العرب ودول الجوار والعالم: نظرة استراتيجية
أ. د. كامل صالح أبو جابر*فوضى عارمة وعدم استقرار مستمر وغير معقول يعم عدداً كبيراً من دول العالم العربي. ويبدو أن معظم قادة دول الجوار، وجميع قادة الغرب وآخرين غيرهم، وبدرجات متفاوته، لهم رأي وطني ومصالح، ويتدخلون عسكرياً أو عن بعد في جميع ما يحدث عندنا وبنا، إلا العرب الذين يغرد كل منهم "على ليلاه"، وكأن ما يجري يحدث في القمر أو الأفلاك البعيدة عنا. إذ يجتمع قادة الغرب والشرق باستمرار ليتفاوضوا عنا وعلينا، وعلى أرواحنا وأرضنا وعرضنا ومصالحنا، ويختلفون أو يتفقون، وكأن لا وجود لنا إلا ذلك الوجود الجسدي الذي تنمو أعداده السكانية بتكاثر مرعب. أما نحن فكأننا أحجار شطرنج يحركوننا كيف ومتى شاؤوا.
دول الجوار لا تكن لنا أي مشاعر من المفروض أن يكنها الجار لجاره. حتى أربعينيات القرن الماضي، كانت أقوام المنطقة الرئيسة أربعة: العرب، والأتراك، والكرد، والفرس، وعدد كبير من الملل والنحل والمذاهب، زاد عليها عالم الغرب، الذي لا يمكن أن يتركنا وشأننا، إسرائيل. وهذه حاله وحالنا منذ البدء بتدوين التاريخ؛ إذ فشل (الغرب) إبان حروب الفرنجة الصليبية بزرع ورعاية معقل عسكري له آنذاك، لكنه نجح حين أنشأ دولة إسرائيل التي لا تكن لنا سوى الحقد والبغضاء، والتي فشلنا حتى اليوم لا في محاربتها وحسب، بل وحتى حين قدمنا على طبق من فضة مشروع سلام رفضته على الرغم من أنه صدر برضا جميع الدول العربية ومن قبل خادم الحرمين الشريفين الذي كان من الممكن أن تتبناه الأمة الإسلامية من مشارق الأرض إلى مغاربها. فإسرائيل لا تريد التطبيع معنا ولا حتى بقاءنا.
أما "جارتنا" إيران، فلها الرأي الأهم فيما يجري بنا وحولنا. وساعدنا نحن بجهلنا وتزمتنا وضيق أفق بعض قادتنا على إيقاظ فتنة ما كان يجب أن تقوم. وبدلاً من التفاهم معها على الجوامع المشتركة ما بين أهل السنة والشيعة، قمنا بعكس ذلك، فأيقظنا أحاسيس ومشاعر وأحقادا قومية، وطبلنا وزمرنا حين ذكرنا معركة القادسية وما تلاها. ألم يكن من باب الحكمة واللياقة والذوق أن يقوم بعض قادتنا بالتفاهم مع ثورة ناشئة حتى ولو لأسباب دينية، ولشعب كنا نعلم ما عاناه من ظلم، وما هو مدفون في جوفه من مشاعر ضدنا؟
لإيران أحقاد ومطامع قديمة، تجد اليوم أن الفرصة التاريخية مناسبة للثأر لها. ولا أدري إذا كان بالإمكان تدارك الأمر، كأن يعمل بعض قادتنا على مد يد التفاهم والمصالحة، ولكنه أمر أعتقد أن الوقت مناسب للبدء فيه. وإذا ما كان الغرب يتعامل مع إيران سياسياً واقتصادياً، فما الذي يمنعنا أن نمد يد مصالح تاريخية لها؟
أثبتت إيران، وعلى الرغم من حربها الطويلة ضد العراق، أنها قادرة على بعث نفسها من جديد. وها هي اليوم تعمل في اليمن لمصلحة استراتيجية هي الوصول إلى باب المندب. وهي فاعل رئيس في العراق، تتفاوض مع الغرب والشرق عليه بما تعتبره مصالحها فيه. فالعراق، بالإضافة إلى وجود الشيعة فيه، ممر لها إلى سورية ومن ثم إلى لبنان، والأهم موانئ البحر الأبيض المتوسط. إيران لن تقبل بالانسحاب اللهم إلا بخسارة واندحار تاريخيين غير متوفرة أسبابهما لدى العرب، ولا يبدو أن الغرب والشرق يعمل على ذلك. وما اتفاقية البرنامج النووي الإيراني إلا مرحلة تهدئة على درب آخر لا يعلم به اليوم إلا الله.
وإذا ما تمكنت إيران من النجاح في الوصول إلى باب المندب من جهة وإلى البحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى، فبمقدورها، بذكاء ودهاء ومرونة قادتها وعقلانيتهم، أن تصبح من الدول العظمى، وستعمل على مهادنة ومصالحة عالم الغرب وربما إسرائيل. ومصلحتنا نحن العرب تقتضي أن نبدأ فوراً بالتفكير العميق فيما يتوجب علينا فعله، وبالذات أنني أتكلم سياسياً لا عقائدياً؛ فللسياسة أمر وللعقيدة أمر آخر.
وبالنسبة لـ"جارتنا" في منطقة الهلال الخصيب تركيا، فإنها لا تكن لنا الاحترام. ولها، هي الأخرى، شأن ومصالح مهمة جداً في منطقتنا. وعلينا أن نعمل على تذكيرها أننا كنا مواطنين صالحين في إمبراطوريتها العثمانية، وأننا لم نثر عليهم إلا حين قام قادة "الاتحاد والترقي" الرُعناء باستعدائنا والاستعلاء علينا. كما علينا أن نذكرها أن نجاح إيران في الوصول إلى ما تريد يعني أنها ستصبح جارة لها، وأن تاريخها وتاريخ إيران مليء بالمعارك التي يكمن خلفها لا الفتنة الشيعية السنّية بل العداء القومي الفارسي الطوراني. ويبدو أن الرئيس رجب طيب أردوغان يفكر في الطورانية العثمانية الجديدة، لاسيما أن بعض الصحف التركية بدأت تنشر خرائط تبين أجزاء من سورية والعراق تركية.
وأعتقد أن الأردن بوسطيته وحكمة قيادته، وبعلاقاته التي لم يقطعها مع إيران، والتي يعززها أن الملك عبدالله الثاني عميد آل البيت، مؤهل للعب دور معها. فعلاقات الأردن كانت على الدوام، ومنذ تأسيس الإمارة وبحكمة مؤسسها الملك عبدالله الأول، جيدة وحميمة. ولنا في حكمته درس تاريخي؛ إذ قام عبدالله الأول ورغم أنه كان ابن الشريف الحسين بن علي، ورغم أنه من قادة جيوش الثورة العربية الكبرى، بالمسارعة إلى المصالحة مع تركيا بدءاً بمؤسسها مصطفى كمال أتاتورك. وسار ملوك الأردن من المغفور لهما الملك طلال والملك الحسين، ووصولا إلى الملك عبدالله الثاني، على طريق الحكمة هذه. وعلى إعلامنا الأردني والعربي أن يمهّد هذا الأمر.
أما "جارنا" الجديد؛ المارد الكردي الذي بدأ يستفيق، والوحيد الذي لم يحكم نفسه منذ ظهور الإسلام، فعلينا أيضاً أن نتفاهم معه على جميع الأمور. فلا نحن قادرون على عدائه ولا غير ذلك. وقد أحسن الأردن مرة أخرى بقيادة مليكنا عبدالله الثاني بالتفاهم معه واستقبال قيادته عندنا.
أما إسرائيل فلها شأن آخر. ولعل من أهم ما يمكن أن نفعله في الوقت الحاضر، نظراً لسوء حالنا، هو أن نتساءل ونخطط دائماً لما يمكن أن تفعله بنا. وعلينا تذكر أنها نجحت حتى اليوم بالتدخل في شؤوننا بالعمق، عن قرب وعن بعد، بزعامتها وسطوتها في عالم الغرب.
أخيراً، أتعجّب وأقول لنفسي: لماذا ليس لدينا أصدقاء وحلفاء حقيقيون؛ لا من "دول الجوار" ولا من غيرهم، ويبدو وكأن الكل يلعب بنا؟ ولعلّ في هذه العجالة الاستراتيجية ما ينفع. فالحكمة التي تعلو على المعرفة وتسمو عليها، تتطلب ذلك. أما إذا استمررنا فيما كنا فيه وما نحن عليه الآن من حال لا يسر إلا الأعداء، فأقول إننا سندفع ثمناً باهظاً، خصوصاً أننا نعرف أن إسرائيل لا ترغب في القضاء على قوى التطرف لا في العراق ولا في سورية. تعمل لتقسيم العراق لأن في هذا البلد إمكانات كبيرة، كما تعمل على تقسيم سورية حتى لا يبقى فيها من يطالب بعودة الجولان إليها، وهي التي أعلنت مؤخراً على ضمّ الهضبة.
*وزير خارجية أردني أسبق