الرحّالة ناصر خسرو في القدس... في العام 1047 ميلادية (2)
يصف الرحّالة ناصر خسرو مشاهداته في البلاد التي زارها، وقد كان جلّ اهتمامه وتركيزه على مدينة القدس بالتحديد، فقد أقام فيها سبع سنواتٍ ليدرس معالمها وآثارها وموقعها وعادات أهلها وتاريخها الديني والتراثي والعمراني، وقد وصف مشاهداته ودوّنها في كتاب "سفر نامة" باللغة الفارسية، أي "زاد المسافر"، فجاءت على صورةٍ بديعة متماسكة وموثّقة نهَل منها الدارسون والباحثون في تاريخ ومعالم وطقوس مدينة القدس في تلك الحقبة التاريخية.
وقد جاء في وصفه البديع الدقيق للدكة القائمة في وسط ساحة المسجد الأقصى، وكذلك استفاض في وصف الصخرة المشرفة فقال:
(أقيمت هذه الدّكة في وسط الساحة لأنّه لم يتيسّر نقل الصخرة إلى الجزء المسقوف من المسجد لعلوّها وهي تظلّ مساحة من الأرض مقدارها ثلاثون وثلاثمائة ذراع في ثلاثمائة وارتفاعها اثنتيْ عشرة ذراعاً وصحنها مستوٍ ومزخرف بالرخام الملبس بوصلات الرصاص، وعلى جوانبها الأربعة ألواح الرخام "كما يعمل في المقابر" وهي مبنيّة بحيث لا يستطيع أحدٌ الصعود عليها من غير المراقي المخصّصة لهذا الأمر ويشرِف من يصعد عليها على سقف الجامع وقد حُفِر في أرضها في الوسط حوضٌ يصبّ فيه مياه المطر بواسطة قنوات أُعِدّت لذلك، وماء هذا الحوض أنقى وأعذب من كلّ ماء في الجامع وعلى هذه الدكة أربع قباب أكبرها قبة الصخرة التي كانت القبلة.
وقد بُنِي المسجد بحيث تكون الدكة في وسط الساحة وقبة الصخرة في وسط الدكة والصخرة وسط القبة، وقبة الصخرة بيت مثمّن منظّم كلّ ضلع من أضلاعه الثمانية ثلاث وثلاثون ذراعاً وله أربعة أبواب على الجهات الأربع الأصلية باب شرقي وآخر غربي وثالث شمالي ورابع جنوبي، وبين كلّ بابيْن ضلع، وجميع الحوائط من الحجر المنحوت وارتفاعها عشرون ذراعاً ومحيط الصخرة مائة ذراع وهي غير منتظمة الشكل لا هي مدوّرة ولا مربعة ولكنّها حجر غير منتظم كحجارة الجبل، وقد بنوا على جوانب الصخرة الأربعة أربعة دعائم مربعة بارتفاع حائط البيت المذكور وبين كلّ دعامتيْن على الجوانب الأربعة عمودان أسطوانيان من الرخام بالارتفاع نفسه وعلى قمة تلك الدعائم وهذه الأعمدة الاثني عشر بنوا القبة التي تحتها الصخرة والتي يبلغ محيطها مائة وعشرين ذراعاً.
وبين حائط هذا البناء والدعائم والأعمدة (أسمّي المربّعة المبنية "ستون" دعامة، والمنحوتة المستديرة التي من حجر واحد "اسطوانة" عموداً) ثماني دعائم أخرى مبنية من الحجارة المنحوتة، وبين كلّ اثنتين منهما ثلاثة أعمدة من الرخام الملون على أبعاد متساوية بحيث يكون في الصف الأول عمودان بين كل دعامتين ويكون هنا ثلاثة أعمدة بين كل دعامتين.
وعلى تاج كلّ دُعامة أربعة عقود على كلّ عقدٍ طاق وعلى كل عمود عقدان فوق كلّ منها طاق وهكذا يكون على العمود متكأ لطاقين وعلى الدعامة متكأ لأربعة، فكانت هذه القبة العظيمة في ذلك الوقت مرتكزة على هذه الدعامات الاثنتيْ عشرة المحيطة بالصخرة، فتراها على بعد فرسخٍ كأنّها قمة جبل لأنّها من أساسها إلى قمّتها ثلاثون ذراعاً وهي تستند إلى أعمدة ودعامات ارتفاعها عشرون ذراعاً، وقبة الصخرة مشيّدة على بيت ارتفاعه اثنتا عشرة ذراعاً، إذن.. فمن ساحة المسجد إلى رأس القبة اثنتان وستون ذراعاً.
وسقوف هذه الدكة وقبابها مكسوّة بالنجارة، وكذلك الدعائم والعمد والحوائط وذلك بدقّة قلّ نظيرها، والصخرة أعلى من الأرض بمقدار قامة رجل، وقد أحيطت بسياج من الرخام حتى لا تصل يدٌ إليها.
والصخرة حجر أزرق لونه لم يطأها أحدٌ برجله أبداً، وفي ناحيتها المواجهة للقبلة انخفاضٌ كأنّ إنساناً سار عليها فبدَت آثار قدمه فيها كما تبدو على الطين الطري، فإنّ آثار أصابع قدميْه باقية عليها وقد بقِيَت عليها آثار سبع أقدام، وسمعت: أنّ إبراهيم عليه السلام كان هناك وكان إسماعيل طفلاً فمشى عليها وهذه هي آثار قدمه. ويقيم في بيت الصخرة هذا جماعة من المجاورين والعابدين وقد زيّنت أرضه بالسجاد الجميل من الحرير وغيره، وفي وسطه قنديل من الفضّة معلق بسلسلة فضية فوق الصخرة، وهناك قناديل كثيرة من فضة كتب عليها وزنها أمر بصنعها سلطان مصر.
ورأيت هناك أيضاً شمعة كبيرة جداً طولها سبع أذرع وقطرها ثلاثة أشبار لونها كالكافور الزباحي، وشمعها مخلوط بالعنبر، ويقال إنّ سلطان مصر يرسل هناك كلّ سنة كثيراً من الشمع، منه هذه الشمعة الكبيرة ويكتب عليها اسمه بالذهب، وهذا المسجد هو ثالث بيوت الله سبحانه وتعالى والمعروف عند علماء الدين "إنّ كل صلاة في بيت المقدس تساوي خمسة وعشرين ألف صلاة، وكلّ صلاة في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام تعَدّ بخمسين ألف صلاة، وأنّ صلاة مكة المعظمة شرفها الله تعالى تساوي مائة ألف صلاة" وفّق الله عز وجلّ عباده جميعاً لهذا الثواب.
وقد قلت إنّ أسقف وظهور القباب ملبسة بالرصاص وعلى جوانب البيت الأربعة أبواب كبيرة مصاريعها من خشب الساج وهي مقفلة دائماً.
وبعد قبّة الصخرة قبّة تسمّى قبة "السلسلة"، وهي السلسلة التي علّقها داود عليه السلام والتي لا تصل إليها إلا يد صاحب الحق، أمّا يد الظالم والغاصب فلا تبلغها، وهذا المعنى مشهور عند العلماء وهذه القبّة محمولة على رأس ثمانية أعمدة من الرخام وستّ دعائم من الحجر وهي مفتوحة من جميع الجوانب عدا جانب القبلة فهو مسدود حتى نهايته وقد نصب عليه محراب جميل.
وعلى هذه الدكة أيضاً قبة أخرى مقامة على أربعة أعمدة من الرخام وهي مغلقة من ناحية القبلة أيضاً حيث بني محراب جميل، وتسمّى هذه القبة "قبة جبريل" عليه السلام، وليس فيها فرش بل إنّ أرضها من حجر سووه.
ويُقال إنّ هنا أعِدّ البراق ليركبه النبي -صل الله عليه وسلم- ليلة المعراج.
وبعد قبّة جبريل قبة أخرى يقال لها قبة الرسول صل الله عليه وسلم وبينهما عشرون ذراعاً وهي مقامة على أربع دعائم من الرخام أيضاً، ويقال إنّ الرسول عليه الصلاة والسلام صلى ليلة المعراج في قبة الصخرة أولاً، ثم وضع يده على الصخرة فلمّا خرج وقفت لجلاله فوضع الرسول عليه الصلاة السلام يده عليها لتعود إلى مكانها وتستقرّ، وهي بعد نصف معلقة.
وقد ذهب الرسول عليه السلام من هناك إلى القبة التي تنتسب إليه وركب البراق وهذا سبب تعظيمها. وتحت الصخرة غارٌ كبير يضاء دائماً بالشمع ويقال إنّه حين قامت الصخرة خلا ما تحتها فلمّا استقرّت بقِي هذا الجزء كما كان).
هنا ينتهي وصف ناصر خسرو للدكة وللصخرة المشرفة وما حولها وما عليها وما رُوِي عنها من مآثر.
وسنتابع وصف آخر لمشاهداته في وصف المراقي المؤدّية إلى الدكة التي بساحة المسجد الأقصى كما أوردها في كتابه الشهير "السفر نامة" أي "زاد المسافر" كما ترجمته بالعربية، ووصفه لكنيسة القيامة في القدس على أنّها من أكبر وأهمّ المعالم الدينية المسيحية التي حرص المسلمون في كلّ وقتٍ على تقديرها والاهتمام بشأنها العمراني وقيمتها الدينية.
والله ولي التوفيق
المصدر: بقلم/ أ. عدنان كنفاني- خاص بموقع مدينة القدس.