الليبرالية.. سياسة الدول العظمى محورها منعفة الفرد
سعيد الناصر
إن أهمية الحديث عن الفلسفة الليبرالية تكمن في أن الدول العظمى اليوم تتبنى هذه الفلسفة وتفرضها على الدول الأضعف، فأمريكا مثلا تتبنى هذا المذهب الفلسفي وتحاول فرضه على الدول التي سيطرت عليها ويظهر ذلك جليا في العراق كنموذج أو جمهورية تشيلي، وللتوسع في سياسة أمريكا في هذين النموذجين أنظر ما كتبه الأستاذ الأكاديمي ديفد هارفي في كتابه الليبرالية الجديدة، ونحن سنتكلم هنا من الوجهة النظرية الفلسفية للفكرة.
اللبرالية نظرية تقرر حرية الإنسان الفردية "حقوق الإنسان"، وتقرر الاقتصاد الحر ويقوم على حرية العمل والتجارة والصناعة، وهي تؤسس قوانين حقوق الفرد مقابل الدولة، وشعارها "دعه يعمل، دعه يمر" وهو من المذاهب النفعية كالبراجماتزم.
وهي نظرية تقول إن الإنسان هو محور كل هذا العالم وهو قادر بجهده على تغيير شكل العالم، وساعد على كل ذلك التقدم العلمي وخاصة في وسائل الاتصال بين الناس وطي المسافات البعيدة بسرعة كبيرة.
وفي الاقتصاد والسياسة تطلق الليبرالية العنان للحريات الفردية، وتقدس الفرد وعمله، وعلى الدولة في هذه النظرية حماية الفرد ومصالحه وتسهيل عمله وخلق فرص عمل له في بعض الأحيان، وهي تقوم على نظام الفائدة في المعاملات الاقتصادية.
يقول الأستاذ الأكاديمي البريطاني ديفد هارفي إن الليبرالية :"نظرية في الممارسات السياسية والاقتصادية، تقول بأن الطريق الأمثل لتحسين الوضع الإنساني تكمن في اطلاق الحريات والمهارات التجارية الابداعية للفرد، ضمن إطار مؤسساتي عام يتصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الخاصة، وحرية التجارة، وحرية الأسواق الاقتصادية، ويقتصر دور الدولة في هذه النظرية على إيجاد وصون هذا الإطار المؤسساتي الملائم لتلك الممارسات".
إن هذه الفكرة استتبعت كثيرا من التحولات ليس على المجال الاقتصادي أو السياسي فحسب بل على المجالات الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية؛ فلا أخلاق سوى أخلاق السوق وهي التي تتحكم بعلاقات الناس فيما بينهم.
وتَعتبر الليبرالية مفهوميْ الحرية الفردية والكرامة الإنسانية هي محور القيم المركزية للحضارة، وتعتبر أن التدخل من قبل الدولة ـــــ التي تحل كل القيم الجمعية محل القيم الفردية في حياة الناس ـــــ هو من يحطم هذه القيم.
والحرية الفردية تصونها حرية السوق وحرية الاقتصاد (كأنهم يقولون أن الإنسان هو مخلوق اقتصادي وأن الاقتصاد هو من يشكل كل أفكار وأخلاق وممارسات الفرد).
إذا نظرنا إلى اللبرالية من وجهة النظر الاقتصادية فهي تتبنى بشكل أو بآخر النظام الرأسمالي ولكن بصيغة جديدة وأكثر حرية. ثم إن الليبرالية تناصر العولمة من أجل تحقيق أعلى للفائدة. ثم إن النظام الليبرالي يهدف إلى فك الارتباط بين رأس المال والعلاقات السياسية ــــ الاجتماعية واطلاق قيود رأس المال من هذه العلاقات.
والليبرالية لها علاقة بالمذهب الفيزيوقراطي (Physiocrats)، أو المذهب الطبيعي الذي نشأ في فرنسا في القرن الثامن عشر، ويقول أصحابه بحرية الصناعة والتجارة وبأنّ الأرض هي مصدر الثروة كلها، ويعد فرنسوا كيناي (François Quesnay) الذي ولد عام 1694م، هو مؤسس هذا المذهب.
بل إن جذور الفكرة تصل إلى الفلسفة اليونانية عند الفيلسوف بروتاغوراس (487 ق.م - 420 ق.م) وهو يقول "أن الإنسان هو معيار الأشياء جميعا، فالإنسان هو مقياس كل الموجودات بالنسبة إلى وجودها وغير الموجودات بالنسبة إلى عدمها"، وفي الموسوعة الفلسفية السوفيتية يقول بروتاغوراس إن لديه نزعة مادية وهو يعتبر الإنسان مركز الكون، وذلك يعني أنه قائل بالنظرية النسبية أي أن الأشياء ممكن أن تكون صحيحة بالنسبة إلى موقف ما وخطأ بالنسبة إلى موقف آخر وهذا هو أساس الفكر السفسطائي وبروتاغوراس هو من أشهر السفسطائيين.
وبما أن الإنسان هو مركز الكون فله الحق في الحرية والعمل وهو الأساس في التغيرات التي تحدث في الحياة؛ وذلك عن طريق إرادته وقدرته في التغيير.
أما اللبرالية كمذهب مستقل وفلسفة للحياة ظهرت على يد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (29 أغسطس 1632 - 28 أكتوبر 1704) (بالإنجليزية: John Locke) يقول إن المعرفة تحصل عن طريق التجربة والتجربة نوعان تجربة حسية تدرك بالحواس الخمس وتجربة إدراكية ذاتية داخلية عن طريق الشعور مثل الإرادة والإيمان، والمعرفة هي إدراك الروابط بين الأفكار المأخوذة عن طريق التجربة، وبالتالي فإن عقل الإنسان ومعرفته محدودة ولا نستطيع الوصول إلى معرفة يقينية في أغلب الأحوال ومن أجل استكمال معرفتنا يجب أن نطرح الاحتمال، ويتناول الاحتمال أقاويل يمكن أن تعتبرها صادقة بالنسبة إلى تجربتنا ومن هذه الأقاويل الإيمان والرأي، ويضيف أيضا أن الفرح والألم هما معيار كل سلوك، وعلى الأخلاق أن ترتبط بالثواب والعقاب.
ويعتبر لوك أن الغرض من الدولة هو الحفاظ على الحرية والملكية الفردية اللتين تكتسبان عن طريق العمل، وهو يقول أن الناس أنفسهم يجب أن يغيروا النظام الاجتماعي القائم إذا تعدى على الحرية الفردية وعلى حق العمل وعلى حق الملكية؛ وذلك عن طريق الثورة وهو من أصحاب الفلسفة المادية.
أما الفيلسوف الاسكتلندي آدم سميث (5 يونيو 1723- 17 يوليو 1790) فهو يرى بأن مصلحة الفرد شيء كامن في ذاته وهو محفز له على العمل من أجل الرخاء على الجانب الشخصي، ولكن هذا بالتأكيد سيؤدي إلى رخاء عام في الاقتصاد الوطني للدولة، ولكن على الدولة ألا تتدخل في فرض قوانين أو في توجيه الاقتصاد ولكن عليها حماية الحريات.
فلا أساس في الاقتصاد إلا بالعمل والعمل هو من يحدد قيمة السلع، والانتاج يقوم على قاعدة تبادل السلع وتوزيع العمل.
وممن تأثر بآدم سميث الفيلسوف الانجليزي دافيد ريكاردو David ricar؛ (1772 - 1823). وهو أستاذ في علم الاقتصاد وقام بتأليف الكتب في نظريته وانتصاره لآدم سميث.
ومن فلاسفة الليبرالية الفيلسوف الإنجليزي جون ستيورات مل، الذي ولد في لندن عام 1806م، كان يجاهر باستمرار بأن السعادة هي الغاية الحميدة للوجود البشري، وكان يقف بجانب الأفراد ضد وطأة السلطة سواء من الدولة أو الرأي العام أو العادة، ووقف بحزم ضد عبادة النظام، وكان يقف في جانب النفعيين، ويصرح بآرائهم وكان يهاجم الدين، وكان ينادي بالمساواة والديمقراطية وحرية الفرد.
ويقول مل :"إن أسمى المبادئ عندي هي حرية الفرد والتنوع والعدالة وصولا إلى السعادة البشرية".
في المجال الاقتصادي
إذن فالليبرالية تعطي الفرد حرية استثمار المال في كل شيء ولا تضع حواجز على الملكية الفردية بل للفرد تملك ما يشاء، وأساس الاقتصاد هو العمل وأساس العمل هو رغبة داخلية ودافع لدى الإنسان، ونماء السوق يكون عن طريق تبادل السلع بالسوق المفتوح، وهي تسعى إلى أن تكون كل الدول سوقا واحدة، وتسعى الليبرالية إلى خصخصة جميع الشركات بحيث لا يكون للدولة أي سيطرة في الجانب الاقتصادي وهذا ما ينمي السوق والحركة التجارية والعمل الحر.
في المجال الاجتماعي وعلى الصعيد الفردي
الليبرالية تعطي أضا الفرد الحرية الشخصية كاملة دون أي قيود، بل هم يقولون لا قيود لحرية الفرد إلا إذا أراد إيذاء الآخرين فهناك يمكن تقييد حريته.
في المجال السياسي
وفي المجال السياسي يعطى الفرد حريته كاملة للوصول إلى السلطة وانتقادها في الجانب الآخر عن طريق الديمقراطية، أما الدولة فهي التي تؤمّن للفرد حريته وتحرسها وهي التي تفتح له المجال من أجل العمل بل تنشئ له فرص العمل في حال عدم وجودها، وفي المقابل هي لا تتدخل أبدا في حرية الفرد سواء على الصعيد الفردي (الحرية الشخصية) أو على الصعيد الاجتماعي أو على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاقتصادي، وهي تفصل فصلا تاما بين السياسة والاقتصاد وفي الغالب تتبنى النظام الديمقراطي في الحكم.
والليبرالية تؤمن بالعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم أي أن الحاكم لا يحق له الحكم إلا بتفويض من الشعب وذلك من أجل خدمة الحرية الفردية والعدل والمساواة، وهذا العقد الاجتماعي هو المبرر الوحيد لسلطة الحاكم.
وفي الحرية الإعلامية وحرية الرأي والفكر
يقول جون ستوارت ميل:"إن البشر جميعًا لو أجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهــم حتى لـو كانت لــه القوة والسلطة".
ويبرر ذلك بقوله:"إننا إذا أسكتنا صوتاً فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وإن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانحهِ بذور الحقيقة الكامنة، وإن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص، وإن هذا الرأي ما لم يواجه تحديًا من وقت لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره".
اللبرالية والدين
بما أن الليبرالية تنادي بالحرية فهي ترفض أن يكون للدين أي سلطة على الأفراد أو الدولة، وهي تدعوا إلى تفسير الدين وقراءته بشكل جديد بحيث يتوافق مع الحريات المعطاة للفرد، وهي تنادي بحرية الاعتقاد، وحرية نقد الدين ككل ودون أي ضوابط.
وإذا نظرنا إلى فلاسفة الليبرالية فمنهم من يقول بأنه ليس للكون إله وأن المادة ممتدة ولا نهاية لها، ومنهم من يقول أن الله أوجد الكون كعلة ثم هو لا يتدخل في شؤونه، ومنهم من لا يرفض الإيمان بإله وبالدين ولكن يقول بتعدد الأديان أي تعدد الحق، وكل قول من هذه الأقوال قائم على نظرية معينة.
فالقول الأول قائم على النظرية المادية والفلسفة المادية القائلة بأن المادة لا أول لها وهي ممتدة وهي أصل كل شيء، والقول الثاني مبني على القول بالعلة والمعلولية، وأن الله هو علة هذا الكون وبالتالي هم ينفون إرادة الله فهو فقط علة أوجدت هذا الكون، والقول الثالث قائم على القول بإعادة قراءة النص المقدس دون النظر إلى تفسيرات علماء الدين وبما يتوافق مع مباديء اللبرالية لأنهم قائلون بأن الحق هو ما يجلب النفع للإنسان وذلك عن طريق التجربة "المذهب التجريبي".