"وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى"
أ. د. محمد خازر المجاليهو ميزان الله تعالى، وهي القيم السماوية التي ينبغي أن نرتقي وفقها، وهي التي تتلاءم مع الفطرة السليمة ويرتاح لها الإنسان السوي العالم بنفسه. وشتان بين قيم الأرض وقيم السماء؛ حين يشرِّع البشر لأنفسهم ويوجه بعضهم بعضا، ويعبد بعضهم بعضا، فهو الظلم الأكيد حيث وضع الشيء في غير مكانه.
جاءت سورة "سبأ" لتقص علينا نموذج البطر والكفر بنعم الله تعالى. فسياق القصة يركز على بيان عاقبة كفران النعمة، والبطر والتكبر. وجاء في البداية طرف من قصتي داود وسليمان عليهما السلام، الشاكرين العابدين، ثم قصة قوم سبأ حيث فتح الله عليهم من النعم، وأمدهم من عنده بما يتطلب شكره، لكنهم كفروا بأنعم الله وأعرضوا عنه، ودعوا على أنفسهم فعاقبهم الله شر عقوبة، وذلك حين يعتقد الإنسان أنه سبب ما به من نعمة، وأن ما جمعه هو باجتهاده وتعبه، وينسلخ كليا عن مفهوم رعاية الله وتوفيقه، فهو مسبب الأسباب ومسخرها والقادر على منعها. ولعل نموذج قارون في هذا السياق من أوضح النماذج.
وفي سياق السورة، يأتي دور المترفين الذين هم غالبا سبب الإعراض عن دعوات الرسل، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (سبأ، الآيات 34-36). فدور المترفين بارز في الصد والإعراض، وهم يظنون أن بيئتهم التي أفسدوا فيها هي سبب انتشار أمرهم وعلو منزلتهم، وربما إن جاءت دعوة صافية نقية فستمنعهم من الفساد، وبالتالي استرداد ما تم أخذه بغير حق، وهكذا لا يستطيع هؤلاء العيش إلا في بيئة سيئة لا أخلاقية، تسودها قيم العلو والاستكبار والسلطة الظالمة، وهذا لا يتوافق وقيم السماء، ولذلك يحاربون الدعوات والرسل ولو جاؤوهم بالآيات البينات.
ونلحظ من كلام هؤلاء المترفين علنية كفرهم، واعتزازهم بأنهم أكثر أموالا وأولادا، بل افتراؤهم على الله بأنهم غير معذَّبين، نتيجة ظنهم الخاطئ بالمال والجاه. فبطرهم وكبرهم يقودانهم إلى مثل هذا القول الذي به يردون دعوة المرسلين، بدل أن يكون التفكير السليم بالرسول أولا، وبالرسالة ثانيا، وبالمآل الذي ينتظرنا جميعا حيث الوقوف بين يدي الله تعالى وسؤاله لنا عن كل شيء. وفي هذا السياق يرد الله عليهم بأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أي يضيّق، فهو شأنه سبحانه لا شأنكم أيها البشر، فما أنتم إلا وسائل، أما المنعم الحقيقي فهو الله القادر على كل شيء سبحانه، ولا يعلم هذه الحقيقة إلا القليل.
وفي أثناء هذا التوضيح يأتي قول الله تعالى: "وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ" (سبأ، الآيتان 37 و38). فهو رد للقيم الحقيقية التي ينبغي أن تسود؛ فالله لا ينظر إلى صورنا وأجسامنا، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا كما قال صل الله عليه وسلم، والتقوى هي ميزان التفاضل الحقيقي: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات، الآية 13). فالآية واضحة في أن سبب القرب من الله تعالى هو الإيمان الصادق الخالص، وهي الأعمال الصالحة التي جاءت موافقة لأمر الله ونهيه، أما الذين يسعون في آيات الله تكبرا وردا وعنادا، فهم في العذاب مُحضَرون، يقادون إليه ويساقون إليه أمام الخلائق إذلالا لهم واحتقارا على ما كانوا يعاندون ويتكبرون.
وبعد هذا يأتي التأكيد مرة أخرى: "قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" (سبأ، الآية 39). وشتان بين تصرف المؤمن والكافر؛ فالمؤمن يعلم أنه مستخلف في هذا المال الذي منحه الله إياه، والله ناظر في كيفية تعاملنا فيه، والمؤمن ينفق منه في سبيل الله تعالى، معتقدا أن الله سيخلفه، أي سيعوضه. وما أجمل أن يكون هذا الشعور، أن المال مال الله، وأنا أنفق ابتغاء مرضاته، معتقدا أن الله سيعوضه لا محالة، مصداقا لقول النبي صل الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال"، بل أقسم على هذه الحقيقة، فهو شعور المعية مع الله، والتضحية بكل شيء من أجل مرضاته سبحانه، فهؤلاء هم الذين وضعوا المال في أيديهم لا في قلوبهم.
والعجيب أن يأتي في نهايات السورة ما نرد به على كل جاحد مقلِّد لاغ لعقله، هؤلاء الذين اتهموا محمدا صلى الله عليه وسلم بالجنون تارة وبالسحر والكذب والكهانة تارة أخرى. ولأن السياق يتطلب منا تفكيرا واعيا بعيدا عن المؤثرات فقد قال الله لرسوله صل الله عليه وسلم أن يعظ قومه بواحدة، فقال: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" (سبأ، الآية 46)؛ فقط أن يقوموا لله، من أجله، ولو مرة واحدة، ليفكروا في شأن هذا الرسول مثنى مثنى، وفرادى، وهم يعرفون حقيقته، لكنها غوغائية الجمهور أحيانا، التي تلغي العقل وتقدم العصبية والمصالح الدنيوية العاجلة، فليتفكروا بعيدا عن المؤثرات الجانبية، وليسألوا أنفسهم: هل هو فعلا مجنون كما يروّج علية القوم؟ فسيجيبون أنفسهم بالحقيقة، فما هو إلا نذير لهم يحذرهم من عاقبة العذاب الشديد.
ويختم سبحانه السورة بقوله: "وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ" (سبأ، الآية 54)، فما نفع أحدا من هؤلاء اعتقادهم الباطل، وجرى عليهم من العذاب ما جرى على أسلافهم، وما أجمل هذه الخاتمة بأن القوم في شك مريب، فما كانوا أبدا في يقين من أمرهم، حقيقة يبينها الله تعالى لأوضاع المكذبين، فالحق أبلج والباطل لجلج ما له من قرار.