من عبوديته تعلمنا الجغرافيا ومن "معارضته السياسية" تعلمنا التسامح.. هنا "ياقوت الحموي"
أ. مدخل: التحدي المعجز.
يمثل ياقوت بن عبد الله الرومي، جنسياً ومولداً _ مثالاً فريداً للتحدي المُعجز!
ولد سنة 574 هجرياً/ وتوفي سنة 626 هجرياً، بحلب!
تحكي سيرته الذاتية أنه وقع أسيراً في بلاده وهو صغير، وشراه ببغداد رجل تاجر هو: عسكر بن أبي نصر إبراهيم الحموي، الذي انتسب له فيما بعد.
وجعله الكَتَّاب، ليستعمله في ضبط تجارته.
أعتقه بعد فترة سنة 596 هجرياً، فاشتغل بالنسخ، أو نشر القدم قديماً، فكان واحداً من الخطاطين المسلمين العظام
تعرض في حياته لمحن كثيرة بسبب الاستقطابات الأيدولوجية، فقد طاردته المدن بسبب عدم وجودة مسامحات فكرية، فقد كان متعصباً ضد الإمام عليّ رضي الله عنه.
عاصر خروج التتر وهو بخوارزم، فتنقل في البلاد حتى استقر بحلب، ومات بها.
يقول عنه ابن خلكان في ترجمته في وفيات الأعيان (6 /129 ترجمة 790): "وكانت له همة عالية في تحصيل المعارف".
وفي هذه الخطوط العريضة من سيرته يظهر سر ما أطلقنا عليه اسم: التحدي المعجز..
إننا أمام مملوك رقيق قي جانب من حياته لم يستسلم لهذه الوضعية القاسية، ولكنه غالبها، وتحداها، واستثمر ما كان منها، فتعلم، ومهر في صناعة الخطاطة، وهي يومئذ: صناعة وفن، يتكسب منهما، ويتثقف ويحصل المعارف في الوقت نفسه.
ونحن أمام مثال اضطرته صوارف الحادثات، ومساوئ اجتماعية، وأوضاع سياسية مذهلة وقدرية، وهجوم أجنبي، إلى الانتقال القسري من مدينة إلى أخرى، وقد ضاقت عليه الأرض، فهو يخاف دخول بغداد لاعتبارات ومواقف فكرية من بعض الأفؤاد والأنظمة، وهو مطلوب لمنزلة العالمية من التتر الغازي.
ومع ذلك كله فإننا أمام نموذج لمسلم قادم الاستقطابات الفكرية، وواجه تصاريف الزمان القاسية، ونجح فى أن يختط لنفسه طريقاً علمية صار بها واحداً من الأعلام التي شكلت جزءاً أصيلاً في بنية الثقافة العربية.
2. تَرِكة ياقوت:
ترك لنا ياقوت الحموي ميراثاً علمياً توزع على حقول معرفية بالغة الأهمية، تعكس وعيه وتصوره لرؤية العالم والوجود.
وهو تصور تلمح فيه انسراب الروح الإسلامية التي لا تتمدد على الأقدار، بل تسلّم بها، وتستثمرها، وتنفذ من أبوابها المضيئة إلى الإنجاز والبناء.
توزع منجز ياقوت الحموي المعرفي على مجالات متعددة هي:
أ. الجغرافيا واكتشاف البلدان
ويعد كتابه الفريد: معجم البلدان عملاً جبّاراً بمقاييس عصره بلا منازع، وهو ما يزال مصدراً من أعظم مصادر الأدب الجغرافي في الحضارة العربية الإسلامية.
وهو معجم موسوعي مختص بجغرافيا العالم.
وينضم إليه معجمه الجغرافي الآخر: المشترك وضعاً والمختلف صقعاً وهو مثال فريد، ومدخل للتفريق بين المواضع والبلدان التي تحمل اسماً ورسمًا واحدًا، ولكنها في الحقيقة مختلفة، ومتباينة من الناحية الجغرافية والمكانية .
ب. التاريخ .
والتنبه إلى التاريخ (الزمان) بعد التيه إلى الجغرافيا (المكان) أمر يعكس الوعي الظاهر بحركة الإنسان على هذين المحورين: الزمان والمكان!
وهي الحركة التي تنتج الحضارة إذا ارتبطت بتطور فكري عمراني، كالإسلام العظيم.
وقد أنتج هذا الوعي بقية النظر في التاريخ ما يلى:
- كتاب المبدأ والمآل في التاريخ.
- وكتاب الدول.
ويبدو من تحليل خطاب العنوانين أن الأول منهما ينتمي إلى ما يعرف بالتاريخ العام، وتلمس فيه نوع بحث عن العظمة والاعتبار واستخلاص السنن التاريخية الحاكمة في حركة الإنسانية في الزمان والمكان.
وأن الأخير منهما ينتمي إلى ما يعرف بالتاريخ السياسى، وحركة صعود الدول وهبوطها، وترقيها وانحدارها، وقيامها وانقطاعها.
وقد شاهد ياقوت مشاهدة عيان أمثلة لهذه الدول التى اجتاحها الغزو الأجنبى، ممثلًا فى التتر، وشاهد انكسار عدد منها بسبب التراجع والانقسام الداخلي أولًا، وبسبب الاستقطاب، والتعصب الفكري ثانياً، وبسبب التنكر للقيم الحضارية والثقافية العاصمة من الانهيار، وبسبب التنكر لقيم الإسلام الحقيقية!
ويرتبط بمنجزه في التاريخ جانب مهم جداً يتعلق بما يمكن أن يسمى التاريخ الفكري والثقافي للأمة. هو المنجز الذى انعكست تجلياته فيما يلي:
- معجم الأدباء.
- معجم الشعراء.
وفحص معجم الأدباء يكشف عن وعي بقية التنوع المعرفي والثقافي في حياة الأمة، وصيانة ترقيها الحضاري من جانب، وصيانة محدودات هويتها من جانب آخر.
وهذا الذي نقرره ليس استنباطاً غلبت عليه رعاية الثقافة المعاصرة، أو القراءة الحديثة فقط، وإن كان ذلك كافياً، لكن تصريح الرجل فى مفتتح كتابه يقول (معجم الأدباء 1 / 53): "وبعد فهذه أخبار قوم أخذ عنهم القرآن المجيد، الحديث المفيد، وبصناعتهم تنال الإمارة، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتم الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام"!
ومن هذا النص المنقول من مفتتح كتابه: معجم الأدباء يتضح لنا أنه معجم في تاريخ الحركة العلمية والثقافية في الأمة، من خلال الترجمة لأعلام الفكر والأدب بمعناه الواسع وليس بمعناه الضيق المحصور في فنون القول الإبداعية.
ج- الأدب والفن
ومنجز ياقوت الحموي يعكس قدراً من الوعي بأهمية رعاية الأدب والفن من منظور هذه الحضارة التي تركن إلى الفرح الساكن والبهجة الآمنة.
إن ما تركه ياقوت من مخطوطات أو أوعية مادية لنصوص كتبها بخطه تمثل لوحات فنية جمالية، استثمر فيها الخط العربي ليعكس وجهاً من وجوه العناية بالقيم الفنية والجمالية من منظور أروع، جزءٌ من طاقته في التشكيل الفني الذي يستثمر القول إبداعاً، ويستثمر الخطوط والكتابة فناً وجمالاً.
3- ماذا يتبقى من ياقوت الحموي؟!
إن واحداً من واجبات القراءة المعاصرة لمنجز أعلام هذه الأمة الشاهدة ينبغي أن يتوجه إلى استلهام الباقي واستخلاص السنن الكونية والتاريخية والاجتماعية، فإن الله تعالى استعبدنا برعاية السنة في كونه وفي خلقه معاً.
ومن هذا المنطلق فإن فحص منجز ياقوت الحموي يكشف من مجموعة مما يمكن الزعم بأنه مما يتبقى على طريق الاستلهام المعاصر.
3. 1. الاستجابة لتثوير القرآن
ظهر من تحليل خطاب عدد من مقدمات كتب ياقوت الحموي التي وصلت إلينا ما يدل دلالات قاطعة على استجابة قطاعات واسعة من علماء الأمة لمطالب عصورهم وأجيالهم في ضوء السنن القرآنية، أو في ضوء السنن الإلهية المبثوثة في الكتاب العزيز.
إن خدمه الجغرافيا والبلدانيات، وهو المجال المعرفي الأبرز، منجز ياقوت الحموي يمثل تجلياً عظيماً من تجليات هذا الاستجابة المباشرة للخطاب القرآني ولسننه الفاعلة في الوجود والحياة، يقول ياقوت الحموي في مقدمة معجم البلدان (1 / 7): " أما بعد، فهذا كتاب في أسماء البلدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقرى، والمحلّ، والأوطان، والبحار، والأنهار، والغدران، .. لم أقصد بتأليفه، وأصمد نفسي لتصنيفه لهواً ولا لعباً، ولا رغبة حثتني إليه، ولا رهباً، ولا حنيناً استفزني إلى وطن، ولا طرباً حفزني إلى ذي ود وسكن، ولكن رأيت التصدي له واجباً، والانتداب له مع القدرة عليه فرضاً لازباً، وقفني عليه الكتاب العزيز الكريم، وهداني إليه النبأ العظيم، وهو قوله عز وجل حين أراد أن يعرف عباده آياته ومثلاته، ويقيم الحجة عليهم في إنزاله بهم أليم نقماته ((أفلم يسيروا في الأرض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)) فهذا تقريع لمن سار في بلاده ولم يعتبر، ونظر في القرون الخالية ولم ينزجر. وقال وهو أصدق القائلين: ((قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين))؛ أي: انظروا إلى ديارهم كيف درست، وإلى آثارهم وأنوراهم كيف انطمست عقوبةً لهم على إطراح أوامره، وارتكاب زواجره".
إن هذا النص يوضح جملة مما ينبغى استلهامه في المرحلة الراهنة، لأنه من ثوابت ما يخرج وينتج من تدبر الكتاب العزيز، وهذه الجملة من المتبقيات يمكن إجمالها فيما يلي:
أولاً: ضرورة استجابة الحركة العلمية في الأمة للسنن الإلهية في الكتاب العزيز.
ثانياً: الوعي بسنن قيام الحضارات وسقوطها من منظور قرآني، يربط بين قيام الحضارة والطاعة والدوران مع أوامر الله تعالى، والاستجابة لمنهجه وشريعته، وتلمس آثار الاستجابة لسننه القرآنية.
ثالثاً: ضبط العقل والعاطفة بمنهج الله تعالى.
إن ياقوت الحموي في إلحاحه على الدوافع التي كانت وراء تصنيفه معجمه في البلدان والجغرافيا كان واضحاً في استعباد الدوافع النفسية المطلقة التي استغرقها في بيانه عن الرغبة والرهبة وما جاء من ذلك في مقدمة، وكان واضحاً وصريحاً جداً في ضرورة ضبط الحركة العلمية بمقاصد الكتاب العزيز أولاً، فإن توافقت هذه المقاصد من العواطف والانفعالات والشعورالقومي والوطني فبها ونعمت!
3. 2. التحذير العملي من المخاطر المرعبة للاستقطاب بين فضائل المجتمع
إن التجربة المريرة التى عصفت بجانب من استقرار ياقوت الحموي، ترجع في بعض أسبابها وجوانبها إلى الآثار المرعبة والمدمرة للاستقطاب بين فصائل المجتمع، لقد طورد الرجل لرأي في نظام حكم قادة صحابي جليل هو الإمام عليّ، وطورد الرجل لأجل مسألة فكرية، اتفقنا معه أو اختلفنا، وألب عليه نفر الحكومة التنفيذية في غير مدينة، ومُنع بسبب هذه المطاردة من دخول بغداد، وغيرها من المدن الإسلامية.
إن التجربة القاسية التي مرَّ بها ياقوت الحموي، يعود جزء منها إلى آثار التحريض بالمخالفين فكرياً. وهو الدرس الباقي الذي ينبغي أن تستلهمه الحياة المعاصرة إن رامت أن تعيش فى أمان، وأن تنعم باستعادة الوضع الحضارية الذي كان للأمة المسلمة.
إن جزءاً من الأمة والوطن، كما يتجلى من تجربة الياقوتية، مرهون بتحقيق التوافق الوطني، والائتلاف، وقبول التنوع الفكري الحقيقي والمتسامح.
3. 3. تطبيقات روح الإسلام العامة
تعكس تجربة حياة ياقوت الحموي عن استصحابه مجموعة كبيرة ورائقة وإيجابية من تطبيقات روح الإسلام العامة قي الحياة وهي مما يتبقى من قراءة سيرة حياته، وتحليل منجزه العملي، يمكن رصدها فيما يلي:
أولًا : الحرص على تنزيل مبدأ التعارف الإنساني منزلة واقعية، وخدمه ما يرقى به، وتحقيقه في حياة الإنسانية، وهو بعض ما يظهر من عنايته بالجغرافيا.
ثانياً: الحرص على التيسير على الخلق من نواحٍ عدة، فقد كشف تحليل منهج صناعته لعدد من المعجمات الجغرافية والثقافية تطبيقه لمنهج الترتيب الألفبائي، وهو النظام الذي ظهر مبكراً في الحضارة العلمية عند المسلمين بدافع تحقيق التيسير على الخلق بمنهج يعين على الوصول إلى المعلومات من دون بذل جهد مرهق، ومن دون هدر في الوقت من جانب، وخدمة قضية الوضوح والتفهيم ومطاردة اللبس في بعض التطبيقات المنهجية الأخرى من جانب آخر.
ثالثاً: التسليم الإيجابى للقدر الإلهى.
مثال ياقوت الحموي الذي استثمر تجربة الرق والعبودية، وعدم الركون إلى قوة التجربة من جانب، واستثمار الأسفار والانتقالات القسرية القاسية من جانب آخر تعكس نوىً جليلاً من الاستثمار الإيجابي للقدر الإلهي في حياة المسلم، وعدم السخط عليه، ولا التمرد عليه.
لقد أنتجت فترة الرق خطاطاً مرموقاً وفناناً مشهوداً له بالاتقان، عندما استثمر فترة الدفع إلى الكتاب ليتعلم الخط، وأثمرت الأسفار والمطاردات تحقيقاً وتطبيقاً لسنة السير في الأرض، فكان ياقوت رائداً في الأدبيات الجغرافية والبلدانية من منظور إسلامي.
رابعًا: العلم طريق للحراك الاجتماعي والترقي الحضاري.
إن تجربة ياقوت الحموي تعكس جزءاً من العافية الحضارية للأمة الإسلامية، وتعكس جزءاً من أدوات الترقي الحضاري وهو المتمثل في الإيمان بأن العلم طريق عبقرية -فى التصور الإسلامي الحقيقي- للحراك الاجتماعي، والانتقال الطبقي، والترقي الحضاري.
لقد توفرت معجمات لتراجم الأعلام الفكر والثقافة العربية الإسلامية على الترجمة لياقوت الحموي بحسبانه واحداً من نبلاء الأعلام، ومن رواد العلم فى تاريخ الإسلام، ولم يؤثر فى رؤيتها سليل أسر، ورق، وأعلت من قيمة العلم الذي تركه الرجل، وبه كان واحداً من الأئمة الأعلام في تاريخ العلم في هذه الحضارة الإنسانية الراقية.