افتراضية
آية الاتاسي
عالم «الفيسبوك» وإذا أردنا الترجمة الحرفية «كتاب الوجوه»، هو عالم الوهم الأزرق حيث الوجوه معدَّلة في ما يشبه برامج الفوتوشوب، وجوه تشبه أصحابها، ولكن كأنها موضوعة أمام عدسة سحرية تضخم المحاسن وتخفي العيوب وتظهر أصحابها كما يريدون لنا أن نراهم لا كما هم حقيقة.
وجوه غالباً مثبتة على لحظة فرح حقيقية أو ابتسامة مصطنعة للكاميرا، فلا شعر مشعث ولا روائح كريهة ولا وجوه شاحبة بلا مساحيق تجميل ولا ثياب رثة، هنا يبدو الشخص بأبهى حلله على طريقة شركات التسويق والدعاية.
ففي حين يتغير مزاج الإنسان وتظهر عليه أحياناً علامات الأرق أو التعب، تبقى صورته في العالم الافتراضي نضرة ومبتسمة، ينظر لنفسه في صورة البروفايل الشخصية الضاحكة ثم ينظر لوجهه الكئيب في المرآة، ويشعر أنه أمام وجه غريب، كما لو كان في حالة فصام نفسي، فعلى الرغم من أن العالم الافتراضي هو عالم موازٍ للعالم الحقيقي ونسخة مصغرة ومعدلة عنه، ولكن الخطورة فيه هي عندما يحدث انزياح في الأدوار فتصبح الحياة خارج «الفيسبوك» وهما وداخله حقيقة، ويتحول الإنسان إلى مريض افتراضياً لكن بعوارض حقيقية…
يطلق عادة على تصفح الإنترنت بالإنكليزي «ركوب الأمواج»، ولكن تصفح «الفيسبوك» هو أقرب ما يكون إلى التجول في الشارع، فهو مجال عام ومفتوح يلتقي فيه الإنسان بغرباء أو أصدقاء وقد يتعرض للتحرش والمضايقة وقد تنشأ من خلاله صداقة أو عداوة وربما حب أيضاً…
الصداقة الافتراضية
الصداقة في العالم الأزرق سريعة، حيث تكفي كبسة زر ليصبح الغريب والبعيد صديقاً، يحق له مشاهدة صورك وقراءة أفكارك والتعليق عليها أيضا، ولكنها صداقة وهمية فقد يكون للشخص آلاف الأصدقاء الافتراضين ولكنه في الواقع شديد الوحدة يحصي الأصدقاء الوهميين ولا يجد كتفاً حقيقياً يحمل حزنه ولا موجة كهربائية قادرة على نقل حشرجة بكائه.
في العالم الافتراضي هناك أيضاً مجموعات وشلل كما في الحياة، وقد ظهر مؤخراُ مصطلح جديد هو «أقبية الصدى»، والمقصود به هو المجموعات التي يتشابه أعضاؤها في الأفكار والتوجهات، فينتمي الإنسان لجماعة تعكس صوته وتكون له الصدى، أي بشر آخرين يشبهونه ويجد لديهم ما يثبت أفكاره ويبعده عن المواجهة مع الآخر المختلف ويجنبه النقاشات الحادة التي يحتاجها العقل أحياناً ليعيد ترتيب الأفكار والمسلمات…
وعادة ما تكون الصداقة الافتراضية غير مستقرة، قد ينهيها تعليق مستفز أو رأي مغاير وتنتهي بكبسة زر تماماً كما بدأت، حيث الحوار المكتوب غالباً ما يزيد من سوء الفهم، فالكلمة جافة بلا نظرة العين وحادة بلا نبرة الصوت، وتتحول شاشة الكمبيوتر إلى درع يحتمي وراءه الشخص ويمنحه قوة، قد لا يمتلكها فيما لو كان وجهاً لوجه أمام محاوره…
وفي نهاية المطاف تتحول النقاشات الافتراضية إلى مرآة محطمة تظهر بشاعة الأشخاص وتسقط عنهم ورقة التوت الأخيرة.
الحب الافتراضي
قديماً كانت التفاحة المقضومة مرسال القبل بين العشاق، اليوم صارت التفاحة المقضومة رمزاً تجارياً لكمبيوتر بات يستخدم ايضاً كوسيلة تواصل بين العشاق… ولكن هل الحب في زمن التواصل الافتراضي تواصل في الحب حقاً، حيث لا رائحة لورق الرسائل ولا بصمة للخط ولا صدى للكلمة ولا طعم للقبلة ولا أثر للمسة؟ الجواب قد يكون بسؤال آخر: أليس الحب أيضاً خيال واستعارة ومجاز؟
كما قال درويش:
هي لا تحبك أنت يعجبها مجازك
أنت شاعرها وهذا كل ما في الأمر
يبدأ الحب الافتراضي بصورة فكلمة فابتسامة فلقاء، وهنا قد تكون نهايته… فالاستعارة والخيال يتحولان إلى واقع ملموس، ويجد العاشقان الافتراضيان نفسيهما وجهاً لوجه أمام الحقيقة العارية، فهي الآن أمامه لا صورتها، وصوته يرن في أذنها لا كلماته المكتوبة، لا ضوء أخضر يضيء ليدلها على وجوده على الطرف الآخر، هو الآن على بعد خطوة منها تسمع أنفاسه وتشم رائحة جلده…
قد تتطابق الصورة مع الواقع، ويتتـــبع القلب أثـــر الحبــــيب، وقد تكون المسافة بين الحقيقة والخيال واسعة إلى حد يعجز فيها القلب عن المضي قدماً في المغامرة…
فشل اللقاء الحقيقي يعني نهاية الحب الافتراضي، والتي غالباً ما تكون بقتل العشيق لمعشوقه برصاصة الحظر الرقمية، رصاصة تدفن العشيق افتراضياً وهو حي يرزق.
الكآبة الافتراضية
في لقاء مع الكاتبة الألمانية كاتي كغاوسة، التي كانت مصابة بالاكتئاب، قالت إن العالم الافتراضي زاد من معاناتها، ووصفت مواقع التواصل الاجتماعي للمكتئبين كما السكر للمصابين بمرض السكري، وقالت: «كنت لا أستطيع إنهاء قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم حتى النهاية، الفراغ كنت أقضيه بالفرجة الافتراضية وكنت عاجزة عن الخروج كما لو أن حبلاً شيطانياً يشدني وأنا بلا مقاومة».
حال كاتي يشبه حال الكثيرين، من الذين يصابون بالاكتئاب والإدمان الافتراضين، فصور الأصدقاء المبتسمة وأفراحهم من جهة وصور الأشلاء والموت المترصد على الجهة الأخرى تصيبهم بالعجز واليأس.. فلا هم قادرون على الفرح والحياة كهؤلاء ولا هم قادرون على الموت كأولئك، هم مشاهدون سلبيون للحياة، يرونها تجري كنهر أزرق محايد من خلال نوافذهم الافتراضية.
العالم الافتراضي ماله وما عليه
لنعترف بداية بأن العالم الافتراضي قد فرض وجوده علينا جميعاً، ولنعترف بأن تعريف الأمية اليوم أصبح مرتبطاً بالقدرة على التواصل الرقمي أو عدمه، ومع ذلك علينا رغم ذلك أن ندرك الحجم الفعلي للأنا الرقمية ولا نجعلها تتعدى الأنا الفعلية وتحتل مكانها. اليوم أصبحنا في زمن الإنسان الثنائي الذاكرة والثلاثي الأعين، فكل منا يمتلك هاتفه الشخصي بذاكرته الرقمية، وبكاميرته التي أصبحنا نرى العالم من خلالها وكأنها عين ثالثة. وصار طبيعياً في جلسات الأصدقاء أن يسارع كل شخص إلى وضع هاتفه أمامه وكأنه يرمي سلاحه، يجالس الآخرين ويسترق نظرة جانبية لهاتفه بين حديث وآخر، من مبدأ: أنا هنا ولكنني هناك أيضاً. وكأن اللحظات الجميلة لا نعيشها إن لم يلتقطها هاتفنا الذكي ويسجلها، من مبدأ: أنا التقطت اللحظة إذن أنا عشتها.
أتخيل أحياناً أن شخصاً من زمن غابر سيزور عالمنا اليوم لا شك أنه سيصاب بالذهول ويظن أن البشر فقدت عقولها، فهم يغمزون ويبتسمون لصورتهم الذاتية «السيلفي» في هواتفهم، يتكلمون مع الآخرين وكأنهم يكلمون أنفسهم ويضعون السماعات في أذانهم، يصطدمون ببعضهم وقد اعتادوا السير منكسي الرؤوس وعيونهم معلقة بهواتفهم…
إنه عالمنا الافتراضي المجنون الذي نعيش فيه اليوم، ولكن رغم ذلك لا نستطيع إنكار أن مواقع التواصل الاجتماعي قد خلقت ديمقراطية المعلومات، فكل شخص يحق له التعبير عن آرائه ونشر أفكاره بدون موافقة مسبقة من رئيس التحرير أو بدون مراعاة لسياسة جريدة أو مؤسسة إعلامية. الجميع يقرأ ويكتب، بدون أن يرقى ما يُكتب ويُقرأ إلى مرتبة الأدب، فالأدب الحقيقي يكتب على صفحات الكتب وغالبا يشبه ما نتلقفه على صفحات «الفيسبوك» الثقافة السريعة «التيك أوي» التي لا تشبع حقاً نهم متذوقي الأدب والشعر والثقافة بشكل عام.
ومن أهم ميزات العالم الافتراضي أنه عالم بلا حدود، فالمسافات تصبح بزمن الثانية، والأفكار لا ضريبة عليها ولا مقص رقيب، وعقد الاجتماعات والمؤتمرات صار متاحاً حتى لو كان المشاركون فيها منتشرون في جهات العالم الأربع… وكثيراً ما تكون لبعض المواقع الافتراضية أسبقية على نشرات الأخبار في نقل آخر التطورات والأحداث من الأماكن الساخنة في العالم، وكأن العالم حقاً صار قرية صغيرة ونحن مخلوقاتها الافتراضية…صحيح أنه لم يعد باستطاعة شخص عاقل تجاهل الثورة المعلوماتية والعالم الموازي الذي نتج عنها، ولكن التحدي الأكبر يبقى في احتفاظنا بإنسانيتنا وعدم تحولنا إلى مخلوقات آلية مبرمجة، وليبق القلب يخفق لا العقل وحده يفكر.
مؤخراُ استوقفني سؤال بات يطرح علينا كمستخدمين، كنوع من الحماية لبعض المواقع من الاختراق والقرصنة:
هل أنت رجل آلي «روبرت»؟
بداية كنت أبتسم وأنا أجيب بالنفي، ولكنني الآن أصبحت حريصة حقاً ألا أركب موجة رقمية تسحبني بعيداً عن الواقع وتحولني إلى «مخلوقة آلية»…
سأعترف بأنني أصبحت آخذ إجازة من العالم الافتراضي وأقفل حسابي الشخصي فيه، وأستمتع بفسحة الحرية والهدوء التي أشعر بها بعيداً عن ذبذبات الأجهزة الإلكترونية، وأجد نفسي فجأة أمتلك متسعاً من الوقت لقراءة كتاب أو الذهاب في نزهة بعيدة أو حضور أمسية شعرية.
ولكن كما هي الإجازات عادة لا تدوم طويلاً، أجدني غالباً أعود وأستجمع بقلق كلمة السر، وأنا خائفة من فكرة نسيانها، وكأنني بفقدانها ربما سأفقد نفسي الأخرى الرقمية. وكأن كبسة زر صغيرة قد تسقط العالم بلحظة، عالم المخلوقات الافتراضية، وينتهي كل شيء.
٭ كاتبة سورية