حربا الشيشان
حربان دارتا بين روسيا والاستقلاليين الشيشانيين، الأولى بين عامي 1994 و1996، والثانية بين عامي 1999 و2000 وانتهت بوضع الشيشان تحت السيادة الروسية. خلفت الحربان آلاف القتلى وشكلتا عنوانا لطموحات الاستقلال لدى الشعوب المنضوية سابقا تحت الاتحاد السوفياتي.السياق التاريخي والسياسياستهدفت محاولة انقلابية جرت في أغسطس/آب 1991 عزل آخر الرؤساء السوفيات، ميخائيل غورباتشوف، خلال عطلته الصيفية في جزيرة
القرم.
فشلَ الانقلاب، لكنه دق المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفياتي، ووفرَ فرصة سانحة لبوريس يلتسين لخطف الأضواء وتكريس شرعيته كوريث سياسي شرعي للاتحاد المتهاوي، مما مهد لبروز نزعةٍ انفصالية شاملة لدى الجمهوريات السوفياتية السابقة.
أعلن الضابط السامي في الاستخبارات السوفياتية جوهر دوداييف، استقلال الشيشان وأنغوشيا بعد يومين من الانقلاب الفاشل، حافزه في ذلك اعتقاده بأنَّ يلتسين لن يبخل عليه بالدعم مكافأة على موقفهِ إلى جانبه خلال الانقلاب الفاشل.
لم تلبث أنغوشيا أن انفصلت عن الشيشان وشكَّلت دولة خاصة بها، بينما كان يلتسين ينظر بقلق لما يحدث في القوقاز، لكن الأوضاع في
موسكو كانت تفرض التعاطي مع أولويات أكثر حيوية قبل البت في الملف الشيشاني، وإن كان يلتسين لم يستسغ انفصال الإقليم وكان مصمما على استرجاعه حين تسمح الظروف بذلك.
الشرارةعمل نظام يلتسين على دعم قياداتٍ شيشانية مناوئة لدوداييف، ودفع قياداتٍ محلية عسكرية إلى حمل السلاح ضد دوداييف عقابا له على رفض التوقيع على معاهدة الاتحاد الروسي، والتي عُرضت للتوقيع في مارس/آذار 1992 وكانت الشيشان الإقليم الوحيدة الذي امتنع عن توقيعها.
وبحلول أواخر عام 1994، كانت الأوضاع قد استقرت ليلتسين وتمكن من ترتيب البيت الروسي، وكان استرجاع الشيشان الخطوة الموالية على الأجندة السياسية ليلتسين الراغب في الظهور بمظهر الزعيم القوي القائد على تحقيق وحدة روسيا وتكريس دورها ومكانتها كوريث للاتحاد السوفياتي.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، تعرض نظام دوداييف لانقلابٍ عسكري دامٍ شارك فيه جنود جندتهم الاستخبارات الروسية، ومع إخفاق الانقلاب في القضاء على دوداييف قررت موسكو غزو الشيشان وأرسلت ثلاثين ألف عسكري إلى هناك، دخلوا العاصمة غروزني مع مطلع عام 1995 بعد قصفٍ مدفعي وجوي بدا أشبه بالمجزرة المنظمة منه بالحرب.
قتل خمسة آلاف عسكري روسي في معارك غروزني مقابل 25 ألف شيشاني أغلبهم من المدنيين، ونزح نحو نصف مليون من السكان.
وفي يونيو/حزيران 1995، جاءت أولى عمليات الانتقام الشيشانية وتمثلت في حجز رهائن بمستشفى في "بودينوفسك" انتهى بتدخل القوات الروسية ومقتل 150 شخصا.
وفي يوليو/تموز من العام نفسه، قبل الشيشانيون التوقيع على وقف إطلاق النار لكنهم سرعان ما عادوا إلى حمل السلاح مجددا في ديسمبر/كانون الأول 1995 الموالي وكثفوا عملياتهم في العمق الروسي، واحتجزوا رهائن في كيزليار في يناير/ كانون ثاني 1996 وانتهت العملية بمقتل ما بين 50 و150 شخصا.
في ربيع ذلك العام، تمكن الروس من اغتيال جوهر دوداييف بقصفٍ صاروخي بعد رصد مكالمة هاتفية له. بيد أنَّ ذلك لم يفت في عضد الشيشانيين الذين واصلوا المقاومة بشراسة مستفيدين من تدفق أعداد مهمة من القادمين من ساحة الجهاد الأفغاني على الجبهة الشيشانية التي رأوا فيها ساحة جهادٍ جديدة.
ومع تفاقم وضع
الجيش الروسي واقتراب الانتخابات الرئاسية، أعلن يلتسين مع بداية فصل الصيف وقفا لإطلاق النار لم يدم أكثر من شهر، لكن الشيشانيين كانوا قد أعدوا العدة لمعركة غروزني الثانية ليستعيدوها في السادس من أغسطس/آب، وسط صدمةٍ مدوية في الرأي العام الروسي الذي بدأ يُعبر عن امتعاضه من الحرب ويُشكك في جدواها.
وفي 30 أغسطس/آب، نجح رئيس مجلس الأمن القومي الروسي المعين حديثا، ألكسندر ليبيد، في إقناع الشيشانيين بالتوقيع على اتفاق لوقف القتال مقابل انسحاب القوات الروسية، لتُطوى صفحة حرب الشيشان الأولى بعد أن خلفت ما بين ثمانين ألفا ومئة ألف قتيل ودمارا شبه كامل.
الحرب الثانيةبدا واضحا أنَّ جولة جديدة من الحرب لا محيد عنها، فعلى الجبهة الروسية، لم يكن يلتسين أبدا مقتنعا بتلك النهاية المذلة لحربٍ قدَّر في البدء أنها خاطفة ومحدودة، كما أنَّ الجيش الروسي شعر بالإهانة وكان يتمنى أن تواتيه فرصة جديدة للانتقام من الشيشانيين.
وعلى الجبهة الشيشانية، أخفقَ الرئيس المنتخب أصلان مسخادوف في إرساء الأمن والاستقرار في الإقليم الذي بدأت تزدهر فيه حركات جهادية لا تُخفي طموحها إلى توحيد الجمهوريات الإسلامية في القوقاز الشيشان وأنغوشيا وداغستان. قاد تلك الحركات الجهادية القيادي الشيشاني شامل باسييف والجهادي السعودي القائد خطاب.
كان بوريس يلتسين يحتضر ولم يكن مقتنعا برئيس وزرائه سيرغي ستيباشين خليفة له، وانتهى به الأمر إلى إزاحته واستبداله برئيس المخابرات
فلاديمير بوتين الذي عينه رئيسا للحكومة ورئيسا لروسيا بالإنابة في التاسع من أغسطس/آب 1999، أي بعد يومين فقط من محاولة قوات باسييف السيطرة على بلدات في جمهورية داغستان.
أعلنت الحكومة الشيشانية فورا تبرؤها من عمليات داغستان ومنفذيها، بيد أنَّ العنف انتقل إلى روسيا حيث جرت بين أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول من ذلك العام عشرات الاعتداءات الدامية التي لم تتبنها أي جهة، وإن كانت السلطات لا تترد في نسبتها للمقاتلين الشيشان.
في الخامس من سبتمبر/أيلول، قصف الطيران الروسي مواقع في غروزني يُعتقد أنَّها للجهاديين، كما أعلن رئيس الوزراء بوتين أنَّ روسيا لم تعد تعترف بسلطة الرئيس الشيشاني مسخادوف. وفي 23 من ذلك الشهر أعلنت روسيا الحرب، ودفعت بنحو ثلاثين ألف جندي إلى الحدود الشيشانية، لتدخلها وتواصل تقدمها إلى غروزني التي وصلتها في اليوم الأول من عام 2000، أي بعد يوم واحد من تولي بوتين رئاسة البلاد إثر استقالة يلتسين.
في أبريل/نيسان 2000 اقترح مسخادوف مخططا للسلام لكن موسكو بادرت برفضه، وكان بوتين حريصا على مواصلة الحرب رافعا شعار "محاربة الإرهاب" في القوقاز لكسب الدعم الغربي الذي تعزز بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في
الولايات المتحدة.
واصلت القوات الروسية عملياتها العسكرية في ظل اتهاماتٍ من المنظمات الدولية بارتكاب مجازر وبقصف المناطق السكنية والأهداف المدنية دونَ تمييز بينها وبين الأهداف العسكرية. وفي يونيو/تموز 2000 أعلن بوتين وضع الشيشان تحت وصاية الكرملين، وبعد ذلك بأربعة أيام عيَّن المفتي المقرب من روسيا أحمد قادروف، على رأس إدارةٍ للشيشان تتبع لموسكو.
رغم السيطرة العسكرية الروسية، ظلت الشيشان مضطربة ونفذ المسلحون الشيشان عمليات في العمق الروسي أوقعت مئات القتلى.
في مارس/آذار 2005، قتل كوماندو روسي الرئيس الشيشاني أصلان مسخادوف، وقرر بعدها الانفصاليون تسمية عبد الحليم سعد اللائيف رئيسا جديدا، والقائد العسكري شامل باسييف رئيسا للوزراءـ وهو منصب ظل يشغله حتى مقتله في 10 يوليو/تموز 2005.
أدى رحيل باسييف -وقبله القائد خطاب- إلى إضعاف المقاومة الشيشانية المثخنة بتبعات أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي نزعت عنها كثيرا من شرعيتها السياسية وأصبغت عليها صبغة "الإرهاب".