زليخة أبو ريشة ومعركة التنوير
الحملة الشرسة ضد الكاتبة والمربية الفاضلة زليخة أبو ريشة، ليست معركة بين الدين والتنوير، كما يريد مطلقو الحملة أن يصوروها؛ والدين لم يكن يوما ضد التنوير. وهي ليست حملة موجهة ضد السيدة أبو ريشة فقط، ولكنها حملة ضد كل من يجرؤ على الوقوف أمام من يصر على تفسيرات ضيقة للدين لا تصمد أمام البحث والتمحيص الديني نفسه، وضد كل من يدعو لمحاربة الانغلاق والتعصب.
زليخة أبو ريشة لم تتعرض للدين، وهي المربية والعالمة والمثقفة التي أعطت الكثير، وحاربت التطرف منذ أكثر من أربعين عاما. لكننا رأينا هذه الظاهرة في العديد من المرات؛ إذ كلما طالب أحد بالانفتاح الفكري والتسامح واحترام الآخر، استنفر البعض ممن يرغبون في استمرار احتكار تفسيرهم الضيق، بل الخاطئ للدين، وممن نصّبوا أنفسهم موزعين لصكوك الوطنية أو التخوين، للهجوم الشرس على دعاة الحداثة تحت غطاء التعرض للدين.
ما الذي قالته زليخة حتى استحق كل هذا الهجوم؟ زليخة كتبت عن خطاب كراهية الآخر في التنشئة الأسرية أو في المدرسة، أو المجتمع، لمجرد أن هذا الآخر "مختلف في الدين أو العرق أو الجنس أو الإقليم أو البلد أو اللون أو الطائفة أو غيرها"، وحتى يصبح هذا الآخر عدوا ولو أنه شريك في الوطن. زليخة تحدثت عن سياسات الترغيب والترهيب التي تمارس من البعض، حتى اقتنع بعض الجهلاء أن العمليات الانتحارية الإرهابية سبيلهم الى الجنة، فأين التعرض للدين في ذلك؟
ما كتبته صحيح، ويمارس يوميا من نفس الناس الذين يخونونها اليوم، فيمارسون ما تحدثت عنه زليخة من تعال واحتقار لكل من يختلف مع تفسيرهم للدين والحياة.
ما يجب إدراكه أن التنوير لا بد أن ينتصر إن كنا نريد الوصول الى مجتمعات منفتحة مزدهرة وفاضلة. وهي معركة ليست سهلة، وستأخذ وقتا طويلا. وليس هناك من أمل بالوصول إلى مجتمع متسامح، ما لم يدرك هذا المجتمع أن هذه ليست معركة زليخة أبوريشة وحدها، بل معركة كل من يؤمن بالتسامح والتنوع ضد كل من يريد الدفاع عن التعصب والتعالي والانغلاقية. ولم يخض المجتمع هذه المعركة بعد لأنه مرعوب؛ فالقوى الظلامية نجحت حتى الآن في تصوير من يطالب بالتسامح واحترام التنوع، بانتقاد الدين؛ وهذا بالطبع خطير وغير صحيح.
ما العمل؟ يجب، أولا، الاعتراف بأن أنظمتنا التربوية فيها الكثير من الانغلاق والإقصائية. وخطاب التكليف الملكي للحكومة كان واضحا من ناحية مراجعة الأنظمة التربوية مراجعة جادة. وحتى يتم ذلك، من الضروري الاتفاق على فلسفة جديدة للتعليم، تتيح مراجعة المناهج المدرسية وطرق تدريسها، ليس من زاوية تعديلات طفيفة هنا وهناك تنتبه إلى الجزئيات ولا تعالج الإطار العام، بل فلسفة تتيح تعلم النشء مبادئ المواطنة المتساوية للجميع، واحترام الآراء والأديان الأخرى من دون استعلاء أو تكبر.
ولن تنجح الدولة في هذا الجهد من دون أن يكون هناك جهد مواز من المجتمع المدني، يدعم أي تحول نحو احترام التنوع الثقافي والديني والجندري، ويساهم في اقتراح الأساليب الكفيلة بذلك، خاصة مع وجود معارضة واضحة داخل وزارة التربية للقيام بذلك.
كلنا اليوم زليخة ابو ريشة إن كنا نؤمن بفكر تنويري لا تعارض فيه مع الدين الحقيقي، وفيه كل التعارض مع من يريد أن يوطن الفكر في العصور الوسطى. مستقبل أبنائنا وبناتنا يعتمد على عدم سكوتنا بعد اليوم، وعلى العمل المبادر لإصلاح ما أفسدته عقود من الانغلاق.