إيلات تتخوف وتل أبيب تتوجع
كان الكيان الصهيوني يشكو من ضعف بلدات ومستوطنات الغلاف في جنوب فلسطين، وأنها عرضة لصورايخ وهجمات المقاومة الفلسطينية، وأنها ضعيفة ومستباحة بحكم قربها من قطاع غزة، فأبسط الصواريخ الفلسطينية تطولها، وتصيب فيها أهدافًا مختلفة، وإن كانت في بعض الأحيان عشوائية، إلا أنها تبقى أهدافًا حيوية بآثارها المادية وتداعياتها النفسية والمعنوية.
كانت بلدات الغلاف الإسرائيلي عزاتا ونتيفوت وأوفاكيم وأسديروت وصولًا إلى مدينة بئر السبع، تدفع الضريبة عن كل الكيان الإسرائيلي، إذ كانت مستوطنات وبلدات الغلاف بمثابة "فَشَّة خلق" المقاومة الفلسطينية، تستهدفها انتقامًا أو ردَّ فعل، أو تبادر بقصفها وقتما تشاء وتقدر، مما يضطر سكانها للنزول إلى الملاجئ، أو التوغل عميقًا في المدن الإسرائيلية في الوسط والشمال تجنبًا للقصف، واتقاء لخطر الصواريخ، في الوقت الذي تتعطل فيها الحياة، ويتوقف النشاط الاقتصادي، وتغلق المحال التجارية، وتعطل المدارس والجامعات، ويمتنع الطلاب عن الذهاب إلى جامعاتهم ومدارسهم، في الوقت الذي ينعم فيه الإسرائيليون في مدن الشمال والوسط، وكذلك في إيلات وفي مدن إسرائيل جنوب بئر السبع، إذ لا تصلهم صواريخ المقاومة، ولا يضطرون للتخلي عن نمط عيشهم لتجنب أخطارها.
كانت بلدات الغلاف في الجنوب تتلقى دعمًا إقتصاديًّا من الحكومة الإسرائيلية، لتعوضها عن الأضرار التي تلحق بها، والخسائر التي يسببها القصف الصاروخي عليها، فيصيب البيوت والسيارات والمتاجر، وكان المسئولون الإسرائيليون، السياسيون والعسكريون والضيوف الوافدون، يدأبون على زيارة مدن وبلدات الشريط الحدودي المتاخم لقطاع غزة، تضامنًا معهم، وتأييدًا لهم، ومنها كانوا يطلقون المواقف التصعيدية، والتصريحات السياسية، ويعِدُون بلجم المقاومة، وردع المقاومين، وتلقينهم درسًا لا ينسونه، وكانوا يؤكدون دومًا أنهم سيدمرون قواعد الصواريخ، وقدرات المقاومة، وسيجففون منابعها وقدراتها الذاتية، ومنهم من كان يتوارى ويختبئ خوفًا من الصواريخ التي تتساقط على مدن الجنوب حيث يقف خطيبًا أو معزيًا.
ولكن المقاومة لم تتوقف، وصواريخها لم تهدأ، ومقاوموها لم يضعفوا ولم يجبنوا، وربما غيَّب الاغتيال والقصف بعضهم، ونجح العدو في الوصول إلى بعض قادة المقاومة، فنال منهم قصفًا بالصواريخ من بعيد، بعد محاولات كثيرة فاشلة لاستهدافهم والنيل منهم، ولكن الخَلَف الذي يحمل راية المقاومة، كان دومًا أشد هولًا من السلف، وأقوى شكيمةً منه، وأشد عزمًا من السابقين، ما أفشل مخططات العدو، وأربك حساباتهم، وجعلهم يفكرون مليًّا إزاء جردة الحساب الشاملة، فخسارتهم دومًا كانت تفوق خسارة الفلسطينيين، وإن كان الشهداء الفلسطينيون أكثر، وحجم الخراب والتدمير الذي يطال بيوتهم ومساكنهم وبلداتهم أكثر، إلا أنهم كانوا يخرجون دومًا من كل معركة، أشد قوة، وأكثر بأسًا، وأصلب عودًا، وأكثر عنادًا في المقاومة ممن سبقهم، فما إن يخرجوا من الحرب حتى يبدأوا الإعداد لغيرها، فيعيدون بناء الثغور، وإصلاح ما أعطبه العدوان، واستكمال ما نقص من عدةٍ وعتاد.
اليومَ لم يعد هناك في المفهوم العسكري للمقاومة حدودٌ للصورايخ، ولا مدى للنيران، ولا تقليص لحجم الأضرار، فقد انتهى عصر الغلاف الحدودي، وشبَّت المقاومة عن الطوق، واشتد عودها وانبرى سهمها، واتسع قوسها، فساوت بصواريخها بين الإسرائيليين، وأنهت حالة التمايز التي كانت تتمتع بها بعض المناطق والمدن، فلم تعد هناك مدينةٌ مستهدفة وأخرى آمنة، ولم يعد هناك مستوطنون أو مواطنون مستهدفون يدفعون الثمن وحدهم، وآخرون مساندون مؤيدون، يلجأ إليهم الفارون، ويحتمي بهم الهاربون، أو يقدمون المساعدة والإسناد للمدن والمستوطنات المستهدفة، بينما ينعمون بالأمن والأمان، ولا يخافون من سقوط صاروخ على رءوسهم، ولا تزعجهم صافرات الإنذار، ولا يضطرون إلى النزول إلى الملاجئ.
قد أحسنت المقاومة صنعًا إذ ساوت بينهم، وقضت على الطبقية التي كانت تحكمهم، فأصبحوا جمعيًا في الأمر سواء، مستهدفين، خائفين، باكين مولولين، مذعورين فزعين، لاجئين ساكنين في الملاجئ والحصون، فلم يعد أحدٌ أفضل من أحد، وهذا فضلٌ للمقاومة يحفظونه، وخيرٌ صنعوه، إذ ساوت بينهم، وقضت على الفوارق التي تخلف بينهم وتمزق جمعهم.
أما جديدُ المقاومة بعد عسقلان وأسدود وتل أبيب وهرتسيليا، ومن قبل كل المدن الإسرائيلية في شمال فلسطين، التي تقع تحت مرمى نيران صواريخ حزب الله، وقد ذاق طويلًا مرارة القصف وذل الهروب إلى الملاجئ قبل مدن الجنوب، فهو مدينة إيلات، الشريان الاقتصادي السياحي الإسرائيلي الأول، مدينة اللهو والمجون، والسهر والرقص والعري المجنون، التي تتيه على غيرها بقربها من مصر والأردن والسعودية، والتي تستقطب سنويًّا مئات آلاف السائحين، الباحثين عن المتعة، والهاربين من صدفة المقاومة.
ظنت إيلات أنها في حصنٍ ومأمنٍ، وأنها ستبقى في مأمنٍ من صواريخ المقاومة إلى الأبد، ولن يطولها الخطر، ولن تصل إليها المقاومة، وسيبقى زوارها يلهون ويلعبون، ويرقصون ويتعرون، فلا ينغص عيشهم الماجن أحد، ولا يعكر صفو متعتهم مقاوم، ولكن المقاومة لا تنفك تفكر كيف تصل إلى مدينة إيلات، فهي جزء من فلسطين، بل هي أم الرشراش الفلسطينية، أرضٌ عزيزةٌ غالية، لا تختلف عن القدس ورام الله، ولا عن حيفا والجليل، فهي بقعة غالية من أرضنا المباركة، فَلِمَ لا تصلها المقاومة، ولماذا ينعم الإسرائيليون المحتلون الغاصبون فيها بالأمان، ولماذا تصبح حصنهم الآمن، وملجأهم الحصين، يقتلوننا ويقصفوننا، ثم يذهبون إلى شواطئ إيلات يصطافون فيها، ويستجمون على شواطئها من عناء القصف، ويغتسلون من آثار الدم، ويسترخون على رمالها الصفراء الساخنة، ويتعرون على شواطئها نساءً ورجالًا، لئلا يشعروا بعقدة الذنب، ولا تأنيب الضمير، وكأنهم لم يرتكبوا جرمًا، ولم يعتدوا على حياة شعب.
اليوم جاء دور إيلات لتصرخ وتستغيث، وتستنجد وتطلب النصرة والمعونة، وتتهم حكومتها بأنها كاذبة، وقد خدعتها يوم أن قالت لسكانها، اطمئنوا فأنتم في مأمنٍ، استحموا ولا تخافوا، استجموا ولا تقلقوا، فها هي إيلات تتخوف كما كانت تل أبيب تتوجع، وتطالب حكومتها بعالي الصوت أين القبة الفولاذية؟ أين بطاريات صواريخ باتريوت لتحمينا؟ أين جنرالاتكم وصواريخكم؟ أين ما كنتم تزعمون وتدعون، فيأتيها صوت المقاومة عميقًا صادقًا أصيلًا، لبيك يا أم الرشراش إنا قادمون.