روسيا العملاقة.. إلى أين؟
د. حسام العتوم
في كل مرة ازور فيها الفدرالية الروسية واهبط في عاصمتها (موسكو المهيبة والمكونة من طابقين (فوق الارض و المترو) واتجول في اهم مدنها مثل سانت (بيتر بورغ) و (سوتشي) تبقى عيني ترنو لرؤية اقليم القرم/ الكريم و البيكال وغابات التايغا (9 آلاف كيلو متر) وسيبييريا وتشكل بما مجملة مساحة 17 مليونا من الكيلومترات، وروسيا التي اراها من الداخل والخارج منذ ان تخرجت من جامعة موسكو الحكومية (M.G.Y) في مجال الاعلام عام 1992 تغيّرت امام عيوني كثيراً في الوقت الذي خلعت فيه ثوبها السوفيتي الايدولوجي عام 1991 وارتدت لباساً وطنياً وقومياً، وامتزج لونها ذات الوقت بين البناءين القديم والجديد وتمسكت بالحداثة على نمط الغرب.
وفي كل جولة لي في شوارع مدنها وسط حضارتها العريقة (منذ العصر القيصري وقبل ذلك) تقع عيني على احدث اصداراتها من الكتب لفهمها بعمق، وها انا اعود من هناك وفي حقيبتي كتابان اشتريتهما من مدينة (سانت بيتر بورغ) الخيالية في جمالها ونظافتها وهما: «افكار حول روسيا للرئيس بوتين، (والعالم من دون روسيا) للمرحوم المفكر والسياسي المستشرق الكبير يفغيني بريماكوف، وهنا في كتاب بوتين وجدت سيادته يقول (ص.9): «نحن نعمل على حل اية مشاكل جدلية عالقة بالطريقة الدبلوماسية والسياسية وبنفس الوقت نجهز جيشنا لمواجهة اية ازمة او ظرف او استفزاز عدواني طارئ يستهدف روسيا، وفي ص: 10 من كتاب بريماكوف نجده يقول إن فهم العلاقة بين امريكا وروسيا يتطلب فهم المبادئ المختلفة والمداخيل الايدولوجية الحديثة للتطور المرحلي البشري».
وكتابان اخران وصلاني على شكل هدية اثناء تواجدي جنوب موسكو احدهما بعنوان «سورية ارماجادون» للكاتبين الكسندر بروخراف و ليونيد ايفاشوف، والثاني بعنوان «الضربة لروسيا» لمؤلفة فاليري كاروفين ، و مصطلح ارماجادون هنا هو اغريقي Armagedonويعني سيناريو نهاية العالم، والكتاب الاول هنا ربط بين هذا المصطلح والحرب في سورية، والكتاب الثاني يطرح سؤالا عريضا: متى توجه امريكا ضربة لروسيا؟ وهل ينضم الناتو لهكذا خطوة انتحارية؟ و شخصياً اعتقد بأن روسيا وأمريكا اكبر من هكذا مشروع قاتل ومدمر، وفي التعاون الدائم والمخلص بينهما وفي تقاسم المصالح من دون صراع يكمن البحث عن السلام الدائم.
ويقابل هذه المعادلة بطبيعة الحال الوضع في الداخل الروسي الذي يشكل سياستها الخارجية، فقبل فترة وجيزة من الزمن وتحديداً بتاريخ 18/ سبتمبر من هذا العام 2016 انتخبت نسبة مئوية من الشعب الروسي.
بلغت 47,88% اي بحجم 53 مليون ناخب حسب (نيكولاي بولايف) مساعد رئيس لجنة الانتخابات وجرت تحت رقابة دولية، وكما كان متوقعاً فاز حزب (روسيا الموحدة) الحاكم بـ 343 نائباً منهم 140 نائباً حزبياً و203 مستقلين، ويمثله ميدانياً الرئيس بوتين ورئيس الوزراء ميدفيديف، وهو أي الحزب المسؤول مباشرة عن حاضر الدولة الروسية وبوصلة توجهها سياسياً واقتصادياً، ويسلك طريق الادارة المركزية التي تركز على النهوض بالعاصمة ذات الـ 20 مليون نسمة، والإنشاءات السكنية الكبيرة، والتجهيزات المماثلة استعداداً لاولمبياد كرة القدم عام 2018 التي شاهدتها في مدينة سانت بيتر بورغ الصيف المنصرم، ومواصلة بناء مدينة سوتشي البحرية التي انضمت الى نادي المدن الروسية الجميلة والنظيفة وهي المعروفة بمدينة (الاولمبياد الشتوي)، وكذلك الامر اعطاء اهمية لإعادة بناء اقليم القرم/ الكريم وربطة بجسر بحري (19 كم) لتسيير القطارات الحديثة الني اصبحنا نشاهد منها ما هو بطابقين و غيرها السريعة (ساب سان)، وتعبيد عالي الجودة للشوارع بين المدن، وإعطاء اولوية قصوى لتطوير سلاح الجيش والبحرية بميزانية وصلت الى 50 مليار دولار كما افاد الرئيس بوتين في مقابلة مع الاعلام الامريكي قبل فترة زمنية وجيزة، ويواجه هذا التوجه تراجع الخدمات العامة في مدن الدرجة الثالثة ومعاناتها من ضعف تشغيل المصانع الوطنية، وهو الامر الذي يدفع الى هبوط الرواتب والتقاعدات وارتفاع منسوب النقد الاعلامي (ومنه النت)، والبرلماني، ووسط المواطنين.
وفي المرتبة الثانية برلمانياً حصد الحزب الشيوعي بقيادة زوغانوف على 42 مقعداً رغم وجود حزب شيوعي اخر يحمل نفس الشعار وباسم شيوعيي روسيا، وبكل الاحوال تموضع هذا الحزب في صدارة المعارضة وممارسة النقد البناء وصنف شعبياً على انه حزب الماضي والبناء السوفييتي، ويعمل على تصحيح مسار الحزب الحاكم وينادي بالاصلاح، بصوت عالٍ. وحصد الحزب الليبرالي الديمقراطي بزعامة النائب الساخر جيرينوفسكي المرتبة الثالثة وهو محسوب على السلطة في موسكو، ويمارس النقد من اجل النقد. وفي المرتبة الرابعة جاء حزب روسيا العادلة برئاسة ميروناف النائب ورئيس مجلس الاعيان السابق، واستطاع امتلاك 23 مقعداً برلمانيا. والأحزاب الرئيسة الكبيرة التي تحيط بالحزب الحاكم وغيرها الاصغر مثل (الوطن)، و(الوطنيون) و(التفاحة) وغيرها تمارس النقد الدائم وتطمح لبناء روسيا جديدة ديمقراطية.
وبكل الاحوال الخيار الاداري اللامركزي الممزوج بالمركزية يبقى الافضل لحياة العامة من الناس في روسيا في زمن فيه مساحة في بلادهم واسعة، وعدد السكان قليل لا يتجاوز الـ 150 مليون نسمة، 70% منهم يعيشون حياة الطبقة الواحدة المتواضعة، و 25% هي الطبقة الوسطى المتنامية، و5% تشكل شريحة الاغنياء (الاوليغارج) تقريباً والكل هناك يرغب بالمساواة والعدالة والاستقرار، لذلك نلاحظ بأن حوالي 57 مليون روسي لم يخرجوا للتصويت في الانتخابات البرلمانية المنصرمة. وهم قلقون على حاضرهم ومستقبلهم، و يطمحون للأفضل ومعهم اهل القفقاس، وهمومهم المشتركة مع الروس، ويرفضون العودة الى زمن الحقبة السوفيتية خاصة الشباب منهم. كيف يا ترى ستكون الانتخابات الرئاسية المقبلة تحت سقف قصر (الكرملين) الرئاسي ولو ان الحديث عنها مبكراً الان، وهي القادمة عام 2018؟.
والحديث يبقى دائراً الان داخل روسيا عن احتمال ان يكرر الرئيس بوتين نفسه لخوض فترة رئاسية اخيرة مدتها ستة سنوات بعد التعديل الذي اجرته الدولة الروسية على دستورها، وتحويلها للمدة الزمنية من(4 الى 6) سنوات، والتركيز على تثبيت دميتري ميدفيديف رئيساً للوزراء، الصديق الشخصي للرئيس، والذي يلتقي معه في حزب روسيا الموحدة الحاكم. ومع كونهما قادمان سياسياً من مدينة (سانت بيتر بورغ) شمال موسكو، مع اختلاف الطابع الوظيفي التاريخي لكل واحد منهما. فالأول الرئيس (63 عاماً) رجل أمن، والثاني رئيس الوزراء الرئيس السابق رجل قانون، واصغر سنا من رئيسة اذ يبلغ من عمره 51 عاماً وينسجم معه فكرياً وايدولوجياً وسيكولوجيا، بينما هو الشارع الروسي يطالب سراً في البيوت وعلناً على صفحات (النت) و (الفضائيات) و (الصحافة المعارضة) و (الصفراء) وفي (البرلمان) بالتغيير تحديداً، وعلى الاقل على مستوى رئاسة الوزراء من اجل روسيا قوية في الداخل على مستوى الاقتصاد والتعليم والإعلام والصحة والإنشاءات.
وأمام روسيا الان ملفات ساخنة دولية من اهمها ذيول الحرب الباردة التي ترفضها عن قناعة اكيدة وعلى كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، والتي تواجها مع الغرب، ومع امريكا تحديداً، وهي التي ورثتها عن الحقبة السوفيتية ومنذ زمن حلف وارسو، الذي قابله الناتو. والآن انتهى الاتحاد السوفييتي ولم يعد لحلفه العسكري وجود. وروسيا الحديثة لا تبحث عن احلافٍ عسكرية وتنادي بتعدد الاقطاب وتوازنها، وبالتعاون الدولي في مجال الاقتصاد والعسكرة والسياسة واللوجستيا. ويبقى الملف السوري بالنسبة لموسكو الاكثر اهتماماً وسخونة حتى من (الاوكراني) والتركي، خاصة بعد هدوء (الايراني) و انقلابه من اقصى اليسار سياسياً الى اليمين 24 درجة، وتراجعه عن النووي العسكري العلني والسري تحت اثباتات دامغة من قبل امريكا نفسها بما امتلكت من وثائق لوجستية اكيده. وحول دمشق حركت روسيا وبالتعاون مع امريكا مؤتمر جنيف 1 و2 ومضت الى البحث عن 3، وفي جعبتها سياسة مختلفة اقنعت بها واشنطن، وقرّبت اليها وزير خارجيتها جون كيري، وتبادلت الابتسامات الدبلوماسية معه في وقت لأمريكا قناعة مضادة تماماً ركزت في وسطها على ضرورة التخلص من الاسد ونظامه، ثم رسّخت وسط العرب او بعضهم ما سمي بالخطة /ب/ وضمت اليها تركيا في البدايه.
وجاء التدخل الروسي العسكري الفضائي 30/9 من العام المنصرم 2015 ليضع حداً كما السيف لأي غزو خارجي لسورية، ولسيطرة القطب الواحد ولمشاريع سايكس بيكو، بهدف احداث تغير سياسي من فوق، والتمسك بضرورة مطاردة الارهاب المتمثل بفصيلي عصابات (داعش) و (النصرة) المنبثقان عن القاعدة الأم، وبالتعاون مع امريكا من دون المساس بقوى المعارضة الوطنية وبالمواطنين المسالمين. لكن الاخطاء على الارض وقعت وتكررت، ولها تفسيراتها و اعتذاراتها غير الواضحة ومنها الضربة الامريكية العسكرية للجيش السوري في حلب، والعمل على حماية جبهة النصرة امريكياً حسب تصريح لسيرجي لافروق وزير الخارجية الروسي، كخطة بديلة للاسد قابلها اعتماد روسي عسكري واضح على معلومات من النظام السوري وحصول اخطاء غير مقصودة على الارض السورية، والاهم دائماً هو العودة الى طاولة الحوار المتكافئ والتعاون السياسي والعسكري واللوجستي الصادق بهدف اجتثاث الارهاب، وإعادة سلطة دمشق والمعارضة الوطنية بعد وقف اطلاق النار، وادامة الهدنة، وللتفرغ لاحقاً بعد تحرير كامل الاراضي السورية وكذلك العراقية من الارهاب لإعادة البناء دون المساس بالمواطنين، ويتطلب هنا ايضاً وقف الاشاعات الاعلامية لإتاحة الفرصة لسماع صوت السلام الدائم لكن الاكور لم تسير كما خطط لها من قبل الجانبين الروسي والامريكي بعد اعلان واشنطن وقف الحوار الساسي مع موسكو وترك كاريدور حواري للعسكرة فقط لمنع الاصطدام، وروسيا في سورية تحديداً لن تعيد سيناريو افغانستان وتهبط على الارض كما يحلو القول لبعض هواة التحليل السياسي
والآن تعقد ملف اوكرانيا بعد حادثة محاولة العبث بأمن اقليم القرم/ الكريم الاخيرة من قبل سلطة كييف ومن يقف وراءها في الغرب الامريكي، وبعد عرقلة الاوكران البنديريون لاتفاقية مينسك (2015 في بيلاروسيا) الملزمة والموقعة من قبل كافة الاطراف المعنية بحاضر ومستقبل اوكرانيا. وتركيا غيرت بوصلة سياستها الخارجية بعد اعتذارها من موسكو بعد حادثة اسقاط الطائرة العسكرية الروسية سوخوي 24 فوق الاراضي السورية، وانكشاف تيار عسكري تركي محسوب على امريكا تسبب في محاولة الانقلاب الفاشلة في انقرة مؤخراً؛ وبدأت تغازل الاسد في دمشق الذي على مايبدو بادر بإشارة من موسكو بإدانة الانقلاب. ولكل ودولة شرق اوسطية او مطلة علية من الدول العملاقة مصالح واستراتيجيات قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى وتحتاج الى رصد وتحليل عميق.
وفي الختام فإن خير من شخّص ومازال ازمات شرقنا العربي والأوسطي وفي كافة المحافل الدولية هو جلالة سيدنا الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظة الله ورعاه. ولي في كلمة جلالته في الجمعية العامة للأمم المتحدة 21/ سبتمبر في النيويورك خير مثال، حيث قال جلالته: «ان هذه الحرب عالمية الطابع، ولذلك يجب ان لا ينحصر التركيز فيها على الشرق الاوسط فحسب، بل يجب ان يشمل افريقيا الغربية والشرقية وجنوب شرق اسيا، والبلقان ايضاً. وركز جلالته وقتها على اهمية حسن استخدام التكنولوجيا التي يستخدمها الغير ضدنا. وقول جلالته:»بأن على اسرائيل أن تقبل السلام كون ان المدينة المقدسة ركيزة السلام في العالم، وليس هناك من ظلم اكثر من حرمان الفلسطينيين من حقهم في الدولة، وأما في سوريا فان النهج العسكري لن يحقق نصراً لاحد، ويتطلب الامر عملية سياسية تسترشد بنظرة شمولية ودولية».
وقول جلالته: «إن العراق يستحق الدعم الدولي، وهو غاية في الاهمية للقضاء على الخوارج، ولابد من اشتراك كافة مكونات الشعب العراقي في العملية السياسية وإدارة مؤسسات الدولة».
وكلمة اخيرة هنا اقولها بصراحة بأن على العرب ان ينهضوا ويلتفوا حول وحدتهم العربية التي ناداهم اليها شريفهم وملكهم الحسين بن علي من اجل تشكيل قطب خاص بهم، (كتاب المرحوم سليمان الموسى «الحركة العربية ص 695 (بحيث تتمثل الوحدة في العلم الواحد والنقد الواحد وجوازات السفر الواحدة، والمصالح الاقتصادية الواحدة والجيش الواحد)، ولحل ازماتهم العالقة بأيديهم وليحترمهم العالم ولتتراجع حدة انتقاداتهم لكل دولة عالمية تشاركنا كعرب معالجة ازماتنا وفقاً لمصالحها الاستراتيجية.