ليس كل شيء مشمولاً
ميزان الايجابيات والسلبيات والمكاسب والمخاطر في اتفاق المصالحة بين إسرائيل وتركيا
سمدار بيري
Jun-25
يوم الجمعة الماضي نزلت إلى طاولة رئيس الوزراء نتنياهو في القدس رسالة من نظيره التركي حديث العهد في أنقرة، بن علي يلدريم. وكتب رئيس الوزراء التركي يقول: «نحن نصل إلى النقطة التي يعبر فيها الطرفان عن ارادة مصممة على التصالح». ويضيف بان «الاتصالات تجري في هذه اللحظات تماما ولم ينهِ الطرفان العمل بعد. ولكن هذا لن يستغرق زمنا طويلا. الاهم هو رفع الحصار عن غزة، لاسباب انسانية». ويلدريم، الذي تسلم مهام منصبه منذ اقل من شهر وكان وزير المواصلات السابق، معروف بأنه الرجل الأكثر طاعة وولاء في محيط الرئيس اردوغان. فهو لم يصغ، ولم يبعث الرسالة بناء على رأيه وقد أبقى عن قصد موضوع غزة في مسافة فرار في اللحظة الاخيرة.
ومن هنا تدحرجت الامور بسرعة: ظهر يوم الثلاثاء نشرت صحيفة «حريات» عنوانا عن الجدول الزمني للمصالحة المقتربة. واول أمس، وافق رئيس الفريق التركي المفاوض فريدون سينيرلولو على أن يؤكد لي بان الاعلان عن التوصل إلى اتفاق مصالحة بين إسرائيل وتركيا سيصدر يوم الاحد القادم، «ولكن هذا لن يكون بيانا عن اعادة السفيرين إلى أنقرة وتل ابيب»، كما اراد التدقيق. كما ادعى سينيرلولو ايضا بانه لا يعرف متى، اين وفي اي ظروف ستنشر الاعلانات ـ المتزامنة في تركيا وفي إسرائيل، هل في إحدى العواصم الاوروبية او ان يكتفي الطرفان بنشر نص متفق عليه إلى وكالات الانباء. وبالمقابل، قرر وزير الخارجية التركي، مبلوط كابوسوغلو المماطلة المقصودة وفضل البقاء حذرا ومتحفظا إذ اوضح قائلا ان «مطالبنا بسيطة وسهلة على التنفيذ. ولكن وتيرة تنفيذ الصفقة ستبقى متعلقة، حتى اللحظة الاخيرة، بمواقف إسرائيل».
بدا سينيرلولو منضغطا وكانت اقواله قصيرة وجوهرية. فلم يرغب من أن تفلت منه كلمة زائدة، وأعلن «نحن لم ننه العمل بعد. فالعمل على الاتفاقات سيستمر حتى اللحظة الاخيرة». بعد ثلاثة اسابيع، وبعد أن تنتهي احتفالات شهر رمضان سيقف، إلى جانب مدير عام وزارة الخارجية دوري غولد وشريكه في المفاوضات يوسي تشخنوبر، في أنقرة أغلب الظن، ليعرض تفاصيل الاتفاق الذي ينهي ست سنوات من العداء والقطيعة شبه التامة للعلاقات الرسمية. وسيكون مشوقا الكشف عن شبكة العلاقات التي نسجت بين تشخنوبر وسينيرلولو، الجنتلمانيين من سافيون وأنقرة. خمس سنوات من الاتصالات المكوكية من خلال الابواب المؤصدة لا تذهب هباء. وهذا الثنائي حذر من امتداح الواحد الاخر. وقد يكون هذا خطيرا جدا.
ولكن سينيرلولو هو مجرد العامل الذي كلف بالقيام بالعمل الاسود. فاتفاق المصالحة مع تركيا ولد وصمم، حسب الارتفاعات والانخفاضات في مزاج اردوغان، مناوراته في الشؤون الداخلية والحراكات في المصالح الدولية للدولة. وفي الجانب الإسرائيلي ايضا سجلت انعطافة حادة: فلثلاث سنوات ضغطت إسرائيل للوصول إلى اتفاق بل ان رئيس الوزراء نتنياهو وافق على أن يتفوه «بـأقوال آسفة» (وليس اعتذارا، مثلما طلب اردوغان) على موت تسعة مواطنين أتراك ومواطن أمريكي ـ تركي في الصدام مع جنود الجيش الإسرائيلي على دكة مرمرة، التي صدت في ايار 2010 وهي في طريقها إلى غزة. كما ان إسرائيل وافقت على دفع 21 مليون دولار لـ «صندوق تعويضات» تأسس من أجل عائلات القتلى. عمليا، كان يمكن الاعلان عن الاتفاق واعادة السفيرين حتى قبل ثلاث سنوات. وعندها أدخل اردوغان «عنزة» غزة إلى المفاوضات. فكلما لاحظ الحماسة الإسرائيلية هكذا ازدادت عنده الشهية للخروج بطلا في العالم العربي ومنقذا لقيادة حماس عنده في الداخل. «افهموا»، يقول الصحافي التركي سليم نشبان، «فالتضامن العاطفي من اردوغان مع حركة حماس في غزة لا ينبع من دوافع انسانية. واردوغان هو في الواقع حماس. وتضامنه مع حركة الاخوان المسلمين في مصر عميق وحقيقي. ايديولوجيتهم هي فكره».
هكذا طرح اردوغان مطلب رفع الحصار عن القطاع كشرط ثالث لاتفاق المصالحة، أعلن بانه يعتزم الوصول بنفسه إلى غزة ورفض بعناد اغلاق مكاتب حماس في تركيا. وتفككت المفاوضات وعاد الوسطاء إلى الديار. وحذرت الاوراق الاستخبارية من أنه «طالما كان اردوغان رئيسا للوزراء (وقد كتب هذا قبل أن ينتخب اردوغان رئيسا لتركيا) فلا أمل في الوصول إلى تسوية». وحذرت الاستخبارات من أنه «حتى لو تحققت تسوية فانها لن تصمد إلا حتى انفجار الغضب التالي من جانب اردوغان».
الحوت الذي في الغرفة
وعليه، فماذا تغير؟ «في مرحلة معينة صحوتم»، يقول سوعات كينيكيولو، الذي انسحب بطرقة باب من حزب اردوغان وأسس معهدا لبحوث الشرق الاوسط في أنقرة «في اللحظة التي اشارت فيها إسرائيل إلى اردوغان بانها لم تعد تعتزم الركض وراءه او مغازلته، أمسك بالخيوط واصدر ضوء اخضر واطلق اشارات إلى القدس بانه مصمم على الوصول إلى اتفاف».
اما د. يوسف شفاكي، الاقتصادي والمستشار في شؤون الطاقة، فمستعد لان يقسم بان نتنياهو تغلب على نفوره من اردوغان بسبب صفقات الغاز الطبيعي. «فمع اكتشاف مخزونات الغاز في حقل لافيتان (حوت)، فإن إسرائيل باتت تستعد للحفر وللبيع.
فالحديث يدور عن ارباح بمقدار مئات مليارات الدولارات وإسرائيل بحاجة إلى السوق التركي. وحسب المعلومات لدينا فان إسرائيل ملزمة بالحفاظ على علاقات سليمة مع تركيا كي تمرر عبرها انبوب الغاز الذي سيصل، ان شاء الله، إلى الاسواق في أوروبا. وبدون المحطة في تركيا سيتبخر الغاز، مثلما ستتبخر المليارات».
وفي اذار شوهد وزير الدفاع يوفال شتاينتس في واشنطن وهو يتحدث مع اردوغان. وفي تركيا بالذات سارعوا إلى تعريف الحديث بينهما بانه «هام» و «ايجابي على نحو خاص» وقدروا بان الرجلين «وضعا الاساسات لتمرير انابيب الغاز».
مصر، الضلع الثالث في صفقات الغاز المخطط لها وفي اتفاق المصالحة المقترب، توجد في مكانة الغائب ـ الحاضر «افترض أنه بفضل علاقاتكم الممتازة مع مصر، حرص رئيس الوزراء نتنياهو على نقل رسائل مهدئة ومؤيدة للرئيس السيسي»، كما يقدر السياسي السابق والاكاديمي في الحاضر، سوعاد كينيكيولو الذي شارك الاسبوع الماضي في مؤتمر هرتسيليا. «السيسي يوجد في وضع غير مريح: من جهة يطارد حركة الاخوان المسلمين في مصر ويكافح ضد الذراع العسكري لحماس، والان حليفه الإسرائيلي يتصالح مع اردوغان، سيد الإسلاميين والخصم اللدود للسيسي. وأنا اسمح لنفسي بان اخمن بانه يجري بينكم وبين اجهزة السيسي حوار تنسيق، تمهيدا لتطبيع العلاقات مع تركيا».
بعد الاختراق، إذ بدا لاردوغان بان اتفاق المصالحة يصعد إلى الطريق السليم، استدعى اليه خالد مشعل. واطلع مشعل الذي يحمل ايضا جواز سفر تركيا على المفاوضات وتقدم بقائمة مطالب. ميناء بحري في غزة، توسيع مجال العمل البحري للصيادي، رفع الحصار، توسيع قائمة البضائع التي تدخل إلى القطاع، مستشفى جديد (بتمويل الماني ـ تركي)، تحسين البنى التحتية، بناء احياء سكنية لسكان المناطق التي هدمت في حملة الجرف الصامد. وطلب مشعل طرح موضوعين آخرين على طاولة المفاوضات: اقامة محطة كهربائية تعفي حماس من العلاقة غير المباشرة مع إسرائيل والرفض التام للمطلب الإسرائيلي الصارم لاغلاق مكاتب حماس في تركيا.
«لا يوجد اي احتمال في العالم في ان يغلق اردوغان مكاتب حماس»، تقول الصحافية الكبيرة تولين دلغلولو. «إسرائيل ستضطر إلى التسليم والابتلاع». وفي الغداة أكد وزير الخارجية التركي مبلوط كبوسوغلو اقوالها. «سنواصل عقد الاتصالات مع حماس ولن نغلق مكاتبها عندنا»، قال بالقطع، «احد لن يتدخل في علاقاتنا مع حماس، التي تستهدف الوصول إلى سلام مستقر. فبدون حماس لن يقوم سلام يمكن ان يصمد».
وفي خلف الكواليس يوجد أيضا صلاح العاروري، الإرهابي من حماس الذي نظم دون إذن من مشعل واسماعيل هنية لخطف الفتيان الثلاثة في غوش عصيون، كما خطط لعمليات اخرى احبطت معظمها لحسن الحظ. فقد أخذت إسرائيل العاروري من السجن في ذروة اتصالات لتحرير جلعاد شاليط ورفضت السماح له بالانتقال إلى غزة. فوصل إلى تركيا. حصل على مكاتب واقام لنفسه «منظمة» تتماثل مع حماس ولكنها لا تطيعها مئة في المئة.
قبل تسعة اشهر اختفت آثار العاروري دفعة واحدة وهو يسعى الان للعودة إلى تركيا. وهنا يمكن أن نلاحظ توافقا ـ ليس الاول ـ بين نتنياهو ومحافل الامن وبين مشعل والاذرع العسكرية لحماس: كلا الطرفين معنيان بازاحة العاروري وعرقلة مخططاته العنيفة. ورغم التصريحات الصادرة من غزة، فحماس غير معنية بتكرار اختطاف مدنيين او جنود يكلفها ثمنا باهظا. وهكذا، فان العاروري الذي رفض في دول عربية، يتراوح اليوم بين قطر والسودان. ويمكن التخمين في أنه كلما تلقى تقريرا عن تصفية خفية، يعرف بان اسمه يلعب دور نجم في مكان عال كالتالي في الطابور.
ويجمل كينيكيولو فيقول: «اعتقد ان الطرفين حضرا نفسيهما للتسوية. وفي الايام القادمة سيكشف النقاب عن هوية السفيرين اللذين سيعودان إلى المكتبين في تل ابيب وفي أنقرة. ومع وصولهما سيكون مزيد من الحوار وسيعاد تصميم صيغة العلاقات والاتصالات بين الاجهزة ومنظومات الامن عندنا وعندهم».
المرحلة التالية: ثورة
في الجانب التركي صعب جدا ان نجد حماسة او احساسا بالخفة في الاوساط الثقافية، بين رجال الاعمال ووسائل الإعلام. وحتى في الطبقة الوسطى والدنيا ايضا، التي صوتت للحزب الإسلامي الحاكم، لن يهتفوا للتسوية التي ستعيد عشرات الاف السياح الإسرائيليين. «انا لا افهم ماذا سيضيف لكم العلم التركي الذي سيرفع فوق كرسي السفير في تل أبيب واي قيمة اضافية ستكون لتعيين سفير إسرائيلي في انقرة»، يقول لي البروفيسور عليان بودرغوت من دائرة العلوم السياسية في جامعة أنقرة.
وبالتوازي من الصعب ايضا انتزاع انتقاد على «جنيكيز خان التركي» ـ اللقب الجديد لاردوغان ـ ينشر بهوية المنتقد الكاملة. اردوغان ينتقم، يمقت ويطارد منتقديه، والمصالحة مع إسرائيل يفترض أن تساعده في التركيز على خططه التالية: عرض دستور جديد. «من يتابعه يمكنه أن يلاحظ كم هاما له اغلاق الملف الإسرائيلي وانهاء القضية كي يتمكن من التفرغ لعرض الدستور الجديد الذي سيصمم وجه تركيا»، يقول احد المثقفين البارزين في اسطنبول.
«اذا ما تأكدت مخاوفي وصعدت تركيا إلى مسار ديني إسلامي، فليس لي ما ابحث عنه هنا».
«بعلمكم أم بغير علمكم ـ فانكم تساعدون الان اردوغان وتعظمونه في الساحة الداخلية»، يقول شايرية، مستشار سياسي وباحث كبير في احدى الجامعات، والذي يدعي بان نتنياهو كان ينبغي له أن ينتظر وان يؤجل الاتفاق حتى نهاية الصيف. «هذا الاتفاق يعزز قوته ومكانته ويترك له زمنا للانشغال في اعادة تصميم وجه الحكم ووجه الجمهورية التركية. ليس مؤكدا ان إسرائيل ترغب في أن توقع على الاتفاق مع حكم دكتاتور إسلامي».
ليس لاحد اي فكرة عما أدخله اردوغان إلى الدستور، إذا كانت تركيا العلمانية في تعريفها ستصبح بالفعل دولة شريعة إسلامية وماذات سيكون مصير ملايين العلمانيين. «حسب خريطة الطريق التي رسمها بعناية، نظم اردوغان لنفسه الرئاسة، أبعد رئيس الوزراء أحمد داود اوغلو الذي حاول اقامة مركز قوة منافس وادخل إلى السجون كل من فتح فمه وتفوه ضده»، كما يشرح شايرية. «والان تجده يدير الدولة دون أن يزعجه احد، من داخل قصر يخرق العيون، يتكون من الف غرف وغرفة». الاكاديمي القديم، والذي كان في الماضي عضوا في حزب اردوغان، يعلن بانه يبحث لنفسه عن عمل في احد معاهد البحث في واشنطن، «قبل ان يزجوا بي أنا ايضا في السجن».
«عندما تقاس المخاطر مقابل الفضائل، فان تركيا لا تخاطر في ثورة العلاقات مع إسرائيل»، يقول كينيكيولو. «بالعكس، سياحكم سيعودون وهذا سيكون فائضا جميلا لالاقتصاد التركي. كما ان المصالح ستخدم اردوغان في تحقيق الشرعية في اروقة الحكم في واشنطن. اردوغان بالتأكيد يتوقع ان تساعده إسرائيل عندما ينتخب الرئيس الأمريكي الجديد. اضافة إلى ذلك فان المصالحة يمكنها أن تساعد تركيا للخروج من العزلة في أوروبا. وتتابع تركيا العلاقات الخاصة التي تنسج بين نتنياهو وبوتين وستصل المرحلة التي يتوقع فيها اردوغان المساعدة الإسرائيلية في أزمة العلاقات التركية مع موسكو.
«بالمقابل فاني بالتأكيد الاحظ المخاطر على إسرائيل»، كما يحذر. «اذا جرت جولة عسكرية اخرى في غزة، فسيثور توتر فوري مع تركيا من شأنه أن يعيد العلاقات إلى وضع الازمة. كما أنه سيتعين على إسرائيل ان تفكر مطولا في طبيعة علاقاتها مع الاكراد. فاذا تبين في تركيا بان إسرائيل تساعد الاكراد، حتى لو كانت هذه مساعدة سرية، فان هذا سيعرض التسوية للخطر الفوري. فليس سريا بان الموضوع الكردي هو موضوع مشحون وحساس جدا في تركيا. ولا تنسوا أن لدى اردوغان فتيل قصير».
يديعوت 24/6/2016