واقعة قبر داود عليه السلام
"ملف وثائق فلسطين من عام 637 الى عام 1949، وزارة الارشاد القومي، ج 1، ص 29-32"
واقعة قبر داود عليه السلام
والقبة المحدثة عند دير صهيون والكشف
على دقماق ناظر الحرمين ونائب القدس الشريف(1)
سنة 1488 وفيها (سنة أربع وتسعين وثمانمائة) فى شهر صفر أحدث النصارى المقيمون بدير صهيون كنيسة ظاهر القدس الشريف بالقرب من الدير زعموا ان مكانها مقام السيدة مريم عليها السلام وأحكموا بناءها وجعلوا بها من جهة الشرق الهيكل الذى يعمل فى الكنائس وصارت كنيسة محدثة بدار الاسلام. وكان المساعد لهم دقماق النائب وأذن لهم بالبناء بمال بذل له ولغيره فى ذلك .......
وفيها ورد مرسوم شريف فى شهر شعبان على يد قاصد من باب الامير أزبك أمير كبير يتضمن أن رهبان دير صهيون أنهوا أن من حقوق ديرهم جميع القبو المجاور له وكان مدفنا لموتاهم وان جماعة من المسلمين زعموا ان به قبر داود عليه السلام وبنوا به محرابا للقبلة وليس الامر كذلك وان العلماء أفتوا بانه من استحقاق النصارى ولا يجوز أن يكون مسجدا لكونه مقبرة وبرز الامر بتحرير ذلك وتسليم القبو للنصارى ومنع من يعارضهم، وعقد مجلس بدار النيابة يحضره القضاة وقصد بعض الناس اعانة النصارى على انتزاعه من المسلمين فعز ذلك على أهل الاسلام لكونه بأيديهم وبه قبلة الى الكعبة المشرفة فخذل الله النصارى ومساعديهم وانصرف المجلس من غير شىء. وسنذكر تتمة هذه الحادثة فى السنة الاتية ان شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثمانمائة ............
وفيها اشتد الأمر بسبب التجريدة لقتال بايزيدخان بن عثمان ملك الروم وتجهيز الرجال من جبل القدس وجبل الجليل وغيرهما. وتوجه الأمير أزبك أمير كبير وصحبته الأمراء والعساكر فلما وصل الى مدينة الرملة كتب مرسومه الى بيت المقدس إلى مشايخ الاسلام والقضاة بسبب رهبان دير صهيون وما أنهوه من جهة القبو الذى يقال ان به قبر داود عليه السلام، وأن يحرر الامر فيه، واذا تبين انه من استحقاق النصارى بالطريق الشرعى يسلم اليهم.
فعقد مجلس لذلك بالمدرسة التنكزية بحضرة شيخ الاسلام الكمالى ابن أبى شريف وشيخ الاسلام النجمى بن جماعة ودقماق ناظر الحرمين ونائب السلطنة والقضاة. ودار الكلام بينهم فى تحرير أمره وكتبوا محضرا يتضمن ان هذا المكان به محراب الى جهة القبلة وأنه بأيدى المسلمين من تقادم السنين. وكتب العلماء والقضاة والفقهاء خطوطهم بالمحضر ولم يلتفت الى النصارى ولا الى من يساعدهم فى ذلك.
(1) "الانس الجليل بتاريخ القدس والخليل" انظر كتاب "وثائق دير صهيون بالقدس الشريف" للدكتور أحمد دراج.
وفيها عقب ما تقدم ذكره من آمر النصارى كتب شيخ الاسلام الكمالى أبن أبى شريف للسلطان مكاتبتين احداهما ذكر فيها ان المسجد الاقصى الشريف قد اختل نظامه واحتاج الى العمارة واقامة الشعائر. والثانية فى معنى القبة التى أحدثها النصارى عند دير صهيون وانها صارت كنيسة محدثة، وما وقع بسبب القبو الذى يقال ان به قبر داود عليه السلام وجهز المكاتبتين للسلطان(1) فعرضتا عليه واقترن بذلك كثرة الشكاوى على دقماق نائب القدس لما يصدر منه من الظلم والجور وقطع الطرق فى أيامه. فجهز السلطان خاصكيا اسمه أزبك بالكشف على النائب وكتب مرسوم شريف مطلق بما وقع على النائب من شكوى الرعية وما يعمل فى حقهم وأن يحرر أمره ويعاد الجواب على المسامع الشريفة. ومرسوم ثان يختص بالشيخ كمال الدين جوابا لمكاتبتيه المتقدم ذكرهما وأن يحرر أمر المسجد الاقصى الشريف وما هو يحتآج اليه من العمارة، وأن ينظر فى أمر القبة التى أحدثها النصارى عند دير صهيون، واذا كان البناء مخالف للشرع يهدم ويحرر أمر قبر داود عليه السلام ويعمل ما يقتضيه الشرع الشريف واعادة الجواب بما يتحرر من ذلك.
فوصل الخاصكى الى بلد سيدنا الخليل عليه السلام وجلس بالمسجد الشريف الخليلى وحصل الكشف على النائب بمدينة سيدنا الخليل فكثرت عليه الشكوى بسبب سماط سيدنا الخليل عليه السلام وما يحصل منه من الضرر لأهل بلد الخليل، وكتب محضر بخط القاضى وأهل البلد.
ثم حضر الخاصكى والنائب صحبته فدخلا الى القدس الشريف فى يوم الخميس آخر جمادى الآخرة وجلسا فى محراب المسجد الاقصى وجلس مشايخ الاسلام والقضاة والخاص والعام وقرىء المرسوم الشريف الوارد بالكشف على النائب والمرسوم الثانى بسبب النصارى وما أحدثوه وضج الناس وأكثروا من الشكوى على النائب وافحشوا له فى القول. وأصبح الناس فى يوم الجمعة جلسوا فى المجتمع سفل المدرسة الاشرفية وشرعوا فى الكشف على النائب، وادعى عليه كثير من الناس عند قضاة الشرع الشريف بأمور أنكر بعضها واعترف ببعض.
هدم القبة
فلما كان يوم السبت ثانى شهر رجب توجه شيخ الاسلام النجمى بن جماعة ودقماق النائب وأزيك الخاصكى والقضاة والخاص والعام الى دير صهيون وجلسوا بداخل القبة التى أحدثها النصارى وتكلموا فى أمرها. فتحرر من أمرها ان النصارى أنهوا ان بقرب دير صهيون قبرا يسمى القبر المنسى، وانه يقصد للزيارة وان مرادهم البناء عليه، واثبتوا محضرا ان هذا المكان هو القبر المنسى، فبنوا القبة المذكورة اعتمادا على أن القبر المنسى تحتها.
فلما جلس العلماء والقضاة للتحرير تبين الامر بخلاف ما أنهوه لمقتضى ان القبر المنسى فى موضع آخر بالقرب من القبة فى حاكورة هناك وأمره مجهول لا يعلم ما هو. وان المدفون به حيث كان مسلما فلا مدخل للنصارى فى البناء عليه وتحرر ان محل القبة المذكورة انما هو المكان الذى نزعم النصارى انه مقام السيدة مريم عليها السلام، وقد بنيت القبة المذكورة على صفة الكنائس وبها هيكل الى جهة الشرق فلما اتضح ذلك أقيمت البينة عند القاضى بدر الدين الحمامى الشافعى ان القبة المذكورة محدثة فى دار الاسلام وان المتولى لبنائها رئيس دير صهيون ورجل آخر من النصارى بسعيهما فى ذلك وحضرا بالمجلس وسألهما القاضى عن ذلك فاعترفا ببنائها وانهما هما المتسببان فى ذلك فألزمها بهدمها ونفذ له بقية القضاة الأربعة ما صدر منه من الالزام بالهدم
وأما القبر الذى يقال ان به قبر داود عليه السلام فتحرر من أمره انه كان قديما بأيدى النصارى وحصل فيه نزاع كثير من المسلمين فى الزمن السالف من نحو مائة سنة، ورفع أمره الى الملوك السالفة، منهم الملك المؤيد شيخ والاشراف برسباى وغيرهما، وكتبت مراسيم شريفة فى أمره وكثر النزاع فى الزمن السالف بين المسلمين والنصارى بسببه، وكان تارة يأخذه المسلمون وتارة يسترجعه النصارى. ولم يزل أمره فى تخبط الى زمن الملك الظاهر جقمق رحمة الله عليه، فرفع أمره اليه وكان من أمره ما تقدم شرحه فى ترجمته سنة ست وخمسين وثمانمائة، واستقر قبر داود من ذلك التاريخ بأيدى المسلمين بمرسوم الملك الظاهرجقمق وبنى به قبلة الى جهة الكعبة المشرفة، وبالقبو المذكور محراب موجه الى جهة صخرة بيت المقدس وبه صفة قبر يقال انه قبر داود عليه السلام. وولى النظر عليه الشيخ يعقوب الرومى الحنفى عالم الحنفية بالقدس الشريف، وكتب له مربعات حسبة من الملك الاشرف اينال والملك الظاهر خشقدم بمرتب يصرف للمكان المذكور، واستمر بأيدى المسلمين الى عصرنا من غير منازع، وتحرر أمر ذلك على الصفة المذكورة ولم يتبين للنصارى ما يقتضى استحقاقهم له ولا ما يسوغ انتزاعه من المسلمين.
فعند ذلك جلس شيخ الاسلام والقضاة والاعيان بالقبو المذكور وقرأوا القرآن وذكروا الله تعالى ومدح النبى صل الله عليه وسلم وكان يوما مشهودا أعز الله فيه
الاسلام وأعلى كلمة الايمان، فلله الحمد والمنة. ثم انصرف الناس الى داخل المدينة للكشف على النائب، وحصل الاتفاق مع النصارى أنهم فى اليوم الثانى، وهو نهار الاحد، يهدمون ما أحدثوه من بناء القبة المذكورة وانفصل الامر على ذلك.
فلما دخل الناس الى المدينة ..........
وكتبت محاضر بما وقع فى أمر القبة وهدمها بحكم الشرع الشريف وما تحرر من أمر قبر داود عليه السلام وأنه تبين أنه بأيدى المسلمين من تقادم السنين وما وقع فيه من القراءة والذكر، وكتب شيوخ الاسلام والقضاة والفقهاء خطوطهم على المحاضر. ولما حضر الخاصكى بالكشف كان القاضى المالكى شمس الدين بن مازن بغزة فحضر بعد الشروع فى الكشف بنحو ثلاثة أيام وكتب خطه مع الجماعة على المحاضر.
وأصبح الناس فى يوم الاحد فى الشروع فيما يتعلق بالكشف على النائب وحصل الشديد من الخاصكى عليه وأغلظ عليه فى القول ووضعه فى الترسيم وكتب الجواب للسلطان بمحاضر عليها خطوط أعيان بيت المقدس بما تحرر من أمر النائب وسوء سيرته وما اعتمده فى حق الرعية من الظلم وعدم سلوك الطريق الحميدة وخراب المسجد الاقصى الشريف، وجهزت المحاضر على يد الامام ناصر الدين محمد بن الشنتير أمام الصخرة الشريفة.