زعيم حركة "الخدمة"، فتح الله غولن أسس كيانًا هائلًا في تركيا وقاد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016
عندما كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساءً من ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز، سمع رئيس الأركان التركي الجنرال خلوصي آكار، صوت طرق على باب مكتبه الواقع في العاصمة أنقرة، لقد كان الطارق أحد رؤسائه وهو الجنرال محمد ديشليأتى ليخبره ببداية الانقلاب العسكري وقد قال "سنعتقل الجميع" وتابع "الكتائب والفرق في طريقهم إلينا، سترى ذلك بأم عينك"، أصيب الجنرال آكار بالذعر مما سمعه وسأله: "ماذا تقول بحق الجحيم؟".
في مدن تركية أخرى، أمر ثلة من الضباط المتورطين في الانقلاب وحداتهم العسكرية باحتجاز كبار القادة العسكريين وإغلاق منافذ الطرق الرئيسية والاستيلاء على المنشآت الحيوية مثل مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، وقد أقلعت مقاتلات "إف-16" وفقًا لأوامر هؤلاء القادة، ووفقًا لأقوال أحد المسؤولين المتورطين في الانقلاب، فإن المتآمرين قد حاولوا إقناع رئيس الأركان بالانضمام إليهم لكنه عندما أعرب عن رفضه قيّدوا يديه ونقلوه بالمروحية إلى قاعدة جوية أين تم احتجاز بقية الجنرالات الآخرين وفي تلك اللحظة وجه أحد المتمردين سلاحه في وجه الجنرال آكار مهددًا بقتله.
وبعد حلول منتصف الليل، اضطرت مذيعة في التلفزيون التركي الرسمي إلى بث بيان المتآمرين في أثناء الانقلاب، حيث أطلقوا على أنفسهم اسم اللجنة الرئيسية للسلام تيمنًا بالمثل التي تقوم عليها الدولة، وقد ورد في البيان أن مجلس السلام قد نسف مؤسسات الدولة المشاركة في الفساد ودعم الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان وأنه "قد تم القضاء على الحكم العلماني والقانون الديمقراطي" ولم تتم الإشارة إلى ما آلت إليه رئاسة الدولة.
لقد بدا مجلس السلام، المتمثل في الهيئة التنفيذية التي أُعلن المتآمرون عن تشكيلها في
15يوليو/ تموز، ممسكًا بزمام الأمور لهنيهة من الزمن، في تلك الأثناء، انضم بعض حكام الأقاليم وقادة المجتمع المدني إلى الانقلاب بينما أُجبر آخرون على الاستسلام والأمر سيان مع فرق الشرطة، وبعد انتهاء أحداث الانقلاب الفاشل، عثرت المخابرات التركية على مجموعة من الرسائل النصية التي تضمنت محادثات بين الرائد مراد شيليبي أوغلو والفرق التي تحت إمرته قال فيها إنه "لقد تم استدعاء نائب رئيس شرطة إسطنبول وإبلاغه بخبر الانقلاب ودعوة بقية المسؤولين للاجتماع"، وكانت إحدى الإجابات للكولونيل أوزان شاهين قال فيها "أخبر زملائي في الشرطة أنني أقبل رؤوسهم".
لكن على ما يبدو لقد كان مخطط الانقلاب عشوائيًا، فشل فريق المروحيات في القبض على الرئيس أردوغان الذي كان يقضي عطلته في منتجع بمارماريس وقد حدث تبادل نار بينهم وبين الحراس في الفندق الذي كان يقيم فيه، لقد استطاع منفذو الانقلاب أن يحكموا السيطرة على قناة تلفزيونية واحدة ولم يتمكنوا من قطع شبكة الخطوط الخلوية للهاتف.
في تلك الأثناء، كان الرئيس أردوغان قادرًا على تسجيل شريط فيديو ليتم بثه على قناة سي-إن-إن الإخبارية التركية، وقد دعا من خلاله المواطنين الأتراك إلى "الخروج للشوارع ورد الانقلاب"، وقد هب المواطنون بأعداد غفيرة إلى تلبية طلب رئيسهم، وفي ظل مقاومة الشعب التركي، الذي خرج إلى الشوارع على الرغم من تعميم حظر التجوال في البلاد، مشكلاً ضغطًا هائلاً على القوات الجيش التي كان عليها أن تختار بين الاستسلام أو إطلاق النار على تلك الجماهير الغاضبة، ومع انبلاج الصبح، نجح الشعب التركي في إفشال هذه المؤامرة.
أعلن أردوغان عن حالة الطوارئ وفي الأسابيع التي تلت الانقلاب، ظهر الرئيس في جملة من القنوات ليذكر المواطنين بتكلفة الانقلاب الغالية، وعلى خلفية الانقلاب، أطلق بعض المتآمرين النار دون شفقة على المتظاهرين وعلى رفاقهم الذين أعربوا عن معارضتهم للانقلاب، وقد أمر أحد القادة المتمردين، الجنود في رسالة نصية أن "يسحقوا المتظاهرين ويحرقوهم دون ترك أي مجال للتفاهم"، لقد لقي أكثر من 260 شخصًا حتفهم إثر عمليات إطلاق النار بينما جرح آلاف آخرون، علاوة على الخسائر البشرية، قصفت مقاتلات "إف-16" مبنى البرلمان مخلفة ثقوبًا في واجهته وقطع من الخرسانة متناثرة في الممرات.
وكما ورد في تصريحات أردوغان، فإن الانقلاب لم يكتسب أي صبغة شرعية ولم يكن علامة من علامات العصيان المدني أو الحراك الاجتماعي، في الحقيقة، لم تنبع القرارات المتخذة بشأن الانقلاب من مقر سيادي تركي بل صدرت الأوامر من بنسلفانيا، لقد كانت رسالة أردوغان المشفرة واضحة للشعب التركي، فقد قصد بها أن العقل المدبر لهذا الانقلاب كان فتح الله غولن، رجل الدين البالغ من العمر 78 عامًا الذي يعيش في المنفى منذ عقدين ليتخذ من بوكونو (في ولاية بنسلفانيا - الولايات المتحدة الأمريكية) ملجأً له.
فر المفكر الإسلامي والداعية التركي فتح الله غولن، من تركيا سنة 1999 خشية أن يتم اعتقاله من طرف السلطات التركية، وعلى الرغم من بعده عن تركيا، إلا أنه كان بمثابة المرشد الروحي للملايين والمشرف على شبكة من المدارس الخيرية، وقد عرف عنه أيضًا توفير منح دراسية للفقراء، وقد أكدت خُطب غولن وكتاباته على فكرة التوفيق بين تعاليم الشريعة الإسلامية والعلم المعاصر والتشجيع على الأعمال الخيرية، وقد أطلق على الحركة التي أسسها اسم "حركة الخدمة".
ولقد مثل توجه غولن الفكري أملاً للعديد من القيادات في الغرب الذين أرادوا تطبيق مثل هذا المنظور الإسلامي في تركيا، وقد التقى فتح الله غولن بالعديد من القيادات المهمة في الغرب كالبابا جون بول الثاني وأهم القيادات في مختلف المنظمات اليهودية وتكريمه من قبل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي أثنى على "أفكار التسامح وحوار الأديان" التي يحملها.
بدت الاتهامات التي وجهها أردوغان، في أعين الكثير من المراقبين الخارجيين للشأن التركي، كأحداث فيلم سينمائي تقوم فيه خلية سرية بالتخفي داخل دولة حداثية منتظرة صدور الأوامر من قائدها الطاعن في السن الذي يقطن في أحد التلال في النصف الآخر من الكرة الأرضية، لكن بالنسبة لأردوغان، لقد كان التصريح الذي أدلى به للرأي العام حقيقة مستمدة من الواقع السياسي، أصبح فتح الله غولن، الذي كان في وقت من الأوقات من أبرز حلفاء أردوغان، زعيم حكومة الظل وكله عزم على الإطاحة بحكومة أردوغان، وفي الأسابيع التي تلت هذا البيان، شملت حملة اعتقالات واسعة عشرات الآلاف من الأفراد الذين أشتبه في مناصرتهم لفتح الله غولن، وفي تصريحات نارية، طلب أردوغان من الولايات المتحدة الأمريكية أن تسلم فتح الله غولن للسلطات التركية ليمتثل أمام القضاء وتأخذ العدالة مجراها.
ومنذ موافقة السلطات الأمريكية على طلب اللجوء السياسي، نأى غولن بنفسه عن العالم الخارجي في أحد أرياف بنسلفانيا، بينما أمطر وسائل الإعلام التركية بوابل من التسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديو، لكنه رفض الظهور للملأ في أي مناسبة عامة، لم أكن متفائلاً عندما تقدمت بطلب لقائه سنة 2014، ففي مكتب الحركة الواقع بمانهاتن المسمى "بالتحالف من أجل القيم المشتركة" أخبرني المدير التنفيذي ألب أصلان دوغان، مرارًا وتكرارًا أنني لن أتمكن من لقاء فتح الله غولان أبدًا "لأن حالته الصحية متدهورة وأنه حتى لو وافق على طلبي فسيصاب بوعكة صحية بعد الإجابة على بضع من الأسئلة".
وبعد مرور سنة على رفضهم لطلبي تم استدعائي دون إعلام مسبق إلى المجمع، وقد قدت سيارتي من نيويورك متجهًا غربًا نحو الأراضي الزراعية في شمال بنسلفانيا ثم جنوبًا على الطريق المتعرج إلى سايلورزبورغ، وهي بلدة يقطن فيها حوالي 1200 شخص، وبعيدًا عن تلك البلدة بعدة أميال، أين كانت تقع كنيسة إيتون، مقر مجمع غولن الذي تضمن دور عبادة الممتدة على حولي 25 فدانًا من الغابات والمروج الخضراء.
عندما ترجلت من السيارة ذكرني المشهد الطبيعي الذي رأيته بريف الأناضول، فقد بنيت المنشأتان على الطراز العثماني بنوافذ مرتفعة وأسقف مائلة، وكانت النساء ترتدي الحجاب الأنيق الذي يميز الطبقات التركية الوسطى وكان الجميع يتحدث اللغة التركية، استقبلني أصلان دوغان وقادني إلى غرفة المؤتمرات المزخرفة والمفروشة بالأرائك المتقابلة التي حجزت مسبقًا للقاء.
دخل فتح الله غولن القاعة بعد دقائق معدودة وكان يرتدي بذلة سوداء شبيهة بالبذلات المعروضة في واجهة المحلات التجارية الأمريكية الرخيصة مثل تارغت أو مارشال، لقد كان محني الظهر ومطأطئ الرأس ومتثاقل الخطوات وقد كانت علامات التوعك طاغية على ملامحه ولم يعكس مظهره غرور وكاريزما زعيم منظمة عالمية، لقد حياني غولن بمجرد تلويح يده ولم ينطق سوى بضع كلمات بالإنجليزية طيلة لقائي معه وكأنه لم يعش قرابة 17 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد قادني في مدخل يؤدي إلى مقر إقامته الذي لم يتجاوز غرفتين صغيرتين قد فرشت إحدى زواياها بسجادة صلاة وفراش على الأرض ومكتب ورفوف كتب.
طيلة الوقت الذي قضيته مع فتح الله غولن لم يكن هناك أي أحاديث جانبية بيننا ولم يبتسم غولن لأي سبب، أثناء اللقاء، سألته عن علاقته برجب طيب أردوغان، فأجابني من خلال مترجم أن أردوغان لم يرد أن يتشارك مقاليد السلطة مع أي طرف، وقال إنه ظاهريا "يريد أن يفرض وجهة نظره باعتبار أنه الشخص الوحيد القادر على تسيير البلاد والسيطرة على زمام الأمور"، كما أضاف أن أردوغان والموالين له متشابهون في العديد من السمات: "ففي بداية مسيراتهم السياسية يحاولون قدر المستطاع إظهار واجهة الحزب الديمقراطية والقيادية ويخرجون أنفسهم للناخبين في صورة أهل الإيمان، وبالتالي فلن يستطيع أحد الطعن أو التشكيك في دوافعهم".
وكما عهد الجميع فتح الله غولن، فقد تحدث معي بكل إيجاز واقتضاب، وقد حذرني أحد المسؤولين في الاستخبارات التركية من هذا الشخص لأنه لن يمدني بالمعلومات التي أحتاجها ولن أستطيع أن أفهم وجهة نظره. عندما سألت غولن عن اهتمامات حركته السياسية، أخبرني أن له أنصارًا في مختلف هياكل الدولة لكن هذا لا يرقى إلى مستوى التنظيم لانقلاب عسكري ولا يمكن أن يثبت إمكانية وجود مؤامرة ضد أردوغان، وواصل حديثه قائلاً إنه "لا يوجد أي موطن أو مجموعة منعزلة كليًا عن السياسة لأن القرارات التي ستتبعها الحكومة ستؤثر بأي شكل من الأشكال على نمط حياتهم، إن الانخراط في الحياة السياسية نشاط طبيعي لأي منظمة تابعة للمجتمع المدني وهو أمر مرحب به في المجتمعات الديمقراطية وهذا لا يجعل من منظمة الخدمة حركة سياسية"، لقد تجاذبنا أطراف الحديث لبعض الوقت، لكن كما توقع مساعده فإن غولن بدأ يظهره عليه الإرهاق مما جعل أصلان دوغان يعلن عن انتهاء المقابلة.
وعلى ضوء المقابلة التي أجريتها مع غولن، وجدت أن أفضل تجسيد لأفكاره في تركيا كان من خلال شخص رجل الأعمال التركي مصطفى إكسوي، الذي التقيت به سنة 2011 بأحد الفنادق في إسطنبول، (وقد استعملت هذا الاسم تلبية لرغبة رجل الأعمال الذي أراد أن ينسب له اسمًا مستعارًا وذلك بهدف حماية عائلته بعد الانقلاب)، لقد كان هذا الرجل كغيره من أتباع غولن؛ حليق الذقن وجميل المظهر ومنشرح الوجه وذا طلة غربية عصرية، لقد كان شخصًا ناجحًا يدير العديد من المشاريع كشركة مقاولات وشركة خدمات فندقية ومصنع أدوات منزلية، حيث تشغل هذه المشاريع حوالي 600 شخص، عاش أكسوي في إحدى الدول الأوروبية لمدة ثلاثة سنوات ولقد تزوج من إسكندنافية، يتكلم هذا الرجل اللغة الإنجليزية بطلاقة بفضل عمله الذي جعله يزور العديد من البلدان.
أخبرني أكسوي أن اسمه ارتبط بحركة غولن منذ سنة 1993 عندما رافق وفدًا من رجال الأعمال في رحلة إلى تركمانستان، وهي إحدى دول آسيا الوسطى، كما أخبرني أنه عندما كان هناك، اصطحبهم إلى إحدى المدارس الثانوية التابعة لأنصار غولن، وصارحني بإحساس الفخر بالوطن الذي خالجه عندما رأى العلم التركي في الخارج وعلم أن المدرسة تحمل اسم أحد الرؤساء الأتراك السابقين وصورة كبيرة معلقة على جدار المدرسة للرئيسين التركي والتركماني وهما يتصافحان، لقد كانت من المدارس النخبوية التي كان يسعى العديد من الأولياء إلى أن يسجلوا أبناءهم فيها".
لقد زاد انخراط أكسوي في حركة غولن من خلال التبرعات التي قدمها لجملة من المدارس أثناء سفره لآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وإفريقيا، وأضاف أن "التبرع لهذه المدارس أصبح بمثابة هواية أمارسها وكلما حللت بإحدى البلدان أقوم بزيارة مدارس غولن"، ووفقًا لما رواه لي رجل الأعمال فقد كان هناك العديد من المدارس حول العالم حتى في الولايات المتحدة الأمريكية كتلك الواقعة في ولاية تنزانيا وكاليفورنيا، وقد لاحظت في الآونة الأخيرة أن هذه المدارس أصبحت وسيلة لتركيا لتحقيق مصالحها في الخارج؛ ففي السابق لم تكن السلطات التركية تعير اهتمامًا لمسألة الاستثمار الأجنبي، لكن الآن بفضل هذه المدارس أصبح هناك المزيد من السفارات التركية وبعث العديد من المشاريع.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن أكسوي قد مدني بمعطيات مهمة، فقد أخبرني أن المدارس شكلت شبكة لتبادل الخبرات والتواصل فيما بينها لمواكبة المعايير المتعاقد عليها مع الإبقاء على دفق المعلومات، وعلى غرار غولن، فقد أصر أكسوي على أن الحركة لم تكن لها أي أجندة سرية، كما قال إن الشكاوى التي ترفع ضد الموالين لحركة غولن لا تعكس سوى أحقاد السياسيين الذين يحنّون لأيام تركيا العلمانية وإلى حقبة زمنية قد ولّت، وواصل قائلاً إن"هذا الطيف السياسي الذي خسر السلطة لا يستطيع أن يستوعب التغيرات الجديدة التي طرأت على المشهد السياسي، إن تركيا تشهد انتقالاً نوعيًا على جميع الأصعدة لكن عدم قدرتهم على مواكبة هذا العصر الجديد تجعلهم يلقون باللوم على الآخرين".
إن الجمهورية التركية قائمة منذ البداية على مبادئ الدولة العلمانية، فلقد تم تأسيس هذه الدولة العلمانية على يد الثوري القومي مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923 الذي آمن بوجوب فصل الدين عن السياسة، وقد ألغى الحكم الملكي في تركيا أو الخلافة الإسلامية عندما وصل أتاتورك إلى السلطة بعد 1300 سنة من النظام الملكي، وتبعًا لهذا النظام الجديد، أصبح رجال الدين موظفين لدى الدولة وذلك كي يضمن حيادهم وعدم انحرافهم عن المسار الذي يريد للجميع أن يسلكه.
وقد انجر عن تأسيس هذه الدولة تسيير الأغلبية التركية تقريبًا طيلة القرن العشرين من قبل النخبة العلمانية، ولقد اعتبر الجيش التركي، الذي يعتبر أقوى مؤسسة في الدولة، بحامي دولة أتاتورك العلمانية، وقد تم استخدام الجيش التركي في مناسبات عدة خاصة في فترة السبعينات والثمانينات لردع الأحزاب الإسلامية من الوصول إلى السلطة وكسب قاعدة شعبية كبيرة قد تهدد وجود العلمانيين، وبالتالي، فإن الحكومة العلمانية في ذلك الوقت كانت تعتبر الأحزاب اليمينية خطرًا يحدق بها لذلك وجب كبح جماح طموحاتهم بتشكيل دولة إسلامية.
مثلت سنة 2001 سنة حاسمة للتيار اليميني الإسلامي، فقد أسست مجموعة من النخبة المثقفة بقيادة أردوغان حزب العدالة والتنمية، أسس رجب طيب أردوغان هذا الحزب بعد خروجه من السجن، وقد تم اعتقال رجب طيب أردوغان وإقالته من منصبه كعمدة إسطنبول بعد اتهامه بالتحريض على الكراهية الدينية بسبب اقتباسه أبيات من شعر تركي شهير أثناء أحد خطاباته يقول فيه: "مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا".
وفي السنة التي تلتها، أعلن أردوغان عن ترشحه لمنصب رئيس الوزراء، وقد قدم أردوغان نفسه أثناء خطابات حملته الانتخابية على أنه سيكون صوت تركيا لكنه وعد بأن يبقي الدين بعيدًا عن السياسة.
صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في الانتخابات التشريعية وبدأ أردوغان بإعادة صياغة المشهد السياسي في تركيا، شملت الإصلاحات التي قام بها أردوغان، السلك القضائي كما حرر الاقتصاد وحل الخلافات القديمة مع الأقليات المضطهدة منذ فترة طويلة كالأكراد والعلويين، وكنتيجة لهذه الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية، تضاعفت نسبة الناتج الداخلي الخام، أما في الغرب، فقد كان أردوغان بمثابة الجسر الذي يربط الدول المتقدمة والأوروبية بالعالم الإسلامي باعتباره نموذج للقائد الإسلامي الديمقراطي المعتدل.
حاول فتح الله غولن التنظير لتوجه سياسي يتماشى مع هياكل الدولة العلمانية، وتجدر الإشارة إلى أن فتح الله غولن كان واعظًا دينيًا في مدينة إزمير الساحلية لتكون محطته الأولى نحو الطريق الروحي الذي كان ينشده، لقد نسج غولن مسيرته الدعوية على منوال الشيخ سيد نرسي الذي أكد على أهمية التوافق بين الإسلام والمنطق والبحث العلمي، وبينما تبنى الكثير من الإسلاميين الفكر الرافض للغرب والرأسمالية ووجهات النظر المعادية للسامية، كان غولن في خطبه يشجع على الاستثمار والعلم وقد روج للعديد من الأفكار المثيرة للجدل.
بعد الانقلاب العسكري في سنة 1971، اعتقل النظام الجديد فتح الله غولن بتهمة التآمر على الدولة العلمانية وقد حكم عليه بالسجن لمدة سبعة أشهر، وعقب انتهاء فترة سجنه، أصبح غولن نموذج الإسلامي الذي احتفت به مؤسسات الدولة العلمانية التي عبدت له الطريق ليبدأ مشواره السياسي من خلال السماح له بالاجتماع مع جملة من القيادات، وقد أعلن غولن في مناسبات عدة عن دعمه للنظام العلماني من خلال قوله "لقد قلت مرارًا وتكرارًا إنه إذا طبقت مبادئ النظام الجمهوري والعلمانية بحذافيرها في تركيا، فإننا سننعم بالأمن السياسي والاستقرار الاجتماعي"، لقد أثارت تصريحات غولن جدلاً واسعًا في صفوف الإسلاميين لكنهم لم يستطيعوا إلحاق الأذى بغولن الذين كان على ما يبدو محميًا من قبل السلطات العلمانية.
بالنسبة للرأي العام الغربي، كان خطاب غولن الديني المناصر للعلمانية خطابًا غامضًا لم يستطيعوا فك شفراته، فعلاوة على حاجز اللغة التركية التي كانت قلة قليلة تتقنها، فإن الأفكار الدينية التي كان يدعو لها غولن كانت أقرب منها إلى الطوباوية وإلى مبادئ المدينة الفاضلة التي ترفع فيها شعارات ورايات الحب والسلام والتسامح والحوار بين الأديان، وفي تحليل لشخصية غولن من قِبل أحد أتباعه السابقين، فإن كاريزما غولن وحضوره تنبع من مشاعره الفياضة؛ فردات فعله أثناء الخطب لا يمكن توقعها، عندما يتأثر يبكي ولا يخشى التعبير عما يخالجه من أحاسيس ولعل هذا ما يجعله سياسيًا مختلفًا عن غيره، أما بالنسبة للمسلمين عامة وللأتراك خاصة، فإن أسلوب غولن الخطابي يعد أكثر من ساحر أمام ذلك الزخم من الانفعالات، وقد شبه غولن نفسه في خطب عديدة بالنبي محمد لمواجهته العديد من الصعوبات والعراقيل أثناء مسيرته.
عندما تولى رجب طيب أردوغان الحكم، كان عدد الموالين لفتح الله غولن في تركيا يقدر بثلاثة ملايين تابع، كان من بينهم مجموعة من الإسلاميين المعتدلين الذين كانوا يتحدون النخبة العلمانية من خلال تقلد مختلف المناصب في هياكل الدولة، لقد شجع غولن على دعم انخراط الشباب في الدورة الاقتصادية، ووفقًا لهذا المخطط التنموي قام أتباعه في مختلف المؤسسات الحيوية بإنشاء شبكة من مراكز إعداد الاختبارات لتحضير الشباب لمناظرات القبول في الجامعة والأكاديميات العسكرية والخدمة الاجتماعية.
لقد كانت هذه المراكز ذات صبغة نفعية بالأساس وقد تبرع العديد من رجال الأعمال بالأموال لإنجاح مشروع غولن، وفي ظل تنامي شعبية غولن، بدأ أتباع غولن تدريجيًا ببناء إمبراطوريتهم التي قيل إنها تقدر بمليارات الدولارات والتي تضمنت صحفًا وقنوات تلفزيونية ومشاريع استثمارية وجمعيات مهنية، بدأت تنتشر المدارس الممولة من قبل فتح الله غولن والتي يبلغ عددها 2000 مؤسسة تعليمية الموزعة على 160 دولة ناهيك عن وجود 120 مدرسة بالولايات المتحدة الأمريكية.
في سنوات حكم أردوغان الأولى، تشارك كلا الطرفين العديد من الاهتمامات خاصة عندما كان يتعلق الأمر بمحاولة إدراج الدين في الحياة العامة، لكن التعاون بينهم كان شبه متقطع، ثم في ربيع سنة 2007، حدثت مواجهات بين قادة الجيش التركي وأردوغان على خلفية ترشيحه لأحد الإسلاميين المقربين منه لمنصب رئاسة الجمهورية، وعقب احتدام المواجهات بين كلا الطرفين، نشر مكتب رئيس هيئة الأركان العامة مذكرة على موقعه الإلكتروني مفادها أنه "لا يجب أن ينسى أي فرد أن قوات الجيش التركي المسلحة هي طرف فاعل في هذه المشاورات باعتبار أنها المدافع القوي عن العلمانية، وسنعمل وفقًا للقواعد المتفق عليها وستكون ردة فعلنا واضحة وعلنية كلما تطلب الأمر ذلك".
وعلى ضوء ما حدث بين رئاسة الحكومة والجيش، دعا أردوغان إلى الشروع في انتخابات عامة وقد ندد بردة فعل الجيش بدل الاستدراك، وحتى بعد فوزه الحاسم في الانتخابات، ظل هاجس معاداة الجنرالات له يطارده خاصة بعد إعلانهم عن دعمهم لمقومات الدولة العلمانية، وقد أخبرني أحد مساعدي أردوغان،
إبراهيم كالين، أن "الموالين لغولن أرادوا اغتنام هذه الفرصة، فعندما وصلنا إلى الحكم كأول حزب يميني إسلامي، لم نلق سوى الدعم الشعبي ولم نستطع النفاذ إلى هياكل الدولة سواء كانت الأمنية أو القضائية أو العسكرية"، وبما أن غولن كان مدعومًا بشكل ملحوظ من قبل البيروقراطية التركية، فقد كان بمثابة الحليف الأمثل لنا في تلك الفترة، وكان هذا الدافع الرئيسي وراء تحالف أردوغان مع غولن وتعاونهما والعمل بشكل وثيق.
سطع نجم أردوغان في الفترة التي تلت تحالفه مع فتح الله غولن لكن اللغط والإشاعات قد كثرت حول ماهية الثمن الذي دفعه أردوغان مقابل هذا التعاون، وفي أواخر سنة 2011، قدت سيارتي نحو إحدى ضواحي مدينة أنقرة لزيارة القاضي أورهان غازي أرتيكين في مكتبه الذي علقت صورة مصطفى كمال أتاتورك على أحد جدرانه، أخبرني القاضي أرتيكين بتفاصيل حضوره مؤخرًا لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء والادعاء العام الذي يتم على إثره تعيين القضاة الذين سيوزعون على محاكم البلاد، وقد قال القاضي إنه "قد اخترت مسبقًا أسماء المرشحين الذين أريد اقتراحهم على هيئة الانتخابات ولقد كنت مستعدًا لإقامة التحالفات وعقد الصفقات"، وفي أثناء المؤتمر، أحس القاضي أن مجموعة من القضاة التابعين لغولن كانوا يخططون لإقصاء بقية المرشحين، وقال "في البداية لم يكن يملك أدنى فكرة عما كان يدور بينهم لأنهم كانوا يستعملون لغة مشفرة"، وبعد انتهاء التصويت تبين لأرتيكين أن عدة أعضاء من المجلس الجديد كانوا من الموالين لفتح الله غولن، وقال إن "جماعة غولن قد اختاروا مسبقًا أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ولم تكن لهم منذ البداية أي نية للتعاون أو التشاور مع بقية أعضاء الهيئة".
كما أخبرني أرتيكين أن فتح الله غولن كان يسيطر على النظام القضائي في تركيا وأن "أردوغان لن يتمكن من تحقيق مبتغاه دون الالتجاء إلى مساعدة غولن، لقد تدخل التابعون لغولن في كل قرار متخذ بشأن المحاكمات الاقتصادية والسياسية المهمة"، لقد بدا عليه القلق والخوف حول ما ستؤول إليه الأمور إذا حاول أحد ما أن يكشف عن الفساد القضائي داخل النظام العلماني، حيث إنه لا يوجد أي مجال يسمح بحرية انتقاد الموالين لغولن المنتشرين تقريبًا في مختلف هياكل الدولة.
ساورتني بعض الشكوك تجاه إدعاءات أرتيكين ولم أكن متأكدا من إمكانية أخذ أقواله على محمل الجد. لقد كانت تقاليد العلمانية في تركيا في طريقها نحو التقهقر ومن المؤكد أنه كان يحاول حبك نظرية المؤامرة كتفسير وحيد لأسباب هذا الانهيار. لكنني لم أكتفبما قاله القاضي وقررت القيام بجولات في أرجاء تركيا للتزود بمزيد المعلومات وسماع قصص أخرى. ولقد سمعت روايات شبيهة لما سمعته من القاضي، حيث أثارت النخبة المثقفة التساؤلات حول نشاط المدارس التابعة لغولن وتفشيهم في مختلف أسلاك الدولة خاصة في الجهاز الأمني، أدت إلى اعتقالهم وسجنهم، وفي المجالس الخاصة والبعيدة عن أنظار المناصرين لفتح الله غولن، كان المواطنون الأتراك يتحدثون حول تواجد عصابة سرية متخفية وراء هياكل الدولة والتي تتزايد قوتها ونفوذها باطراد في تركيا.
سمع الطالب أحمد كيليش، الذي يقطن في مدينة كيريكيال في الوسط التركي، بأول خطبة مسجلة لفتح الله غولن سنة 1973، لقد كان هذا الشاب منبهرًا بإلقاء غولن الذي كان يتحدث بشغف عن الرسول لدرجة أنه أجهش بالبكاء أثناء سماعه للخطبة، وتجدر الإشارة إلى أن أحمد كيليش ينتمي لعائلة فقيرة تجني قوت يومها بفضل محل صغير لبيع زينة الطاولات الذي كان والده يديره، وبعد سماعه لعدة خطب مسجلة لغولن أحس أن الإيمان قد انبثق في قلبه من جديد، كيف لا وغولن "قد جعل الناس تسأل نفسها عن مهمتها الفعلية وعن الحقيقية كمسلمين".
في صائفة تلك السنة، سافر كيليش إلى إزمير للقاء فتح الله غولن الذي دعاه إلى الالتحاق بمخيم صيفي دون دفع مراسيم الانخراط، وقد لبى كيليش نداء غولن له وشارك في المخيم مرتين، وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية، طلب منه غولن أن يتولى إدارة "إحدى منارات العلم" حيث قصد بها مهاجع الطلبة، التي تضاعف عددها بتضاعف مراكز النقاش الديني.
لقد كان معظم التابعين لغولن يطبقون مبادئه وأفكاره بجدية كبيرة، وقد تفطن كيليش بعد انخراطه في الحركة إلى أن لأتباع غولن هدفًا سريًا يكمن في اعتبار "الاستحواذ على مختلف هياكل الدولة ودس أتباعهم في مختلف المواقع الريادية الوسيلة الوحيدة لحماية الدين الإسلامي وضمان استمرارية تيارهم السياسي"، وواصل التفسير قائلاً إن "الطريق كان بهدف الوصول إلى هذه الغاية وهي الانتخابات البرلمانية، لكن لم تكن الشرعية وسيلة متاحة لنا بسبب الجيش الذي كان يقف لنا بالمرصاد، لم يكن أمامنا سوى الطرق غير القانونية وذلك من خلال اختراق هياكل الدولة وتغييرها من الداخل".
ووفقًا لذلك المخطط، أخبرني كيليش أنه منذ ذلك الحين قد كرس جهوده للمحافظة على هذا السر وحمايته مهما كلف الثمن لكنه لم يكن يقحم نفسه في أي مناوشات مع المعادين لغولن كي لا يلفت الأنظار إليه، كما أخبرني أحمد أن "الازدواجية في عملهم تشكل سمة جوهرية في كيان هذه المنظمة، لقد كنت أصعد في سلم الرتب وكانت مهامي تزداد تعقيدًا وأهمية وقد ازداد معها شعوري بالعزة والفخر؛ فابن العامل الفقير أصبح عضوًا هامًا في إحدى أقوى المنظمات في تركيا".
أطلعني كيليش عن الأسباب التي دفعته إلى الخروج من المنظمة والتي تتمثل بالأساس في شخصية غولن المتناقضة، فبينما يقدم غولن نفسه للناس في صورة رجل الدين التقي المتواضع الذي يعيش حالة نكران ذات، فهو في الحقيقة ليس سوى رجل منافق يعيش حياة مختلفة كليًا في الخفاء؛ فهو رجل مريض بجنون العظمة وسكير ويريد أن يكون الجميع تحت إمرته"، وقد مدني بمعلومات حول التسلسل الهرمي لمنظمة غولن حيث كانت تنقسم إلى سبعة مستويات على رأسها فتح الله غولن وقد حظي أحمد كيليش برتبة من المستوى الثالث لكنه لم يكن ملمًا بجميع المستويات التي كانت تعمل تحت كنف السرية، وبعد أن فتحت الموضوع مع أصلان دوغان أكد لي أن المعلومات التي أمدني بها كيلش مضللة ولا يمكن الاعتماد عليها.
في أثناء اجتماع لهيئة القيادة في الحركة، وصف غولن مخططاته على أنها تنفيذ للأوامر الإلهية، وقال كيليش أن غولن كان يخبرهم أن "الرسول في المنام قد أمره بالمواصلة على نفس هذا المنوال وكان كل الحاضرين يؤمنون إيمانًا قطعيًا بما كان غولن يرويه لهم"، لقد كان أتباع غولن يعتبرون تعاليمه الدينية بمثابة دين جديد، كما صرح كيليش "لقد كان منطلقه الإسلام، لكنه بدأ بتشكيل معالم دين لاهوتي جديد خاص به وقد ظننّا في وقت من الأوقات أن فتح الله غولن كان كسيّدنا عيسى عليه السلام".
وفي نفس السياق أخبرني التابعون لغولن بنفس الأمور، فغولن ظاهريًا يبدو غير مهتم بالجاه والأموال والنساء وأنه لا يسعى سوى إلى التقرب من الله، كما أخبرني أحد الموالين لحركة غولن، ألبسوي، الذي دام انخراطه في هذه المنظمة لسبعة عشر سنة أن "هدف الحركة يكمن في اختراقها لدواليب الدولة واستيلائها على الحكم لكن حتى إن واجهتهم بهذه الحقيقة، فسيواصلون إنكارها حتى النهاية".
حرض غولن في إحدى الخطب المسجلة في فترة التسعينات، أتباعه على التخفي داخل مؤسسات الدولة وانتظار اللحظة الموعودة، كما أخبرني ألبسوي أن غولن "طلب منا أن نتخفى تحت أقنعة رجال القانون وهذه الهوية ستسهل عليكم مهمة النفاذ إلى مواقع حيوية في الدولة وتولي مناصب سيادية"، لكنه في الوقت الحالي دعانا إلى التحلي بالصبر والمرونة "إلى حين تسلمهم لزمام السلطة والقوة في جميع مؤسسات تركيا الدستورية، فكل خطوة سابقة لأوانها قد تكلفنا الكثير"، كما وعدهم بضمان استمراريتهم كحزب إسلامي.
وتجدر الإشارة إلى أن أحمد كيليش قد أخبرني أن عملية التغلغل داخل أسلاك الدولة كانت تستهدف بالأساس السلك القضائي والأمني، كما شملت مخططاتهم المدارس ومراكز إعداد الامتحانات، كان المساعدون في المدارس يُنتدبون وفقًا لصغر سنهم وكان يتم إعدادهم في المراكز للتحضير لاختبارات القبول في الوظيفة العمومية، وقد كان التابعون المندسون في الوكالات الحكومية يزودون المرشحين بإجابات الاختبارات وعندما يتم قبولهم لهذه المناصب يساعدونهم في الحصول على ترقيات وتعزيز مسيرتهم المهنية.
لقد أسند لجماعة غولن المندسين داخل مراكز الشرطة أسماء حركية وقد تم تنصيب قائد أو "إمام" على رأس الوحدات الأمنية الذي كان يعتبر أعلى رتبة من رئيس قسم الشرطة نفسه.
أخبرني كيليش أنه أصبح إمامًا لإحدى الوحدات الأمنية في الأناضول، في أوائل التسعينات، ومشرفًا على خمسة عشر مدينة، وقد أقر أن 40% من رجال الشرطة في تلك المنطقة كانوا من التابعين لغولن بالإضافة إلى قرابة 20% من القضاة والنواب العامين، كما ذكر أنهم "كانوا يتحكمون في انتدابات الشرطة واختبارات القبول لهذه الوظيفة العمومية ولم يسمحوا لبقية المرشحين غير التابعين لهم بالدخول لهذا السلك".
رغم شهرته في الغرب واعتباره نموذج عن رجل الدين المعتدل والحداثي، فإنه في عدة مناسبات قد اتخذ مواقف متشددة من قبيل التنديد بالولايات المتحدة الأمريكية وتشبيهها "بالعدو الذي لا يرحم" واعتماد ضرب النساء "وسيلة لجعلهن أكثر طاعة لأزواجهن"، ونشر غولن كتابًا تحت عنوان "من فصل إلى فصل" تضمن ترّهات تتمثل في مجموعات من التهم وجهها إلى قبيلة يهودية تنشر أفكارًا متطرفة كالشيوعية التي أغرت الشعوب وأودت بها إلى الهاوية، وكما ورد في هذا الكتاب، فإن "هذه الطائفة الخبيثة قد بثت سمومها في العالم على مر التاريخ باسم العلم والفكر، وقد كان ذلك أشبه بعرض عسل مسموم على الشعوب، وسيحاول اليهود الحفاظ على وجودهم واستمرارية كيانهم حتى النهاية مهما كلف الأمر، وسيأتي يوم تكشف فيه خدعهم التي انطلت على الإنسانية وسيعد اليهود محرقتهم بأنفسهم".
صارحني كيليش أنه لم يشكك يومًا في معتقدات غولن حتى عندما بدأ يطرح مسألة الهيمنة على العالم، وقال إن "أمنية والده كانت تكمن في أن يصبح ابنه موظفًا لدى الدولة" وتابع أحمد "ابنه أصبح الآن رجلاً ذا شأن يخطط للسيطرة على العالم"، أما اليوم فقد أعرب كيليش عن استيائه الشديد كلما تذكر سذاجته وانبهاره بشخص فتح الله غولن، وقال كيليش "هناك خيط رفيع بين العبقرية والجنون، لكن في حالة غولن قد كان الأمر سيان بينهما؛ فقد عكست معارفه ووجهات نظره الدينية ومهاراته التنظيمية مدى عبقريته كمفكر وسياسي، وفي المقابل كنا نحن كقطيع من الساذجين المجانين".
لقد روي كيليش وألبسوي أمورًا لم أستطع استيعابها تتعلق بما كان يحدث وراء الكواليس، فأثناء اجتماع أعضاء الحركة بغولن كانوا يفقدون أحيانًا صوابهم لدرجة الإقدام على فعل أشياء خيالية، فقد كان أفراد الحركة يدخلون في نوع من الهستيريا أو الطقس النفسي الغريب يفقدهم التحكم في تصرفاتهم، فعند تأثرهم الشديد بخطاب غولن، فإن العديد من القيادات يقومون بتقبيل قدمه، حتى لو كان ذلك رغمًا عنهم، تعبيرًا عن حبهم وولائهم له، وفي بعض الثقافات الآسيوية، يعتبر تقبيل القدم وسيلة لإظهار المودة النقية تجاه شخص ما، فلا يمكن لأحد أن يقدم على هذا إلا إذا أحب فعلا ذلك الشخص، وقال ألبسوي إنه لم يفعل ذلك لأي شخص طيلة فترة انخراطه في الحركة لكنه سمح للآخرين بتقبيل قدميه في عدة مناسبات.