الاستهلاك في الإسلام
د. زيد الرماني
تعريف الاستهلاك:
إن أي تحليل للاستهلاك ومقوِّماته، تكتسي صبغة هامة رغم المُعوِّقات والصعوبات التي تعترض سبيلَه على مستوى مفاهيم المستَهلِك والاستهلاك.
يقول جاستون ديفوسيه: "إنَّ تحديد ما يُقصد بكلمتي المستَهْلِك والاستهلاك أمر معُقَّد نسبيًا؛ فالواقع أن فكرة الاستهلاك لم تتحدد إلا بالتدريج، وبعد مُضي وقت طويل. ويبدو أن دور المستَهْلِك في النشاط الاقتصادي لم يكن معروفًا في بادئ الأمر، ثم أخذ يتحدد في مواجهة المنتِج، حتى ظهرت نظريات جديدة عن القيمة ورجحت كفته؛ وبالرغم من هذا التطور، لم تتخذ فكرة الاستهلاك صورة واضحة محدَّدة المعالم، و ما زال هناك خلاف بين الاقتصاديين المعاصرين حول تعريف الاستهلاك، وتحديد النشاط الاقتصادي الذي يدخل في نطاقه[1]".
كما أن المستهلِك مخلوق ليس من السهل فَهْمُ تصرفاته؛ فهو كما يقول هارتلى جراتان: "مخلوق معَقَّد يعيش في عالم معَقَّد"[2]. ولكي يتم فهم تصرفاته، يجب التسلح بمعلومات أكثر من تلك التي يتقنها رجال الاقتصاد؛ لتشمل أبحاث ونظريات علماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء دراسة الإنسان وعلماء التحليل النفسي.
المدلول اللغوي للاستهلاك:
في اللغة الإنجليزية - لغة الاقتصاد الوضعي الأولى - نجد هذا المصطلح "consumption" الذي يعني الاستهلاك.
فهل كلمة الاستهلاك أفضل تعريب لكلمة consumption؟. بمعنى آخر: هل تعطي فكرةً واضحةً عن المعنى الحقيقي للاستهلاك؟.
بالرجوع إلى قواميس اللغة الإنجليزية، نجد أن كلمة "consume" تعني: يستهلك، يستنفذ، يلتهم، يُتلف، يبدد، يستحوذ على، يضيع، ينفق[3].
وعلى الرغم من اختلاف هذه المعاني في ألفاظها، فإنها في الحقيقة متشابهة في مدلولها.
أمّا في معاجم اللغة العربية: يؤكّد الباحث - أولاً - على أنه لا يمكن إنكار أهمية التحليل اللغوي، إذ إن اللغة تعكس ثقافة مجتمع في حقبة من حقب التاريخ. ولفهم معنى الاستهلاك وأبعاده، ومدلولاته الفكرية، لابد من تحديد معناه اللغوي.
ثم يشير الباحث - ثانيًا - إلى أن مفاهيم الاستهلاك تتسع لتشمل: الإنفاق، الشراء، الإتلاف، الإشباع، الإسراف، التبذير، التبديد، الإهلاك، الأكل، ويتضح ذلك من خلال عرض تعريفات العلماء وأهل الاختصاص.
جاء في اللسان والقاموس المحيط أن: "هلك على وزن ضَرَبَ و مَنَعَ و عَلِمَ، هُلكاً بالضم، وهَلاكاً، وتهلُوكاً بضمها؛ وأهلك الشيء واستهلكه وهلكه ويهلكه لازمٌ ومتعدّ؛ واستهلك المال أنفقه وأنفده وأهلكه؛ والاهتلاك والاستهلاك رميك نفسك في تهلكة"[4] فالاستهلاك مصدر فعله استهلك المزيد فيه الهمزة والسين والتاء، والسين والتاء تزادان لإفادة الطلب أو المعالجة، كما تزادان لإفادة وجود الشيء على صفة فعله، فتكون استهلك بمعنى قصد أن يهلك هذا الشيءَ أو وجده على تلك الصفة وهي الهلاك[5].
الاستهلاك مادته الأصلية "هلك"، وقد ذكر أهل التفسير أن الهلاك في القرآن على أربعة أوجه:
الأول[6]: افتقاد الشيء عنك وهو عند غيرك موجود. كقوله تعالى: ﴿ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ﴾ [الحاقة: 29] [7].
والثاني: هلاك الشيء باستحالة وفساد، كقوله تعالى: ﴿ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾ [البقرة: 205][8].
والثالث: الموت، كقوله تعالى: ﴿ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ﴾ [النساء: 176][9].
والرّابع[10]: بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسًا، وذلك المسمّى فناءً، المشار إليه بقوله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيءٌ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَه ﴾ [القصص: 88] [11].
هذه هي الأوجه الأربعة التي ذكرها العلماء، عند ورود الهلاك في القرآن الكريم[12].
المدلول الفقهي للاستهلاك:
إذا تتبعنا الكتب الفقهية الأمهات، وجدنا كثيرًا منها خاليًا عن إفراد تعريف مقصود خاص للاستهلاك، ولعل ذلك راجع إلى أن هدف الفقهاء المسلمين يرمي في المقام الأول إلى البحث عن الاحكام العملية.
وقد يكون الاستهلاك عند هؤلاء الفقهاء جليًّا، لا يحتاج إلى تعريف، على أنه إذا كانت معظم تلك المصادر قد خلت عن إيراد تعريف فني للاستهلاك، فإنها قد تناولته في أبواب الفقه بالدراسة والبحث لمسائله المتنوعة.
يرى الأئمة في مختلف المذاهب أن الاستهلاك هو إخراج الشيء من أن يكون منتفعًا به منفعة موضوعة مطلوبة منه عادة، أو هو تغيير الشيء من صفة إلى صفة[13].
يقول الإمام الكاساني معرفًا الاستهلاك: "هو إخراج الشيء من أن يكون منتفعًا به منفعة موضوعة له مطلوبة منه عادة"[14].
ومن تعريفات الاستهلاك عند بعض الفقهاء المحدثين ما يلي:
الاستهلاك: "هو ضياع المال بتعد أو تقصير"[15].
وقال آخر: "هو إتلاف المال في منفعة الإنسان"[16].
وجاء في معجم لغة الفقهاء: الاستهلاك هو "زوال المنافع التي وُجِدَ الشيء من أجل تحقيقها، وإن بقيت عينه قائمة"[17].
المدلول المحاسبي للاستهلاك:
يستخدم علم المحاسبة اصطلاح Depreciation والذي تُرجـِم إلى "الاستهلاك"، بَيْدَ أن من الأفضل ترجمته إلى "إهلاك" أو "اهتلاك"، كما ذكر ذلك كثير من الباحثين وهو أقرب إلى المعنى المقصود، ويتضح ذلك من تعريفات أهل الاختصاص.
ومن معاني الاستهلاك في المدلول المحاسبي ما يلي:[18]
1- النقص في القيمة الحقيقية لأصل من الأصول نتيجة للاستعمال ومرور الزمن.
2- طريقة أو إجراء حسابي لتحويل الأصول الثابتة تدريجيًا إلى مصروفات، حيث تُوزَّع قيمة الأصول المنسوبة إلى الفترات التي اسْتُعْمِلَت فيها على مدد المحاسبة.
3- توزيع تكلفة الموجودات المادية طويلة الأجل على الفترات التي تُقَدِّم فيها هذه الموجودات خدمات معينة.
المدلول الاقتصادي للاستهلاك:
في الثلاثية الاقتصادية الكلاسيكية، الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، يشكل هذا الأخير المرحلة النهائية، حيث تُشْبـِع السلع والخدمات الحاجات الانسانية، ويترافق مع كل استهلاك إنفاقٌ، سواء أكان نقدًا أم رأسماليًا أم من المحروث.
ولقد أعطيت لكلمة الاستهلاك تفسيرات مختلفة، ولم يتفق الاقتصاديون حول مدلول النشاط الاقتصادي الذي يدخل في نطاق الاستهلاك.
وعلى الرغم من ذلك، فإنه يوجد عدد من التعريفات، يلقي كل منها الضوءَ على زاوية أو أكثر من جوانب هذا المفهوم، وكما يقول البعض[19] "إننا كلنا نتكلم عن نفس القضية ؛ بيد أننا لم نتفق بعد على ما نتكلم عنه".
وكلما اشتمل التعريف على عناصر الاستهلاك وهدف المستهلك، كان هذا التعريف أقرب إلى الصحة.
وفيما يلي عرض لبعض هذه التعريفات:
يعرف "قاموس ويبستر العالمي"[20] الاستهلاك بأنه: "عمل يهدف إلى استعمال الشيء استعمالاً كاملاً، مثل الأكل والوقت وغير ذلك" فالاستهلاك هو استعمال السلع الاقتصادية، وينتج عن هذا الاستعمال اندثارُ منفعتها. وذلك خلافًا للإنتاج وهو إيجاد القيمة.
وقد يكون أيضًا في حفظ هذه السلع والتمتع بها أو بما يمكن أن تُستخدم فيه.
ويعرف "قاموس الاقتصاد الحديث"[21] الاستهلاك بأنه: "الاستعمال الأخير للسلع والخدمات في إشباع الحاجات والرغبات الإنسانية":
وتعرف "وزارة التجارة الأمريكية"[22] الاستهلاك" تعريفًا إحصائيًا؛ فتقول إنه: "القيمة السوقية لمشتريات السلع والخدمات من الأفراد والهيئات التي غرضها غير الربح، وقيمة الأكل والملابس والإسكان وغير ذلك".
ومن تعريفات الاقتصاديين الغربيين، نقتبس ما يلي:
يقول الاقتصادي الأمريكي جاردتر آكلي "الاستهلاك هو الحصول على إشباع مادي أو نفسي من استخدام أو ملكية السلع والخدمات الاستهلاكية وليس مجرد شرائها فقط"[23].
وأما الاقتصادي الألماني شترا يزلر فيقول بأن الاستهلاك هو: "المنفعة المتحققة عن الجهد المبذول من أجل الحصول على السلع الضرورية"[24].
[1] جاستون ديفوسيه - مكان المستهلك في الاقتصاد الموجه، ترجمة دانيال عبد الله، سلسلة اخترنا لك، ع 128، الدار القومية للطباعة والنشر، دت، ص5.
[2] ينظر: Managerial Marketing: perspectives and Viewpoints - E. Kelly and W. lazer, lrwin, 1985 نقلاً عن: د. سيد محمود الهواري - تصرفات المستهلكين، دون ناشر، الطبعة الأولى 1966 ص 11.
[3] See: Oxford Advanced Learner's Dictionary of Current English as Hornby with Ap Cowie AC Gimson, Oxford university press, 1978, P. 183 and Al - Manar An English - Arabic Dictionary, Hasan S. Karmi, Longman Group Limited, London 1970, P. 130, and Modern Dictionary, Arabic - English Ed. Elias, Elias, Modern press Cairo, 1969, P. 762.
[4] ينظر: ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1388هـ، ج1/507، والفيروز آبادي، القاموس المحيط، دار الجيل، بيروت، د. ت ج3/335.
[5] ينظر: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، موسوعة جمال عبد الناصر في الفقه الإسلامي - مصر - د. ت، ج8/124.
[6] ويطلق عليه "الضلال".
[7] الآية 29 سورة الحاقة.
[8] الآية 205 سورة البقرة.
[9] الآية 176 سورة النساء.
[10] ويطلق عليه "العذاب".
[11] الآية 88 سورة القصص.
[12] ينظر: الراغب الأصفهاني - المفردات في غريب القرآن، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت ص544-545، والفيروز آبادي - بصائر ذوي التمييز، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، بيروت، د.ت ج5/338-339، وابن الجوزي - نزهة الأعين النواظر في علم الوجود والنظائر، تحقيق محمد عبد الكريم الراضي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1405هـ ص 639-640، والدامغاني - قاموس القرآن، تحقيق عبد العزيز سيد الأهل، دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة الثانية، 1977، ص 477-478.
[13] ينظر: الزيلعي - تبيين الحقائق شرح كنز الرقائق، المطبعة الكبرى، الأميرية، بولاق، 1315هـ ج5/77، ومالك - المدونة الكبرى، مطبعة السعادة، مصر، د. ت، ج14/59، والشافعي - الأم، المطبعة الأميرية بولاق، 1321هـ، ج3/86، وابن المبرد - الدر النقي شرح ألفاظ الخرقي، تحقيق: رضوان غربية، دار المجتمع، جدة، 1411هـ، ج3/560.
[14] الكاساني - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، مطبعة الجمالية، مصر، 1910م ج7/149.
[15] د. محمد نصار - محاضرات في الفقه الحنفي، الطبعة الأولى، 1968م، ص48.
[16] د. محمد فوزي فيض الله - نظرية الضمان في الفقه الإسلامي العام، مكتبة التراث الإسلامي، الكويت، ص86.
[17] د. محمد رواس قلعجي ود. حامد قنيبي - معجم لغة الفقهاء، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ، ص66.
[18] ينظر: د. عدنان عابدين - معجم المصطلحات المحاسبية والمالية، مكتبة لبنان، بيروت، 1981م، ص 49، وجوهاتسون وروبرتسون - معجم مصطلحات الإدارة، ترجمة نبيه غطاس، مكتبة لبنان، بيروت، 1972م، ص39، ومحمود شوقي عطا "مفهوم الاستهلاك في ظل التخطيط الاشتراكي"، مجلة المحاسبة والإدارة والتأمين للبحوث العلمية، س6، ع8، كلية التجارة، جامعة القاهرة، 1967م، ص 168-169.
[19] ومنهم: البروفيسور روبنز والاقتصادي دويت في كتابه "نظرية السعر"، يراجع: د. سعد ماهر حمزة - علم الاقتصاد، دار المعارف مصر، 1968م، ص3، و د. عبدالعزيز السوداني - الاقتصاد الاجتماعي، الاسكندرية، دون ناشر، 1990م، ص15.
[20] نقلا عن د. سيد الهواري - مرجع سابق، ص 7-8.
[21] نقلا عن د. سيد الهواري - مرجع سابق، ص 7-8.
[22] نقلا عن د. سيد الهواري - مرجع سابق، ص 7-8.
[23] ج. آكلي - الاقتصادي الكلي "النظرية والسياسات"، ترجمة د. عطية مهدي سليمان، الجامعة المستنصرية، بغداد، 1980م، ج2/769.
[24] نقلاً عن د. خضير عباس المهر- المجتمع الاستهلاكي وأوقات الفراغ، دار العلوم، الرياض، 1407هـ، ص 147-148.