نكبة فلسطين ووجع التاريخ في ديوان «قطوف الوجع»
المعتصم عزالدين
يرتبط شعر أحمد مفدي بالجماعة التي ينتمي إليها، كون الانتماء يدفع به إلى خدمة الوجدان الجمعي،
والإفصاح عن القضايا القومية والكونية. ومن هذا المنطلق تهدف هذه الدراسة إلى الكشف عن تجليات نكبة
فلسطين، والإحساس بوجع الاغتراب الثقافي في ديوان «قطوف الوجع» الصادر في جزأين عن مطبعة
وراقة بلال، الطبعة الأولى سنة 2016، للشاعر أحمد مفدي، الذي يروم التعبير عن هموم العالم العربي
المقهور، إذ يتحول نظام اللغة عند الشاعر إلى أداة لغوية تكشف عن هوية المجتمع العربي وحضارته.
نكبة فلسطين
شَكَّل حضور فلسطين ومدنها ومداشرها في جسد النص الشعري العربي علامة واضحة الأبعاد، إذ حظيت
باهتمام بالغ من لدن الشعراء، باعتبارها مخزونا نفسيا، ويرى إبراهيم نمر موسى في مقاله «ذاكرة المكان
وتجلياتها في الشعر الفلسطيني المعاصر» أن تدمير فلسطين يغذي فينا إحساسا لا يضاهي بالفجيعة وفقدان
الحرية، وكان الإحساس الفجائعي في جوهره أكثر حقائق وجودنا ضراوة ومعنى، لذلك فإن فلسطين بالنسبة
إلى الشاعر العربي، لم تكن موضوعا خارجيا فاترا، بل كانت جزءا من موضوع الحرية والصراع الدامي
من أجلها في الوطن العربي. لم يكن اغتصاب هذه الأرض انتهاكا مجردا للجغرافيا أو عدوانا عابرا عليها،
بل هي، بالنسبة إلى الشاعر العربي، عدوان على حريته وتماسكه وبهجته الإنسانية، ولذا كان الشاعر
يتماهى مع عناصر الموضوع الفلسطيني. وفي هذا السياق يبرز الشاعر أحمد مفدي وجع التاريخ وأحداثه،
ويثبتها في الذاكرتين الفردية والجماعية، من خلال قصيدة «رسائل الأموات إلى الأحياء» التي يقول فيها:
«روحي، يا ورقة.. في الشرق، وجسمي آنسه هاجس قرطبة.. لما نامت والدمعة في عينيها تغسل أوزار
التاريخ بغزة.. في حضن قراصنة الأوطان على أمواج النهر، فهل تسمع في الليل صراخا عربيا يتثاءب
بين الشطآن صدى وثنيا؟ ما كان بهيميا».
تنهض هذه الأبيات على جدلية قائمة بين الثورة/ الظلم، أو بين الحرية/ العبودية، أو الثوار/ الحكام الطغاة،
وهي تعمل على تأطير النص وإنتاج دلالته، حيث تحفز العرب على الثورة، بهدف غسل أوزار التاريخ،
وتبعث على السخط والتبرم من الطغاة. وبهذا المعنى لا تكون شخصية الثوار العرب شخصية نموذجية أو
مثالية -حسب صلاح فضل في كتابه «منهج الواقعية في الإبداع الأدبي» إلا بالمقارنة والتضاد مع
شخصيات أخرى، تعبر عن مناحي التناقض معها، بقدر غير يسير من التطرف كذلك، والارتفاع بشخصية ما
إلى مستوى النموذج، لا يتم إلا نتيجة لمثل هذه العملية المعقدة المتنوعة الزاخرة بالمتناقضات المتطرفة.
كما أن بنية «التضاد» استطاعت أن تمد النص بزخم تاريخي، تتشكل من خلاله الثورة والبطولة، حيث
يقول الشاعر في قصيدة «شطحات الاقتناء»: «تهت وتاه العشق ومال التاريخ إلى البشرى.. يتقفى أثر
الرحلة في الوجع.. وبك انهد الرابط بين الأنوار.. وبين الإبصار، ودمدم في أبوابك ظلم الأقدار فماذا
تنتظر؟ هل معجزة النخبة أن تجتمع الأضداد على وجع الأمة كالإعصار؟».
إن تدمير فلسطين من قِبَل الصهاينة جعل الوطن هاجسا في مخيلة الشاعر شَكَّل من خلاله جماليته الشعرية،
وقد مَثلت هذه التجربة الشعرية فاجعة إنسانية عندما أصبحت فلسطين مسكونة من لدن الغرباء، الذين لا
يمتون بأي صلة إلى هذا الوطن؛ إذ البيت/ الوطن في رأي غاستون باشلار جسد وروح، وهو عالم الإنسان
الأول قبل أن يقذف بالإنسان إلى العالم، وأي ميتافيزيقا دقيقة لا تستطيع إهمال هذه الحقيقة البسيطة، لأنها
قيمة مهمة، نعود إليها في أحلام يقظتنا. فالوجود أصبح الآن قيمة، والحياة تبدأ بداية جديدة محمية دافئة في
صدر البيت، لكنها قد تنتهي نهاية فاجعة عندما يفقد المرء البيت/ الوطن فيعمد إلى استرجاعه والانتساب
إليه.
وجع التاريخ والاغتراب الثقافي
تتجسد الغربة، في ديوان «قطوف الوجع» في علاقة التوتر القائمة بين الشاعر والكون المحيط به، إذ يولد
هذا التوتر في نفسية الشاعر الشعور بالغربة والشجن، ويفضي، في بعض الأحيان، إلى التذمر والإحباط
فيشعر الشاعر بالانهيار، جراء عجزه عن تغيير الواقع. وهذا الشعور المأساوي يمثله المقطع الشعري
الآتي: «وا… وجع التاريخ.. ومكر تعاقبه.. أن لا تعتلج الحسرة في وجدان العابر أنهار الدم…هل يندم.. لما
تمسي الغمة ديدن من يحمل في عينيه خرائط أحلام تنهدم».
يعد الألم مكونا رئيسا من مكونات ديوان «قطوف الوجع» وأظهر صنوف الألم فورة، الإحساس بالاغتراب
الثقافي، إذ يغدو كلّ تأمل في مظاهر الكون تعويضا لغياب مؤلم، أو إفصاحا عن معاناة الشاعر من ألم
وشجن يجسده المقطع الآتي من رسالة ورقة بن نوفل المعنونة بـ»فاكهة العشق»: «هل رحلك يا ولدي
أوب كالطير إلى الشرق وأرض الفتح فناء في الله.. وفي الشعر حدوسك تنثال على المجرى مطرا.. وتركت
قناديل العشق وراءك ظهريا والناس بأندلس كانوا في جبل (الألب) أسرى وعذارى ورجالا ذابت في الماء
فحولتهم.. رقصوا في كفِّ ملوك طوائفهم».
يُفْصِح الشاعر عما يعانيه العرب من غربة وتمزق واضطراب، من هنا كان منبع الغربة هو تجربة انتظار
تزدحم بأعنف ألوان الشعور بالمسؤولية تجاه القيم الروحية، التي تمثل المصير الخلقي للإنسان.
تتضمن هذه الأبيات تفاعلات نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية، تجمعها سمة واحدة هي الإحساس بالغربة
في الحياة، التي تبعث على الإحساس بالقلق، وتمثُّل هذا الإحساس معناه الالتزام بالقضية الإنسانية والوعي
بها، وبالقيم والمفاهيم الخُلقية التي تجسد دعائم وقواعد المجتمع. لأن القلق هو الطابع الأصلي في الوجود
حتى عند أشد الناس طمأنينة، بل في السعادة نفسها، وإن اختلف مقدار الشعور بها، في ما بين الناس، بتعبير
عبد الرحمن بدوي في «الزمان الوجودي». ويسترسل الشاعر معبرا عن قلقه الوجودي وعن الخنوع الذي
سيطر على العرب بقوله: «وااااوجع التاريخ من الأعراب إذا اندسوا.. في دمنا.. والأعراب شهود، لما
أتقنت الصيحة في الوادي كشف بقايا عورات العرب».
يُفْصِح الشاعر عما يعانيه العرب من غربة وتمزق واضطراب، من هنا كان منبع الغربة هو تجربة انتظار
تزدحم بأعنف ألوان الشعور بالمسؤولية تجاه القيم الروحية، التي تمثل المصير الخلقي للإنسان. ومن ثمة،
نستخلص أن المواقف تلح على ذاكرة الشاعر فتشعره بالحيرة والاضطراب، والذهول الذي يداهم نفسه،
حيث تتداخل بواعث الأشجان التي تستبد بكيانه. وتبعا لهذا كله جاء الديوان معبرا عن فواجع الحياة، وعما
يقاسيه الوجدان العربي من بؤس وقهر وحرمان، لذلك تحولت القصائد إلى ألحان لمواكبة الشعور بالغربة
والضياع.
نستخلص أن ديوان «قطوف الوجع» بمثابة دفقات من المشاعر الجيّاشة، يبث من خلالها الشاعر ما يعتَمل
في وجدانه من ألم وقلق وجودي لتصير القصائد عبارة عن رسائل مشفرة يبعثها الأموات إلى الأحياء «
طغاة الأرض» لحثّهم على العزوف عن اقتراف الجرائم في حق البشرية، والإعراض عن صور الفساد في
الأرض. والشعر، بهذا المعنى، منبعه الذات المتألمة التي تحوّل ألمها الصامت إلى نطق شعري متألم، إذ يعد
الألم، المنطوق به في القصائد الشعرية، طريقا إلى وجدان المتلقي الذي يصير طرفا مشاركا. وتبعا لهذا
كله، فإن الذّات الشاعرة، هي ذات تعبر عن ذوات أخرى تنظر إلى الشعر من باب الألم، فتنفعل به لتعيش
التجربة عن طريق الإنصات والتصديق. ومن هنا نستطيع القول إن التجوال في ديوان «قطوف الوجع»
يتطلب قارئا قادرا على تفجير الطاقة الجمالية الكامنة، عن طريق تفاعله مع القصائد تفاعلا مبنيا على
مراعاة خصوصية نظامها، وهذا لن يتأتَّى إلا بالاستناد إلى آليات تحليل الخطاب التي تساعد الدارس على
فهم أشكال اللغة المرتبطة بالحياة الواقعية والتجربة اليومية. لأن ميزة التواصل، بالأساس، تكمن في كون
العلاقة بين المرسِل والمرسَل إليه علاقة تفاعلية.