أميركا لن تبقى كما هي
نبيل أبو جعفر
كعادتها قُبيل بدء ولاية أي عهد أميركي جديد، قامت أجهزة المخابرات الأميركية أواخر العام 2008 بإصدار تقرير استعرضت فيه وضع العالم، ونبّهت إلى ما سيطرأ عليه من متغيّرات مع مرور السنين، ليكون وثيقة أمام إدارة الرئيس الجديد باراك أوباما في فترة ولايته التي يُفترض أنها لأربع سنوات.
غير أن هذا التقرير لم يتضمن كسابقاته ما يُتوَقّع حدوثه خلال فترة ولاية واحدة ولا حتى اثنتين تحسّبا لإمكانية إعادة انتخابه لولاية أخرى. بل خصّته استثناء هذه المرّة بما يُتوقّع حدوثه في فترة تمتد لأكثر من أربع ولايات رئاسية، وتحديدا إلى العام 2025. ولم تقم مجموعة من الطاقم المخابراتي أو دائرة من دوائره بوضعه، بل مجموعة كبيرة من الخبراء والباحثين والمؤسسات العلمية التي تمت الاستعانة بها، سواء من داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
ورغم شمول هذا التقرير الذي ضمّ 120 صفحة كافة الجوانب السياسية والاقتصادية وأشكال الصراع والمتغيّرات "المتوقّعة" في سائر ارجاء العالم ودوله. إلا أن النقطة الأبرز فيه عكسها تركيز واضعيه على أن الولايات المتحدة، القطب الأوحد وصاحب الجبروت والصولجان لن تعود كما هي مع الأيام.
ومع أنه لم يجرِ التوسُّع في نشر هذا التقرير الهام المُتَبنَّى مخابراتيا على الملأ بكل ما يتضمنه محتواه، إلا أن أبرز ما تسرّب من بنوده الموثّقة بنصّها الحرفي ـ ومنها ما تحقّق أو بدأنا نرى علائم تحقق بعضه في هذه الأيام ـ قد ركّز على النقاط التالية:
أميركا والصين ونفط العرب
ـ ترجيح واضعيه أن الولايات المتحدة لن تبقى مع مرور السنين الآتية، وبفعل عوامل عديدة صاحبة اليد الوحيدة في إدارة شؤون العالم. كما لن يعود لها نفس الدور ولا القوّة العسكرية صاحبة التفوّق الخارق على الآخرين. وهذا لا يعني أنها بحُكم إمكاناتها وثرواتها وتقدّمها العلمي لن تبقى صاحبة نفس القوة، بل سوف تتحوّل إلى قوّة من ضمن القوى الكبرى، وستقف إلى جانبها عدة دول أخرى.
ـ هذه النتيجة سترافقها نتائج أخرى تتعلق بالتغيير في جوانب عديدة كنتيجة طبيعية للتنافس مع القوى المماثلة لها في المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية، وفي عالم التجارة والاستثمارات والتطوّر التكنولوجي .. وحتى سباق التسلّح والتوسّع في كسب مناطق النفوذ الحساسة.
ـ يُلفت التقرير الانتباه إلى أن القوى الأخرى التي ستظهر قبل نهاية الفترة الزمنية الممتدة حتى العام 2015، ستتصدّرها الصين التي ستحتل ثاني أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم وأول بلد مستورد للموارد الطبيعية. وسوف تعمل على تطوير قدراتها أكثر لكي تحتل الموقع الأول، كما ستبرز إلى جانبها كل من روسيا والهند والبرازيل.
ـ سيكون من أبرز المتغيّرات في هذه الفترة تحوُّل ثِقل العالم الاقتصادي والصناعي وكذلك تمركز الثروة، من الغرب إلى الشرق، بفعل عوامل يمكن تلخيص أهمها بفاعلية نهج السلطات في دول البلدان المشرقية، ورُخص الأيدي العاملة فيها، وانخفاض التكلفة الانتاجية بشكل عام. الأمر الذي سيُساعد على عمليّة التحوّل هذه.
ـ يؤكد التقرير في إحدى فقراته المهمة على أهمية النفط، والنمو الذي "لابد أن تشهده الدول النفطية إذا ما أحسنت التصرُّف وعرفت كيف تُطوّر قدراتها وترفع من مستوى شعوبها"! وهذه الإشارة تعنينا نحن العرب بشكل خاص. غير أن النفط ـ والكلام للتقريرـ لن يبقى بنفس أهميته مع مرور السنين. إذ يُتوقَّع أن يتمّ إيجاد بدائل أخرى تحلّ محلّه بفعل التطور العلمي والتقنيات الحديثة، وأن يتمّ التخلّص من شبح اقتصار الحاجة إليه في استخدامات عديدة.
ـ إلى جانب ما سلف، يتوقع التقرير المخابراتي حدثين جديدين على الصعيد السياسي (الأممي والعربي ـ الإسلامي). أولهما أن المتغيرات التي سيشهدها العالم سوف تنعكس آثارها قويا على الهيئات والمنظمات الدولية التي لن تعود كما كانت في السابق. وسوف تفقد في ظل الموازين الجديدة قوتها وتأثيرها فيما يتعلّق بواجبها كساهر على الأمن والاستقرار وما شابه.
وثانيهما أن الصراعات الآيديولوجية المحتدمة في عالم اليوم ستُرخي بظلالها على العالمين العربي والإسلامي، وسوف يؤدي ذلك في النهاية إلى تقوية شوكة الحركات السلفيّة. وهذا ما حصل وما خططوا لتنفيذه!
"نصائح" لنا وحدنا!
ومع أنه يعترف بالأهمية الاستراتيجية الكبيرة لعالمنا العربي طوال السنين المقبلة بحُكم استحواذه على الثروة النفطية وموقعه الجغرافي ودوره في تحقيق الاستقرار أم عدمه. إلا أنه يرى أن مستقبل عالمنا يتوقّف على "حكمة" وسياسة حكامنا. فإما أن يأخذوا بيدنا على طريق التقدم (الأميركي حتما!) الذي سيحقق لنا نموا إقتصاديا ملموسا، وإما أن يزيدوننا سوءا على سوء.
ويرى التقرير هنا أن المقياس الأساس لصلاح الحاكم أو العكس يتوقّف على اعتماده برامج الإصلاح التي رَوَّجت لها الولايات المتحدة. والإصلاح المقصود هنا هو الذي ينادي بتحقيق الديمقراطية وفق التصوّر الأميركي الذي نرى ترجمته في اعتبار أي نظام يعمل لمصلحة الولايات المتحدة ديمقراطيا بامتياز، حتى ولو كان يحتل قمة الدكتاتورية والإجرام، والعكس صحيحَ ! كما يُنادي بتطبيق إصلاحات سياسية تُرجّح كفة القوى المعتدلة وتحل ّ مشاكل الصراعات الإقليمية. ثمّ وهو الأهم إبرام اتفاقات أمنية تضمن استقرار دول هذه المنطقة وتدفع عنها الأخطار المستقبلية!
ولا ينسى التقرير الإشارة إلى ضرورة أن تقوم أنظمتنا العربية بتطوير مناهج التعليم، وهو المطلب الأميركي ـ الصهيوني القديم الذي يُخفي وراءه الترويج لسياسة الاستسلام تحت اسم التسامح، والتصدّي للمقاومة تحت اسم مكافحة الإرهاب الذي لم يكن قد ظهر واستشرى بالشكل الذي نراه في هذا الأيام. وبالمناسبة، قامت بعض الأقطار العربية بتنفيذ هذا المطلب قبل صدور هذا التقرير المخابراتي، ومنها من ذهب إلى أبعد من ذلك فقام بحذف آيات قرآنية كانت واردة في الكتب المدرسية، إكراما لعيون الحاخامات الصهاينة الذين طالبوا بذلك في "مؤتمرات حوار الأديان"!
هل قرأ معظم حكامنا هذا ؟
إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا التقرير الذي أوجزنا الكلام عنه بالنقاط السالفة يكمن الهدف الأول من ورائه إطلاع الرئيس الأميركي الجديد وإدارته على قراءة الأجهزة والمتخصصين للتوقعات المستقبلية. فإن علينا وعلى كل حاكم صاحب عقل أن يأخذ حذره من كل ما تضمّنه، حتى ولو لم يكن مؤكد التحقق ولا دقيقا في تصوّره.
ولما كان موضوع ظهور قوى جديدة وتصدّرها كتلة قيادة العالم أمرا متوقعا في المستقبل الآتي، فإن ذلك كان يفرض علينا وضع تصوّر للتعامل مع الوضع الجديد، آخذين بعين الاعتبار إشارة التقرير إلى العرب بشكل خاص في معرض وجوب تحقيق الإصلاحات بقوله إنه من غير الممكن الحديث عن تطور مستقبلي أو تقدم بالنسبة لأي بلد إذا لم يكن لدى حكامه رؤية مستقبلية وتصوّر واضح لكيفية التصرّف بما يضمن مصلحته في عالم متصارع لن يكون فيه مكان لإتكالي وسط الصراع الحاد بين القوى والشعوب"!
إنه تقرير أميركي ـ سياسي ـ مخابراتي بامتياز. ولكن الأغلب أن معظم حكامنا لم يسمعوا به ولا أرهقوا أنفسهم بالاطلاع على ملخص ما ورد فيه، استنادا إلى اعتقادهم أن الطاعة والإنقياد أسلم لهم ولبقائهم، مكتفين بمواقف التأييد والتنديد على طريقة ذلك الذي "لا يهشُّ ولا ينِشّ" بان كي مون. وهذا بالذات هو الذي أوصلهم وجرّنا معهم إلى هذا الوضع الذي لم يعد تحته تحت!