“العرب والصين”..من طريق الحرير إلى مساءلة الإستراتيجية
عندما نتحدث عن العلاقات بين العرب والصين ،فإننا حتما لا نتحدث عن 10 أو 20 أو حتى 100 سنة ،لأن هذه العلاقات تضرب جذورها إلي قديم الزمان ،فقبل أكثر من 2000 عام ربط “طريق الحرير” القديم الصين بالدول العربية ربطا وثيقا وترك تراثا نفيسا يجسد مجد وروعة الحضارتين الصينية والعربية. ولبعد المسافة بينهما استعملت الصين مجازا للبعد والاستحالة والمشقة ،إذ حث رسولنا الكريم صل الله عليه وسلم صحابته على طلب العلم ولو في الصين. فهل استفدنا من حديثه عليه الصلاة والسلام، وكيف هي علاقتنا الآن مع الصين؟ كيف تطورت وما هي المراحل التي مرت بها؟ وما هي الاستراتيجية الصينية في المنطقة العربية وموقفها من قضية فلسطين ومن الثورات العربية والظواهر التي تعيشها المنطقة ومن دور القوى الكبرى في التعامل مع القضايا العربية.
تمثّل مبادرة “بناء الحزام والطريق” التي أطلقتها الصين عام 2013، لإحياء طريق الحرير القديمة وطريق الحرير البحرية، وتشغل المنطقة العربية حيزًا مهمًا في تنفيذها، مناسبةً للبحث في العلاقات العربية – الصينية في إطار تنويع الشراكات بين العرب والقوى الصاعدة في العالم، بدلًا من الاستمرار في الاعتماد المفرط على الغرب في مجالات سياسية واقتصادية وأمنية متنوعة.
طريق الحرير
وضمن سلسلة مؤتمرات “العرب والعالم” نظِّم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، يومي 21 و22 أيار/ مايو2016، مؤتمرًا أكاديميًا عن “العرب والصين: مستقبل العلاقة مع قوة صاعدة”. ويأتي اختيار موضوع العلاقات العربية – الصينية هذا العام لدراسة علاقة العرب بهذا العملاق الآسيوي الذي يتنامى الإحساس بحضوره وتأثيره في ظل تحولات إقليمية ودولية كبيرة. وفيما يبدو أنّ الجوانب الاقتصادية والتجارية تكاد تكون الصفة الغالبة على العلاقات العربية – الصينية حتى الآن، فإنّ ملامح أخرى جديدة بدأت تظهر في السنوات الأخيرة مع تزايد اعتماد الصين على مصادر الطاقة من نفط وغاز لرفد نموّها الاقتصادي المستمر، وذلك بالتزامن مع إعادة تموضع أميركي تجاه الصين والمنطقة العربية على السواء.
وحتى لا تبقى العلاقات الصينية العربية مجرد ذكرى ضمن مسار “طريق الحرير” فقد انكب أكثر من أربعين باحثًا متخصّصًا على تقديم أكثر من 30 ورقة بحثيّة 40 لدراسة أسس وآفاق ومستقبل هذه العلاقة.
ومنذ الجلسة الأولى التي خصصت لمحاولة فهم الإستراتيجية الصينية في الوطن العربي، أثارت الأوراق البحثية الأكاديمية التي قدّمها باحثون عرب وآخرون صينيون نقاشات مهمة في قاعة المؤتمر،بخصوص العديد من القضايا الإشكالية في هذه العلاقة بدءًا بالمكانة الفعلية التي يحتلها الوطن العربي في الإستراتيجية الصينية، وكيف أن الصين ظلت غائبة عن المنطقة، وحين أصبح لديها اهتمام أكبر وتدخل أوضح أثارت تدخلاتها استنكارا لدى العديد من شرائح الرأي العام العربي، خصوصا فيما تعلق بموقف الصين من الثورات العربية ومن الأزمة في سورية تحديدا. وقد أثار المشاركون في المؤتمر أيضا مسألة الخلل في العلاقة بين العرب والصين من الجهة العربية، إذ لا يدرك العرب ما الذي يريدونه من الصين.
“الثقب الأسود”
أبرزت الأوراق البحثية التي قدمت في المؤتمر أن المنطقة العربية لم تصبح ذات أهمية بارزة في الإستراتيجية الصينية إلا في وقت متأخر بعد أن أصبحت الصين قوة اقتصادية عظمى وتنامي طموحها التوسعي. وذكر الدكتور كاظم نعمة أن الوطن العربي ظل على الدوام “الثقب الأسود” في أوراق الإستراتيجية الصينية إلى غاية يناير 2016 تاريخ صدور أول وثيقة عن الحكومة الصينية تفصّل ما يمكن أن يوصف بالإستراتيجية الصينية تجاه الوطن العربي، مع أنها ظلت مبهمة وعمومية في العديد من عناصرها، وقد صدرت هذه الوثيقة بعنوان ” وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية”.
وفي تصريح لـ”إسلام أونلاين” نبه نعمة إلى عدد من الملاحظات بخصوص هذه الوثيقة التي يفترض أن نقرأ فيها نظرة الصين إلى الوطن العربي ونستشف منها ما تصبو الصين إلى تحقيقه في علاقتها بالدول العربية وكيف تتصور مستقبل هذه العلاقة. وأكد أن الوثيقة “تكشف التردد والارتباك الصيني في تحديد طبيعة الكتلة العربية، والناتجين أصلا من التفتت العربي في حد ذاته”. وأعاب المتحدث على الوثيقة أن الصين تخاطب فيها الحكومات العربية ولا تخاطب الشعوب، كما أنها تتحدث عن المصالح المشتركة والتعاون الاقتصادي وتهمل التعبير عن دعم حقوق الإنسان والديمقراطية.
من الجيواقتصاد إلى الجيوبولتيك
وأوضح الباحث رابح زغوني في ورقة بعنوان “الرؤية الصينية الجديدة للعالم: من الجيواقتصاد إلى الجيبوبولتيك”، أن علاقة الصين مع العالم العربي استمرت زمنًا طويلا في المنظور الصيني جيواقتصادية مرتبطة بكون المنطقة العربية أحد أهم مصادر النفط وسوقا نسبية الحجم للمنتجات الصينهية، غير أنها بدأت تتحول إلى طبيعة جيوبوليتيكية مع تنامي شراهة الصين للتموقع فاعلا رئيسا في المشهد الدولي مدعومة بالازدهار الاقتصادي الذي حققته.
وتلاقى طرح الدكتور زغوني مع طرح ديجانج صن (أستاذ في معهد أبحاث الشرق الأوسط في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية – الصين)، وكانت ورقته بعنوان “التواجد العسكري والإستراتيجية الصينية في الشرق الأوسط”. وأوضح ديجانج صن ،الذي يتحدث العربية بطلاقة مثله مثل كل الباحثين الذين شاركوا في المؤتمر، أن الوجود العسكري الناعم للصين في المنطقة العربية جاء لحماية مصالحها الاقتصادية الجغرافية، مثل الطاقة والاستثمار والتبادل التجاري. وقال لـ”إسلام أونلاين” أن الصين “لا ترغب في ملأ الفراغ الذي أحدثه استغناء الولايات المتحدة عن سياسة التدخل المباشر في الشرق الأوسط، غير أنها حريصة على التموقع عن طريق توليفة خاصة لا تعتمد على وجود عسكري دائم عبر قواعد عسكرية مثلا” وإنما من خلال وجود مرن يعتمد “استخداما ناعما للقوة الصلبة” ونموذجه التدخل في المياه الصومالية ضد عمليات القرصنة، وكذا المساهمة الكثيفة في قوات حفظ السلام الأممية في عدد من دول المنطقة.
استراتيجية القوة الناعمة
من جانبه، عدد الدكتور وو بنغ بنغ (كبير الزملاء الباحثين في معهد الدراسات الإستراتيجية والدولية في جامعة بكين) الأسس التي تقوم عليها السياسة الصينية تجاه الوطن العربي. وأوضح أن هذه السياسة تقوم على المصالح والمبادئ في الآن عينه. وتشمل مصالح الصين في العالم العربي المصلحة الإستراتيجية الهادفة إلى تعزيز التعاون مع دول رئيسة وتنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”؛ والمصلحة السياسية التي تقضي بالاضطلاع بدورٍ مسؤولٍ بوصفها قوّة رئيسة، وكذا المصلحة المتعلّقة بموضوع الطاقة، والمصلحة الاقتصادية التي تسعى لتسهيل التبادل التجاري والاستثمار؛ والمصلحة الأمنية بهدف التعاون لمواجهة التطرّف والقضاء عليه؛ وأخيرًا المصلحة الثقافية التي تكمن في تعزيز الحوار بين الحضارات والجمع بين التقاليد والحداثة. وقال وو بنغ بنغ في تصريح لـ”إسلام أونلاين” أن “السياسة الصينية تجاه العالم العربي تخضع لمبادئ أساسية مثل احترام السيادة وسلامة الأراضي وعدم التدخّل والسعي إلى إيجاد حلّ سياسي وسلمي للنزاعات”.
الخليج والصين والخروج من المحدد التجاري
وبشأن العلاقات الصينية – الخليجية، أشار تموثي نبلوك المتخصص في العلاقات الاقتصادية بين آسيا والخليج في ورقة بعنوان “موقع مجلس التعاون الخليجي من الدور الصيني المتحوّل في آسيا” إلى أن الصين أصبحت اليوم الشريك التجاري الثاني بعد الاتحاد الأوروبي مع دول مجلس التعاون الخليجي، ومن المرجح أن تتفوّق على الاتحاد الأوروبي خلال السنتين أو السنوات الثلاث المقبلة في هذا المجال. لكن الغموض لا يزال يكتنف عملية تكيّف مجلس التعاون الخليجي مع شبكة التعاون والتنسيق الأوسع التي تبنيها الصين في جميع أنحاء آسيا الوسطى والمحيط الهندي ضمن مبادرة “الطريق والحزام”. ورأى أنّ المشاريع الصينية الحالية المتعلقة بمبادرة الحزام الواحد والطريق الواحد ستتجاوز دول مجلس التعاون الخليجي. وقد لا تكون مسألة التهميش المحتملة لدول مجلس التعاون الخليجي ضمن تلك المبادرة، مسألة جوهرية؛ إذ يبقى التبادل الاقتصادي بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي إستراتيجيا. غير أنّ دول مجلس التعاون الخليجي قد تعاني خسارة سياسية إذا بقيت معزولة عن شبكة الاتصالات قيد الإنشاء.
وفي تحليله للعلاقات الصينية – السعودية، يؤكد الدكتور محمد السديري أن العديد من المعوقات تحول دون تجاوز العلاقة بين البلدين طابعها المحصور في التبادل التجاري، إلى اكتساب بعد أكثر إستراتيجيةً. ويرى أنّ أثر هذه المعوقات يفاقمه افتقار السعودية إلى فهمٍ عميقٍ للصين ولإجراءاتها السياسية. يُضاف إلى ذلك غياب أيّ استثمار مستدام في التعامل مع المؤسسات الأكاديمية والسياسية الصينية المهمّة، ما أدّى إلى نشر نقاشات ومحادثات مثيرة للجدل، والأهم من ذلك، أنها لا تخضع للمساءلة، وذلك على حساب مصالح دول الخليج البعيدة المدى.
وقدم الدكتور حسن علي عميد كلية الإدارة العامة واقتصاديات التنمية في معهد الدوحة مقارنة مهمة لاستخدام نموذج “العرض غير المحدود للعمل” بين التجربتين الصينية والخليجية. فعلى الرغم من اعتماد التجربتين على النموذج نفسه (قوة العمل المتوفرة في النمو السكاني الهائل في الصين، وقوة العمل المستوردة غير المحدودة في دول الخليج) إلا أن أنّ اختلاف الهبّات أو الموارد الطبيعية، وكذلك أسلوب إدارة الاقتصاد في كلّ من الاقتصادين (الصيني والخليجي)، أدّى إلى نتائج مختلفة.
الثقافة والتاريخ لبناء علاقات المستقبل
وحول البعد التاريخي والثقافي في العلاقات الصينية – العربية، أشار الباحث معين صادق في ورقته المعنونة بـ “العلاقات العربية-الصينية والتجارية البحرية من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي”، إلى أن أول إرساء للعلاقات بصفة جوهرية كان في عهد الخليفة الراشدي عثمان بن عفان عندما أرسل وفودًا بقيادة الصحابي سعد بن أبي وقاص إلى أباطرة أسرة تانغ الصينية الحاكمة في تشانغان. وتمكّنوا من بناء أول مسجد في مدينة غوانغتشو. وقد حافظ العرب خلال العصر الأموي على علاقات مستمرة مع أباطرة الصين، وشهدت العلاقات في العصر العباسي تطورًا كبيرًا خاصة في التبادل التجاري.
وأشار شمس الدين الكيلاني في ورقة بعنوان “إعجاب العرب بتنظيم الصينين وحكمتهم (العصر الوسيط)”، إلى أنّ نظرة العرب إلى الصين في العصر الوسيط كانت نظرة إعجاب خاصة في ما يتعلق بتنظيم الدولة، والبناء السياسي، والحرف الدقيقة. ولتأكيد هذه النظرة التبجيلية استحضر الكيلاني كتابات أبي حيان التوحيدي والجاحظ وكذلك القزويني، قبل أن يتوقف عند اهتمام المؤرخين والرحالة العرب مثل ابن بطوطة والغرناطي بدراسة الصين ونقل تجربتها في بناء الدولة والعلوم والحرف إلى العالم الإسلامي.
من جهته، سلّط قاو يوتشن (سفير ودبلوماسي صيني سابق ومتخصص في شؤون الشرق الأوسط) الضوء في ورقة بعنوان “العلاقات الصينية- العربية: تشاركية عبر التاريخ” على التعاون العربي الصيني والتقارب في المواقف. وذكّر بموقف الصين الداعم للقضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وأشار إلى أنّ الاهتمام الصيني بالعالم العربي يعتمد على إستراتيجية طويلة الأمد، وقد شرعت الصين في تقديم المساعدات المادية واللوجستية في القرن المنصرم إلى الدول العربية، مع أنها عانت ويلات الحصار والنمو الاقتصادي الضعيف المرافق لنمو سكاني كبير. على الجهة المقابلة، نوه يوتشن إلى أنّ الدول العربية دعمت الصين في مختلف القضايا ذات التأثير المباشر ولعل أبرزها قضية تايوان، والتيبت، وقضايا حقوق الإنسان التي حاولت الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة استمثارها ضد الصين.
شهادةً “جريئة”
وحول العرب والصين والموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية ،قدّم الصحافي عزت شحرور المقيم في الصين، منذ ثلاثة عقود، شهادةً “جريئة” عن تجربته الشخصية في معايشته ومراقبته لتحولات الرأي العامّ الصيني تجاه العرب والصراع العربي – الإسرائيلي. واهتمّ شحرور بانعكاس التطور في العلاقات الصينية – الإسرائيلية على موقف النخب الأكاديمية والثقافية الصينية وشريحة واسعة من الشباب، ويظهر ذلك التحول، على نحوٍ واضح، في وسائل الإعلام الرسمية الصينية ووسائل التواصل الاجتماعي. ففي وقت تنشط فيه حملات المقاطعة لإسرائيل، اقتصاديًا وأكاديميًا وثقافيًا وعسكريًا، في عدد من دول الاتحاد الأوروبي، نجد النقيض في الصين، من جهة قوة العلاقات والتأييد والإعجاب بالنموذج الإسرائيلي، وارتباط ذلك بموجة من العداء للمسلمين والعرب وأسلوب خارج عن اللياقة والأخلاق، بل إنّ الأمر يصل إلى استخدام عبارات عنصرية ضدّ الفلسطينيين حتى في اعتداءات إسرائيل عليهم.