الجزائر و الاستعداد لما بعد بوتفليقة
هذا ليس وقتا سعيدا للحياة السياسية في الجزائر. في العقدين الماضيين عاشت الجزائر واقعين : حربا أهلية هددت بتمزيق البلاد، ثم هدوءا نسبيا تحت رئاسة عبدالعزيز بوتفليقه. الرئيس الذي بلغ الآن أواخر السبعينات من عمره و يحكم البلاد منذ 1999.
في أعقاب الربيع العربي في 2010، وعد بوتفليقه بإصلاح النظام السياسي في الجزائر، الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن. وبسبب تراجع أسعار النفط العالمية اضطرت الجزائر في السنوات الاخيرة لإعادة ضبط موازنتها بإدخال تدابير تقشف جديدة. عبء هذه السياسة الاقتصادية التي لا تحظى بشعبية، والمشاكل الصحية المزمنة لبوتفليقه، تثير مخاوف الكثيرين من العودة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي .
السنوات القليلة المقبلة ربما تختبر مدى عافية الحياة السياسة الجزائرية، لكن هناك مؤشرات على أن الجزائريين سيكونون قادرين على تحمل مرحلة من الضبابية. لعقود خلت طالب الجزائريون بالديمقراطية لكنهم الان يأملون فقط باستمرارية الوضع الحالي . وفي سعيه لتحقيق ذلك فان الكيان السياسي الجزائري يمكن أن يتسامح مع مسرحية “شبه الديمقراطية”- كما حدث في انتخاب بوتفليقة لولاية رابعة، وهو أمر غير مسبوق- ليس لسبب سوى المحافظة على حالة الاستقرار .
- اقتباس :
- الوضع الحالي للجزائر مهدد بتحطم دعامتين مركزيتين تحفظان استقراره؛ الوضع الصحي لبوتفليقة وعائدات النفط .
الوضع الحالي للجزائر مهدد بتحطم دعامتين مركزيتين تحفظان استقراره؛ الوضع الصحي لبوتفليقة وعائدات النفط . وتحركات الحكومة الاخيرة حيال الأوضاع الاقتصادية والشؤون الرئاسية والجيش يمكن أن تفهم في هذا الإطار، باعتبارها محاولة للمحافظة على مبادىء العقد الاجتماعي للجزائريين ، على الرغم من تحديات حقيقية تواجه الحكومة في سبيل ذلك .
وبناء على ما سبق فإن برامج الدعم الحكومي لن تكون ثابتة مع تراجع أسعار النفط. الحكومة تقوم حاليا برفع تدريجي للضرائب والأسعار على الوقود والكهرباء ،والسيارات، والخدمات الصحية، والاتصالات، ووسائل النقل، على أمل أن تخفف من وطأة التأثيرات الاقتصادية على متوسطي الدخل، دون المساس بدعم السكن والتعليم والدفاع .
ومن جهة أخرى فإن الحكومة تقارب موضوع خلافة بوتفليقة بحذر، وبطريقة تحاول من خلالها ضمان استمرارية الوضع الحالي، وتأمل أن تحد من الصراعات التي قد تنشأ حول تعيين القائد المقبل للجزائر . القليلون يعتقدون ان الوضع الصحي لبوتفليقة سيصمد حتى موعد الانتخابات المقبلة في 2019. فمنذ عام 2005 بوتفليقة دخل المستشفى لأكثر من مرة ، وإحداها كانت في 2013 في فرنسا ، لكن مع ذلك ظلت شؤون الدولة تسير كالمعتاد. وسبب ذلك أن الدائرة المحيطة بالرئيس قد أعدت بالفعل خليفة له ، سيعمل كنائب لبوتفليقة عندما لا يعود بمقدوره البقاء في السلطة. ومن المرجح ان تدار تفاصيل موضوع خلافة الرئيس من داخل النظام نفسه .
- اقتباس :
- المجتمع الجزائري يتعامل بفتور مع احتمال تداول الرئاسة ، وهو أقل استعدادا لتصديق أن ديمقراطية الأحزاب المتعددة الحقيقية يمكن ان تتوسع وتزدهر كبديل للوضع الحالي. بالنسبة للجزائريين المخاطر كبيرة جدا، والمكتسبات غير مرجحة .
الأكثر حساسية وأهمية من ذلك هي الدعامة الثالثة لشرعية الدولة : الأمن الوطني الذي لم يتزعزع رغم الاضطرابات الجارية . جهاز المخابرات العسكرية مازال يلعب دورا مركزيا في المحافظة على أمن البلد ،والسياسة العليا الجزائرية الغامضة تجعل من الصعب تحديد العلاقة بين السلطة التنفيذية والجيش، لكن محاكمات وعقوبات صدرت مؤخرا ضد جنرالات بسبب الفساد ، تعد خطوات نحو تحسين النظرة إلى المساءلة العسكرية وإلى قوة الدولة المدنية . هذه الاجراءات الأخيرة أعطت إشارة لعامة الشعب أن مراكز القوى الوطنية تعمل معا لتحول مدني في السلطة .
الغياب الملحوظ للمشاركة العامة في إجراء هذه التحولات في العملية السياسية ،والذي من شأنه لو تم أن يعطيها المصداقية، قد يثير الغضب في دول أخرى ، لكن الجزائريين المنهكين سياسيا يضعون الديمقراطية في موقع متأخر .
من السهل معرفة لماذا لا يطالب الجزائريون بتغيير سياسي حاد أو عنيف. إنهم يتذكرون الاضطرابات السياسية في التسعينات ، بعدما ألغى الجيش الفوز الانتخابي للإسلاميين ، فاتحا الطريق لتمرد مسلح تسبب بمقتل مئات الآلاف.
في الآونة الأخيرة العديد من الجزائريين يرون صورا من ماضي الجزائر في محصلة الربيع العربي؛ في ليبيا حرب أهلية مستمرة بلا نهاية واضحة في الأفق، وتونس مع ما حققته من انتصار بحصولها على جائزة نوبل لجهودها في تحقيق الديمقراطية إلا أنها شهدت أحداث عنف غير مسبوقة، وأما الثورة المستمرة في سوريا فكلفت السوريين مئات آلاف الضحايا وساهمت في انتشار تنظيم الدولة الإسلامية .
- اقتباس :
- الديمقراطية بالنسبة للجزائريين قد تبدو محاولة فكرية جديرة بالاهتمام ، لكن الإستقرار هو الرهان الأكثر أمانا .
بالطبع سياسات التقشف الاقتصادي قد تغير من هذه الحسابات. إذا فشلت الإجراءات المالية بالمرور بسلاسة كما هو مخطط لها ، ربما يلجأ الجزائريون بالفعل للاحتجاج في الشارع . لكن إذا خرجوا إلى الشارع فلن يكون ذلك من أجل انتخابات حرة ونزيهة، أو من أجل المزيد من اللامركزية، أو صلاحيات برلمانية أكبر. سيكون خروجهم من أجل لقمة العيش.
بعبارة أخرى، ورغم تحذير أحزاب المعارضة الجزائرية من تكرار مشهد اضطرابات التسعينات ، ومطالبتها بإصلاحات ديمقراطية ، فإن مراقبين يشككون في إمكانية تكرار ذلك المشهد. الأرجح هو أن يستمر الوضع على ما هو عليه، حيث تشارك هذه الأحزاب نفسها في مسرحية الديمقراطية، بمعنى ان تلعب دورا سطحيا في التصدي للدولة العميقة فيما يتم تحييدها بشكل كبير. وفي الأثناء فإن جبهة التحالف التي شكلتها هذه الاحزاب وتمثل إسلاميين، وبربر، وتروتسكيين، ومنشقين عن النظام، تقدم بدائل محدودة لوضع النظام السياسي الراهن، وتفتقر إلى أيدولوجية داخلية موازية، ولديها أهداف سياسية متناقضة..
قلة البدائل المطروحة من قبل المعارضة للنظام القائم حاليا، والقابلة للتطبيق، قادت الجزائريين ،بدون شك، إلى حالة كبيرة من خيبة الأمل السياسية. لكنها أكدت للكثيرين فكرة أن المناورات السياسية وجهود التحول الديمقراطي وحركات الإصلاح قد انحرفت عن دورها في مواجهة المظالم الاجتماعية والإقتصادية. أن يعلي المواطنون فكرة البقاء والاستقرار والراحة على فكرة الديمقراطية ليست جديدة. لكن هذه الفكرة عصية على الهضم بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية. وفي “جزائر بوتفليقة” الشعور السائد على نطاق واسع هو ما تلخصه العبارة الجزائرية” موالفه خير من تالفه” .
المجتمع الجزائري يتعامل بفتور مع احتمال تداول الرئاسة ، وهو أقل استعدادا لتصديق أن ديمقراطية الأحزاب المتعددة الحقيقية يمكن ان تتوسع وتزدهر كبديل للوضع الحالي. بالنسبة للجزائريين المخاطر كبيرة جدا، والمكتسبات غير مرجحة .