ألفـة مع الموت؟
محمد كريشان
أرجوك غيرّ محطة التلفزيون!!- ـ دعنا نرى ما يجري…. ـ أرجوك غيّر المحطة.. لا..لا.. لم يعد بمقدوري أن أتحمل أكثر… ـ لكن اليوم هناك… ـ لم أعد أتحمل كل هذه الصور، قلبي يتفطر…الشاشة تأبى أن تكون إلا حمراء، دماء وخراب في كل مكان. قصف للأسواق في سوريا، جثث أطفال ونساء وشيوخ ملقاة على الأرصفة والطرقات، طفل يحاولون إخراجه من تحت الأنقاض، أشلاء متناثرة بعد عملية انتحارية في بغداد أو سيارة مفخخة أمام أحد مساجدها، ضحايا آخرون في اليمن كأن الفاقة وحدها لم تكفهم، مدن بكاملها محاصرة وناسها يتضورون جوعا ويرتعشون خوفا….. يكفي!!
كم مرة سمع الواحد فينا هذا الكلام عند أقاربه أو أصدقائه أو حتى في بيته، بل كم مرة قد يكون هو نفسه قائله؟ وإذا كان هذا هو الحال قبل شهر رمضان الكريم، فإنه الآن لا يقال أصلا لهروب الجميع بعيدا عن نكد الأخبار. لم يعد يهم كثيرا ما يجري في الفلوجة أو حلب أو تعز أو غيرها من المدن، على فرض أنه كان يهم قبلها، المهم الآن متابعة هذه المسلسلات، وبعضه موغل في كشف كل ما هو منحل ومسف في مجتمعاتنا بدعوى الواقعية، أوبرامج «الكاميرا الخفية» وقليل جدا منها الطريف أو المسلي. الكل يحاول الهروب، أو يتصنعه بحثا عن ابتسامة ولو عابرة.
هل يجوز لوم من يفعل ذلك؟ وهل من حق أي كان أصلا أن يفرض على هذه الأسر العربية أن تتابع مسلسل الأخبار الدامية الذي لا يريد أن ينتهي؟ أو ليس لأي منا قدرة معينة على التحمل؟ ألم ينصح الكثيرَ من هؤلاء أطباءُ نفسيون دعوهم صراحة إلى الابتعاد عن كل هذه الضغوط وما يثيره عالم الأخبار من شجون وآلام وكوابيس؟!!
لهذا الوضع كذلك وجه آخر لا يقل مأسوية ووجعا، إنه التعوّد على القتل والمجازر والدماء والغارات والخراب والحصار والتفجيرات والتجويع، إلى درجة لم يعد يثير لدى أغلبنا ربما أكثر من زفرة تحسر. حتى الدمعة صارت عصية، بل وحتى الحزن نفسه صار مملا بعد كل سنوات الموت هذه بلا بارقة أمل قريبة فالموت لا يحمل إلا بالمزيد منه وكذلك الخراب. بات المواطن العربي أمام أحد احتمالين إما إشاحة الوجه على ما يجري وكأنه لا يعنيه، أو التعود عليه وكأنه لا يعنيه أيضا!!. في الحالتين حسرة مكتومة لا تقدم ولا تأخر في النهاية، خاصة وأن هذا المواطن العربي الذي لا أحد يشك في عمق وصدق مشاعر تضامنه، وهو من كان في السابق يخرج متظاهرا في الشوارع لأجلها، بات هو نفسه مغلوبا على أمره أكثر من ذي قبل، إنه ضحية هو الآخر، ضحية من نوع مختلف، ضحية الاستبداد والفساد والكذب والنفاق والمرض والغلاء وانحدار الخدمات وضحالة المسؤولين وتفاهة معارضيهم.
آخرون في هذا المشهد لا يقلون بؤسا، إنهم العاملون في الحقل الإعلامي، هؤلاء المجبرون على التعاطي مع كل هذا الموت وجبة يومية لا مفر من إعدادها. إن هم واظبوا عليها، اُتهموا بالتنكيد على الناس، وإن هم تجاهلوها سقطوا في فخ إغفال الواقع. لا أحد يدري هنا من على حق: إعلام عربي يبدو وكأن لا هم له سوى البحث عن جنائز ليشبع فيها لطما، أم إعلام أجنبي عادة ما يمر على أحداث الدم في منطقتنا هذه فلا يتوقف عندها كثيرا. الأول شاشته حمراء قانية والثاني يسعى لتلافي ذلك باستمرار، هذا يقول إن لا ذنب له إن كان الواقع بلون الدم والثاني يقول إن هناك كرامة للضحايا وجب احترامها. الصحافيون هنا تحولوا، مع مرارات الواقع، إلى أشبه بمن يعمل في أقسام الطوارىء، وبصورة أكثر إيلاما، إلى أشبه من يعمل حانوتيا أو حفارا للقبور، أما زملاؤهم في الضفة الأخرى فحريصون على «نظافة» الشاشة رغم «قذارة» الواقع. الأوائل لا مشكلة لديهم في عرض صور الأشلاء في دمشق وحلب وبغداد والفلوجة إلى درجة لم تعد تهز كثيرا الناس لابتذالها، والآخرون يجتهدون في إخفائها لدواع يصفونها بالمهنية والأخلاقية إلى درجة يستحيل فيها أن ترى فيها لقطة واحدة من كل ذلك، بل ولا لقطة حتى لضحاياهم هم، أولئك الذين سقطوا في التفجيرات أو العمليات التي وقعت في بروكسيل أو باريس أو أورنالدو مؤخرا. مرة أخرى، ترى من منهم على حق!؟
٭ كاتب وإعلامي تونسي