المعيار المعكوس في حق المرأة المسلمة
التاريخ:12/6/2016 - الوقت: 11:12ص
د. عماد الدين خليل*
تعود "قضية" المرأة في العقدين الأخيرين لكي تحتل موقعاً متقدماً في ساحة الصراع الفكري، وتكون واحدة من أكثر المواضيع سخونة في العالم.
قبلها كان الغربيون هم الذين "يغزوننا" بأفكارهم ومعطياتهم وتقاليدهم بخصوص المرأة والأسرة، وكل المفردات المرتبطة بهذين القطبين الأساسيين في الحياة الاجتماعية.. كنا نستورد وكانوا يصدرون.. وكانت تجارة رائدة أن يظهر في ديارنا مقاولون أو متعهدون كبار يمارسون مهمة الاستيراد هذا بحساب الجملة.. وكانت الصفقات تتم دون معاينة جادة للبضاعة، فكانت تحمل وهي تتدفق على موانئنا الكثير من المزيف والمغشوش الذي سرعان ما انتشر في أسواقنا، وملأها بالبضائع المدسوسة التي ضاعت في غبشها المرأة المسلمة، وتعرّضت الأسرة للاهتزاز والدمار بكل ما تنطوي عليه هذه المؤسسة من قيم تربوية تصنع مجد الأمم والشعوب، أو تقودها إلى البوار.
كانت المرأة والأسرة هناك في ديار الغرب تعانيان من ألف مشكلة ومشكلة فنُقلت إلينا كما لو كانت هي الحل، فكانت خسارتنا مضاعفة على كل المستويات وبكل المقاييس. استبدلنا الأعلى بالأدنى، بمعيار معكوس كان يصور للمتعاملين على أنه هو المقياس المطلوب والضروري في القرن العشرين.
وكانت تغذي المحاولة المعكوسة هذه، وتحرسها، وتمضي بها إلى نهاية الشوط شبكة من السماسرة في عالم الفكر والإعلام والاجتماع، قد يختصمون على كل شيء إلا في هذه.. وكانت الأصوات "المعارضة" التي ترتفع لكي تدين السمسرة الماكرة، تُكبت أو تُعزل، وأحياناً يغيب أصحابها بهذه الحجة أو تلك.
صوت الطهر والنظافة والاستقرار والأمن والتوحد كاد يضيع قبالة أصوات المهرجين الذين أريد لهم أن يدخلوا المضمار، وأن يحظوا بالفوز بأي ثمن.
كانوا يصدرون مشاكلهم عبر موانئ الفكر المفتوحة على مصراعيها، ومن خلال شبكة المستوردين والسماسرة، مخيّلين للمسلمين أن المرأة المسلمة هي التي تعاني من المشاكل والأزمات، وأن الأسرة المسلمة بحاجة إلى تعديل الوقفة الجانحة من أجل كرامة المرأة وحقها الإنساني المشروع في الحياة الحرة الشريفة!! وبهدف تجاوز الهضم والإجحاف والتحقير التي عانت منها عبر القرون.
الاستقرار النفسي، والأمن الأسري، والطهارة الخلقية، والطفولة الآمنة المتوحدة.. أصبحت مآخذ على الحياة الإسلامية، سعى السماسرة إلى استيراد الحلول المناسبة لتداركها .. والحلول كانت سموماً مركزة أطاحت بالاستقرار والأمن والطهارة، ودست في شرايين الحياة الإسلامية: الفساد والعهر والشذوذ والتفكك والخوف والدمار.
ومنذ بدايات القرن الماضي حدثنا المتحدثون والكتاب عن حدث يحمل دلالاته العميقة في هذا المجال. لقد كانت (اسطنبول) عاصمة الخلافة الإسلامية واحدة من أنظف مدن العالم في مجالات العلاقة بين الرجل والمرأة، فلما دخلها الغربيون تحت مظلة الإصلاح والتحديث.. لمّا غزتها قوانين (بونابرت) الوضعيّة وأبعدت مفردات الشريعة الإسلامية شيئاً فشيئاً.. لما أخذ الطلبة الأتراك يذهبون إلى عواصم الغرب ويرجعون بالشهادات أو بدونها.. بدأ الطفح الأحمر يظهر على جلد (اسطنبول).. والزهري والسيلان وكل السموم الجنسية المدمرة تتسرب في شرايينها.
ويذكر (شمتز دوملان) في كتابه (الإسلام) أنه "عندما (غادر الدكتور مافرو كور داتو) الأستانة سنة 1927 م إلى برلين لدراسة الطب لم يكن في العاصمة العثمانية كلها بيت واحد للدعارة. كما لم يُعرف فيها داء الزهري وهو السفلس المعروف في الشرق بالمرض الافرنكي، فلما عاد الدكتور بعد أربع سنين تبدّلت الحال غير الحال. وفي ذلك يقول الصدر الأعظم (رشيد باشا) في حسرة موجعة: إننا نرسل أبناءنا إلى أوروبا ليتعلموا المدنية الافرنكية فيعودون إلينا بمرض الداء الافرنكي".
كانت الخطوة الأولى.. الخطوة الضرورية.. وأعقبتها بقية الخطوات.. صار العملاق العثماني الذي دق أبواب فينا، رجلاً مريضاً، وراحت السكاكين تعمل في جسده الممزق، حتى انتهى الأمر إلى قتله تماماً على يد واحد من المحسوبين على جغرافية الإسلام.. وجاء من بعده عشرات القادة لكي يواصلوا المهمة. ومن قبلهم ومعهم، وربما بعدهم، استمرت شبكة السماسرة في دوائر الفكر والثقافة والإعلام والاجتماع تمارس مهمتها المعكوسة، فترفع شعار تحرير المرأة لكي تصل بها في نهاية الأمر إلى التعهير!
عدد ليس بالقليل من النساء الغربيات أنفسهن، كما سنرى، كن يجدن في الحياة الإسلامية.. في جمال المرأة والأسرة والطفولة المثل الأعلى والصيغة المرتجاة للأمن والاستقرار والعطاء والسعادة.. وكن يتُقْن إلى التمتع بعشر معشار ما تتمتع به المرأة المسلمة. وأغلب الظن أن عدداً من القراء والمتابعين لا يزالون يذكرون، من بين وقائع كثيرة، ذلك المؤتمر النسائي الحاشد الذي نظمته وزيرات المرأة والأسرة في الحكومات الألمانية الإقليمية عام 1991 م والذي كان بمثابة تظاهرة نسائية رسمية ضخمة استهدفت تأكيد دور المرأة في المجتمع الألماني، وقد طالبت النساء في المؤتمر بالحقوق التي تتمتع بها المرأة المسلمة منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، وخاصة بالنسبة لاحتفاظ المرأة الألمانية باسم والدها بدلاً من إجبارها على حمل اسم زوجها. وحيّت النساء المحتشدات قرار المحكمة الدستورية في ألمانيا (الاتحادية) الذي أقرت فيه بعدم حتمية قيام المرأة بحمل اسم زوجها، وأنه لها الحق في الاحتفاظ باسم والدها إن أرادت ذلك.
قبل ذلك بحوالي العقدين من الزمن كانت الساحة الإيطالية قد شهدت هجوماً مضاداً آخر في مواجهة الميل بالمرأة والأسرة عما أراده لها الله سبحانه .. تلك الضغوط المتواصلة في البرلمان الإيطالي .. على بعد خطوات من الفاتيكان زعيمة الكاثوليكية في العالم .. والتي تزعمها أشد البرلمانيين ليبرالية، من أجل إقرار حق الطلاق للرجل الإيطالي، بعد حجبه القرون الطوال.
بل إن بعض النسوة الغربيات انتمين إلى الإسلام من أجل أن يذُقْن التجربة ويبعدن عن مواطن التفكك والرذيلة والعفن والقلق والسعار الذي يحكم حياة المرأة الغربية، حتى لم تعد الكثيرات منهن يأمن على أزواجهن من المعاشرة اللاشرعية، ولم يعد الأزواج أنفسهم يأمنون على الذراري والأبناء، ويضمنون انحدارهم من الأصلاب!
هذا كله يتسرب بدعاوى السماسرة الذين أطلقوا على أنفسهم دعاة تحرير المرأة.. يتسرب إلى حياتنا فيستبدل الذهب بالتراب، ويكون هذا الذي كان ..
وليس ثمة أمة كهذه الأمة المسماة تجوّزاً " بالإسلامية " تجهل كل فن مجدٍ في صيرورة الحياة وتناميها، ولكنها تحذق فن هدر الطاقة، والتفريط بعناصر التميّز والتفوّق، واستبدال الغالي بالرخيص.
في سياقات عديدة تمّت الصفقات الخاسرة في التاريخ الحديث والمعاصر لهذه الأمة .. في مجال الاقتصاد والسياسة والحرب والعلم و الأخلاق.. وهاهنا في سياق المرأة والأسرة، كان القانون نفسه يعمل عمله بوساطة جيش من السماسرة وأدعية التقدّميّة والتحرر، لكي يفرط بواحدة من أكثر الحلقات في الحياة الإسلامية تميّزاً وتفوقاً، ويحلّ محلها: التفكك والعفن والرذيلة والخراب والشذوذ والزهري والسيلان.. وأخيراً الإيدز الذي بدأ يدق الأبواب.
هذا كله كان، ولا يزال قائماً حتى اللحظات الراهنة في ديارنا، رغم أنه حوصر إلى حد كبير بقوة معطيات الصحوة الإسلامية ومطالب الفطرة البشرية التي تميل إلى الطهر والعفاف والنظافة والاستقرار، والتي لن تحظى بتحققها المأمول إلا في إطار هذا الدين.
ألا أن المفاجأة التي حدثت، فيما لم يكن أحد يحسب له أيما حساب، إن المكر السيئ حاق بأهله، وتلك هي واحدة من سنن الله سبحانه في خلقه. وليس المقصود هنا حشود السماسرة الذين مرّروا العملية؛ فهؤلاء ليسوا بأكثر من أدوات أو آلات للتوصيل.. وإنما الحياة الغربية نفسها التي أخذت تتلقى الهجوم المضاد في قضية المرأة.. في عقر دارها.. عبر العقدين الأخيرين على وجه الخصوص. وأصبح هذا "الغزو" إذا صح التعبير، أو الهجوم المضاد، يمثل بمرور الوقت هاجساً ملحاً في دوائر الحياة الغربية على مستوى السلطة والمجتمع، وأخذ يتصاعد حتى كاد يدفع بعض القيادات الغربية إلى تجاوز ما يُسمى هناك بالثوابت الديموقراطية من أجل وقف الظاهرة التي أخذت تهدّد الحياة الغربية، على ما تصوّروه هم بحكم التقاليد الفكرية والسلوكية وضغط الأعراف والمسلمات الخاطئة القادمة من عمق الزمن الأوروبي.
أمامي الآن مقال للمفكر الفرنسي (برنارسيشير) بعنوان "الحجاب العرب .. ونحن" ينطوي على بعض المعطيات المهمة، وهي تمس كما يبدو من العنوان، إحدى الحلقات المهمة في موضوع المرأة المسلمة، ولا أقول قضيتها، ألا وهو (الحجاب).. فها هو الحجاب يقتحم العري الفرنسي.. التهتك الباريسي المعروف، ويفرض حضوره في قلب المجتمع.. فكيف كانت رؤية الفرنسيين أنفسهم للظاهرة؟ كيف كانت ردود الأفعال؟
حين تحجّبت بعض الفتيات في (الليسيه) يقول (سيشير)، تحركت الطبقة السياسية، وراح يدلي كل بدلوه حول الاحترام الواجب تجاه بلد الضيافة، وهو يقصد ضرورة احترام التقاليد الفرنسية من قبل أولئك الغرباء الذين قبلتهم فرنسا ضيوفاً عليها، بغض النظر عن القيم الأخلاقية لهذه التقاليد، حتى إن أحد الوزراء هدّد باتخاذ موقف، واجتمعت أخيراً الهيئة الدستورية، في حين كاد يعلن بعض المثقفين - جهاراً - أن الوطن العلماني في خطر!
ويمضي (سيشير) إلى القول بأنه مهما بلغت قدرة عملاء العروض المشهدية على التلاعب والتأثير - وهم لم يترددوا في ممارستها بوقاحتهم المألوفة - فإن حادثاً كهذا لا يكتسب مثل هذه الأهمية ولا يثير مثل هذه الأصداء، إلا إذا كان يمس الطبقات العميقة من الوعي الاجتماعي. وبما أن من تحرّك هذه المرة ليس من أتباع (الساسة الفاسدين)، وإنما من المفكرين اللامعين الذين اجتاحتهم فجأة موجة من الغضب المفرط.. فيجب أن نبحث عن الدوافع البعيدة.. إنها أعراض (بواتييه) المرضية!
إذن فإن تراكمات التأريخ والعمق الصليبي للمثقف الفرنسي الذي لا يزال يتذكر محاولة الاقتحام الإسلامي للأرض الفرنسية وهزيمته عند (بواتييه)، هي التي تستفز في تحليل (سيشير) العقل الغربي لمجابهة ظاهرة الحجاب الإسلامي، حتى لو أدّى الأمر إلى
خرق الثوابت الديموقراطية وضرورات "التسامح وجمال الاختلاط العرقي" التي يدّعيها الفرنسيون. ويبدو لي - يقول سيشير -: إن أعراض (بواتييه) المرضية إنما تشهد على جهلنا العميق بحقائق الإسلام كما تشهد في الوقت نفسه على عودة غريبة للمكبوت تجعل
العربي (المسلم بالأخص) يحل وقتياً محل اليهودي في الاستيهام العنصري والمتوتر لغيريّة AL teroite )) قوية تنذر وتهدّد.
إنه "النسيان المذهل" و "النفي المجنون" كما يعبر (سيشير)، لأفضال الحضارة الإسلامية على الغرب"، وإذا كان العرب قد بهروا ذاكرتنا القديمة وأربكوها إلى هذا الحد ، فذلك لأنهم كشفوا عن قدرتهم على ابتكار الحضارة الأكثر ألقاً وغنى، عندما كنا لا نزال نحن في طور التخلف، وقد لعبت الكنيسة المسيحية، في إطار هذا الكبت الكبير، دوراً لا تُحسد عليه أبداً، وآن الأوان لكي تعترف بذلك خصوصاً وأن مذهبها ما كان ليتكون لولا أن سلبت الكنز النفيس الذي وصلها من الفكر الإسلامي، ثم عملت على طمس معالمه المدهشة".
إن الفرنسيين، والغربيين عموماً هم ضحايا التعصب - كما يقرر سيشير - ضحايا تشويه تجعلهم يتصورون أن تأريخهم هو التاريخ الوحيد الممكن، ويجعلهم يسقطون من خلال هذه الأفكار (وعسكرياً من خلال الأفعال) تحديدهم للسياسة على وقائع تاريخية وثقافية تبدو لهم متطرفة لدرجة أنهم يمضون وقتهم في ترسيخ سوء التفاهم.
وبوصفي مدرساً - يقول سيشير - فإنني أتساءل كيف لا ترون أن المشكلة الملحة ليست الحجاب، وإنما الانهيار العام لثقافة لا تعني رجال السياسة عندنا؟" وتقولون: إنكم تريدون حماية هُويّة؟ وأية هُويّة؟ ولأن الجواب لن يكون سهلاً فمن الأفضل فتح باب المناقشة والانحياز إلى الفكر وليس إلى الخوف!
"لقد أحالتنا الحيوية الدينية الإسلامية فجأة، إلى وعي مخيف، ولقد عبّر عنها بعض المثقفين المستنيرين من خلال ردود فعل مرعبة وتشنّجات غير عقلانية".
هذا بعض ما يخلص إليه (سيشير) وهو يعالج ردود الفعل الفرنسية تجاه ظاهرة الحجاب في سياق الموقف المسيحي العام من خلال الظاهرة الإسلامية ببعدها الديني وعمقها التاريخي، وهو موقف لا يعكس فكر أو عاطفة الشرائح الدنيا في المجتمع، أو حتى الساسة (الفاسدين)، ولكن المثقفين والمفكرين اللامعين!
*الأديب والمؤرخ والمفكر العراقي.
(البوصلة)