الفلسفة المشائية ومسألة حشر الأجساد
عماد عبد الرحمن
تكلمنا في مقالات سابقة عن الفلسفة المشائية ووصل بنا المقال عن أهم عقائدهم وأهم أفكارهم التي دار عليها النقاش بينهم وبين المتكلمين وبسبب هذه الأفكار قام بعض المتكلمين بتكفير الفلاسفة المشائين وطرحنا في المقال الأخير أيضا فكرة قدم العالم وناقشناها مع الفلاسفة المشائية.
واليوم سنتحدث عن ثاني أهم فكرة عند الفلاسفة وهي مسألة الحشر؛ فالفلاسفة يقولون بحشر الأرواح ولا يقولون بحشر الأجسام ويقولون باللذة الروحية ويؤولون اللذات البدنية الواردة في القرآن بأنها تقريب مثال للّذات النفسية الروحية لتقريب الفهم إلى العوام.
ولمناقشة هذه الفكرة سنعرض قول الفلاسفة ثم نناقشه بعد ذلك، يقول الفلاسفة المشائية: إن اللذة السرمدية لا تكون إلا بالعلم والعمل، وإن النفس تبقى بعد الموت بقاء سرمدياً إما في لذة لا يحيط الوصف بها لعظمها، وإما في ألم لا يحيط الوصف به لعظمه ثم قد يكون ذلك الألم مخلداً وقد ينمحى على طول الزمان.
واللذة النفسية أعلى وأتم من اللذة الجسدية، ولكن لا يدركها كل الناس، فإن الجسد ينشغل بلذاته فيحجب النفس عن الإلتذاذ بلذاتها، وذلك كالمريض لا يشعر بحلاوة الأطعمة اللذيذة لمرضه بل يظن الحلو مرا علقما وذلك لأن الجسد منهك في مرضه، وكذلك إذا اشتغل الإنسان بلذات الجسد انشغل عن لذات الروح حتى تصبح لذة النفس بالنسبة له لا تطاق ولا يرغبها البتة.
ويقولون أيضا في ذات السياق إن الإنسان منذ صباه يشتغل باللذات الجسدية ويكتمل عقله شيئا فشيئا، فإذا كمل عقله يكون قد انغمس في لذات الجسد فلا ينظر إلى لذات الروح ولا يشعر بها كالمريض المشار إليه قبل قليل، وكالخائف لا يحس بالألم والخدِر لا يحس بالجرح، ولكن إذا زالت عنه هذه الشواغل شعر باللذة التي تفوق وتفْضل لذة الجسد.
ودليلهم على أن اللذات العقلية أشرف من اللذات الجسمانية أمران:
أحدهما: أن حال الملائكة أشرف من حال السباع والخنازير من البهائم، وليس لها اللذات الحسية من الجماع والأكل، وإنما لها لذة الشعور بكمالها وجمالها الذي خص بها في نفسها في اطلاعها على حقائق الأشياء، وقربها من رب العالمين في الصفات لا في المكان وفي رتبة الوجود، فإن الموجودات حصلت من الله على ترتيب وبوسائط، فالذي يقرب من الوسائط رتبته لا محالة أعلى، ولكن الإنسان يفْضُلها على غيرها.
والثاني: أن الإنسان أيضاً قد يُؤْثِر اللذات العقلية على الحسية، فإن من يتمكن من غلبة عدو والشماتة به يهجر في تحصيل ذلك ملاذ الأنكحة والأطعمة، بل قد يهجر الأكل طول النهار في لذة غلبة الشطرنج مع خسة الأمر فيه ولا يحس بألم الجوع.
وكذلك المتشوف إلى الحشمة والرئاسة يتردد بين انخرام حشمته بقضاء الوطر من عشيقته مثلاً؛ بحيث يعرفه غيره وينتشر عنه فيصون الحشمة ويترك قضاء الوطر ويستحقر ذلك محافظة على ماء الوجه فيكون ذلك لا محالة ألذ عنده، بل ربما يهجم الشجاع على جم غفير من الشجعان مستحقراً خطر الموت شغفاً بما يتوهمه بعد الموت من لذة الثناء والإطراء عليه.
ثم إن النفس إذا كانت في الدنيا مشتغلة باللذات الروحية وتعمل على التخلص من اللذات الجسدية وتروض نفسها من أجل الظفر باللذات الروحية وتقاوم هذا الجسد ومتطلباته فإنه إذا مات الإنسان تخلصت نفسه من السجن في هذا الجسد وبالتالي تتخلص من اللذات الجسدية الحاجبة لها عن اللذات الروحية النفسية، وبذلك تتنعم في الآخرة نعيما أبديا روحيا نفسيا لأنه هو النعيم الحقيقي وهو النعيم الأفضل لا نعيم الجسد ولذاته.
وإذا كان الإنسان في الدنيا مشتغلا بلذات الجسد فإن النفس تألف هذه اللذات وتصبح معتادة عليها وعلى الإلتذاذ بها عن طريق الجسد فإذا مات الإنسان وخرجت الروح من الجسد انقطعت النفس عن اللذات الجسدية وقد اعتادت عليها فتشعر بألم وترى اللذات الروحية فتتألم على ما فاتها من اللذات الجسدية والروحية وتبقى في ألم مستمر.
ثم إن النفس تبقى معها الحرص والميل إلى الدنيا وأسبابها ولذاتها وقد استلب منها الآلة، فإن البدن هو الآلة للوصول إلى تلك اللذات فتكون حالتها حال من عشق امرأة وألف رئاسة واستأنس بأولاد واستروح إلى مال وابتهج بحشمة فقتل معشوقه وعزل عن رئاسته وسبي أولاده ونساؤه وأخذ أمواله أعداؤه وأسقط بالكلية حشمته فيقاسي من الألم ما لا يخفى وهو في هذه الحياة غير منقطع الأمل عن عود أمثال هذه الأمور فإن الدنيا غاد ورائح، فكيف إذا انقطع الأمل فإنه يشعر بألم وحسرة شديدة.
وأما ما ورد في الشرع من الصور التي تخبر عن نعيم الجسد ولذائذه في الآخرة فالقصد منها ضرب الأمثال لقصور الأفهام عن درك اللذات النفسية فمثّل لهم ما يفهمونه ثم ذكر لهم أن تلك اللذات فوق ما وصف لهم. فهذا مذهب الفلاسفة المشائية وقد استفدنا في تقرير مذهبهم من الإمام الحجة الغزالي.
والجواب على ما قالوا: هو أننا لا ننكر لذة النفس والروح في الآخر؛ ففي الجنة ما لا يخطر على قلب بشر، ثم في الجنة لذة النظر إلى الملك المتعال جل جلالـه وهي لذة روحية، فنحن لا ننكر اللذات الروحية ولا نخالف الفلاسفة في إثباتها ولا ننكر خلود الروح والنفس في الآخر.
ولكن الخلاف معهم في أن هذه الأمور تستمد من الشرع لا من العقل؛ فالدليل الذي أتو به لا يدل على وجوب النعيم والخلود في الآخرة فقد يخلق الله للنفس المنغمسة في اللذات الجسدية في الدنيا اللذة الروحية النفسية في الآخرة بمنّه وكرمه سبحانه.
فطريق معرفة هذه الأمور كلها الشرع لا العقل، وقد أثبت الشرع لذة النفس في الآخرة وخلودها والتذاذها باللذات الروحية وهذا لا خلاف فيه، ولكن الشرع قد أثبت أيضا نعيم الجسد ولذاته في الآخرة وهذا مما لا يخالف العقل وقد ورد الشرع به فلماذا ينكر! إلا مكابرة ومعاندة للشرع.
فما المانع من أن يلتذ الإنسان في الآخرة بلذة النفس والروح وبلذة الجسد؛ لا مانع من ذلك، وقد ورد الشرع به ولا داعي لتأويل الآيات والأحاديث الواردة في لذة الجسم ولا مانع منها عقلا.
ودليل الفلاسفة على أن الجسد لا يعود مرة أخرى وأن الحشر للنفس لا للجسد هو: أن النفس عندهم خالدة وأما الجسد فهو في عالم الكون والفساد، ونحن نرى الأجساد تفسد وتنحل وتصير ترابا، وبعد هذا الانحلال والفساد تتغذى على بقايا الجسد الدود وربما يأكله حيوان مفترس ويتحلل داخله أو يصير ترابا وتتغذى عليه الأشجار ثم تتغذى الحيوانات على هذه الأشجار ثم يتغذى الإنسان من الأشجار ويتغذى الإنسان على الحيوانات التي تغذت على الأشجار التي تغذت على جسد الإنسان المنحل.
وعلى هذا فالأجساد تختلط ببعضها؛ يعني أن ما هو جزء جسد زيد هو جزء جسد عمرو فعند الحشر بأي جسد سيكون ذلك الجزء، هذا على القول بأن الجسد سيعود بكل أجزاءه، وكذلك على القول بأن الجسد الذي سيعود هو الجسد الذي يموت عليه الإنسان.
وهناك إشكال آخر على القول بأن الذي سيعود هو الجسد الذي مات عنه الإنسان وهو أنه إن كان أعرج أو أقطع اليد أو القدم أو أعور فهل سيكون يوم القيامة كذلك وهذا فيه من الخزي والعذاب ما هو ظاهر فكيف يكون الذي سيعود هو هذا الجسد!
وإن قلنا أن الله سيخلق جسدا جديدا ويضع فيه النفس فذلك لا يسمى إعادة بل خلق جديد وعلى هذا فإنه سيكون تناسخا للأرواح وذلك أن تتعاقب النفس على أكثر من جسد وهذه عقيدة باطلة.
وقالوا أيضا أن النفوس غير متناهية فالعالم عند الفلاسفة المشائية قديم كما قلنا في المقال السابق وعالم الكون والفساد عندهم متناه وهو العالم الذي تحت مقعر القمر فالتراب الذي يتشكل منه هذه الأجساد محدود بينما النفوس غير محدودة فكيف سيخلق المحدود أجساد لأنفس غير محدودة؟
فإذا بطلت كل هذه الأقوال بطل القول بحشر الأجساد وبقي حشر الأرواح والتذاذ الروح والنفس فقط، هذا مجمل ما قاله الفلاسفة المشائية في الأدلة على عدم حشر الأجساد.
ونقول في مناقشة ذلك: أننا نختار أن الله يخلق مجمل الجسد فلا يعود الجسد بكل أجزائه التي تحللت منذ الصغر وحتى موته بل يخلق الله له جسدا من مجمل الجسد الدنيوي، وقولهم أن النفوس غير محدودة هو مبني على قدم العالم وقد ناقشنا القول في ذلك في المقال السابق.
أو نختار ما اختاره الإمام حجة الإسلام الغزالي وهو ويرى :"أن النفس باقية بعد الموت وهو جوهر قائم بنفسه وأن ذلك لا يخالف الشرع بل دل عليه الشرع في قوله :"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم" وبقوله عليه السلام :"أرواح الصالحين في حواصل طير خضر معلقة تحت العرش" وبما ورد من الأخبار بشعور الأرواح بالصدقات والخيرات وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر وغيره وكل ذلك يدل على البقاء، وفيه عود محقق، نعم قد دل مع ذلك على البعث والنشور بعده هو بعث البدن.
وذلك ممكن بردها إلى بدن أي بدن كان، سواء كان من مادة البدن الأول أو من غيره أو من مادة استؤنف خلقها فإنه هو بنفسه لا ببدنه، إذ يتبدل عليه أجزاء البدن من الصغر إلى الكبر بالهزال والسمن وتبدل الغذاء ويختلف مزاجه مع ذلك وهو ذلك الإنسان بعينه فهذا مقدور لله، ويكون ذلك عوداً لتلك النفس، فإنه كان قد تعذر عليه أن يحظى بالآلام واللذات الجسمانية بفقد الآلة وقد أعيدت إليه آلة مثل الأولى فكان ذلك عوداً محققاً".
ففي هذا الكلام نرى أن حجة الإسلام الغزالي يرى أن الإنسان هو النفس والجسد هو آلة هذه النفس، فلو تبدل الجسد فلا إشكال وهذا قول من الغزالي ليعارض به الفلاسفة فهو دليل إلزامي لهم.
ثم أضاف الإمام الحجة الغزالي في الرد على قولهم بأن النفوس غير متناهية :"النفوس ليست غير متناهية وما ذكرتموه من استحالة هذا بكون النفوس غير متناهية وكون المواد متناهية محال لا أصل له فإنه بناء على قدم العالم وتعاقب الأدوار على الدوام ومن لا يعتقد قدم العالم فالنفوس المفارقة للأبدان عنده متناهية وليست أكثر من المواد الموجودة وإن سلم أنها أكثر فالله تعالى قادر على الخلق واستئناف الاختراع وإنكاره إنكار لقدرة الله على الأحداث".
وأما قولهم أن هذا الرأي الذي اختاره الحجة الغزالي للرد عليهم يلزم منه القول بتناسخ الأرواح فقد قال الإمام الحجة في ذلك :"وأما إحالتكم الثانية بأن هذا تناسخ فلا مشاحة في الأسماء فما ورد الشرع به يجب تصديقه فليكن تناسخاً وإنما نحن ننكر التناسخ في هذا العالم. فأما البعث فلا ننكره سمي تناسخاً أو لم يسم. والله قادر على تدبير الأمر".
نعم نحن نمنع التناسخ في الدنيا ولا نمنعه في الآخرة، ثم القول بعقيدة التناسخ ليس هو هذا القول، بل هم يقولون أن النفس تعاد في الدنيا إلى جسد آخر سواء كان إنسانا أم حيوانا على حسب الأعمال وهذا لا نقوله بل ننكره ويكفر العلماء قائله.